من مركزية الإنسان إلى هامشيته في زمن "الكورونا"؛ الهوية الحضارية للإنسان في مواجهة الكارثة!
فئة : مقالات
صَعقت جائحة "الكورونا" كيان الحضارة الإنسانية، هزّت أوصالها، وصدمت وجدانها الأخلاقي، وفتحت منافذ جديدة للوعي الكوني الأعمق في مختلف مجالات الفكر والسياسة والفلسفة. جاء "كورونا" اليوم، ليهزّ كثيرا من المسلمات المعرفية الجديدة والأساطير الفكرية القديمة، فأيقظ الإنسانية من غفوتها العنيفة الضاربة في الاستسلام للطمأنينة الحضارية الجارفة. وقد جاءت هذه الصدمة، لتسقط الطروحات الأسطورية لنزعة ما بعد الإنسانية التي ترى في عالم الإنسان القادم ومستقبله الجديد صرحا للخلود الإنساني الحافل بالمعجزات الحضارية والمدهشات التكنولوجية التي تعتمل في قلب الحضارة المعرفية والثورة الرقمية المعاصر. وقد لا يكون في الأمر مبالغة، إذا قلنا بأن "كورونا" شكل صدمة أيقظت الإنسان من غفلته الحضارية، ليهزم غروره الحضاري، ويستحضر عجزه الكبير إزاء المصير المستقبلي الغامض.
وإذا كان "كورونا" قد صعق رجال الدين وهزّ قداستهم، فإنه لم يوفر رجال السياسة بحال من الأحوال، فاقتحم مخادعهم وهزّ أسوار حصانتهم المنيعة على غيرهم من البشر، فابتلاهم بوبائه وذوّقهم بعضا من عذاباته. صدم كورونا رجال المال والأعمال، وها هي الشركات الاقتصادية في طريقها إلى الإفلاس، وميزانيات الدول في سبيلها إلى الانهيار، وما قد يأتي قد يكون أشد وقعا وأعظم هولا. ومع "كورونا" لم ينفع الأغنياء مالهم ولا الساسة حنكتهم، ولا الجيوش قوتهم، ولا المؤسسات الدينية بهالتها المقدسة، وما زال العلم - وهو الأمل الوحيد المتبقي - غير قادر، بل وعاجز حتى اليوم عن مواجهة هذا التحدي المرعب للمصير لفيروس متناهي الصغر لا يرى بالعين المجردة.
إن جائحة "كورونا" تثير اليوم قضايا فكرية في مختلف المجالات والميادين في الأدب والفن والفلسفة والموسيقى وعلم الاجتماع
نعم، هو فيروس صغير، ولكنه استطاع أن يشكل بتأثيره الكبير صدمة وعي ثقافي جديد، تجعلنا نفكر من جديد في وزن الإنسان وفي مكانته المزعومة في هذا الكون بوصفه مركزا في الكون وصانعا للحضارة وبانيا للقوة والمجد. ولا نريد أن نذهب أبدا إلى حدّ التقليل من شأن العلم، بل نحن على ثقة بأن العلم سيجد الدواء لهذا الداء عاجلا أم آجلا، والذي قد ينقذ الإنسانية من هذا المصير المخيف. ومع ذلك، يبقى علينا أن نثير السؤال الخطير، وهو كم هو عدد الجائحات التي تنتظر الإنسانية في مستقبلها القريب والبعيد؟ وكم هو عدد الفايروسات الغافية الهاجعة في تضاريس الزمن الغابر التي لم تستيقظ بعد، والتي قد تكون يوما ما أشد فتكا وأعظم هولا من كل الجائحات التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها المديد. فالعلماء يؤكدون بوجود جحافل من الفيروسات الرهيبة الكامنة في تلافيف الجبال الجليدية للقطب الشمالي المتجمد، ويعتقدون أيضا أن طبقات السماء العليا قد تحمل إلينا جائحات فيروسية أعظم وأشد من "كورونا" بآلاف المرات قد يحرّرها الاحتباس الحراري، فتسقط على الأرض وبالا وكأنها حجارة من سجيل. نعم، هناك الكثير من التحديات الهائلة التي تواجه المجتمع الإنساني، ويبقى السؤال كيف سيكون المصير الحضاري للإنسانية؟ وأين هي مركزية الإنسان في هذا الزمن الرهيب مع تكاثف الأزمات الاقتصادية وتضافرها مع اندلاع الحروب المدمرة، وزيادة درجة التطرف والتعصب والكراهية، وتفاقم أزمات البيئة، وتعاظم التلوث في الأرض، والفساد في المجتمعات الإنسانية، تزامنا مع الحروب البيولوجية والجرثومية التي نراها اليوم تنذر بالكوارث التي لم يسبق للإنسانية أن رأت لها مثيلا، وكأنها بداية نهاية الإنسان والتاريخ الإنساني.
مركزية الإنسان وهويته:
والقضية هنا ليست قضية تتعلق بمصدر هذا الوباء الكوروني، فقد يكون سببه التلوث المرعب الناجم عن التوحش في العادات الغذائية للإنسان المفارق لطبيعته (أكل الحشرات النيئة)، أو قد تكون بواعثه نوعا من الحروب البيولوجية التي تخوضها الدول الكبرى في الصراع من أجل السيطرة على العالم. ومهما يكن الأمر، فإن جائحة "كورونا" تثير اليوم قضايا فكرية في مختلف المجالات والميادين في الأدب والفن والفلسفة والموسيقى وعلم الاجتماع، وهي فوق ذلك كله ستكون أكثر القضايا إثارة للوعي الفلسفي الجديد الذي يتعلق بمركزية الإنسان وهويته وانزياحاته المستمرة عن مركزية الكون؛ أي بوصفه غاية للوجود وصانعا للتاريخ وبانيا لأمجاد الحضارة الإنسانية.
يشير لوتشيانو فلوريدي في كتابه المشهور "الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني" إلى أربع إزاحات كبرى لمفهوم مركزية الإنسان في الكون توازي أربع ثورات إبيستيمولوجية غيرت في مفاهيم الإنسان عن الكون والوجود، وصدمت مركزيته وصلفه المركزي في الكون. وينطلق فلوريدي في تصوره هذا من أن التيولوجيا القديمة قد ثبتت الإنسان بوصفه سيد الكائنات الحية في الوجود (خليفة الله في الأرض)، وأنه يسود مملكة الأرض التي هي تاج الكون ومركز سطوته السماوية. وتلك هي الصورة التي جعل الإنسان من نفسه هوية مفارقة للكون بوصفه غايته الكليّة وسدرة منتهاه الأبدية.
ولكن هذه المركزية بدأت تتحطم مع ولادة العلم الحديث في العصور الحديثة، وكانت الصدمة الأولى لهذه المركزية في اكتشاف نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus (1543-1473) لهامشية الأرض بوصفها كوكبا يدور حول الشمس؛ وذلك في أطروحته عن حركات الكواكب حول الشمس، بعنوان ثورة الأجرام السماوية On the Revolutions of Celestial Bodies. وقد أدى هذا الاكتشاف العظيم إلى الإطاحة بكل التصورات الكلاسيكية السائدة منذ بطليموس عن مركزية الأرض بوصفها محورا للنجوم والكون، وكانت هي الصدمة التي أزاحت الأرض إلى الأبد من مركز الكون، لتبدو كوكبا هامشيا صغيرا يدور حول الشمس بوصفها مركزا طرفيا في الكون بعد أن كانت الأرض هي جوهرة الكون ودرته. وقد أدت هذه النظرية إلى انقلاب ثوري في مكانة الإنسان نفسه ودوره في هذا الكون العظيم. وقد أطلق على هذا الاكتشاف وما أحدثه من اهتزازات عظيمة في الفكر والفلسفة والعلم بالثورة الكوبرنيكية نسبة إلى كوبرنيكوس التي أسست لنظام جديد ورؤية جديدة في مختلف مظاهر الوجود الإنساني، حتى أصبح تعبير الثورة الكوبرنيكية مفهوما يطلق على كل أشكال التحولات الجذرية الانقلابية في الكون[1]. ويتأسس على هذا الاكتشاف العظيم حول هامشية الأرض ومركزية الشمس، اهتزاز كبير في مركزية الإنسان نفسه الذي كان يعتقد أن قصره الأرضي هو بيضة القبان الكونية ومركز الوجود ومحور الكواكب والنجوم والكائنات الفضائية. وقد أدت هذه الثورة بتراجعنا عن الإيمان بمحورية الإنسان وغائيته الكونية.
وحدث الانهيار الثاني في المركزية الأخلاقية للإنسان عبر ما يطلق عليه لوتشيانو فلوريدي الثورة الإبيستيمولوجية الثانية، التي هزت العقل الإنساني في عام 1859، وذلك عندما نشر تشارلز دارون Charles Darwin (1809-1882) كتابه أصل الأنواع (the Origin of Species) الذي يتضمن نظريته في تطور الأنواع عبر مقولة البقاء للأفضل في منظومة الصراع من أجل الحياة (Preservation of Favoured Races in the Struggle for Life)، وقد بين دارون في عمله العلمي أن جميع سلالات الحياة تطورت على مر السنين من أسلاف مشتركة عن طريق الانتخاب الطبيعي. وقد أدت النتائج العلمية الجديدة لنظريته إلى إزاحتنا مرة ثانية من مركز المملكة البيولوجية. وكما هو الحال مع الثورة الكوبرنيكية، "ما زال بعض الناس يقاومون فكرة التطور، من منطلقات عقائدية دينية. لكن معظمنا قد تخطاها، وواسينا أنفسنا بنوع مختلف من الأهمية ودور مركزي جديد في مكان مختلف، دور يتعلق بحياتنا العقلية"[2]. وبعبارة أخرى، يفقد الإنسان في نظرية دارون فكرة التفرد البيولوجي في الكون، فهو كما تشي نظريته التطورية "فالإنسان ليس من أصل مختلف وكلاهما الإنسان والحيوان يتحدران من أصل واحد، والفرق بينهما يعود إلى عملية التطور والاصطفاء الجيني والبيولوجي. وفي هذا الاستنتاج، تكمن صدمة جديدة لمركزية الإنسان بوصفه مخلوقا متفردا لا يضاهيه في الكون خلق، ولا يكون معه ما يجاريه حتى الملائكة؛ فالإنسان هنا كائن بيولوجي تحكمه الذرات، وترتسم فيه الجينات وتعتمل فيه الدورات الطبيعية البيولوجية وحالة لا يختلف عن حال الكائنات الساكنة في الأرض.
ثم جاءت الصدمة الثورية الثالثة بالمطرقة السيكولوجية لنظرية فرويد (Sigmund Freud, 1856-1939) الذي حطم أوهام مركزية العقل والوعي الإنساني خلال عمله في التحليل النفسي. وللمرة الأولى تظهر في الإنسان العاقل الحكيم المتفرد المساحة اللاشعورية الواعية بوصفها جوهر الشخصية والبعد الأعمق للوعي الإنساني. فالعقل الإنساني كما يرى فرويد، ينطوي على مساحات لاشعورية هائلة ومجهولة تحكمها قوانين وآليات لاشعورية غير واعية شديدة التعقيد خارقة للوعي ومفارقة للشعور الواعي، وقد بين فرويد أيضا أن معظم السلوك الإنساني يحدث بعفوية معقدة يلعب فيها الوعي دورا محدودا، ونحن كما يبدو نعترف اليوم، تحت تأثير هذه النظرية، بأن معظم ما نقوم به هو عفوي لاشعوري، ولكنه في الجوهر شديد التعقيد، وقد يأتي دور العقل الواعي بعد ذلك، ليقوم بدوره السردي وبناء الروايات المنطقية لتبرير أفعالنا. "نحن نعلم أنه لا يسعنا فحص محتويات عقولنا بالطريقة نفسها التي نفحص بها محتويات ما لدينا من أقراص صلبة إذن لقد جرت إزاحتنا من مركز مملكة الوعي البَحْت والشفاف"[3]. فلم يعد الإنسان هو الرجل الحكيم العاقل بالمطلق، الذي يسيطر على سلوكه ويدبر الحياة، وينظر إلى الكون من خلال منظور عقلي يتسم بالوعي الكامل. فالسلوك الإنساني يشكل تدفقا لانهائيا، يكون في أغلبه شديد الغموض، لأنه يصدر عن طبقات عميقة متوغلة في الجبل الجليدي للوعي العائم في جوف المحيط. وهنا ومن جديد، تأتي الصدمة الثالثة لمركزية الإنسان العاقل، إذ لم يعد قطبا عقليا يتسم بالحكمة المطلقة، ولم يعد قادرا أن يكون الكائن العقلاني الفريد في الكون فهناك عقل آخر لاشعوري خفي يحكم سلوك الإنسان وتصرفاته.
أثار "كورونا" صدمة وعي كبرى وشعورا لدى الإنسان بالانتماء الواحد إلى المملكة الإنسانية المفتوحة على العالمين الحيواني والجرثومي
ولكن رغم الصدمات المتعددة، بقي الإنسان وحده الكائن الذي يفكر ويحظى بمركزية التفكير والعقلانية، وهذا ما أشار إليه بليز باسكال (Blaise Pascal, 1623-1662) بقوله: "إن الإنسان ما هو إلا ريشة في مهب الريح، أوهو شيء في الطبيعة، لكنه ريشة تُفكر. الكون بأكمله لا يحتاج إلى أن يتسلح لكي يسحقه. البخار، قطرة ماء واحدة تكفي لقتله. لكن، إذا كان الكون ليسحقه، سوف يظل الإنسان أنبل من هذا الذي قتله، لأنه يعلم أنه يموت والكون لا يعرف شيئا عن الميزة التي هو يتفوق بها عليه. إذن كل عزتنا تتمثل في التفكير؛ الذي ينبغي علينا رفع أنفسنا به، وليس بالمكان والزمان اللذين لا يمكننا ملؤهم"[4]. ويجد هذا القول صداه القوي في نظرية لوتشيانو فرايدي الذي يقول في هذا السياق:
"ربما لايزال بإمكاننا أن نتمسك بالرأي القائل إن مكانتنا الخاصة في الكون لم تكن في علم الفلك، أو في علم الأحياء، أو في الوضوح العقلي، ولكنها تكمن في قدراتنا العليا على التفكير. لقد كان هذا هو خط الدفاع الضمني، الذي لايزال قائما، عن مكاننا الاستثنائي في هذا الكون. كان الذكاء، ولايزال، خاصية غامضة إلى حد ما، ويصعب تعريفه، ولكننا كنا على ثقة بأنه ليس هناك مخلوق آخر على وجه كوكب الأرض يفوقنا ذكاء. وكلما برزت مهمة تطلبت قدرا من التفكير الذكي، كنا نحن الأفضل إلى حد بعيد، ولا تنافس في ذلك إلا فيما بيننا. كنا نظن أن الحيوانات غبية، وأننا أذكياء، وبدا هذا كنهاية مُطَمْئِنة للقصة. وبكل افتراضنا أننا في مركز الإنفوسفير، ولا يشاركنا فيه أي مخلوق أرضي آخر"[5].
ولكن المفاجأة أن باسكال اخترع أول آلة حاسبة في القرن السابع عشر، وأطلق عليها باسكالينا (Pascalina) وهي الآلة التي تقوم بتنفيذ العمليات الحسابية الأربع بشكل تام. وقد كتب باسكال في وصف اختراعه هذا يقول: "عزيزي القارئ، أوجه إليك هذا الإخطار لأبلغك بأني أقدم للجمهور آلة صغيرة من اختراعي، يمكنك بواسطتها القيام بجميع العمليات الحسابية من دون أي عناء، وتخفف عنك العمل الذي يكون في كثير من الأحيان متعبا لعقلك"[6]. وتُعرف اليوم آلة باسكال بأنها الآلة الحاسبة الميكانيكية الوحيدة التي اعتمدت في القرن السابع عشر، وكانت تجسيدا لنجاح مؤكد، ولاتزال تسع آلات منها باقية اليوم. ومما لا شك فيه، أنه كان لهذه الآلة تأثير هائل في تاريخ عالم الآلات الحاسبة. ومن ثم، جاء غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz, 1646-1716) الفيلسوف والرياضي الألماني الكبير الذي ابتكر النظام الرقمي الثنائي الحديث، الذي يعتبر، بحق، أول عالم في مجال الحاسب وواضع نظريات المعلومات[7].
يقول فلوريجي: "التفكير كان التدبر، والتدبر كان الحساب، والحساب كان ممكنا بفضل "باسكالينا" التي غُرست بذور الثورة الرابعة، لقد أعفتنا أجيال باسكالينا التالية ليس فقط من أعمالنا المرهقة ذهنيا، ولكنها أعفتنا أيضا من دورنا المحوري، باعتبارنا العناصر الذكية الوحيدة في (الإنفوسفير)؛ أي في الفضاء المعلوماتي. ولم يأخذ باسكال في اعتباره ربما احتمال "أننا سوف نقوم بهندسة وتصميم آلات مستقلة ذاتيا تستطيع أن تتفوق علينا في معالجة المعلومات بصورة منطقية، ومن ثم تكون سلوكيا أكثر منا ذكاء، كلما كانت معالجة المعلومات هي كل المطلوب لإنجاز الثورة الرابعة"[8].
ولكن الصدمة الثورية الرابعة جاءت عنيفة جدا لتزيح مركزية التفكير عند الإنسان بوصفه الكائن الأكثر ذكاء في الكون، وتجلت هذه الصدمة في إبداعات آلان تورينغ (Alan Turing) أبو الثورة الرابعة، وفي هذا يقول فرايدي: "لقد خلعنا تورينغ من مكانتنا المتميزة والفريدة في مملكة التفكير المنطقي، ومعالجة المعلومات، والسلوك الذكي. لم نعد سادة الغلاف المعلوماتي (الإنفوسفير) بلا منازع، فأجهزتنا الرقمية تنفذ مزيدا ومزيدا من المهام التي تتطلب منا بعض التفكير، عندما نكون في موضع المسؤولية لقد أُرغمنا مجددا على التخلي عن موضع كنا نظن أنه فريد من نوعه"[9].
ومثلما فعلت الثورات الثلاث السابقة" أزالت الثورة الرابعة اعتقادا خاطئا بشأن تفردنا الذهني والعقلي، وقدمت أيضا الوسيلة المفاهيمية لمراجعة فهمنا لذاتنا. إننا نتقبل بروية فكرة ما بعد تورينغ في أننا لسنا عناصر نيوتونية، ومستقلة، وفريدة من نوعها بل نحن بالأحرى أو ما كائنات معلوماتية متصلة بعضها ببعض وجزءٌ كائنات حية معلوماتية مع عناصر وسيطة (وكلاء) معلوماتية أخرى، طبيعية واصطناعية، هي أيضا تعالج المعلومات بصورة منطقية وبشكل مستقل"[10]. ويقول فلوريدي في هذا السياق: "ما يدور في ذهني هو بالأحرى أكثر هدوءاً، فتكنولوجيات المعلومات والاتصالات المتاحة لدينا أفضل منا، وهي تفوقنا ذكاء وأداء. إنها السبب، فهي تعدِّل أو تستحدث البيئة التي نعيش فيها"[11].
لقد أخرجت الثورة الرابعة إلى النور الطبيعة المعلوماتية المُتأصلة في هوية الإنسان. وهذا أمر يشعرنا بالتواضع، فنحن نتقاسم هذا الطابع مع بعضٍ من الأدوات الأذكى التي صنعناها بأيدينا. أيا كان الشيء الذي يُعرّفنا على أننا متفردون، فهو لم يعد أننا أفضل من بعض تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في لعب الشطرنج، أو التدقيق الإملائي لمستند أو ترجمته إلى لغة أخرى، أو حساب المدار لقمر اصطناعي، أو إيقاف سيارة في محل الانتظار، أو الهبوط بطائرة. لا يمكنك الفوز على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حتى في لعبة، لأن الروبوت سريع جدا ويستطيع في، »طوبة ورقة مقص« عشوائية مثل لعبة واحد من الألف من الثانية أن يتعرف على الشكل الذي تصنعه بيدك، ويختار حركة الفوز، ويكمل ذلك آنيا تقريبا. ولو لم يكن لديك ما يكفي من المعرفة، لظننت أنه يقرأ أفكارك. الثورة الرابعة تنويرية أيضا، لأنها تمكننا من فهم أنفسنا بشكل أفضل، على أننا كائنات حية معلوماتية من نوع خاص".[12].
وعلى هذا النحو كما يرى فلوريدي "لم نعد في مركز الكون ولا في مركز المملكة الحيوانية؛ فقد كنا نظن أننا لانزال نتحكم في محتويات عقولنا، كنا نظن أننا السلالة المسؤولة تماما عن الأفكار الخاصة بها". وهنا يضعف تألق ووهج المقولة الديكارتية المشهورة: »أنا أفكر، إذن أنا موجود« التي تشيد بتفرد الإنسان على التأمل الواعي والعقلنة الشفافة للوجود". فالحواسيب وثورة المعلومات والذكاء الآلي والتفرد التكنولوجي أصبحت شواهد على هامشية الدور الإنساني في العالم وفي الكون وعلى فرصة اتساع هذه الهامشية إلى الحد الأقصى في عالم الإنسان.
صدمة الكورونا: خطر وجودي
والآن تأتي الصدمة الجديدة ممثلة في هجمة "الكورونا" لتؤكد من جديد دورنا الهامشي في الكون. وإذا كانت نظرية دارون قد أكدت على عمق الصلة بين كياني الإنسان والحيوان، فقد جاءت ثورة "الكورنا" لتأخذنا إلى استجواب أعمق الصلات الحيوية بين الإنسان والفيروس؛ فالإنسان كينونة حيوية حية، وكذلك هو حال الفايروس؛ أي هناك جذر مشترك بين الدقائق الحية والإنسان. فالبشر كما يقول فتحي المسكيني: "مجرّد مساحة بكتيرية أو فيروسية عابرة للأجسام الحيوانية، وليس "صورة" إلهية مطبوعة على صلصال مقدّس"[13]. وكذلك، فإن "هوية أجسادنا إذن لا توجد بين أيدينا، في مساحة أخلاقية مرئيّة، يمكننا أن نسيطر عليها، بل هي قد أصبحت ارتسامات وراثية تتخطى الادعاء الأخلاقي للبشر من أجل أن تعيدهم إلى التركيبة الخلويّة التي يشتركون فيها مع النبات والحيوان-، تلك التي أقامت الإنسانية التقليدية لفترات متطاولة انفصالها الأخلاقي أو الميتافيزيقي عنها."[14] فالفيروس "إذن يهدم الجدران الثقافية التي بناها الإنسان التقليدي من أجل أن يفصل "نفسه" (ادّعاءه الهووي) عن بقيّة الكائنات "الحية" حسب ترتيب أخلاقي لم يعد له اليوم ما يبرّره. ولأوّل مرة، في عصر الفيروسات، صار الجسم البشري هدرا عضوّيا أمام كل أنواع الهجومات الحيوية، من منطقة "خارجة" بمعنى ما، دون أن يكون "الخارج" (outside) "خارجيا" (exterior) دوما[15]. وهذا ما أشار إليه ليفي ستراوس حول "هو تلاشي الفواصل الجوهرية بين الإنسان والحيوان، ولاحقا بين الإنسان والبكتيريا، وذلك عبر تعليف الماشية بلحوم ميتة قبل أن يستخدمها الإنسان، على النحو الذي ينتقل فيه الفايروس الغامض من الحيوان إلى الإنسان، هادماً الحواجز الطبيعية والثقافية العميقة بين النوعين".
وإذا كان دارون قد أكد على تفوق الإنسان في دورة الاصطفاء وغائيته في مملكة الحيوان، فإن المعادلة الأكثر أهمية والأشد وقعا تكمن في ثورة الفايروس، لأن الفايروس يأخذ في هذا السياق دور الفاعل والإنسان دور المنفعل. وبعبارة أخرى، تنعكس المعادلة بين ذاتية الإنسان وموضوعية الحيوان لتتحول إلى موضوعية الإنسان وذاتية الفيروس؛ أي بمعنى: أن الإنسان قد أصبح موضوعا للفايروس، فالفايروس يلتهم أجسادنا، يهاجمنا ويحولنا إلى مادته وموضوعه، وفي الوقت نفسه يلعب دورا ذكيا، إذ يتلون ويجتهد ويغير من هيئته، ويخرج علينا بهيآت أكثر ذكاء وقدرة على التخفي تتمثل في إعادة نسخ نفسه بأشكال خفية تتميز بالمكر والدهاء. وإذا كان ذكاء الفايروس قد تغلب على الذكاء البيولوجي للإنسان، فإن الطامة الكبرى تتمثل في أن ذكاء هذا الفيروس ما زال يتغلب حتى اللحظة على الذكاء العلمي للبشر الذين لم يستطيعوا حتى الآن الكشف عن المضادات الحيوية التي يمكنها أن توقف زحف هذا الوباء الجائح. وإذا ما استطاع الإنسان في القريب العاجل أن يجد البلسم الشافي "للكورنا"، فإن الخطر يبقى ماثلا في الوجود، ويتمثل هذا الخطر بأن "الكورونا" ليس إلا واحدا من ملايين الفيروسات الذكية التي تنتظر فرصتها يوما في اجتياح أجساد البشر! والسؤال الجاسم على صدر الإنسانية أبدا هو: فهل سيكون في مقدور الإنسان أن ينتصر دائما؟ والسؤال الأخطر ماذا لو خسر الإنسان حربا واحدة مع فايروس مستجد لا يرحم؟ فالخسارة الواحدة قد تنتهي إلى إفناء الجنس البشري على الأرض، وهذا أمر محتمل، ولاسيما في أجواء الحروب الحيوية التي تديرها الشركات الكبرى والدول. والبشر يشكل بأنفسهم أدوات الإفناء باصطناع الحروب، فنحن ربما نساعد على هزيمة الإنسان نهائيا في المركز وفي الهامش على حدّ سواء. وهذا ليس غريبا في عالم البشر، إذ تبددت حضارات كحضارة الهون في شرق أوروبا والإنكا والمايا في المكسيك ودول أمريكا اللاتينية واختفت فجأة دون سابق إنذار، حتى إن الغزاة الغربيين حين وصلوا إلى هذه المناطق لم يجدوا إلا أهراماتهم قائمة من غير بشر أو حياة. "وهناك دراسات تشير إلى أن سبب الانقراض هو البكتيريا التي حملها الرجل الأبيض إلى أرض القارة الأمريكية، والتي كانت أسرع من حامليها في غزو وأمم لا تملك الحصانة الكافية ضدها ففنت وانتهت وذهبت في خبر كان"[16]. وفي هذا يقول الصحبي الماجري: "إن انتشار فيروس كورونا يعيد لأذهان الناس كل هذه البشارات حول (الأبوكاليبس) أو نهاية العالم، ويرجع للواجهة كل النبوءات التي تتحدث عن نهاية الحضارة المعاصرة عبر فايروس قاتل يخرج من مخابر الأسلحة البيولوجية، ولا يمكن السيطرة عليها أو عبر حرب نووية بإرادة الإنسان أو الآلة التي قد تخطأ في التقدير فتتسبب في التدمير"[17]. فنحن "إذن أمام وضع جديد يختلف عن الأوبئة القاتلة التي عرفها التاريخ البشري، من موجات الطاعون المريعة في العصور الوسطى إلى الإنفلونزا الإسبانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي ذهب ضحيتها خمسون مليون قتيل من أشهرهم عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» والشاعر الفرنسي «أبولينير» والكاتب التشيكي «فرانز كافكا»[18].
خاتمة - البشرية والمصير:
لقد أثار "كورونا" صدمة وعي كبرى وشعورا لدى الإنسان بالانتماء الواحد إلى المملكة الإنسانية المفتوحة على العالمين الحيواني والجرثومي. والإنسان يدرك اليوم ومنذ الأمس، بأن وجوده مهدد بمخاطر وجودية لا حصر لها، ولكنه لم يأخذ بالحسبان أن اللامتناهيات الصغرى والدقائق المجهرية قد تكون أعظم هذه المخاطر وأشدها فتكا بالإنسان. والآن يطل "الكورونا" كشكل محتمل لأنواع كثيرة من التهديدات الفيروسية القاتلة التي يمكن أن تؤدي إلى فناء العالم. وكما يقول خسرو باقري في مقالة له بعنوان (الكورونا المعلم الأخير): "لقد غيّر الكورونا نظرتنا للعالم، حيث أثبت بأن العالم مليء بالأسرار وأظهر هذا للعيان: كيف يطوي صفحات حياة البشر، بما لديهم من حضارات بطولها وعرضها. فهو يتمكن، عبر تدخله بتفاصيل بسيطة تكاد لا تساوي شيئاً، من جعل البشر كالعصف المأكول، وكأنهم ليسوا شيئا مذكوراً!"
ويتابع خسرو القول: لقد "برهن الكورونا بأن الجميع متساوون أمام قانونه، ولا تمايز لأحد على أحد، حيث يكون الحبر الأعظم كأبسط رعاياه. فالملك يصرع على الأرض نفسها التي عاش عليها المتسول ردحاً من الزمن. لقد حوّل "الكورونا" الـ "أنا" إلى الـ "نحن" ودلّ بشكل قاطع بأن الناس ليسوا متساوين فقط، بل مندمجون معاً، وأن مصير كل إنسان متداخل مع الإنسان الآخر في نسيج منسجم وكلٌّ معقّد متحد؛ وليس الأمر بأنّه إن استطاع أحد أو جمع ما "أن يقلع شوكه بيده"، سيتمكن من النجاة بنفسه، ويأوي إلى "ركن شديد"، ويعيش حياته هانئاً في فقاعته المستقلة وجزيرته المعزولة: إمّا أن نحيا معاً أو نموت معاً! وهذا درس "الكورونا" العظيم".
ثورة الفايروسات والكوارث الطبيعية ما هي في نهاية الأمر إلا نتاج لعدوانية الإنسان ضد الطبيعة والممالك الحية فيها
وفي هذا الأمر يقول إيميل أمين: "أجمل ما في الدروس التي أفرزتها أزمة فيروس كورونا رغم الألم والخوف أنها أعادت تذكير البشر بأنهم جنس واحد، يعيشون على كوكب واحد، ولعله من عجائب الأقدار مرة أخرى، أن يضرب الفيروس العالم في الذكرى الخامسة لإصدار البابا فرنسيس رسالته الشهيرة «كن مسبحا»، والتي تتناول إشكالية التغيرات الإيكولوجية وما تتعرض له البشرية من مخاطر تغير المناخ وظهور الأمراض والأوبئة على الإنسانية برمتها" (...) لقد جاء كورونا ليضع البشرية أمام حقيقة مقطوع بها، وهي أن مصيرها بات واحدا، لا سيما في ظل القرية الكونية التي نعيش عليها[19]. فنحن أبناء الإنسانية في مركب واحد وعلى مسار وجودي بغائية واحدة، ولا يمكن لأية شريحة إنسانية أن تزعم اليوم أنها في حل من الخطر أو الجائحات الفيروسية" التي لا تفرّق بين الهويات أو الثقافات أو الأديان.[20].
وقد يكون "كورونا" فرصة حقيقة وربما مثالية "لمراجعة أحوال إنسانية معذبة، أثبتت الملمات أنها في النهاية أسرة واحدة، تعيش على أرض واحدة، وحين تتألم فإنها تشعر بالألم الواحد، وفي نهاية المطاف ترفع أكفها بالدعاء والتضرع لرب واحد" وما قد رأيناه في الصين مثير حقاً، "إذ لم يذهب الصينيون في طريق البكائيات، ومعلقات الرثاء، وقد تركوا عنهم النواح واللوعة، ومضوا في طريق التحدي، عبر بناء مستشفيات عملاقة في أيام معدودات، واستنفار الجهود الذاتية لمواجهة الخطب الجلل، وتوفير وسائل الإعاشة للمناطق المصابة مثل محافظة «ووهان»، رغم ملايينها العديدة[21].
وفي النهاية، نقول إن مملكة الإنسان مملكة بين الممالك الحيوانية والجرثومية والنباتية تتداخل معها وتتفاعل تفاعلا وجوديا يحفظ الحياة وينهض بها، ومن غير هذا التفاعل الخلاق قد تتم الإطاحة بالحياة نفسها في مملكتنا الإنسانية المتفردة في الكون. وقد نقول إن فرصة الإنسان ومركزية الإنسان وتميزه لا تقوم على ازدراء ممالك الحياة التي تحيط بنا، بل يجب أن تقوم على الاحترام والتفاعل الحذر والحسابات العقلية لتحديات المصير الإنساني نفسه. فثورة الفايروسات والكوارث الطبيعية ما هي في نهاية الأمر إلا نتاج لعدوانية الإنسان ضد الطبيعة والممالك الحية فيها، وقد حان للإنسان أن يعود إلى رشده، وأن يأخذ بالعقلانية الأخلاقية في إدارة المصير تحت عنوان احترام الحياة.
[1]- لوتشيانو فلوريدي، الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني، ترجمة: لؤي عبد المجيد السيد، الكويت: عالم المعرفة، العدد 452، سبتمبر، 2017، ص 120
[2]- المرجع نفسه: ص 121
[3]- المرجع نفسه: ص 121
[4]- المرجع نفسه: ص 123
[5]- المرجع نفسه: ص 124
[6]- المرجع نفسه: ص 124
[7]- المرجع نفسه: ص 124
[8]- المرجع نفسه: ص 125
[9]- المرجع نفسه: ص 125
[10]- المرجع نفسه: ص 126
[11]- المرجع نفسه: ص 129
[12]- المرجع نفسه: ص 129
[13]- فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة، مؤمنون بلا حدود، 24 فبراير 2020
https://www.mominoun.com/articles/الفلسفة-والكورونا-من-معارك-الجماعة-إلى-حروب-المناعة-7028
[14]- فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا: المرجع نفسه.
[15]- فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا: المرجع نفسه.
[16]- الصحبي الماجري، كورونا والأبوكاليبس.. هل حانت نهاية العالم؟ مدونات الجزيرة، 28/2/2020
https://blogs.aljazeera.net/blogs/2020/2/28/كورونا-والأبوكاليبس-هل-حانت-نهاية-العالم
[17]- الصحبي الماجري، كورونا والأبوكاليبس.. المرجع نفسه.
[18]- السيد ولد أباه، كورونا بعين فلسفية، الاتحاد، 1 فبراير 2020
https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/105237/كورونا-بعين-فلسفية
[19]- إيميل أمين، كورونا.. فرصة للجسور بين البشر، 14 مارس 2020
https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/105693/كورونا--فرصة-للجسور-بين-البشر
[20]- فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا: مرجع سابق.
https://www.mominoun.com/articles/الفلسفة-والكورونا-من-معارك-الجماعة-إلى-حروب-المناعة-7028
[21]- إيميل أمين، كورونا.. فرصة للجسور بين البشر، 14 مارس 2020، مرجع سابق.