مكانة المرأة في بلاد الرافدين في عصور ما قبل التاريخ
فئة : مقالات
مكانة المرأة في بلاد الرافدين في عصور ما قبل التاريخ
«شغلت عصور ما قبل التاريخ أكثر من 99 % من تاريخ الإنسان؛ فهي تمتد منذ ظهور الأجناس والأنواع الأولى للبشر على وجه الأرض، قبل حوالي خمسة ملايين سنة، وتبدأ بوضوح من حوالي مليون عام قبل الآن، وتنتهي في حدود الألف الرابع قبل الميلاد في وادي الرافدين، عندما اخترعت الكتابة لأول مرة ودخل الإنسان العصور التاريخية. وتنقسم عصور ما قبل التاريخ في وادي الرافدين إلى ست مراحل:
1- (الإيوليت) العصر الحجري الفجري (1 - 0.5) مليون سنة.
2- (الباليوليت) العصر الحجري القديم (500.000 - 12.000) ق.م.
3- (الميزوليت) العصر الحجري المتوسط (12.000 - 8.000) ق.م.
4- (النيوليت) العصر الحجري الحديث (8.000 - 5.000) ق.م.
5- (الكالكوليت) العصر الحجري النحاسي (5.000 - 3.200) ق.م.
6- (الشبيه بالكتابي) البروتولتريت العصر الشبيه بالتاريخي 3.200-2.900) ق.م» (الماجدي 2013: 35).
لقد ظهرت أولى علامات التواصل مع العالم القدسي لدى الإنسان القديم وبذور الدين الأولى في الباليوليت الأوسط مع ظهور الإنسان النياندرتال (homo nianderthal)؛ وذلك من خلال طريقة الدفن الشعائري التي تمت في الكهوف، حيث كانت طريقة الدفن والأدوات التي تصاحب الجثة وتوجيهها يمثل دليلاً على هذا التواصل، وكأن الكهوف تحوّلت إلى معابد، وهو ما عبّرت عنه أيضاً الرسوم. فقد أثبت الباحثون والمؤرخون والعلماء من خلال اكتشافاتهم تلك أنّ الدين ارتبط بالإنسان منذ القدم في رحلة بحثه عن السر الغامض الذي يكمن وراء هذا الكون، وأنه استشعر حينها وجودَ عالمين؛ عالم يعيشه ويراه، وعالم خفي يستشعره من خلال تلك القوى والظواهر الطبيعية، ولكنه لا يدركه أو يحوط بكل خفاياه، فكانت تلك التمثلات الدينية تعبر بشكل أو بآخر عن مجموعة علائق المقدسات مع بعضها من جهة، وعلاقتها بالعالم الدنيوي من جهة أخرى.
تشير الدراسات إلى أن النياندرتال كان أول نوع بشري عُني بدفن موتاه، وقد تم دراسة هذه الظاهرة من خلال دراسة القبور، حيث تبيّن بأنه تمتع بحياة روحية تعكس وسطاً فكرياً غنياً بالأفكار والتأمل؛ فأساليب الدفن، حيث طي الجسد، وتوجيه الرأس نحو الشرق، ووجود بعض الألواح التي تحميه، ووجود بعض العظام لحيوانات وقرون مصطفة بشكل منتظم، كلها دلالات على أن النياندرتال كان يعتقد بأن الكائن الحي يتألف من جسد مادي وروح لطيفة، وأن هذه الروح تستقل عن جسد الميت لترحل إلى عالم آخر مواز لعالم الأحياء، وتكتسب قوة غير اعتيادية تتخذ شكلاً نافعاً أو ضاراً وفقاً لموقف الأحياء منها. أما وجود بعض آثار جماجم أو قرون، فهي قرابين ولكن ليست بمعنى القرابين المعروفة الآن؛ لأن مفهوم الإله لم يكن قد ظهر بعد، ولم تكن تدل على أنه كان يتعبد تلك الحيوانات بذاتها، وإنما، كما يقول السواح: «ليستحضر من خلالها قوة العالم الموازي» (السواح 2002: 150)، لقد كان لدى النياندرتال تصورات تقوم على وجود عالم قدسي لا مرئي، وكان يستعين بوسيط بينه وبين هذا العالم، وكان الدين في هذه المرحلة ينبعث من عالم ما ورائي مجهول.
«ويشير دوركايم إلى أن كل المعتقدات الدينية بسيطها ومركبها ينطوي على حقيقة عامة مشتركة؛ فهي تفترض تقسيماً لكل الأشياء المنظور منها والغيبي يضعها في زمرتين، زمرة المقدس sacred، وزمرة الدنيوي profane، وهذا تقسيم إلى عالمين أحدهما يحتوي على كل ما هو مقدس، والآخر يحتوي على كل ما هو دنيوي، وهذه السمة الأساسية المميزة للفكر الديني، وكل التمثلات الدينية ما هي إلا وسائل تعبير عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقتها ببعضها وعلاقتها بالأشياء الدنيوية» (السواح 2002: 26).
«وشهد الباليوليت الأعلى، وهو آخر مراحل الباليوليت، والذي ظهر فيه الإنسان العاقل (homo sapienis)، ظهور الدمى الفينوسية، ولكن ما يسترعي الانتباه في تلك الدمى أنها اكتشفت في وقت بعيد عن زمن اكتشاف الزراعة الذي ستظهر فيه لاحقاً وبأعداد كبيرة؛ لأنها ستكون معبّرة عن الزراعة والخصب، فظهورها في الباليوليت الأعلى وبأعداد محدودة، يدل على عدم ارتباطها بظهور تحول بيئي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ديني كبير، مثلما حصل مع دمى النيوليت، وإنما يدل على استمرار ظهور المقدس بصيغة أنثوية ولادية، ويمثّل ما جسدته هذه الدمى صورة من صور تجليات المقدس واستمرار تدفقه الديني، ليفصل بين العالمين الإنساني والإلهي» (الماجدي 1977: 45). لقد حاول إنسان الباليوليت أن ينقل إحساسه بالعالم القدسي عن طريق رسوم الكهوف، ثم استطاع أن يعبّر، من خلال تلك الدمى العشتارية، عن إحساسه بالآلهة التي كانت في تصوره أنثى.
ويذهب الماجدي إلى القول: «لو تأملنا أهم عناصر دين الباليوليت الأعلى (النار، الحيوان، المدفن، الكهف، المعبد الكهفي، تعاويذ المحار، الصبغة الحمراء، الرسوم، الدمى الأنثوية) لرأينا أن هذه العناصر تبدو كما لو أنها تشكل عالم الرحم عند المرأة، ويوضح كذلك أن 'النار دلالة على دفء الرحم وحرارته الثابتة، والحيوان دلالة على التشكل الجيني الأول الذي هو واحد في جميع الحيوانات ذوات الرحم ويقترب من الشكل الحيواني في تلك البدايات. أما المدافن والكهوف والمعابد الكهفية، فهي الرحم نفسه الذي لجأ إليه الإنسان في حياته وعبادته، ويعطي الكهف صورة رمزية للرحم الذي يختبئ في أحشاء الجسد ويخفي فيه أسرار الحياة والولادة، ولا شك أن جدران الكهوف التي جسّدت الرسوم الأولى للإنسان بهيوليتها وأشكالها النافرة والتجريدية أحياناً، تعبر عن تلك الرؤى والأطياف الأولى لعالم الرحم الذي يزخر بعناصر التوتر والحياة» (الماجدي 1977: 53-54).
ومن الدراسات اللافتة، في هذا السياق، ما قام بها أحد الآثاريين في أمريكا، وهو عميد كلية بنسلفانيا «دان سنو dean snow»، والذي نشر، أواخر العام 2013، دراسة في «ناشيونال جيوغرافي» مفادها أنّ شكل طبعات الأصابع المتكررة على الجدران في الكهوف تمثل أصابع نساء بنسبة تزيد على 75%.
ولفتت الدراسة إلى أن العديد من الكهوف احتوت على طبعات للأيدي، ومنها كهوف في الأرجنتين، والبيرو، وأفريقيا، واستراليا، وجنوب فرنسا، وشمال إسبانيا (ناشيونال جيوغرافي 2013).
وقد تكون مميِّزات العصور الثلاثة الأولى لمجموعة عصور ما قبل التاريخ متشابهة وواحدة في جميع المناطق، إلا أن الكنوز الآثارية التي وجدها الباحثون في بلاد الرافدين أكدت أن العصور الثلاثة التالية في وادي الرافدين حملت طابعاً خاصاً ميزها كمنظومة واحدة شكلت مهد الحضارة الرافدينية. هذه العصور سبقت الكتابة، فسيطرت فيها الشفاهة، ورُسمت فيها بدايات التشكل الثقافي والسياسي والديني والاجتماعي، وشهدت ظهور تسع حضارات قبل سومر، فكانت على التوالي: جرمو، الصوان، حسونة، سامراء، حلف، أريدو، العبيد، أوروك، جمدت نصر، التي كونت المادة الخام للحضارات التي تليها. «وإذا كان الباليوليت أوروبياً والميزوليت شامياً، فإن النيوليت كان رافدينياً شمالياً يدل على ذلك انتظام ثقافاته المتتالية المترابطة، وهي كما يلي:
اسم الثقافة النيوليتية
عدد سنواتها
الفتره الزمنية التقريبية
1- جرمو
2000
8000-6000 ق.م
2- الصوان
3- حسونة
200
700
6000-5800 ق.م
5800-5100 ق.م
4- سامراء
200
5100-4900 ق.م
جدول رقم (1) ثقافات النيوليت (الماجدي 1997: 27).
وكان التطور الحثيث الذي جاءت به الزراعة في شمال العراق مفتتحة به عصر النيوليت مدعاةً لظهور ثقافات أو حضارات أربع هي (جرمو، الصوان، حسونة، وسامراء)، وقد استغرق ظهورها حوالي ثلاثة آلاف سنة، وكانت جميعها زراعية فلاحية سادت فيها المرأة كزعيمة وعبدت فيها الإلهة الأم، ثم جاءت الانعطافة النوعية الثانية التي جاء فيها اكتشاف المعادن وبدء عصر الكالكوليت الذي انتقل مسرحه إلى جنوب العراق، وظهرت فيه خمس ثقافات هي) حلف، أريدو، العبيد، أوروك، جمدت نصر(واستغرقت هذه الحضارات حوالي ألفي سنة، وكانت جميعها ذات طبيعة مدينية حرفية، إضافة لاهتمامها بالزراعة، وساد فيها الرجل كزعيم للقوم وظهر الإله الذكر، ومن ثم ظهور الآلهة المتعددة، وخصوصاً تلك المرتبطة بالطبيعة» (الماجدي 2013: 130).
وشكلت العصور التي سبقت اختراع الكتابة المهد الحقيقي لحضارة الرافدين على وجه الخصوص ولحضارات العالم على وجه العموم، فبعد تدجين الحيوانات واكتشاف الزراعة، وظهور أولى أشكال الدين ممثلاً في عبادة الإلهة الأم، إلى اكتشاف المعادن، توّج اختراع الكتابة الصورية في أوروك المشهدَ، ليمهد الطريق لفجر الحضارات ممثلة في حضارة سومر. ولعل عبادة الإلهة الأنثى كانت نابعة من مكانة متميزة شغلتها المرأة في وجدان الإنسان ارتبطت بالخصب والنماء، ما دفعه ليصنع تلك الدمى الفينوسية التي تمثل المرأة في مختلف مراحل الأمومة؛ فالنساء الحبالى أو في وضعية الولادة، والنساء ذوات الأثداء الممتلئة، إشارة إلى وفرة الغذاء والإرضاع، صنعها الإنسان تشبيهاً لتلك القوى الخفية المسؤولة في اعتباره عن خلق الكون. يظهر الجدولان 2 و3 ملخصاً يوضح مراحل تشكل عصور ما قبل التاريخ والحضارات التي نشأت فيها، وظهور الدمى الفينوسية، وبدء ظهور التماثيل للابن والإله الذكر.
إن ظهور التماثيل الأنثوية النيوليتية في عدة وضعيات ممثلة للإلهة الأنثى عكس ملامح دينية في عبادة الخصب واسعة الانتشار، ودلّ، بالتالي، على أن المرأة وارتباطها بالخصب والولادة كانت المثال الأقرب شبهاً للطبيعة؛ فهي تشبه دورة الخصب والإثمار والربيع وعودة الحياة، خاصة مع عدم وضوح الدور الذي يلعبه الرجل في هذا بالعودة للتباعد ما بين فترة التزاوج والولادة، وكل تلك التطورات التي تطرأ عليها ولا تطرأ على الرجل، كل ذلك جعل من المؤكد أنها الإلهة المسؤولة في مخيال الإنسان آنذاك عن الخصب في الكون على مستوى الأرض وعلى مستوى السماء.
ويجدر هنا التنويه إلى أن توفر تلك الكنوز الآثارية لم يشكل لدى بعض الباحثين أداة جزم بانتشار ظاهرة عبادة الإلهة إلا حين توفرت الأدلة التاريخية المستوحاة من مادة الأساطير والطقوس، التي بينت بأن هناك عبادة إلهة كونية هيمنت على كل النصوص، مما ساعد على تدعيم هذه الفرضية بشكل أكبر وأوسع، فضلاً على أنّه، وبالرغم من التحول إلى النظام الأبوي مع العصر الكالكوليتي إلا أنّ المكانة الرفيعة التي احتلتها المرأة مع الطور الأول من عصر فجر السلالات في بداية العصر السومري، وتمتعها باستقلال ذاتي كبير على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، أكد على ما حصل في العصور النيوليتية من تسيد للمرأة وعبادة للإلهة وظهور مجتمع أمومي.
ويؤكد السواح هذا الأمر من خلال الأساطير «فكون الديانة النيوليتية كانت ديانة زراعية في اعتقادها وطقسها، كانت الأسطورة الأولى أسطورة زراعية تتركز حول إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة في شكلها الوحشي، وشكلها المدجّن الجديد التي تشارك يد الزارع في قولبته وتأهيله، ومع نضوج الثقافة النيوليتية واكتمال الشكل الاقتصادي الجديد وتزايد الدور الاجتماعي للرجل بعد أن كان المجتمع أمومياً في جوهره، أصبحنا نجد إلى جانب الإلهة الأم ابنها الذي نشأ عنها، والذي دعته عصور الكتابة بتموز أو أدونيس» (السواح 2002: 25).
وأتت الطقوس التي سادت في هذه العصور لتعكس عبادة الإلهة الأم. وقد أشار «السير فريزر» إلى أن «هذه الطقوس كانت تجري اعتماداً على مبدأ التشابه 'وهو أن الشبيه ينتج شبيهه أو المعلول ينتج علته'، فإن الاعتقاد يكون بأن تحقيق الأهداف والنتائج يكون بمحاكاتها أو تقليدها» (فريزر 1971: 104)، لذا حاول إنسان هذا العصر محاكاة تلك الأساطير وتجسيدها وتشبيهها من خلال مجموعة من الطقوس، حيث يكون الطقس الأسطوري الذي يعتمد الإيماءة لبعث الحياة في الطبيعة واستمراراً للخصب والتكاثر والنماء.
وتنوعت هذه الطقوس، فكانت المصارعة وكان الزواج المقدس وكان الاستسقاء (الرقص الديني) وكلها في إطار غاية وهدف هو تعظيم الإلهة الأم، وطلباً للخصب والرخاء والتكاثر.
«أما المصارعة، فهي تعبر عن طقس ديني يتم فيه اختيار الضجيع المناسب للملكة ليقوم بمراسم الزواج الموسمي. أما طقس الاستسقاء، فكان درامياً في جوهره؛ لأنه يقوم على صراع الخصوبة (المرأة ونثرها لشعرها) مع الجفاف وتذبذب المطر، ولكن فيه البعد الديني، حيث يجري تحت رعاية الكاهنات والناس الذين يشكلون النظارة، والذين يترقبون الطقس ويعيشون فيه، وأما الزواج المقدس، فهو الطقس والعيد الأكبر، حيث تقع المرأة الكاهنة، والتي تمثل الإلهة الأم في مركزه، وهي زعيمته» (الماجدي 2013: 115).
ولوحظ في تماثيل الفينوسات الأولى عدم الاكتراث بملامح الوجه بقدر الاهتمام بوضعيات الحمل والولادة والأعضاء الضخمة كرمز للخصوبة؛ لأن اهتمامه بذلك التشابه الكبير ما بين دورة الطبيعة من الخصب والنماء والجفاف والموت، وما بين الحمل والولادة جعله يركز على إبرازها وتعظيمها، كما يحصل في كل المجتمعات وحتى اليوم في استحضار روح الإله بما يشبهه على الأرض ويقدسه ويرفع مكانته، ما يعيد التأكيد بلا شك على تلك الهالة من القدسية التي كانت للمرأة ومكانتها البارزة.
واستدلت «مارلين ستون» من خلال طرح السؤال التالي: كيف كان حال النساء، حيث قُدِّسَت المرأة؟ وأجابت عنه مستشهدة بآراء العديد من علماء الأنثروبولوجيا والتاريخ والاجتماع، لتؤكد أنّه كون المرأة كانت مقدسة في صورة الإلهة، فهذا يستدعي أن يكون للمرأة السيطرة على الأرض، كما حالنا اليوم مع ذكورية الإله، وقد يكون العكس وهو أن مكانة المرأة الرفيعة عكست تقديس الإلهة الأنثى، كما ذهب إلى ذلك السير «جيمس فريزر»، والذي رأى أن «الحالة الرفيعة للنساء مسؤولة أساساً عن تقديس وتقدير الإلهة الأنثى» (ستون 1998: 55).
ويشير طه باقر «إلى أن مساهمة المرأة في تدجين الحيوانات، واكتشافها الزراعة أرسى أهم عامل لاستقرار الإنسان وبناء الحضارة، وكان لها سيطرة حقيقية على تلك العصور، والتي دُعِيت عصر سيطرة المرأة 'matriarchy'، فكانت أعمال المرأة بالإضافة لتربية الأطفال تتعلق بطحن الحبوب وتهيئة الخبز والطعام، وكذلك الغزل لصنع الملابس وتهيئة جلود الحيوانات، والعناية بتلك الحيوانات المدجنة في حظائرها. أما أبرز أعمال الرجل وواجباته، فكانت على الأرجح تتعلق في صنع الأدوات الحجرية والأسلحة البسيطة وحماية قطعة الأرض الصغيرة المزروعة وصيد الحيوانات، ومع اكتشاف المعادن واستخدامها في تطوير أدوات الإنتاج جرى تطور على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، ونشأت فكرة الملكية الفردية؛ أي ملكية الحقل وأدوات الإنتاج والحيوانات المدجنة» (باقر، ج1 2009: 225).
ويؤكد السواح أنّ العلم أثبت أنّ التجمع الإنساني الأول لم يتأسس بقيادة الرجل المحارب الصياد، بل تبلور تلقائياً حول الأم التي شدت عواطفها وحدبها ورعايتها، الأبناء حولها في أول وحدة إنسانية متكاتفة هي العائلة الأمومية خلية المجتمع الأمومي الأكبر، لقد أسلم الرجل قيادة المجتمع للمرأة ليس لتفوقها الجسدي، بل لتقدير أصيل لخصائصها الإنسانية وقواها الروحية وإيقاع جسدها المتوافق مع الطبيعة، لقد كانت محور العمل على أنواعه منذ البداية، فكانت المنتج الأول في الجماعة والراعية الأولى، وأولى الصناعات كلها ولدت على يديها، حتى إنها كانت من أوقدت شعلة النار وحافظت على جذوتها وعلى أسرارها. وهي التي أسست العدالة والمساواة، وابتعاد سيكولوجيتها عن العنف والاستبداد أعطى الحرية هواءً تنفسته المجتمعات الأمومية، حتى إن الرجل في عهدها كان أكثر عزة وأنفة وفروسية من رجال العصر البطريركي (السواح 2002: 32/34).
فإذا كانت المرأة وراء اكتشاف الزراعة، وبالتالي لديها السيطرة على الإنتاج الزراعي، ومن ثم الأراضي، وعلى المجتمعات الصغيرة التي استقرت على الأراضي المزروعة، وكانت الإلهة التي تقام لها المعابد والزقورات، فما هو السبب الذي جعل المرأة المتحكمة في مفاتيح الإنتاج والدين تخضع للرجل، وتنسحب شيئاً فشيئاً من أدوارها المركزية إلى الأدوار الثانوية، فاسحة المجال لتشكل المجتمع الأبوي حتى الزمن الرّاهن؟
«إن جملة من التطورات قد زعزعت عرش المرأة ونقلت المجتمع من سيطرتها إلى سيطرة الرجل، وهو 'أكبر تراجع للمرأة في التاريخ' على حد تعبير إنجلز في كتابه 'أصل الأسرة'؛ وذلك لأنه استفاد من حريته الشخصية، فسخّر المعادن والآلات حسب رغبته واحتكر المهام التي تفتح له المجال للسيطرة على الطبيعة» (عقراوي 1978: 23). وهذا واحد من الآراء التي بيّنت أن ارتباط المرأة بالحمل والولادة منح الرجل حرية التنقل، ما يحمل إشارة غير مباشرة إلى تخصيص وظيفي بيولوجي للمرأة بتربية الأولاد والعناية بهم وضعف مقدرتها البدنية وقد خالف العديد من الباحثين هذا الرأي.
ويشير«ول ديورانت» «إلى أن الرجل كان من جملة ما استأنسته المرأة من حيوان، في إشارة للرجل الصياد المتنقل وغير المستقر؛ إذ يرى أن 'معظم التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي كان يُعزى للمرأة، فبينما الرجل ظلّ متمسكاً بأساليبه القديمة من صيد ورعي، كانت هي تطور الزراعة وتباشر تلك الفنون المنزلية التي أصبحت فيما بعد أهم ما يعرف الإنسان من صناعات؛ ومن شجرة الصوف -نبات القطن- غزلت الخيوط ونسجت الثياب؛ وهي على، أرجح الظن، تقدمت بفنون الحياكة والنسج وصناعة السلال والخزف وأشغال الخشب والبناء، بل هي التي قامت بالتجارة في حالات كثيرة، وهي التي طورت الدار واستطاعت بالتدريج أن تضيف الرجل إلى قائمة ما استأنسته من حيوان، ودربته على أوضاع المجتمع، وسرعان ما بدأ يستلم زمام الأمور شيئاً فشيئاً وعرف في تربية الماشية مصدراً جديداً للقوة والثراء والاستقرار، فانتزع منها زعامتها الاقتصادية، واستخدم الحيوان الذي استأنسته المرأة في الزراعة وبقوته البدنية تمكن من استخدام المحراث، وكلما ازداد ما يملكه من ماشية ومنتجات الأرض، سيطر جنسياً على المرأة ليورث أبناءه وهكذا اعْتُرف بالأبوة في الأسرة، وبدأت الملكية تهبط في التوريث عن طريق الرجل لتندحر الأمومة، وتصبح الأسرة الأبوية هي الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع» (ديورانت 1988: 61).
ومن المؤكد أن الرجل استفاد من الحيوانات المدجنة، وبدأ يكتشف دوره في الإنتاج وفي التناسل. كما أن استخدام المحراث أدى إلى إبعاد المرأة أكثر عن النشاط الزراعي، ونظراً لكون استخدام الحيوان في الزراعة قد ساهم في تحسين الإنتاج ومنح الرجل مكاناً في العملية الاقتصادية، فقد اتسعت دائرة إنتاج الغذاء من مرحلة الاكتفاء الذاتي إلى مرحلة الفائض، فكانت أولى بذور الاحتكاكات ما بين مالكي القوت والغذاء ومنتجيه، وبين الجماعات التي لم تتعلم الزراعة أو ما زالت في طور الصيد وجمع القوت، وهنا تتجلى وجاهة ما ذهب إليه ديورانت، وهو ما نتفق معه بأن الرجل سيطر على المرأة جنسياً لينقل نظام التوريث إليه وينقل، بالتالي، الثروة إلى طرفه تمهيداً لظهور الملكية الفردية التي منحته السلطة، وكانت الأساس في تسيده في المجتمع الأبوي.
لقد ذهب العديد من الباحثين إلى أنّ المرأة مثّلت الطبيعة، فيما مثل الرجل التطور والثقافة وإخضاع الطبيعة، وهذه النظرية فقدت معناها في ظل استحالة تطويع الطبيعة بالمطلق، وفي ظل اختلاف الظروف التي كان الرجل والمرأة قديماً يعيشان فيها وجهاً لوجه مع الطبيعة وأهوالها، وهذا لا يندرج على عصرنا الحالي.