من هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية
فئة : قراءات في كتب
إيمانويل طود، منشورات سوي، باريس، ماي 2015، 150 ص.
في هذا الكتاب الجديد، يسائل عالم الأنثروبولوجيا إيمانويل طود، الأحداث التي تلت عمليات 11 يناير 2015، ويقف بحدة عند ما يسميه "خديعة" المتظاهرين، وعند محددات "الهستيريا الجماعية" التي ميزت بنظره المظاهرات التي تلت هذه العمليات. إن ما جرى في يناير 2015، يقول المؤلف، دفع الصحفيين ورجال السياسة لمستوى لم يعودوا مستعدين للإنصات لا للأئمة ولا لرجال الدين الذين تبرأوا من العملية، ومن الإرهاب بوجه عام، ورفضوا ربطه بالإسلام أو بكل مسلمي الأرض.
إنهم، يتابع الكاتب، لا يريدون سماع شيء آخر غير شعار "كلنا شارلي". بالتالي، فإنهم من هنا، إنما يقبلون ضمنيا بإهانة رسول المسلمين. إنهم يعتبرون "الحق في الكاريكاتير" حقا ومجاراة ذات الحق واجبا. ولذلك، فإن أية محاولة للتحليل قد ركنت إلى الزاوية لفائدة التعبير عن الموقف الجاري، الموقف العام: إدانة الإرهاب الذي طال فريق شارلي إيبدو، لكن دون إدانة ما أقدمت عليه الجريدة من "تجاوز".
إن تعبير "أنا شارلي" الذي رفع بمظاهرة 11 يناير، لا يعبر برأي المؤلف، عن إرادة شعبية بوجه مد إسلامي لا يتماهى كثيرا مع "قيم" المجتمع الما بعد صناعي السائد، بل هو تعبير قوي عما يمكن تسميته بـ"الضمير الخاطئ"، أي ضمير اللاتسامح الديني الذي كان سابقا على ذات الأحداث، وسيبقى لاحقا عليها. إنه شعار يرفع لواء الحق في التعبير، لكن دون إعارة حد أدنى لقيم التسامح الديني التي حملتها فترة الأنوار.
فلو أخذنا كل متظاهر على حدة، يقول طود، فإننا سنلاحظ أنه "متوازن ولطيف ولا تصدر عنه أقوال مريبة"، لكنه عندما يدافع عن الرسوم الكاريكاتيرية التي طالت الرسول محمد (ص)، فإنه يعبر بكل تأكيد عن بعدي الإسلاموفوبيا والانطواء اللذان يطبعانه. ولذلك، فإن الإسلاموفوبيا، بقدر ما تتطلع إلى قذف المسلمين خارج المجموعة الوطنية، فإنها تعتبر سببا أكثر ما هي نتيجة للإرهاب...إنها تتغذى من إيديولوجيا طرفي المعادلة: كره المسلمين والإرهاب.
يتمحور كتاب "من هو شارلي؟" لإيمانويل طود، حول خمس نقط أساسية:
+ النقطة الأولى: تراجع تأثير الكاثوليكية و"انصهار فرنسا" في دينامية ما يسمى بـ"عدم الإيمان المعمم". وهو ما طرح مشاكل عميقة على مستوى التوازن النفسي والسياسي للسكان، وترتب عنه فقدان الفرنسيين لكل أشكال المعنى. بالتالي، فضمور الديانة الكاثوليكية قد أدى إلى "فراغ وجودي" داخل السكان، يزداد يوما عن يوم، ويدفع إلى تعدد أشكال التقوقع والتمركز حول الذات.
ثمة إذن "انهيارا دينيا" واضحا، لكن طبيعته متجذرة في التاريخ الأوروبي بشكل عام، وليس بفرنسا على وجه التحديد. يلاحظ طود، بهذه النقطة، أن الانهيار الديني الذي طال ألمانيا مثلا ما بين 1880 و 1930، قد أدى إلى انخفاض الممارسة الدينية لدى ثلثي البروتستانتيين، وأدى، بصلب ذلك، إلى انتشار اللاسامية وتقدم الإيديولوجية النازية...كل كتابات نيتشه حول "موت الإله" وكتابات فيبر حول سوسيولوجيا الأديان، كانت تنهل من هذا المعين، لا بل كانت نتاج هذه الأزمة الميتافيزيقية متزايدة المد.
على نفس المنوال، ولربما بنفس الدينامية، فإن الأزمة "النهائية" للكاثوليكية، التي طالت جل بلدان العالم الغربي ابتداء من ستينات القرن الماضي، قد أدت، ابتداء من سبعينيات نفس القرن، إلى تقدم كبير للنعرة الوطنية، تكاد تشبه في تطرفها ما كان سائدا بالعشرينيات والثلاثينيات.
+ النقطة الثانية: هذا الضمور خلق حالات من الخوف الشديد لدى السكان، دفعتهم ليبحثوا عن عدو جديد يلصقون به مصادر خوفهم، فكان الإسلام والمسلمون، باعتبارهم أقلية "لا تستطيع الدفاع عن نفسها" أمام غلبة التعبيرات الدينية الأخرى. ولذلك، فإن الشعارات التي رفعت يوم 11 يناير مدافعة عن حرية التعبير ومناهضة التطرف الديني، إنما كان خيطها الناظم: الإسلاموفوبيا في أقصى صورها، بيد أن هؤلاء "المتظاهرين" عندما عمدوا إلى رفع شعارات تطالب الدولة بضمان الحق في التعبير، فإنهم رفعوا بالآن ذاته وبإدراك ضمني من لدنهم، بأن "تقدس تمثلا مهينا لصورة محمد"، مكمن الكاريكاتير ومصدر الأحداث الأليمة التي وقعت. إنهم بهذا، يرى الكاتب، إنما يعمدون بسبق الإصرار والترصد، إلى "إقصاء كل مسلمي الجمهورية".
لذلك، فإن وقفة 11 يناير لا تعبر، بنظر الكاتب، عن المساواة وكونية الحقوق كما يدعي أصحابها، لأن هؤلاء عندما يطالبون بالحق في تشويه صورة "شخصية رمزية" لديانة منتموها أقلية مضطهدة، فإنهم يطالبون بالحق في تأكيد "هيمنتهم وحقهم في البصق على ديانة الضعفاء".
+ النقطة الثالثة: إن الذي "اشتغل" بذهن المتظاهرين في يناير 2015، ليس العلمانية التقليدية التي عهدناها، ولكن التغييرات التي طرأت على القوى التي كانت تدافع من ذي قبل عن الكنيسة الكاثوليكية. والشاهد على ذلك بنظره، إنما خروج 4 مليون فرنسي من أصل 65 مليون للتظاهر، معظمهم أطر ممتازة منتمية للطبقات المتوسطة العليا وبورجوازية اليسار. وهو ما يشي برأيه بمواصفات "جمهورية جديدة" عبارة عن خليط بين العلمانية والإلحاد والقبول باللامساواة، والتي يعبر عنها جزئيا المتظاهرون، حتى وإن لم يجهروا بها.
+ النقطة الرابعة: صحيح، يقول طود، إن فريق شارلي إيبدو غير متدين (حتى وإن كان متشبعا بالثقافة الكاثوليكية)، معادي للإسلام ويدافع عن اللامساواة. إلا أن استهداف الفريق إياه، والمتظاهرين من خلفه، للديانة الإسلامية إنما من شأنه أن يؤجج شعور الأقليات الدينية الأخرى، لا سيما اليهودية، ويدفع إلى معاداة غير مسبوقة وغير متعمدة للسامية. لذلك، فإنه يرى بأن استهداف أقلية دينية ما هو بالمحصلة استهداف للأقليات الأخرى والإشارة إليها بالأصبع حتى وإن كانت براء من "التهمة". بالتالي، يتابع الكاتب، فإن الجريدة، بسلوكها هذا، كادت أن "تضع اليهود الفرنسيين في خطر جراء استهدافها للمسلمين الفرنسيين".
+ النقطة الخامسة: الطبقة السياسية (والرئيس الفرنسي هولاند نفسه) "انجرت" من حيث تدري أو لا تدري لمربع الجبهة الوطنية في دفاعها المستميت عن اللامساواة. بالتالي، يبدو كما لو أن هذا اليسار المتشبع بالقيم السلطوية الكاثوليكية (التراتبية، القبول والأبوية) قد سقط هو نفسه في كراهية الأجانب، وإعلانهم خارجين عن "اللحمة الوطنية". اليسار هنا لم يتحرر فقط من توازن الحسابات السياسية التي لطالما راهن عليها، بل تنكر أيضا لالتزاماته الأخلاقية التي بنى مجده عليها لعقود طويلة.