منطق التخييل
فئة : أبحاث محكمة
منطق التخييل
موجز البحث:
ذهب إيمانويل كانط إلى أن المنطق وُلد كاملا مع أرسطو، وأن المعلم الأول لم يترك للاحقين ما يمكنهم إضافته إلى "العلم التحليلي"، ولا هو أنشأ فيه ما يمكن لهذا "العلم" الاستغناء عنه. ولكن قلم صاحب الفلسفة النقدية لم يجف حتى ذهب، في معرض دحضه للحجة الأنطولوجية على وجود الله، إلى دعوى منطقية-أنطولوجية خاصة هي أن "الوجود ليس محمولاً حقيقياً". والحق أن الوصل بين هاتين الدعوتين (التاريخية من جهة، والمنطقية-الأنطولوجية من جهة أخرى) يفضي إلى مفارقة لا تُحل إلا بالتنازل عن أحديهما أو بتأويل الأولى تأويلا يطوعها لتتوافق مع الثانية. فإن العائد إلى "الأورغانون" أو إلى مؤلفات شراحه (إن استثنينا ما ذهب إليه الفارابي في جوابه عن السؤال السادس عشر من رسالته "جواب عن مسائل سئل عنها") لا يجد التسليم الضمني بأن الوجود محمول حقيقي للأشياء يجب تمييزه عن ماهياتها فحسب، بل يجده قولا صريحا يتكرر في غير ما فصل من فصول الكتب المنطقية لأرسطو أو من شروح اللاحقين له وتلخيصاتهم وغريها.
ولكن القيمة التاريخية لما ذهب إليه كانط، هي أنه أثار انتباه المناطقة إلى سؤال "هل الوجود محمول؟" وإلى الأسئلة المرتبطة به، أنطولوجية ومنطقية ودلالية، وفي مقدمتها: ما هو الوضع المنطقي للموضوعات غير الموجودة عامة ولموضوعات التخييل خاصة؟ وكيف يمكننا الحديث عن هذه الموضوعات بصورة مفيدة للمعنى؟ هذا ما يحاول هذا البحث بيانه؛ وذلك استكمالا للقول في ما كنت بدأته في مقال سابق بعنوان "المنطق المعاصر والمسألة الأنطولوجية".
مقدمة
تحت وطأة العجز الذي أضحى يُظهره المنطق الكلاسيكي ثنائي القيمة أمام المشكلات الدلالية والمنطقية التي تذكيها بعض ظواهر اللغة الطبيعية، خاصة غموض حدودها، كتب برتراند راسل Bertrand Russell (1872-1970) أن المنطق جَنةٌ بحق، ولكنها جنة السماء مخيبةٌ ظنونَ من يعيشون على الأرض، وعلى الإنسان أن يحسم اختياره، لئلا يظل مترنحا بين حاجات حياته اليومية من جهة ومقتضيات المنطق من جهة ثانية، وليس للأخير سوى أن يتنحى فاسحا الطريق لمجرى الحياة الاجتماعية وسيل وقائعها المتدفق؛ فهي أَولى بهذه الأرض وأحرى بالإنسان الذي يحيا عليها.[1]
ولئن ظهر في هذا الإقرار إذعان للحقيقة التي ما فتئ العقدان الأولان من القرن العشرين يبشران بها، وهي أوان ميلاد أنساق منطقية جديدة منحرفة عن مبادئ النسق العتيد أو موسِّعة لها على الأقل، فإنه لم يكن دعوة إلى التخلي عن المنطق بإطلاق[2]؛ فليس من شأن ذلك أن يدمِّر العلوم الصورية ويلقي بظلال الشك على بُنى الفكر الخالص فحسب، بل يمكنه أن يهدم الآلة التي يحتاجها كل علم؛ فلئن كنا نعاند أرسطو في بعض مبادئ نسقه وننازعه عددا من قوانينه، فإننا لا ننازعه قيمة المنطق (بألف ولام التعريف) والضرورة التي تؤوينا إليه، فهو آلة العلم أول الأمر وآخره، قوامه وعماده. لقد كانت دعوةً إلى تنازل المنطق الكلاسيكي عن كرسي البارادايم طالما أصبح عاجزا عن حماية نفسه من التهديدات المحدقة به وعن الاستجابة المُرضية للأزمات التي لم تزل تنشأ من داخله، وبالمقابل فقد كان تعبيرا عن الحاجة إلى صور جديدة للمنطق تُظهِره كآلة طبيعية تطاوع فكر الإنسان ولغتَه دون أن تُحوجهما إلى نظام معياري آخر غيرها. فأي إنسان هذا الذي لم تعد تُرضيه معيارية المنطق الكلاسيكي؟ وأي حياة إنسانية هذه التي غدت تنكر على هذا النسق حقه في السيادة على فكر الإنسان ولغته؟
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
[1]- Bertrand Russell, “Vagueness”, Australasian Journal of Psychology and Philosophy, vol. 1, no 2 (1923), 84-92, p. 88
[2]- اتهم بعض المعاصرين فيلسوف الذرية المنطقية بالتخلي التام عن المنطق عقب نشر مقاله "في الغموض" سنة 1923، كما زعموا تهيئته الطريق لأفكار جديدة مدمرة للعلوم المعيارية جديدة، وفي مقدمة هؤلاء معاصره ماكس بلاك، انظر:
Max Black, “Vagueness: an exercise in logical analysis”. Philosophy of Science: Vol. 4, No. 4, Oct. 1937, 427-455, p. 429