من التَّسامح إلى الحرية السياسية


فئة :  مقالات

من التَّسامح إلى الحرية السياسية

من التَّسامح إلى الحرية السياسية

كل حديثٍ عن مفهُوم التسامح، في تاريخ الفلسفة، كان إيذانًا بانبِجَاسِ عهدٍ جديدٍ شعارُهُ التحلي بالأخلاق الرفيعة، وترسِيخِ ثَقافَة الغيرية، ودَرء الأَذى والضرر، وغايته الحفاظ على التوازن الاجتماعي وإحلال السلام والأمن في سائر مناحي الحياة. كما كان إعلاناً عَن تشيِيد قيمٍ جديدةٍ تمتَدِح التَّقدُّم والديمُقراطيَّة، وترفع من مقام العقل، وتحتفي بالحرية والمُسَاواة كحقين مُطلقين لا يحق إهدَارُهُمَا، بيدَ أن مفهُوم التسامح، استطاع، أن يخلُقَ في تاريخ الفكر الإنساني، ردُود فعلٍ مُتناقضةٍ، وتوترًا نادرًا بين التَّصوُّر الطُّوباويّ النُّورَانيّ والواقِع الظَّلَاميّ الدَّامِس، بين الدعاية اللاَّمشرُوطَة لتَحقِيق مَبَادِئِه وشُرُوطه الخيِّرة دَاخل المُجتمعَاتِ المُعاصِرة والرَّفض المبرم لشتى أشكال الاختلاف (السياسي والثقافي والديني)، وبالتالي، فشو مظاهر التعصب والتشدد الديني، والتشرنق الفكري، الانغلاق الهوياتي في هذه المجتمعات.

إزاء هذا الموقف المَشرُوخ الذي تعوزه المُساءَلة النقديَّة والمُراجعة الفلسفيَّة، كان لا بدَّ من التَّفكير في مَسألَة التَّسَامُح، خاصَّةً التَّسَامح الدِّينيّ، والدَّعوة إليه، من جَديد، كمَطلب ضروري ضدَّ أَبشَع أشكال اللَّاتسَامح، والبَحث عن تجلِّيَاته، وشُرُوط تحقِّقه داخل المُجتمَع. وقد كان الفيلسوف الأمريكي المعاصر جون راولز مهتجسًا بإيجاد الحلول العَقلانيَّة للقضَايَا الشَّائِكة والمأزومة داخل المجتمعات الديمقراطيَّة المعاصرة، وفي مُقدمتها كَيفيَّة تَحقِيق التَّسامح في ظلِّ إشكاليَّة التَّعدديَّة بمياسمها المذهبيَّة والعقائديَّة والأخلاقية والفكرية، وبالتالي، تحقيق السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي.

حري بنَّا أن نتساءل إذن: كيف يُمكن تَحقِيق التَّماسك الاجتماعيّ والاستقرار السياسيّ وترسيخ ثقافة التَّسامح في مُجتمع تَخترقه التَّعدديَّة المذهبيَّة والعقائديَّة؟ هل للتَّسامح حُدُود؟ أو، بعبارة أخرى، في أيّ حالِ يُمكِنُ أن يَصِير التَّسامح جحوداً؟ وضِمن أيّ شُرُوط يستحيل تَحقِيق مَبادئ التَّسامح؟ ثم، كيف يمكن للدَّولة أن تحفظ حريَّة التَّديُّن وتَغيير المُعتقَد داخل المُجتمع؟ هل يحقُّ لطَائفةٍ أو جماعةٍ دينيَّة رَفض التَّعدُّد الدِّينيّ والثَّقافيّ، وبالتالي، انتهاك حريَّات الآخرين؟ هل تمتلك طائفة دينيَّة ما الحقّ في تقديم ورفع شكوى ضدَّ طائفة تتبنى مذهباً دينيًّا مغايراً؟ ثم هل يحقُّ لها عدم التَّسَامح مَعها؟ كيف يُمكن إرساء مُجتمع ديموقراطي ليبرالي قوامه العدالة والحرية المتساوية والتَّسامح في ظل وجود التعدد الثقافي والدي

أولاً: تاريخ التفكير في التَّسامح الدِّيني

اكتسى مفهوم التَّسامح دَلالات مُغَايرة فِي القُرون الماضية، وكان النِّقَاش حَوله نقاشًا لاهوتيًّا؛ فقد انبثَق كفكرة عَلى أنقَاض الصراعات والحروب الدِّينيَّة في أوروبا التي شَهدت فترات زمنيَّة طويلة من الاستئساد الكنسي والاضطهاد الدِّيني. وفي ظل هذه الأوضاع المُحتدمَة، أصبح التفكير في مسألة التسامح ضرورة اجتماعية لا مندوحة عنها. وعُرِّف (=التَّسامح)، في هذا المضمار، بتقبل الطوائف الدينية الأخرى (الهراطقة، وأهل البدعة...) داخل الدّين المسيحي، والتعَايش مَعها، والصبر على اختلافاتهم العقائديَّة. والسَّماح هنَا لا يعني، إطلاقاً، التَّأييد والتوافق الفكريين، بل يُفيد التَّقبل، إلى حين أن يتخلص المُخَالفين للدِّين المسيحي من إسَار مُسلمَاتهم الدِّينيَّة. وبهذا النمط من النَّظر، تم التَّشديد على تَرسِيخ قِيم التَّسامح[1]، خاصة داخل العالم الأوروبي، والدَّعوة إلى الارتقَاء بِه إلى مَقَام الفعل والسلوك. لكن، انقَلَب السحر على السَّاحر، واستحَال التَّسامح وَجه من وجوه عدم التَّسامح، خاصةً مع الرافضين لتَغيير المعتقد أو الإيمان. وبالرغم من أن حركة الإصلاح الدّيني، حاولت اجتثاث الانشقاق الدِّيني وصهر الفُرقة المذهبيَّة في أوروبا، إلاَّ أن نُشدان هذا المبتغى، كان بعيد المطمح، وصعب المنال، مما أدى إلى انبثاق عدد هائل من الكنائس التي تدعي حيازة الحقائق ككنيسة إنجلترا، والكنائس اللوثرية والكالفانية. فطُرحت مسألة التعدديَّة الدِّينية، وتشكلت شيع وحركات دينية متطرفة في التعصب ومغالية في التشدد، وبالتالي، أصبحت تهدد مبادئ الإصلاح وركائزه. وهذه مفارقة من بين مفارقات التَّسامح.

إزاء هذا الوضع المرير، ألف جون لوك، كتابه "رسالة في التسامح" سنة 1667 كرد فعل تجاه التعصب الديني بين الطوائف الدينية التي شهدها العالم الأوروبي، في إنجلترا على وجه الخصوص، التي عانت من الحروب الدينية العقائدية بين الكاثوليك والبروتستانت، والصراع بين السلطة السياسية واحتكار السلطة الكنيسة الدينية. ومن ثمة تورط لوك في هذا الواقع حد الامتلاء، وعانق مشاكل المجتمع الإنجليزي في قلقه وتوفزه بالآتي، والتزم بقضاياه المصيرية وانخرط في اشكالاته ومعضلاته الأساسية، ليخرجه من حالة التأزم العلائقي والانحباس الفكري. في هذا السياق، دافع جون لوك على أن لكل إنسان حريته في التعبير عن آرائه، وإن كانت متناقضة مع آراء الآخرين، وكل ما على الإنسان أن يفعله هو الالتزام باحترام الغير، فلكل شخص الحرية في تبني المعتقد، ولا إكراه في الدين ولا يحق قمع مجال المعتقدات. وفي هذا السياق، يُعرف جون لوك مسألة التسامح الدِّيني بقوله[2]: "إنه ليس من حق أحد أن يقتحم، باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية". وبالتالي، يشدد على ضرورة تقبل الاختلاف الدّيني، وتقبل الديانات المختلفة واحترام مسلماتها. كما يرفض لوك فرض الحاكم المدني دينًا ما باسم الحق والقانون؛ إذ ليس من حقه تغيير معتقدات المواطنين لا بقوة القانون ولا بقوة السلطة. ويوضح جون لوك، في هذا الصدد، مهمة الدولة، بقوله[3]: "توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها، وتنميتها. وأنا أعني بالخيرات المدنية الحياة، والحرية، والصحة، وراحة الجسم، بالإضافة إلى امتلاك الأشياء مثل المال، والأرض، والبيوت، والأثاث، وما شابه ذلك".

غير أنه علينا أن نشير إلى أن للتَّسامح مع لوك حدود وزمن أفول، خاصة إذا كان غير قابل للوفاء بإمكاناته وشروطه على المستوى الواقعي؛ إذ ينبه لوك بضرورة فتك كل المعتقدات الدِّينية التي تخلق اضطراباً في النظام السياسي والاجتماعي العام، والعصف بها، ووأد مسلماتها العقائدية التي من شأنها أن تفتح ثلماً وسيعاً بين الدولة والمواطن، وتشوش على استقرار المجتمع. بمعنى آخر، وجب على الدولة أن تتسامح، فقط، مع الممارسات الدِّينية التي لا تشكل أي خطر على الكيان السياسي العام. وإذا ثبت العكس، وتجرأت بعض الجماعات الدِّينيَّة[4] على تهديد الجهاز السياسي وإضعافه، فلها كل الحق في المضي إلى أقصى حالات اللاتسامح والنفي والإقصاء.

ثانياً: التَّسامح الدِّيني، الحريات المتساوية، العدالة السياسية

لعل أهم انعطافة راديكالية شهدها مفهوم التسامح منذ القرن الثامن عشر، أنه اكتسى سحنة سياسية مدنية، وانصرف عن الديني شطر السياسي الإجرائي، وعن الماهوي المحض شطر الواقعي الراهني والمعيش. لقد حاولت الفلسفة المعاصرة أن ترسم موقفاً مغايراً لمفهوم التَّسامح، وأن تضفي عليه سمتاً سياسيًّا وأفقاً راهنيًّا، وحاولت أن تظهر بميسم إجرائي، وأن تنخرط في المسعى الواقعي التطبيقي لمجاوزة كل ضرب من ضروب المثالية؛ ذلك أن التفكير في التَّسامح داخل المجال السياسي هو اعتراف بالحريات الإنسانية ودمج للحياة الخاصة مع الفضاء العمومي، وربط للسلطة الدينية الروحية مع السلطة الزمانية السياسية، بالاستناد إلى دساتير وهيئات إدارية وجهاز سياسي فعال. ومن بين الفلاسفة المعاصرين الذين قدموا عرضًا منظمًا للمفهوم، جرى على قلم أحد أساطين الفكر الليبرالي السياسي، وهو الفيلسوف جون راولز الذي أعاد التفكير في مفهوم التسامح كما بلوره لوك في رسالته، في كتابه "نظرية العدالة"، بغية تسويغ مبادئ الليبرالية السياسية وتشييد تصور جديد لمفهوم العدالة، ومن بين أهم الأفكار التي استلهمها راولز من فلسفة جون لوك: التزام الدولة بالحياد تجاه الأمور الدينية والقيم الأخلاقية، واقتصار مهمتها، فقط، على الحفاظ على الحريات الفردية والحقوق الإنسانية من أجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي، إلا أن أفق الليبرالية السياسية، في نظر جون راولز، لم تكتمل ملامحها مع جون لوك، ولم تستوف كل إمكانياتها الثاوية؛ فإذا كانت فلسفة جون لوك قد اضطلعت بسؤال الراهنية، وقد انطلقت من الواقع الإنجليزي، وارتهنت التاريخ في تضييق شروط التسامح الديني، والاكتفاء بالتسامح مع فئة دون فئات أخرى. فإن راولز، على عكس ذلك، قد أعرب عن تبرم عنيد من هذا الاختزال الدلالي الذي قدمه لوك حول مفهوم التسامح. ويتبدى هذا التبرم في رفضه لمحدودية التَّسامح، عنده، من خلال دعوته إلى عدم التَّسامح مع الذين لا دين لهم، أو لا يدينون بنفس الدين. لقد رغِب راولز في تجاوز هذا التصور والعلو عليه علواً فريداً، من خلال إضفاء الطابع الكوني على مفهوم التَّسامح الدِّيني، ليشمل جميع الطوائف الدِّينيَّة والمذاهب العقائديَّة المختلفة داخل المجتمعات المعاصرة، من دون استثناء أو تهميش، بغية اندثار كل ملامح الاضطهاد والعسف والتعصب.

أولى راولز لمسألة التَّسامح عنايةً كبيرةً، ومنحها محلًا كبيراً في أفقه الفكري؛ ذلك أن الاضطلاع بهذه المسألة هو مُضِي بركائز الفكر السياسي الليبرالي إلى أبعد مراميه. بمعنى آخر، ارتبط التسامح، عنده، بمبادئ الليبرالية والديمقراطية والعلمنة ونشر ثقافة التعدديَّة المعقولة، والإيمان بالحرية الدِّينيَّة. ويوضح، في هذا السياق، أن التعدديَّة المذهبيَّة والدينيَّة والثقافية في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة ليست حالة تاريخيَّة مؤقتة، ولا مرحلة زمانيَّة مطلقة ذات مرجعية متعالية أو أصل ثابت، بل إنها على انفتاح دائم مع الثقافة الديمقراطية العالمية، التي تتسم بالتنوع الرمزي والفكري والثقافي. ومادام الأمر على هذه الحال المتغيرة، فإنه يقتضي منا، التفكير في مسألة التَّسامح وشروط أجرأته وتحققه على مستوى السلوك والفعل؛ لأن من شأن هذه المذاهب والطوائف المعقولة المتعارضة، حسب راولز، أن تحدث رجة دائبة داخل المجتمعات الديمقراطية الغربية المعاصرة، وأن تُخضع جميع القيم للصدع والتدمير والاختبار، في حالة ما إذا لم يرتق المواطنون إلى مستوى توافق الأفكار وتقبل الاختلاف، وبالتالي، التوصل إلى اتفاق. خاصة وأن تعدد العصبيات الدينية والطائفية وتنوع الهويات والأقليات الثقافية سيؤدي، لا محالة، إلى تشكل صراعات وجدالات محتدمة. والأمثلة كثيرة في عالمنا المعاصر الحافل بهذه الصراعات، خذ مثلاً: مناقشة كندا لقضايا تُعنى بمسألة التحكيم الحر الذي تسمح به الشريعة الإسلامية في مجال قانون الأسرة، ويتعلق الأمر بالوضعية القانونية التي تتيح للرجال بتعدد الزوجات. وفي فرنسا، طُرحت مشكلة الحجاب منذ سنة 2003، وانشطرت المواقف بين مؤيدٍ ومعارضٍ. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، يعد حضور الممارسات الدينية المختلفة في الفضاء العمومي، موضوع جدل ونقاش لم تهدأ أوزاره. كما واجهت الهند صراعات عويصة إثر التعددية الدِّينية، فقد سقط "حزب الشعب الهندي" في مأزق حقيقي عندما سعى إلى صهر الهوية الوطنية الهندية في التقليد الهندوسي.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل التسامح مع الطوائف الدينية والجماعات الثقافية المتنوعة أمر ممكن داخل المجتمعات ذات النظام الديمقراطي؟

يجيب راولز عن هذا السؤال بقوله[5]: "لا يمكن إقرار تأويل معين لحقيقة دينيَّة على أنه ملزم للمواطنين عموماً، ولا يمكن الاتفاق على وجود سلطة واحدة لها حق البث بأسئلة تتعلق بعقيدة لاهوتية. يجب أن يُصِّر كل شخص على حق متساوٍ في تقرير ما هي التزاماته الدِّينيَّة. لا يمكنه أن يتخلى عن هذا الحق لشخص آخر أو سلطة مؤسساتيَّة. في الواقع يمارس الإنسان حريته في تقرير قبول آخر كسلطة حتى حين يُعد هذه السلطة معصومة، بما أنه بقيامه بهذا لا يتخلى بأي شكل من الأشكال عن حرية اعتقاده بما هو قانون دستوري". انطلاقاً من هذا القول، يتعين، حسب جون راولز، أن نربط مفهوم التسامح بمفهوم حرية الذاتيَّة والذاتيَّة كحرية، وأن نجعل الإنسان قادرًا على التوليف بين الأضداد، والمصالحة النادرة بين المتناقضات التي يفرزها المجتمع المعاصر من تعدديات دينيَّة أو فكرية أو ثقافية، والإيمان بحرية الاعتقاد، باعتباره حقًّا فرديًّا يخص الإيمان الروحي للأفراد، ولا يحق لأي سلطة كيفما كانت أن تقوم ، باحتكار قانون أو دستور وتنظيمه أو تنميطه أو الوصاية عليه؛ لأن من مهام الدولة، في نظر راولز، أن تقوم فقط، باحترام الممارسات الدينيَّة بحرية دون إكراه أو تعسف، وتوفير البيئة الملائمة للتمتع بهذه الحرية بشكل متساوٍ. وفي هذا المضمار، يصرح جون راولز[6] أنه وجب "اختيار حكومة تضمن الحرية الأخلاقيَّة وحرية التفكير والاعتقاد وحرية الممارسة الدينيَّة، على الرغم من أنه قد تنظم هذه الحرية كما هو دائماً من خلال اهتمام الدولة بالنظام والأمن العام. لا يمكن للدولة أن تفضل ديانة معينة ولا يمكن ربط عقوبات أو إعاقات بأي ولاء ديني أو عدم الولاء. إن فكرة الدَّولة الدِّينيَّة مرفوضة. بدلًا من ذلك، قد تنظم روابط معينة بحرية كما يرغب أعضاؤها، وربما يكون لديهم حياتهم الخاصة وانضباطهم الخاضع لتقييد بأن أعضاءها لديهم خيار حقيقي فيما إذا كانوا يستمرون في ولائهم. يحمي القانون الحق في التقديس، بمعنى أن الردة لا يحسب حسابها، أي معاقبتها، كما الجرم القانوني، ولا يختلف هذا بالنسبة إلى من لا يعتنق أي ديانة على الإطلاق. بهذه الطرق تدعم الدولة الحرية الأخلاقية والدينيَّة".

بيّن إذن، أن السمة التي تتسم بها المجتمعات الحرة كما يسميها راولز هي "واقعية التعددية"، وعليها أن تتصف "بالمعقولية" التي يعدها سمة مطلوبة في المجتمعات الديموقراطية المعاصرة؛ لأنها تعبر عن التنوع البشري. ومن شروط تحقق هذه المعقولية، هو التشديد على ضرورة احترام مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، وحماية حق الضمير والحرية الدِّينيَّة اللذين يشكلان الغايتين الكبريين للعلمانية اليوم.

ثم، يطرح جون راولز سؤالاً يتألف من حدين متعالقين: أوَّلهما، هل يحق للمرء أن يتسامح مع طائفة دينية لا تؤمن بالتسامح؟ وثانيهما، في حالة ما إذا كانت طائفة دينية لا تؤمن بمبادئ التسامح، فهل يجب على الدولة الحد من حريتها داخل المجتمع؟

يشدد راولز على ضرورة تمتع الإنسان بالحرية في جميع الحالات والظروف؛ إذ لا يحق منع أي طائفة عقائدية غير متسامحة من أن تشكو وتنتفض وتعبر عن رأيها، بشكل حر، وكحق للاحتجاج حين يُنتهك مبدأ العدالة، إذا ما تم التعامل معها بكيفية لا متسامحة، وترفض أي فعل أو سلوك ينم عن عدم التسامح، إيماناً منه بمبدأ الحرية الذي يشكل دعامة من دعائم الفكر الليبرالي السياسي. كما أنه يدعو إلى عدم المساس بحريات المذاهب غير المتسامحة وتضييق خناقها. و"للقيام بهذا يجب إدخال الحريات المتعلقة بالمواطنة المتساوية في الدستور وحمايتها بواسطته. تتضمن هذه الحريات تلك المتعلقة بحرية الضمير وحرية التفكير، والحرية الشخصية، والحقوق السياسية المتساوية. لن يكون النظام السياسي، الذي أفترض أنه شكل معين من الديمقراطيَّة السياسيَّة، إجراءً عادلاً إذا لم يتضمن هذه الحريات"[7].

من اليسير أن نقرر، وبدون توجس، أن هذه الحريات السياسية المتساوية (حرية التفكير، الضمير، الشخصية...) من أركان الديمقراطية الليبرالية المعاصرة التي تقوم على تقبل التعددية الثقافية والدينية. وتقوم، أولاً، على المساواة بين المواطنين وضمان للحريات على نحوٍ متكافئ كشرط من شروط تحقق العدالة السياسيَّة، وثانيًا، وضع حدود لتجاوزات السلطة وتعسفها، وضرورة حياد الدولة تجاه قيم المواطنين ومعتقداتهم وأنماط حياتهم المتنوعة والمختلفة في المجتمعات الحديثة. ولكن هذه الحريات المتساوية التي تعد قطب رحى الفكر الليبرالي السياسي، لم تحصن من الوقوع في مفارقات وإشكالات، نثير، في هذا المقام، إلى بعضها:

عندما يرتبط الأمر بموضوع ممارسة طقس أو عادة تؤمن بها الأقليات الدينية والثقافية أو فئة اجتماعية، فإنها تصبو إلى تحقيق الاعتراف بهذه الممارسات الدّينيّة وانتزاعه من طرف الدولة والمواطنين، باعتبارها حقاً مشروعًا، وتتغيا الحصول على إجراءات تعديل أو تغيير لقانون ما الذي يُسمح بمقتضاها لبعض الأفراد أو المجموعات بأداء شعائر - اعتقاديَّة، دينيَّة أو علمانيَّة- تخالف معتقدات الأغلبية.

تثير هذه الإشكالية معضلتين اثنين: أوّلهما، يتمثل في تزايد طلبات التغيير أو التعديل بحكم تعدديَّة القيم والمعتقدات والمذاهب التي تعيشها المجتمعات المعاصرة من جهة، وبحكم التزام هذه المجتمعات بحماية الحريات الفرديَّة (حرية الضمير، التعبير، المعتقد...) من جهة أخرى. وثانيهما، يتمثل في إمكانية لجوء بعض الجماعات أو الشيع إلى الترنم بحرية الضمير والحق في التغيير لتحقيق غايات مضمرة لا علاقة لها بحرية الضمير. لقد كان راولز على وعي، بمدى جسامة المأزق الذي تثيره مسألة الحريات المتساوية، وكان حذراً في ألا يقع في أحابيلها ومكرها. لذلك، اقترح حلاًّ مبدئيًّا لهاتين المعضلتين، من خلال تشديده على ضرورة التفرقة بين المعتقدات الأساسية والميولات الشخصية؛ إذ لكل شخص الحق في حرية الضمير والمعتقد والفكر. ولكن عليه، في المقابل، أن يقنع الجميع بمصداقية معتقده. لذلك، فبدلاً من تنحية الدين من الفضاء العمومي، وإقصاء الحضور الديني في المجتمع والعالم، وجب توجيه الاهتمام إلى كيفية تدبير الدولة السياسية لهذه التعددية الدينية والثقافية داخل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة. لقد أضحى وجود الدّين في الفضاء العمومي أمراً بديهيًا، وبالتالي، فالمبتغى اليوم هو علمنة القوانين السياسية وليس فكر المجتمع. فالمواطن، حسب راولز، حين ينخرط في أحداث الواقع اليومي، وحينما يتورط في مجتمع ديمقراطي حافل بالتعددية الدينية والأقليات الإثنية والهويات الثقافية المختلفة، ويضطلع إلى هذه التعدديات بتفاصيلها اللافحة، ويقبل تنوعها المتشظي، فإنه يرقى إلى مقام الإيمان بحرية التفكير والضمير والتعبير، ويحاول أن يخلع على فكره وسلوكياته لبوس التعصب والتشرنق الفكريين، وحينئذ، يمكن ترسيخ قيم التسامح.

 

المصادر والمراجع

جون جوك، رسالة في التسامح، ترجمة: منى أو سنه، تقديم ومراجعة: مراد وهبة، ط 1، الإسكندرية، المجلس الأعلى للثقافة، 1997

جون راولز، نظرية العدالة، ترجمة ليلى الطويل، دمشق، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011

([1]) خاصة مع فلاسفة النزعة الإنسانية من أمثال إرازم Erasme وبيكو دلا ميراندولا P. de la Mirandole.

([2]) جون جوك، رسالة في التسامح، ترجمة: منى أو سنه، تقديم ومراجعة: مراد وهبة، ط 1 (الإسكندرية: المجلس الأعلى للثقافة، 1997)، ص 7.

([3]) المصدر نفسه، ص23

([4]) استثنى جون لوك بعض الجماعات التي لا يحق التسامح معها وفقا لقانون إنجلترا؛ وهم الروم الكاثوليك..

([5]) جون راولز، نظرية العدالة، ترجمة ليلى الطويل (دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011)، ص 278

([6]) المصدر نفسه، ص 271

([7]) المصدر نفسه، ص 255