من تشريع الاستبداد إلى التديّن الحرّ
فئة : مقالات
1- جذور الاستبداد الدينيّ:
لعلّ من أكثر الحقائق بداهة، أنّ مأسسة التديّن قد نشأت في عصر لم يكن فيه الإيمان بحقوق الإنسان وفق المنظور المعاصر أمرا مفكّرا فيه. ونقصد هنا منْح الإنسان الحقّ في اعتناق دين أو الارتداد عنه بكلّ حريّة والقدرة على تأسيس أنساق فكريّة خارج حدود الشرعيّة الدينيّة. فقد قام الدين على اعتقاد الجماعة المؤمنة بأنّ ما تعتنقه من مبادئ وأفكار، إنْ هو إلاّ تطبيق لمبادئ الوحي الإلهيّ، وتعبير عن صيغة مثلى للحياة. ولئن قام الفقه بوظيفة وضع القوانين الملزمة للأفراد في حياتهم اليوميّة، فإنّ علم الكلام قد كان ميثاق النخبة ضبطا للقواعد التأويليّة والتصوّرات النمطيّة الملزمة للمؤوّل التي تعدّ الاختلاف أمرا سلبيّا.[1] وبدوره كان تفسير النصوص الدينيّة فرضا لمسار الفهم يحدّد مسالك التديّن وسبل الحقيقة الواحدة. ولئن كان التديّن في أصله تعبيرا عن التعاطي الإنساني مع القوانين الدينيّة والتشريعات القرآنيّة، فإنّ تاريخ المسلمين لم يخل من تشريع للاستبداد بجميع أشكاله. فالاستبداد لم يكن حكرا على السياسيين الذين اعتبروا حكمهم المطلق حكما سماويّا، وحاربوا جميع المعارضين باعتبارهم كفرة ومارقين، بل كان رجال الدين بدورهم يسنّون القوانين التي ترسّخ الاستبداد الديني حين فرضوا -وفق منطق الفرقة الناجية- تعاليمهم باعتبارها المعبر الوحيد نحو تحقيق الإيمان واسترضاء الإله[2]. ولذلك، فقد قارن "الكواكبي" بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسيّ، واعتبر أنّ الاستبداد السياسيّ متولّد من الاستبداد الدينيّ، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد، فهما أخوان أبوهما التغلّب وأمّهما الرياسة، أو هما صنوان قويّان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان."[3]
إنّ هذه القاعدة المهمّة هي التي تفسّر الارتباط الوثيق في شخصيّة المسلم بين الطاعة في مفهومها السياسيّ والتديّن الانضباطيّ الذي يقوم على الولاء إلى مرجعيّة دينيّة ومذهب يكون وسيطا بين المرء وبين النصّ الموحى، حتّى يفقد ذلك النصّ دلالته في ذاته ويتحوّل التأويل إلى نصّ بديل ينسخ الأصل بالتأويل. وعوض أن يكتسب الإنسان المؤمن حريّته في التعامل مع النصوص المؤسسة يتحوّل إلى كائن انضباطيّ يتبع سلسلة من التعاليم التي تحوّله إلى كائن مطيع بدل أن يكون كائنا حرّا وعاقلا، وهو ما يفسّر مثلا عدم إقدام الشيعة على مناقشة المرجعيّة ونقدها في مواقفها، وهو "يعود إلى ما يفهمونه من قدسيّة تحيط بالفقيه... فكلّ رجل معمّم يعدّ مقدّسا. الالتزام بالعمامة هو الالتزام بالنهج الإسلاميّ للسلف الصالح."[4]
وقد ترسّخت تقاليد الطاعة بوجهيها الديني والسياسيّ بعد انقلاب الخلافة إلى ملك وفق التحقيب الخلدوني في إطار ما سمّي بالآداب السلطانيّة. وقد اعتمد أصحابه في كثير من المواطن المرجعيّات الفارسيّة، ليرسّخوا مبادئ الطاعة ويحكموا الرباط المقدّس بين ما هو ديني وما هو سياسيّ. "فقدمت صورة للسلطان "المتفرّد" في شخصه، والأوّل في "مجلسه" والمستبدّ بأمره، والاستثنائيّ في "ظهوره"، حيث تغيب "الفتنة" وبوجوده تحيا "الشريعة"... كما تطالعنا هذه الآداب بصورة عن "الرعيّة" هي نفسها تتكرّر في مختلف الكتابات، والمتمثّلة في اعتبارها "موضوعا" لا ذات له."[5] ولم يكن العدل بهذا المعنى سوى ترتيب لنظام هرميّ يتمتّع فيه السلطان بسلطة مطلقة وتلزم فيه الرعيّة بالطاعة، ويتولّى أهل الحلّ والعقد وظيفة حمل الرعيّة على طاعة حاكمها.
وقد تولّت بعض المؤسسات التي تجمع بين الصفة الدينيّة والسياسيّة فرض الطاعة والنظام مثل مؤسسة "الحسبة" التي مثّلت مقوما أساسيّا من مقومات الأحكام السلطانيّة، وهي "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا أظهر فعله."[6] ولم تكن الحسبة بدعة في ذلك العصر وإنما يمكن من خلال المقارنة بين الأنظمة السلطويّة السّائدة آنذاك أن ندرك أنّ صيغ الرقابة المفروضة على الأفراد في سياق السعي إلى تنميط الوعي وخلق مفهوم الجماعة المتجانسة يمثّل عمدة المجتمعات القديمة والأديان التوحيديّة جميعها. ولم يكن الدّين مجرّد عامل مساعد على تحقيق تلك المقاصد، بل هو عمدتها، منه تستمدّ أحكامها وبلغته تكتسب شرعيّتها.
لقد أقيم الاستبداد على أساس معادلة مفادها أنّ السلطان هو المسؤول عن النظام، وهو الذي يمنع الناس بعضهم عن بعض، ويقضي على أسباب الفوضى. ولذلك، فقد كانت النتيجة توحيد القوانين المنظمة لحياة البشر وإيجاد صيغ مشتركة للعبادة واعتبار كل خروج عن الجماعة خروجا عن الإسلام وتعاليمه. فكان للتديّن بوجهه السلطويّ والسلطة بوجهها السياسيّ نقاط تقاطع أساسها تحقيق النظام وحمل الكافة على الطاعة خوفا من الفوضى، وهو أمر يفسّر التأكيد على معنى التناسق الكوني وحكمة الإله في الخلق، وبالمقابل دور السلطان في تنظيم حياة البشر وتحقيق النظام ومنع الفوضى. وقد مكّن الجمع بين أشكال السلطة القديمة والتديّن من اقتحام عالم الإنسان في حلّه وترحاله وفي اجتماعه وخلوته؛ ذلك أنّ أبسط قواعد النظافة والعلاقات الجنسيّة وآداب الجلوس والأكل والدخول إلى المنزل صارت خاضعة إلى مجموعة من التعاليم التي تحدّد متخيّل المسلم المطيع والمنضبط إلى قوانين التديّن والمقتدي بالسنّة النبويّة. وليس الاستبداد سوى نتيجة حتميّة لاقتحام الدّين جميع مجالات الحياة الخاصّة منها والعامّة، فثمّة شبكة مترابطة تحدّد للمسلم مسارات في العيش وتحدّ من اجتهاده الفرديّ وحريّته الشخصيّة باسم البراديغم النبويّ المعنون بالسنّة، فكلّ ما هو مختلف يعتبر من باب المحرّم أو البدعة أو الضلال.
تلك هي أحكام ذلك الزمن الذي هيمن فيه الوعي الديني، وصار محيطا بالإنسان في حياته ومعرفته إذ تناسل من الدين سلوكه، وتناسلت منه معارفه وعلومه. وتلك الهيمنة الدينيّة ما كانت لتتأسّس لولا انتقال التديّن إلى مرحلة المأسسة فقها وعلم كلام وتقعيدا للغة وفلسفة وتشريعا للآداب السلطانيّة. فالنصّ الأصليّ هو في الحقيقة مجرّد مستند تأويليّ لتشريع الاستبداد، وهو ذاته الذي سيكون مستندا تأويليّا للحريّة في مفهومها المعاصر مع فرق جوهريّ، وهو أنّ التأويل الحرّ للنصّ الدينيّ لن يكون تأويله على أرضيّة بكرة من الفهم والتفسير، وإنّما سيجد أصحابه أنفسهم أمام ترسانة من التشريعات والقوانين التي صيغت زمن الغلبة والرياسة على حدّ عبارة الكواكبي؛ أي زمن الاستبداد. ولذلك كان لزاما على من كان رهانهم التأويل الحرّ للتديّن أن يخوضوا معارك تأويليّة ضدّ من احتكروا تأويل النصّ الدينيّ واعتبروا قراءتهم المعبر الوحيد نحو الحقيقة الدينيّة.[7] وما هُمْ في الحقيقة سوى مؤسّسين لمنظومة استبداديّة قشرها دينيّ وباطنها سياسيّ.
2- الحريّة ودروب التأويل الوعرة:
لم تكن دروب الحريّة الدينيّة يسيرة في ظلّ الارتباط الوثيق بين المؤسستين السياسيّة والدينيّة، وهو ارتباط هيكليّ جعل الفصل بين الجانبين أمرا مستعصيا، إذ خاض الباحثون في مسألة العلاقة بين الديني والسياسيّ جدلا طويلا بعضه يتعلّق بالإشكاليّة عامّة وبعضه الآخر يتصل بقضايا محدّدة في التاريخ الإسلاميّ. حتّى إننا لا نكاد نجد مسألة خضعت إلى المقاربة المعاصرة إلاّ وأثير الجدل فيها بين الديني والسياسيّ. ولعلّ سرّ الارتباط الوثيق بين الجانبين هو أنّ القداسة لم تكن مصدر قوّة الأديان فحسب، وإنّما كانت أيضا آليّة اعتمدها السياسيّون من أجل حمل العامّة على الطاعة، إذ لجأت الدّول بجميع أنواعها إلى إكساب نفسها قداسة، سواء أكانت روافدها دينيّة أم دنيويّة. ولذلك، يمكن القول إنّ "السلطة تملك السيادة الكاملة على المقدّس ويمكنها استعماله لمصلحتها وفي كلّ الظروف."[8]
ويفيدنا فهم مسارات الارتباط بين الاستبداد الديني والسياسيّ في فهم مسارات تفكيكه؛ وذلك من خلال فهم الارتباط بين الفواعل السياسيين والفواعل الدينيين، إذ ترتبط وظيفة الخليفة مثلا في التاريخ الإسلاميّ صاحب السلطة العليا بسلطة الفقيه والإمام في المسجد، ففي الوقت الذي يتّخذ الخليفة من نفوذه العسكريّ وسيلة للحفاظ على سلطته ومقاومة المارقين عنها، يتولّى الفقيه والإمام بدورهما وظيفة الترويج لإيديولوجيا الحكّام والدفاع عن المذهب الرسمي للدولة فضلا عن طقوس الطاعة والولاء للحاكم التي تعتبر جزءا من الميثاق الديني العام. فطاعة أولي الأمر من قبيل طاعة الله. وكلّ العقائد المارقة عن الجماعة تعتبر منكرا وجب النهي عنه واتخاذ جميع الوسائل للتنفير منه واعتباره منكرا. فسلاح الفقيه والإمام هو اللغة التي يستطيعان بها "تحويل اللحظيّ والتاريخيّ والنسبيّ- الاجتماعيّ إن شئنا الدقّة إلى مجال "المطلق" و"المتعالي" و"الأزليّ". وهذه القدرة تحتاج من الباحث إلى تحليل "آليّات" تلك اللغة، والتي تمكّنها من إحداث هذا التحوّل."[9] وهو أمر يتطلّب فهم العلاقة بين الباث (الناطق بلسان السماء) والمتلقّي (المذعن والمقرّ للطرف الأوّل بحقّ مصادرة التأويل واحتكار النطق بلسان السماء).
إن ّتغيير بنية المقدّس تتطلّب أوّلا تغيير تقاليد التلقّي؛ ذلك أنّ الاعتقاد بأنّ بوابات السّماء مرتبطة بفتاوى الفقهاء ومنابر الأئمّة ومجالس الشيوخ، حيث تسود تأويلات يردّد أصحابها مقولات متوارثة بشكل دغمائيّ، ولا تخضع للاجتهاد وإعادة التأويل، ما عاد أمرا يتوافق وصفات الإنسان الحرّ الذي يمكنه العبور دون وساطة نحو النصوص الأصليّة واكتساب مهارات التأويل والفهم والتفسير بدل الارتهان إلى المراجع الممسكة بزمام الحقيقة والثابتة على مقولاتها أو الإعراض عنها، باعتبارها ليست المسلك الوحيد للحقيقة وتنظيم حياة البشر. والفكر النقديّ وحده هو الذي يكسب المتلقّي القدرة على إبطال التفويض المطلق لنوّاب السماء على الأرض واكتساب صفة المبادرة والجرأة على استعمال العقل. إنّ ذلك يعني حتما تحويل الفضاء المسجديّ من فضاء للصّوت الواحد الذي لا صوت إلاّ هو إلى فضاء لمناقشة الحقيقة الدينيّة والنظر إلى كتب الفقه، باعتبارها اجتهادات بشريّة قابلة للنقد والتنسيب. فالفقيه يفتقد سلطته التشريعيّة والإمامة تفقد شرعيّتها في ظلّ التديّن الحرّ الذي يمنح الإنسان القدرة على الفهم والتأويل واستعادة المعنى وتحقيق الطمأنينة الأنطولوجيّة للدين بدل خطاب الطاعة والخوف المرضيّ من العقاب وفوبيا الجحيم وعذاب ناكر ونكير.[10]
إنّ شرعيّة البحث عن إنقاذ النزعة الإنسانيّة للدين يمرّ حتما عبر تفكيك أسيجة الاستبداد التي أنتجت "الإسلام الفاشيّ" الذي لا يعرف من التديّن سوى ثقافة النحر وقطع الرؤوس وسبي النساء وتطبيق الحدود ويشرعن العنف بالمقدّس. ولئن بدت آفاق المعنى الأنطولوجيّ للدين في جدل مستمر من المؤمنين بالمعنى السلطويّ للدين والحالمين بإقامة دولة الإسلام بكلّ نظمها الاستبداديّة، فإنّ إهدار هذا المعنى يمكن أن يجعل من التحوّلات التي تشهدها المجتمعات العربيّة الإسلاميّة من طور الاستبداد إلى طور الديمقراطيّة مجرّد تحوّلات شكليّة مفرغة من الروح. "فالديمقراطيّة التمثيليّة، العدديّة، الموسميّة، باتت بدائيّة، بقدر ما هي تبسيطيّة. وقد تنقلب ضدّ الحرّيات، إذ هي أتت بالأنظمة الفاشيّة في أوروبا، في النصف الأوّل من القرن العشرين. وها هي تأتي بالأصوليّات الدينيّة، بعد اندلاع الثورات العربيّة. قد تكون ديمقراطيّة البرلمان، كما تختزلها صناديق الاقتراع ضروريّة ولا غنى عنها. ولكن هناك أشكال جديدة للممارسة الديمقراطيّة، اليوميّة والميدانيّة والقطاعيّة، في الساحات وعبر الشاشة، والصحافة، بالإضافة إلى الديمقراطيّة التي يمارسها الفاعلون في مناقشاتهم ومداولاتهم في مختلف حقول المجتمع ودوائره وأصعدته... فالممكن هو العمل على تطوير الديمقراطيّة، فكرا وممارسة، عبر المقاومة الدائمة لما لا يتوقّف المجتمع عن إنتاجه من أشكال التعسّف والاستعباد أو الاستبداد، وذلك بتعزيز وتوسيع أو ابتكار ما تحتاج إليه أعمال الرقابة والمحاسبة والمشاركة، في صوغ السياسات والقرارات من المساحات والأطر والقواعد والآليات."[11] فالحفاظ على أشكال التديّن القديمة يمكن أن يجعل من الديمقراطيّة وسيلة لتصعيد التوتّرات الطائفيّة أو فرصة للتنظيمات الإرهابيّة التي تستفيد من الحريّة من أجل نشر أفكارها التسلّطيّة والإقناع بأنّ مشروعها الواعد بجنان دنيويّة هو المسار الوحيد نحو الفوز في الدنيا والآخرة.
خلاصة القول إنّه لا يمكن للمجتمعات العبور من مجتمعات يسود فيها الاستبداد بجميع أشكاله نحو مجتمعات ديمقراطيّة حرّة دون تحقيق إصلاح دينيّ لا في الخطاب فحسب، وإنما في الواقع. ذلك أنّ الحفاظ على المؤسسات الدينيّة القديمة بكلّ فقهائها (المقدسين) وشيوخها الممسكين بزمام الحقيقة وأئمتها المتحكّمين في كثير من آراء الناس واعتقاداتهم، أو التلويح باستعادة المؤسسات القديمة التي تحكمت في حرية الأفراد باسم الدين، يمكن أن يحبط كل عمليّة تحوّل هيكلي في صلب المجتمعات العربيّة الإسلاميّة نحو ديمقراطيّة فعليّة تضمن حقوق الإنسان. ولابدّ من الوعي بأنّ سلاح المنظومة الدينيّة القديمة يظلّ دوما البحث عن خصم، غالبا ما يكون وهميّا، من أجل تشريع الدفاع عن الدّين وضمان شرعيّة السلطة الممنوحة لنواب السماء على الأرض. فأيسر السبل لاتقاء شرّ التغيير هو الحديث عن المؤامرة واتباع سبل التكفير والتفسيق والتبديع من أجل إطفاء شعلة كل تنوير أو قطع كلّ سبيل نحو الحريّة.
لا يمكن بأيّ حال من الأحوال تنميط صورة الإنسان الحرّ في المستقبل، فهو مشروع إنسان ساع بعقله ومجدّد بنقده هاجسه البحث عن الحقيقة وخوض دروب المعرفة دون خوف أو ارتهان إلى سلطة مرجع وسطوة مقدّس لاهوتيّ أو مقدّس دنيوي بأسماء علمانيّة. بانفتاحه على المعنى الإنسانيّ الواسع يمكنه الخلق والإبداع وتحقيق مبدأ التنوّع وإثبات جدارته بلقب إنسان.
تلك هي السبل التي مكنت العقل الغربيّ من كسر قيوده وتجاوز ضعفه وقصوره. فبالعلم تتالت الاختراعات وبالفلسفة تَحَرَّرَ العقل من أسر الثوابت النظريّة والقوالب الفكريّة الجاهزة، وبَدَأَ مشروع الفكر النقديّ المتجدّد، وفي الحياة اكتسب الإنسان القدرة على إيجاد معنى للوجود يقوم على المواجهة ولا يرتهن إلى آفاق ملغزة وعوالم معتّمة ينطق الساهرون عليها باسم تعاليمهم، وإنما تفتّحت بالفنّ آفاق الإنسانيّة على مجال أرحب للخلق والإبداع وتحقيق السعادة الإنسانيّة المنشودة.
[1] بيّن محمّد بوهلال أنّ الغالب على رأي أرباب الفرق "هو الزعم أنّ اعتقادهم يمثّل الحقيقة، وأنّ اعتقاد خصومهم يمثّل الباطل. وأدّى ادّعاء كلّ فرقة أنّها تمتلك الحقيقة الدينيّة إلى نظر الجميع إلى الاختلاف نظرة سلبيّة... وفي باب الأصول، كان كلّ المتكلّمين يذهبون إلى أنّ الحقيقة واحدة وإلى أنّ المصيب واحد." محمّد بوهلال، إسلام المتكلّمين، ط1، بيروت، دار الطليعة، 2006، ص202
[2] يقول أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي (ت 429 هـ): "قد ذكرنا في الباب الأوّل من هذا الكتاب أنّ النبيّ لمّا ذكر افتراق أمّته بعده ثلاثا وسبعين فرقة، وأخبر أنّ فرقة واحدة منها ناجية، سئل عن الفرقة النّاجية وعن صفتها، فأشار إلى الذين هم على ما عليه هو وأصحابه، ولسنا نجد اليوم من فرق الأمّة من هم على موافقة الصحابة رضي الله عنهم غير أهل السنّة والجماعة من فقهاء الأمّة ومتكلميهم الصفاتية، دون الرافضة والقدريّة، والخوارج، والجهميّة، والنجّاريّة، والمشبّهة، والغلاة، والحلوليّة." الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، (دراسة وتحقيق محمد عثمان الخشب)، ط1، القاهرة، مكتبة ابن سينا، 1988، ص275
[3] عبد الرحمان الكواكبي، الأعمال الكاملة، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004، ص443
[4] شاكر شاهين، الاستبداد الرمزي الدين والدولة في التأويل السيميائيّ، ط1، بغداد/ الجزائر/ بيروت، دار ومكتبة عدنان/ منشورات الاختلاف/ منشورات ضفاف، 2014، ص52
[5] عز الدين علاّم، الآداب السلطانيّة، دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسيّ، ط1، الكويت، مجلّة عالم المعرفة، العدد 324، فبراير 2004، ص ص 204، 205
[6] أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانيّة، (تحقيق أحمد جاد)، ط1، مصر، دار الحديث، 2006، ص349
[7] انظر مثلا الصراع التأويليّ الذي خاضه طه جابر علوني ضدّ القائلين بوجوب قتل المرتدّ في كتابه: لا إكراه في الدين، إشكاليّة الردّة والمرتدّين من صدر الإسلام إلى اليوم، ط1، الدار البيضاء/ بيروت، المركز الثقافي العربي/ مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2014
[8] جورج بالانديه، الأنثروبولوجيا السياسيّة، (ترجمة علي المصري)، ط2، بيروت، المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، 2007، ص150
[9] نصر حامد أبو زيد، الأرثوذكسية المعمّمة، عندما يدمج التاريخ الاجتماعيّ بالمقدّس، ضمن كتاب: العنف الأصوليّ، نوّاب السماء على الأرض، ط1، بيروت، رياض الريّس للكتب والنشر، 1995، ص31
[10] تصوّر عبد الجبار الرّفاعي سبل التديّن الذي يستعيد المعنى الأنطولوجي للدّين بأنّه يمثّل: "أملا مفعما بالغبطة وسكينة وأحلاما متسامية، وانسجاما مع الكون والعالم الذي يعيش فيه البشر. إنّ الدّين وبما يخلعه على العالم من نظام رمزي، يصير شفافا جميلا، يتساكن معه الإنسان، إذ إنّ النظام الرمزي يمنح القيمة لمختلف المعاني التي تنطوي عليها التجليات المقدّسة وعندئذ يتبدّى العالم مشبعا بالمعنى." عبد الجبّار الرفاعي، إنقاذ النزعة الدينيّة في الدّين، ط3، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، 2013، ص277
[11] علي حرب، ملاّك الله والأوطان، الهشاشة/ المفارقة/ الفضيحة (في المأزق والمخرج)، ط1، بيروت، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2014، ص181