من أسئلة المُصْلحين إلى استنزاف الدّين في خطاب الجهاديّين
فئة : مقالات
1. أسئلة المُصلحين:
أثارت كثير من النصوص الإصلاحيّة قضيّة إحياء الدين، وأشهرت الصحوة بعد يقينها من الحاجة إلى التجديد وثقتها بأنّ للإسلام طاقة متجدّدة يمكن استثمارها لتحقيق النهضة المنشودة واللحاق بركب التقدّم. وقد أدّى انتشار التعليم إلى إنهاء احتكار رجال الدين للمعرفة. ووظّف الدين لتحقيق انتصار الإسلام والنضال ضدّ الاستعمار. ولئن بدأت الأسئلة المطروحة بسيطة في مضمونها ومقاصدها ووردت في صيغة البحث عن أسباب تأخر المسلمين وتقدّم غيرهم، فقد تعمّقت تلك الأسئلة، وأضحت أكثر بيانا للجدل القائم بين التحولات الكبرى التي عرفها العالم والمرجعيات الإسلاميّة، وهو ما فتح آفاقا جديدة للتأويل فرضها الواقع ويقين كثير من المفكّرين بصلاحيّة الدّين لكلّ زمان ومكان. ومن ضمن تلك المواقف التي نادت بالعودة إلى الأصول واتباع السلف الصالح دعوة محمد بن عبد الوهاب (ت1792م) في شبه الجزيرة العربيّة. فقد حاول ترسيخ اليقين بأنّ الإسلام "يتضمّن القوى اللازمة ليتوصّل المسلمون إلى ذات المستوى من المعارف العلميّة والتقنيّة الذي وصلت إليه الأمم السائدة في العالم."[1] وبالمقابل، فقد حاول بعض المصلحين من أمثال "الطهطاوي" الانفتاح على الفكر الغربي الأوروبيّ متأثّرا بفكر "مونتسكيو" و"روسو" وغيرهما؛ إلاّ أنّ الناظر إلى المجالات الإصلاحيّة التي ركّز عليها المفكرون نظرهم يلاحظ بجلاء هيمنة المسألة السياسيّة على اهتماماتهم. فقد مثّلت السياسة مركز نظر "جمال الدين الأفغاني" (ت1897م)، وهو ما دعا بعض النقاد إلى القول: "إنّه يعدّ رجل عمل أساسا أكثر من كونه رجل نظر فلسفيّ قائم على التأمّل والتفكير الطويل والعميق. لقد كانت السياسة في دمه وفي أعماقه وفي خلجات شعوره ووجدانه."[2] وهو الموضوع ذاته الذي شغل "عبد الرحمان الكواكبي"، (ت1902م) فقد اهتم بتعريف الاستبداد وبيّن صلته بالدين والعلم والمال والأخلاق والتربية، فكان يهدف من وراء ذلك إلى نقد الحكومة ونقض بنيان الاستبداد بجميع أشكاله. ومن جهة أخرى، قام المشروع الإصلاحيّ "لمحمّد عبده" (ت1905م) على تنويع مسالك الإصلاح. فبيّن مثلا أنّ الإسلام لم يجعل للخليفة أو القاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكلّ سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنيّة قرّرها الشرع الإسلاميّ، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدّعي حقّ السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربّه أو ينازعه في طريق نظره[3]، وبيّن أثر الجمود على اللغة والنظام والاجتماع والشريعة وأهلها والعقيدة ونتائجه بعد إضعاف دور العقل ووقف العلم وثبات اليقين.
لقد كان فضل روّاد الإصلاح أنّهم أتاحوا المكاشفة بواقع الضعف الذي صار أمرا مقضيّا، ورغم اختلاف مسالكهم التأويليّة فقد كانوا على وعي أنّ تجديد الدين وتغيير الواقع العلميّ والعمليّ أضحى ضرورة ملحّة لتجاوز المفارقة الأولى والإجابة عن سؤال شكيب أرسلان "لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم الآخرون؟"
إنّه لمن الدّاعي إلى الحيرة أن تظلّ الإجابة عن ذلك السؤال معلّقة إلى اليوم، بل لعلّ الحيرة إزاء التباين أضحت أعمق، رغم ظهور جيل جديد من أعلام الفكر النقديّ الحرّ الذين امتلكوا جرأة أكثر في نقد الخطاب الديني وكشف خلفياته السلطويّة، وحاولوا بيان مسالك جديدة للتنوير والحداثة مولّين وجوههم شطر المعارف الإنسانيّة يستمدّون منها عدّتهم المنهجيّة ومعارفهم النقديّة. وظهرت أفكار إصلاحيّة من قبيل فكرة الاجتهاد الجماعيّ الذي لا يقتصر على علماء الدّين، وإنّما يشمل اختصاصات مختلفة اقتصاديّة واجتماعيّة وقانونيّة وطبيّة.[4] أو تحديث الإسلام من خلال التمييز بين الدين أو فهم الدين (التديّن).[5] ولكنّ المفارقات الكبرى التي حكمت الحركة الإصلاحيّة هي الافتراق التأويليّ بين من تشبّثوا بحرفيّة النصّ، وجعلوا المقدّس حكرا على مسار تأويلي واحد متجاهلين التنوّع الكبير في تأويل النصّ القرآنيّ قديما من خلال افتراق الفرق، والمؤوّلين الذين كانوا يحاولون إيجاد مخارج تأويليّة تنقذ النصّ القرآني من الجمود وتحطّم الأسيجة الأرثوذكسية التي أعاقت كلّ اجتهاد وتجديد. ومضى كلّ فريق يؤسّس منظومته بمعزل عن الآخر. فطغت علاقة التفسيق والتكفير على الفريق المتشبّث بحرفيّة النصّ والمؤمن باستعادة النظم التشريعيّة والأحكام القانونيّة والسياسيّة القديمة، بينما آثر الفريق الثاني الجرأة في التأويل وتجاوز كثير من الأحكام التي عدّت قديما مقدّسة بحثا عن آفاق جديدة في السياسية والاقتصاد والمجتمع. وانتهى الأمر إلى ثبات الأصوليين وإغراقهم في التشدّد مقابل تجاهل الحداثيين لمقولات الأصوليين واعتبارها ضربا من الإرهاب والعنف.
تجلّت المفارقة قديما بانتصار الغزالي على ابن رشد، وهو انتصار للفكر اللاهوتيّ المتشدّد على الفكر العقلانيّ المنفتح، وتجدّد انتصار الانغلاق على الانفتاح بهيمنة الدوغمائيّة الدينيّة على الفكر النقديّ. فهل يكون نجاح الفكر الجهادي العنيف في جدل مع فشل الفكر النقديّ؟
2. الخطاب الجهادي واستنزاف الدين:
لعلّه من الطبيعي أن تقام أطروحات كثيرة على تجاهل الفكر النقديّ وتقيم بنيانها على أساس صلة مباشرة بالتراث الذي قضى بنصر الغزالي على ابن رشد، فتكون النتيجة تصوّرا للجهاد لا تزال مفتّحة في عصرنا واجبة على الأمّة وفق تصوّر دعاة الإسلام السياسيّ، وهي بحسب رأي القرضاوي ثلاثة أنواع من الجهاد الواجب: جهاد التحرير من الاستعمار وفي مقدّمته تحرير فلسطين، وجهاد التغيير للأنظمة الكافرة وجهاد تبليغ الدّعوة للعالم.
حاجة الإنسان للدين تتجدّد متى وجد فيه قدرة على إيجاد إجابات عن أسئلة الوجود وتحقيق طمأنينة أنطولوجيّة بدل أن يثير مزيدا من العنف والخوف والإرهاب
قد يكون من أسباب القول الشائع بوسطيّة "القرضاوي" تنبيهه لوجود وسائل سلميّة للجهاد يمكن أن تعوّض البنادق والرشّاشات، رغم أنّ الوسيلة السلميّة لا تنفي في دعوته الوسائل الحربيّةذ؛ ولكنّ الناظر بعمق إلى الجهاد يجده مفهوما قائما على الاعتقاد في وجود إسلام جاهز محلّ إجماع لا اختلاف فيه يسوّقه المهتدون إلى الضالين في جميع أنحاء العالم طمعا في هديهم وإسلامهم وعملا بالسنن القديمة للدعوة النبويّة في نشر الإسلام. وتصير مهمّة المجاهدين "تبليغ أمم الأرض رسالة الإسلام بلغاتها المتعدّدة وبالطريقة التي تفهمها وبالصّورة المشوّقة والأساليب المنوّعة من الكلمة القصيرة والخطبة والدرس والمحاضرة والحوار والقصّة والعمل الدراميّ بصوره المختلفة وإتقان هذه الأساليب هو (الجهاد الأكبر)."[6] وفي هذا القول، تجاهل لما يشهده الإسلام من اختلافات، وما يشهده المسلمون من ضعف وتخلّف قد لا يمنح الخطاب قوّته في ظلّ وهن الواقع. فلو كان المسلمون روّاد العلم الحديث والمسيطرين على الاقتصاد العالمي لكانوا قادرين على تسويق مشروعهم الحضاريّ دون أن يحتاجوا إلى إشهاره والتعريف به عن طريق الوسائل التي اقترحها "القرضاوي". وإنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في ظلّ نجاح داخليّ يمكن أن يقدّم للآخر أنموذجا عمليّا يغري بالاتباع. وما الوسائل السمعيّة البصريّة أو الخطب الدينيّة سوى وسيلة لتسويق النجاح. أمّا تأسيسها على قاعدة فراغ أنموذج عمليّ، فيمكن أن يؤدّي إلى تسويق للوهم وعجز عن إقناع الآخر بطوباويّة الدعوة الإسلاميّة. أمّا الرسالة (الإسلام)، فليست بطبعها مفهوما ثابتا؛ فهي في حدّ ذاتها متجدّدة بتجدّد العصر، إذ تحتاج في كلّ عصر إلى جهد تأويليّ يواكب به المؤوّل حاجات العصر وتجدّد الأسئلة التي تطرحها الإنسانيّة. وإلاّ ظلّ "الإسلام المتخيّل" مجرّد صورة نمطيّة تستعيد سرديّات قديمة تفتن أصحابها وفق منطلقات غير عقلانيّة وتعجز عن إقناع الآخرين بإمكانيّة تحويلها إلى مشروع إنساني يقدّم الحلول لمشاكل العصر. ولذلك، فتصوّر الإسلام أحوج إلى جهاد التجديد أكثر من حاجة غير المسلم إلى الأسلمة. فالمركزيّة الموهومة التي ينطلق منها "القرضاوي" متأثّرا بخطاب صيغ زمن الغلبة يمكن أن يهدر البعد الرمزيّ للدين أكثر ممّا يمكن أن يقدّم له أسباب الرّواج والانتشار. فاقتراض علاقة عموديّة مع الآخر غير المسلم المدعوّ دوما إلى الإسلام، كي تكتمل إنسانيّته يظلّ عنفا رمزيّا يتجاهل أثر البيئة ووجود أديان أخرى لها سلطتها على الأنفس وولادة أنساق فكريّة جديدة بمنطلقات غير دينيّة. فالجهاد محاولة لبسط نفوذ المسلم على غير المسلم وتحقيق الوصاية الفكريّة للداعية على جميع البشر وحلم باستعادة وضع كان فيه الدين سقف كلّ العلوم والمعارف الإنسانيّة. والقول بنشر الإسلام، تجاهل للاختلافات الطبيعيّة التي قام عليها الاعتقاد والفكر وطموح إلى تجانس لم يتحقّق في التاريخ الإنسانيّ، ولا يمكن تحقيقه في المستقبل. ولذلك، فالمسلمون هم الأكثر حاجة إلى إصلاح وضعهم. والدعوةُ إلى الجهاد هروب إلى الأمام وتجاهل للمشاكل التي تنخر المجتمعات الإسلاميّة على جميع الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة. فعوض توجيه الجهد الفكريّ نحو القضاء على الاستبداد يوهم القرضاوي بوجود أنموذج إسلاميّ يمكن أن يمثّل موضوع خطاب يسوّق للآخر قصد الاقتناع بتعاليم الإسلام ودعوته، والحال أنّ التجارب التاريخيّة أثبتت قدرة الخطاب الديني على تبرير الإسلام ومنح الحاكم قداسة السلطة. وفي الدعوة إلى الجهاد تجاهل للواقع الذي أثبت انعدام هذا نموذج على أرض الواقع وعجز المسلمين عن مجاراة التقدّم العلميّ وفشلهم في تقديم المثال الإسلاميّ القابل للتسويق، بل على العكس من ذلك، فإنّ دعوات الجهاد النمطيّة في صيغها وخطاباتها وشكل دعاتها (الشيخ الملتحي الجالس والمنفرد بالقول والرأي.) قد أسهمت في ترسيخ الاعتقاد بارتباط الإسلام بالإرهاب وظهور "فوبيا" عالميّة من الإسلام الجهاديّ. وقد زاد الواقع اليقين من إمكانيّة تحوّل الجهاد من صيغه السلميّة إلى صيغه العنيفة من خلال ظهور العمليّات الإرهابيّة في أنحاء كثيرة من العالم واندفاع المقاتلين إلى بؤر التوتّر باسم الجهاد والدفاع عن الإسلام. ويعتبر تقديم القضيّة الفلسطينيّة مغالطة كبرى تكشف التوظيف السياسيّ لهذه القضيّة. فمتى شاء الدعاة تقديمها في المحافل الخطابيّة، ومتى اقتضت المصلحة صار الجهاد في أفغانستان أو العراق أو سوريا مقدّما على الجهاد في فلسطين. فهذه القضيّة تحتاج إلى بناء كيان قويّ يضمن مبدأ توازن القوّة. وليست القوّة سوى مسار طويل من البناء والتأسيس الذي يتطلّب الرهان على العلم والمشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي من أجل الوصول إلى أسباب القوّة. أمّا منطق العداء في ظلّ الضعف، فلا يمكن أن يولّد إلاّ مزيدا من المآسي للشعب الفلسطينيّ يلقي بعده الدعاة خطبا حماسيّة ويدفع الشعب الفلسطينيّ وحده الضريبة.
لقد كان الدين رسالة رحمة للعالمين ونهضة للأولين. وإنّ النجاح في تسويقه يبدأ أوّلا بخلق أنموذج إسلاميّ مواكب للعصر، محقّق لنظام سياسيّ عادل وتقدّم اقتصاديّ وعدالة اجتماعيّة ونهضة علميّة. أمّا الاستغراق في العداء والاتّكال على نجاح السلف الصالح في صناعة مركزيّة وهميّة، فإنّه سيزيد الضعف تفاقما وسيفقد الدين أبعاده الإنسانيّة وقيمه الأخلاقيّة. فتوظيف الدين لغايات إيديولوجيّة يحوّله إلى "إعصار عاصف يجتاح الحياة، ويحطّم كافّة المكاسب التمدينية والحضاريّة والمعرفيّة والبشريّة. إنّه ساديّة وجدانيّة ومعرفيّة تتلذّذ بقتل الضحيّة واستباحته ومازوشيّة فضيعة تحتفل بتدمير النفس والهتك بها."[7] فحاجة الإنسان للدين تتجدّد متى وجد فيه قدرة على إيجاد إجابات عن أسئلة الوجود وتحقيق طمأنينة أنطولوجيّة بدل أن يثير مزيدا من العنف والخوف والإرهاب.
[1] رشيد بن زين، المفكّرون الجدد في الإسلام، ط1، تونس، دار الجنوب، 2004، ص 36
[2] عاطف العراقي، العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، قضايا ومذاهب وشخصيّات، ط1، مصر، دار قباء للنشر، 1998، ص ص 155، 156
[3] انظر: محمّد عبده، الإسلام دين العلم والمدنيّة، ط1، مصر، دارسينا، 1987، ص 123
[4] انظر: الباجي القمرتي، الاجتهاد وعلاقته بالخطاب الديني، ط1، الدار التونسيّة للنشر، 1993، ص ص 152، 153
[5] انظر: عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، ط1، تونس، الدار التونسيّة للنشر، 1990، ص 186
[6] يوسف القرضاوي، فقه الجهاد، دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنّة، ط1، القاهرة، مكتبة وهبة، 2009، ص ص 1337، 1338
[7] عبد الجبّار الرفاعي، إنقاذ النزعة الإنسانيّة في الدين، ط2، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، 2013، ص 278