ملاحظات في عصر توماس هوبز وفكره السياسي
فئة : مقالات
ملاحظات في عصر توماس هوبز وفكره السياسي
عرف القرن السابع عشر في إنجلترا تحولات عميقة، مست مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والدينية، إلخ. وقد ظهر تفاعل كبير بين هذه التحولات، حيث أثرت بشكل واضح على المجالات الفكرية والفلسفية. سنحاول في هذه الدراسة، مقاربة بعض الوقائع الخاصة بالقرن السابع عشر لإنجلترا، وربطها بالقضايا الفلسفية الكبرى لتوماس هوبز .Thomas Hobbes ما هي مظاهر هذه التحولات؟ وما هي تداعياتها على الفكر السياسي لهوبز؟
I- الجذور التاريخية لعصر هوبز:
نقترح مباشرة حالة الأحداث السياسية للمجتمع الإنجليزي خلال القرن السابع عشر، ووضعها تحت مجهر التصور التاريخي، حيث نعتقد بضرورة التطرق إلى التشكيلة الاجتماعية للمجتمع الإنجليزي. ولا نخفي مثلا أهمية مقاربة كريستوفر هيل Christopher Hill، ويرجع إليه الفضل في هذا الباب إلى تقديم قراءة مغايرة للمجتمع الإنجليزي إبان القرن السابع عشر، التي تتجه في منحى مختلف تمام الاختلاف عن القراءات التقليدية، إذ تعرض للقاعدة الاقتصادية ودورها في تحديد العلاقات الاجتماعية وبناء الحق السياسي.
غلب على الدراسات الاقتصادية الخاصة بإنجلترا خلال القرن السابع عشر، التركيز على وصف هيكل هذا المجتمع بمرحلة الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية. اتسمت بداية ذلك القرن، من ناحية نمط الإنتاج الاقتصادي، بسيطرة الزراعة. وقد كرست معظم ساكنة البادية عملها لسلسلة إنتاج المحاصيل الغذائية والصوف. وفي ظل هيمنة نمط الإنتاج الإقطاعي، نشأت جماعات محلية منعزلة فيما بينها، تمحور إنتاجها على الاستهلاك الذاتي، بينما كان التبادل داخل هذا النسيج ضئيلا. تعرضت هذه البنية شبه الراكدة لخلخلة قوية، إذ فرض منطق الأشياء على الساكنة المنطوية على ذاتها، تسويق منتجاتها الزراعية، منذ القرن الخامس عشر والسابع عشر، خارج إطار البادية، من خلال ذيوعها في السوق الوطنية.
شرعت الجهات المتمركزة في جنوب إنجلترا، بالتخصص في إنتاج بضائع خاصة. وقد أتاح اتساع السوق وتنوع حاجياته إلى الطبقة الغنية، بالاستثمار في ميدان الزراعة. ومن جراء ذلك، راكمت الطبقة الغنية، أرباحا طائلة، وأصبحت أسعار البضائع في ارتفاع متزايد. نتج عن ارتفاع الأسعار، طوال القرن السادس عشر والسابع عشر، ثراء طبقة التجار بصورة كبيرة، أما بالنسبة إلى محدودي الدخل، فقد أصابهم وباء الفقر. في نهاية المطاف، «ازدهرت الطبقات المتوسطة، بيمنا عاشت الطبقة الإقطاعية الأرستقراطية الراقية (التي تضم الملك والأساقفة) والفلاحين الصغار والعمال المأجورين بصورة نسبية في ضنك الفقر».[1]
يمكن اعتبار لحظة اكتشاف الفضة في بقاع أمريكا، حدثا متميزا في تاريخ التجارة، فأدى هذا الواقع الجديد، إلى تبديل العلاقات الاجتماعية القديمة، الجامعة بين مالك الأرض والمستأجر، المشغل والعامل، من الأداء بالبضائع وخدمات العمل إلى إحلال المعاملات التجارية والمالية.
لقد كشفت هذه العوامل المتضافرة، عن تحول في طبيعة البنية البدوية للمجتمع الإنجليزي، بصورة غير مسبوقة؛ صارت الأرض تمثل حقلا أكثر جاذبية ومجالا مغريا في استثمار الرأسمال، فراكم الأغنياء ثروات طائلة، وتعاظمت أهدافهم في اقتناء الأراضي، وطرأ تبدل على العلاقة بالأرض داخل إنجلترا. سابقا، وبالتحديد، داخل المجتمع الإقطاعي، كان الابن يرث أرض الأب، ويستفيد من منافعها في نطاق الاستخدام العائلي؛ بينما في هذه اللحظة، داخل المجتمع الرأسمالي، غدت الأرض بضاعة، قابلة للبيع والشراء، تخضع قيمتها لقانون السوق.
ولا شك في أن هذا المسار الذي قطعه المجتمع الإنجليزي، في الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية، لم يكن انتقالا سلميا، بل كان مطبوعا بتنازع القوى المتناقضة، حيث لم يقبل هذا الانتقال سوى بدحر طبقة لطبقة أخرى، وولادة مجتمع رأسمالي طبقي جديد. احتدم الصراع في صفوف جل الطبقات للاستفادة من التحولات الزراعية، وعرف الإنتاج نموا متزايدا، واستطاع لفيف من الفلاحين الأغنياء وبعض من ملاك الأراضي الصغار تحقيق الازدهار، بينما تعرض العديد من المزارعين الصغار للإفلاس وانتزعت أملاكهم.
وقد بدأت ردود الفعل على هذه الأوضاع تتشكل تحت حركات ثورية، فدخل الفلاحون الفقراء في صراعات مصيرية ودموية مع السياسات المعادية لطموحاتهم، التي نهجتها طبقات ملاك الأراضي. وقد اندلعت سلسلة من التمردات، سنة 1549، 1607 ثم 1631، لكن بالرغم من صراع الفلاحين، فإنهم كانوا يسحقون ويخضعون مرارا تحت رحمة السلطة السياسية. يرجع السبب الرئيس في إخفاق نضال الفلاحين، في عدم توازن قواهم مع قوى الدولة، فهذه الأخيرة كانت دوما أداة قمع في يد الطبقة المسيطرة؛ وقد بسط ملاك الأراضي الحكم على إنجلترا في القرن السادس عشر، بفضل سيطرتهم على أجهزة الدولة وتسخيرها في خدمة مصالحهم، وتسلطوا على الفلاحين البسطاء.
«مثل النبلاء الدوائر الانتخابية في مجلس العموم، من ثم أصبح البرلمان متطابقا مع الطبقة الحاكمة الموحدة؛ راقب النبلاء السلطة المحلية. لم يكن النبلاء والبرلمان وجها من المعارضة للدولة، فهم جزء لا يتجزأ منها. ولم تكن الطبقة الحاكمة عبارة عن مجموعة متفاوتة من حكم الأقلية المحلية المسيطرة، بل طبقة ذات شعور بالمصلحة العامة والتضامن القومي. ألغت هذه المصلحة الجماعية القومية التباين المحلي والاقتصادي، ولعبت دورا أساسيا في إقامة الدولة المطلقة تحت نفوذ هنري الثامن Henry VIII وإليزابيث Elizabeth».[2]
وعرفت مؤسسة البرلمان عدة تقلبات، تجلت في تغيير موازين القوى، مما أفضى إلى تعميق أزمة الملكية. ومن باب التذكير، كان الملك يتحكم في دواليب البرلمان، وتخضع اجتماعات هذه المؤسسة لإرادته. ونشير في هذا السياق، إلى أن البرلمان لم يكن يعقد اجتماعاته بصورة مستمرة ومتواصلة، بل عرف نوعا من التذبذب، وهو ما تؤكده جلساته في بداية القرن السابع عشر، خلال سنة 1601، 1604-10 (خمس دورات)، 1614، 1621، 1624، 1625، 1626، 1628-9، ومرتين سنة 1640. «كانت إذن الفواصل الزمنية الأطول بين البرلمانات المتتالية، من سبع إلى إحدى عشرة سنة؛ بينما، الفاصل الزمني الثاني، كان أكثر غرابة؛ لأنه كان نتيجة مباشرة للصراع بين التاج ومجلس العموم في الاجتماع السابق لسنة 1629. بالرغم من كون الملك ليس طرفا دائما في الحكومة، مع ذلك، كان يعود إلى البرلمان لفرض الضرائب المباشرة، سن التشريعات، بالإضافة إلى مختلف المقتضيات التشريعية من آن لآخر».[3]
إن النظرية المناهضة للنزعة المطلقة التي اتخذتها الملكية، لم تستطع أن تؤثر على السلطة الملكية، ولم تخلق أي معارضة حقيقية وجذرية من شأنها قلب قواعد الحكم لصالح الطبقات الشعبية، وبالتالي إثباتها للسيادة الشعبية. ومن ثمة نفهم النفق الذي استقر فيه قادة التوجه البرلماني، نظرا لعجزهم حتى عن الدفاع على أطروحة استمداد الملك لمشروعيته من مؤسسة البرلمان. «لم يكن تفسير المعارضة البرلمانية للتاج في 1642 مؤسسا على نظرية نسقية حول المقاومة، ولا بشكل عام على أي شيء أكثر جذرية من حق الدفاع-الذاتي».[4]
عرف الحكم الملكي أزمة حقيقية، طالت قدرته على فرض مشروعيته وأضعفت من بريق استقطاب الولاء. وكانت هذه الوضعية، إيذانا بانفجار ثورة مرتقبة، من شأنها ترتيب قواعد الحكم ووضع السلطة السياسية على محك مسار جديد، يعلن الطلاق مع الملكية. بدأت المعارضة الثورية للتو تحت شكل ديني، حيث: «مارس الدين وظيفة تحريضية، فأضافت التطهيرية، سليلة الكالفينية الإنجليزية، مقاومتها الرهيبة في الاصطفاف ضد التاج. وكما هو الحال في أماكن أخرى، باتت نسبة كبيرة من الطبقة الحاكمة، في النظام الأرستقراطي للنبلاء والأشراف، بمنأى عن حكم الملك، من خلال ممارساته وسياسته عبر الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الطبقة عن تظلماتهم من المملكة وقادوا المعارضة التي توجت الثورة».[5]
ومن المعلوم أن هذه الأحداث التي طبعت المجتمع الإنجليزي، كان لها وقع كبير على الدارسين. ويظهر أثرها في طبيعة ومسار قراءتها من طرف هؤلاء الدارسين، إذ لا نكاد نعثر على اتفاق حول تسميتها. فهناك من يختزل هذه الأحداث في حروب أهلية، تتخذ غالبا صورة صراع ديني؛ أما القراءة الثانية، فهي تصرح بدون مماحكة، بأننا أما ثورة انجليزية، شملت مختلف مظاهر الحياة، وقلبت النظام رأسا على عقب.
نأمل في هذا المستوى، إبراز الهزات السياسية والاجتماعية التي كانت انجلترا مسرحا لها. يمكن القول إن الثورة الإنجليزية في سنوات 1640 و1660، قد مثلت حركة اجتماعية مهمة مثل الثورة الفرنسية لسنة 1789.[6] طالت التحولات التي مرت منها انجلترا سلطة الدولة، حيث خضعت لقلب عنيف؛ فبعدما كانت تحمي هذه السلطة النظام القديم، الذي كان بصورة أساسية إقطاعيا، تمخض عن ذلك انتقال السلطة إلى طبقة جديدة، وهو ما كان بمثابة إعلان عن ميلاد الرأسمالية.
بالمقابل، إن الحرب الأهلية التي نالت القسط الكبير في تفسير مجرى التحولات السياسية، تشير إلى كون القوى المنتشرة في صفوف الكنيسة والإقطاعيين، قد اصطفت بجانب شارل الأول Charles I، ودافعت عن استبداده. نشأ صراع ثنائي القطبين، بين البرلمان والملك، الذي حسم لصالح البرلمان، بفضل الدعم الذي وجده في الطبقات التجارية والصناعية المنتشرة في المدن والبوادي، وكذلك من قبل ملاك الأراضي الصغار والنبلاء التقدميين. بالرغم من أن الثورة الإنجليزية، تتماثل مع الحروب الثورية الأخرى لتلك الحقبة، فقد تجاوزتها من عدة نواح، بالخصوص فيما ألحقته من تغييرات سياسية، كما انطوى المد الثوري على ملامح دينية، واجتماعية وسياسية.
ويظهر تضافر هذه العوامل واجتماعها، في دفع الثورة إلى «تحطيم كنيسة الدولة والمعركة على الحرية الدينية؛ واتساع نقاشاتها الإيديولوجية ودلالتها؛ وإثارتها للتطلعات الاجتماعية والديمقراطية؛ وإقامتها للدستور والجمهورية؛ وإيقاظها الشديد لتمرد جذري من الأسفل».[7] لم تقتصر رياح الثورة على قلب البنية الداخلية للمجتمع الإنجليزي، بل تخطت حدودها، وأرخت بظلالها على الساحة الدولية. فعلاوة على ذلك، «احتل النظام الجديد المتولد من الثورة مكانا مهما في المشهد الدولي. بعد تفوق الدولة الثورية داخل انجلترا، امتدت فورا وراء حدودها في بسط غزوها على اسكتلندا وإيرلندا».[8]
في خضم هذا التحول العنيف الذي أصاب المجتمع الإنجليزي، يمكن الوقوف على الأهمية الحاسمة التي اكتستها الأرض في المجال القروي؛ فقد باتت الأرض مصدرا أساسيا لتكديس الأرباح، عن طريق استثمار رؤوس الأموال في المجال الزراعي. بالرغم من ذلك، يلاحظ بأن هذه الروح التجارية المتدفقة من لندن لم تلمس الأطراف الشمالية والغربية. لكن باشر العديد من ملاكي الأرض داخل مناطق الجنوب والشرق في استغلال أراضيهم بأسلوب مستحدث، تماشيا مع متطلبات الواقع الجديد. وتجدر الإشارة، إلى كون السر وراء الانجذاب نحو الاستثمار في الأرض، يقيم داخل معادلة الربح ذي القيمة العالية الذي تدره على المستثمر:
«كانت الأهمية الأولى للأراضي الخاصة في العصور الوسطى والقرن السابع عشر على حد سواء، بأنها أمدت مالك الأرض (من خلال سيطرته على عمل الآخرين) بوسائل العيش. غير أنه علاوة على ذلك، صانت الأراضي الفسيحة الخاصة في العصور الوسطى فائض إنتاجها الزراعي بجماعة من الخدم الذين كانوا يعملون أحيانا كجنود، وكانت كذلك قواما للسلطة السياسية لكبار الإقطاعيين. في الوقت الراهن، مع تطور نمط الإنتاج الرأسمالي داخل حدود البنية الإقطاعية، باشر السواد الأعظم من ملاك الأراضي إما في تسويق حصة إنتاج أراضيهم الخاصة الذي لم تستهلكه عائلاتهم، أو تأجير أرضهم إلى مزارع ينتج لأجل التسويق. لذلك راح ينظر ملاكو الأرض إلى أراضيهم الخاصة من منظور جديد: كمصدر لربح المال، والأرباح التي يمكن مراكمتها لمرونتها. ترسخ استغلال الإيجارات وكذلك العديد من النفقات الشرعية الابتزازية التي انتزعها كبار الإقطاعيين من الفلاحين إلى مستويات صمدت لمدة طويلة، حتى أضحت تعد “عرفية”، وكأنها موجودة “منذ زمن سحيق”؛ فقد راكموا ذلك بمستويات مرتفعة غير قابلة للتصور. إن القطيعة مع جل ما اعتبره الناس صائبا ومتلائما، كان في حد ذاته ثورة أخلاقية واقتصادية، نجمت عنها آثار عميقة أربكت أساليب التفكير والاعتقاد».[9]
لقد احتلت الطبقة التجارية والصناعية موقعا مهما في جنوب وشرق إنجلترا، بفضل ازدياد ثرائها، وكان بلاط الملك بمثابة بؤرة الطبقة الغنية، حيث كان التاج أكبر مالك للأراضي، بالإضافة إلى فئة الأساقفة، الذين كانوا يستحوذون على عدد من الأراضي.
II- هوبز ونظريته السياسية:
يعتبر مصنف الليفياتان[10] لتوماس هوبز دراسة سياسية أساسية وذات مفعول وتأثير كبير، ويحظى هذا العمل بمكانة مهمة داخل الفلسفة السياسية الإنجليزية. ينقسم الليفيتان إلى أربعة كتب: الكتاب الأول يقدم نظرية عامة عن الإنسان؛ الكتاب الثاني، يدرس الجمهورية/الدولة؛ والكتاب الثالث، يتناول الجمهورية المسيحية؛ الكتاب الرابع، يعالج مملكة الظلام. وسنحاول تسليط الضوء على الكتاب الأول الخاص بالإنسان.
يقارب هوبز في هذا الكتاب العواطف السيكولوجية، من خلال وضعه لإطار نظري تشمل نظرية الدلالات ونظرية عامة في الطبيعة البشرية والدافع البشري.
وتتميز مقاربة هوبز بسمة فارقة، تتعلق بارتباط الأنثربولوجية والسيكولوجية عند هوبز بالوضعية الطبيعية. يندرج تصور هوبز ضمن التقليد الكلاسيكي الطويل، في بعض نواحيه الأبيقورية، فمثلما أظهرت كينش هويكسترا قام هوبز بالبرهنة على كون الانفعالات غير القابلة للضبط/التحكم عند الأفراد داخل وضعية الطبيعة تماثل وضعية الأناركية anarchy التي يعود إليها المجتمع المدني من غير ريب. تتمكن البشرية من الحصول النجاة بفضل العقل الذي يجري حسابا عقلانيا يضيء المصلحة الذاتية على المدى البعيد بالقدرة على إنقاذه من هذا المصير.
لقد اشتق هوبز نظرية عن الفضائل باعتبارها تشكل مراجعة جذرية لنظرية الفضيلة، فهي إن شئنا متلائمة مع تضاربات التقويمات البشرية من دون أن تقحمه في النسبية والريبية الأخلاقية.[11]
ومن الطبيعي التفكير في الطبيعة البشرية وطبيعة المجتمع السياسي من خلال التأمل لماذا تتواجد البشرية داخل أو خارج المجتمع. في الفقرة المتعلقة بالشرط الطبيعي للإنسان، الخاص بسعادته وشقائه. أقر بأنه يحظى في شروط كثيرة بالشقاء، وفي شروط قليلة بالسعادة.
خصص القسم الأول من اللفياتان لقضية الطبيعة البشرية، ويصف في المقام الأول وجودهم المشتت، لينتقل في الفصل الثالث عشر الذي يصف فيه الوجود البشري بصورة نسقية بالتطرق إلى مظاهر التفاعل بين الأفراد.[12]
نظر هوبز في قيام الدولة، واعتبرها بمثابة شخص. وحدد ماهية هذا الشخص، الذي جعله يتخذ وجودا اصطناعيا. تحوز الدولة، التي صرح هوبز بأنها شخص اصطناعي، على مقومات ممارسة الحكم، من خلال تفويض المحكومين لمختلف سلطهم، إلى الدولة. ونستحضر أن أسباب إجراء الأفراد لهذا النوع من نقل السلطة إلى الدولة، تكمن في الحصول على مقابل، ويتمثل في إقامة السلم ووضع حد للحرب بين الأفراد.
إن السلطة عند هوبز، بالنظر إلى فعل النقل الإرادي لكافة الحقوق صوب الدولة، تصير تمثيلا لإرادة المحكومين من طرف الحاكم. ويشتمل التمثيل، على ضرورة توافق الأفراد، حول الشخص، الذي يؤول إليه نقل حقوقهم، من أجل تمثيلهم. ويدل ذلك، على إحداث هوبز لثورة نظرية، حيث قال بالتعاقد الأصلي بين الأفراد، الذي ينص على الموافقة إلى شخص اصطناعي يقوم بتمثيلهم. ويعد هوبز «المؤسس في العصر الحديث لمفهوم التمثيل».[13] وتتجلى أهمية التمثيل، في إعطاء الدولة مشروعية مستحدثة، تنبني على تمثيل الأفراد.
وفي هذا السياق، عكف هوبز على تبيان مظاهر تشكل الدولة، وجعلها تتخذ صفة شخص اصطناعي. أكد أن الدولة تتحمل مسؤولية تمثيل الأفراد، ويمر ذلك، من خلال اتخاذهم صورة شخص واحد، يعبر على إرادة الحشد. وينبغي على الحشد التوافق فيما بينه، بخصوص طاعة الدولة، والتي تسهر من جانبها على تمثيلهم.
شرع هوبز في بناء المشروعية السياسية، على مصادر جديدة. انطلق من نظرية التفويض، وجعلها مركزا لتشييد الدولة. وتتضح معالم أصالة تصور هوبز، في اعتماده على تعاقد الأفراد فيما بينهم، بالتفويض إلى الشخص الاصطناعي، ومنحه كافة الضمانات والصلاحيات، التي تسمح بقيام الدولة.
لا ينبغي التصور حسب هوبز، بأن التعاقد السياسي الذي يجريه الحشد، أنه يضم السيادة كذلك. إن التعاقد، ينحصر بين الأفراد فيما، ويحث مضمونه على طاعة الشخص الاصطناعي، ولا يدخل هذا الشخص في تعاقد مع الحشد، لاستمداد سلطته، بل يؤسس مشروعيته، بالارتكاز على طاعة الأفراد الإرادية لحكمه.
في الختام، نشير بأننا حاولنا إلقاء الضوء على بعض الأحداث الخاصة بوقائع المجتمع الانجليزي خلال القرن السابع عشر. وكان هدفنا من وراء هذا الاستدعاء التاريخي، هو السعي إلى إبراز طبيعة هذه الوقائع، والاقتراب من مظاهر التحولات التي أفرزتها، حيث لاحظنا تأثيرها في الإنتاج الفكري لتوماس هوبز.
[1] Hill Christopher, The English Revolution 1640, An Essay, Lawrence Wishart LTD London, 1940, p. 14- 15.
[2] Manning Briang, The nobles, the people, and the constitution, Op. Cit., p. 250- 251
[3] Zagorin Perez, Rebels and rulers, 1500- 1660, Volume II, Provincial rebellion, revolutionary civil wars, 1560- 1660, Cambridge University Press, 1982, p. 133.
[4] Wood Ellen Meiksins, The pristine culture of capitalism, Op. Cit., p. 58
[5] Zagorin Perez, Rebels and rulers, 1500- 1660, Op. Cit., p. 131.
[6] Hill Christopher, The English Revolution 1640, An Essay, Op. Cit., p. 6
[7] Zagorin Perez, Rebels and rulers, 1500- 1660, Op. Cit., p. 130
[8] Ibid.
[9] Hill Christopher, The English Revolution 1640, An Essay, Op. Cit., p. 15-16
[10] Thomas Hobbes, Leviathan, The English Works of Thomas Hobbes, collected and edited by Sir William Molesworth, Volume 3, Bohn, London, 1839
[11] Patricia Springborg, the Cambridge Companion to Hobbes’s Leviathan, Cambridge University Press, 2007, p. 8-10
[12] Kinch Hoekstra, Hobbes on the Natural Condition of Mankind, In the Cambridge Companion to Hobbes’s Leviathan, Edited by Patricia Springborg, Op. Cit., p. 109
[13] Orwin Clifford, “On the Sovereign Authorization”, Political theory 3 (1975), p. 26