من يهاجم الله في بيته؟
فئة : مقالات
هل بدأت حرب المساجد؟ هل دخلنا حرب الأديان الحديثة، مثل تلك التي وقعت في مملكة فرنسا بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر، دون أن نعلم؟ وما معنى أن يعمد أحد أو آحاد من الناس إلى تفجير مسجد بمصلّيه من البشر المشاركين له في الملّة؟ أم أنّ الملّة قد انتهت منذ وقت طويل ولم يبق منها غير المساجد وينبغي هدمها؟ يبدو الأمر وكأنّنا في واحد من أفلام الخيال العلمي حول ما بعد نهاية العالم (post-apocalyptic)، تلك التي يمكن أن تتسبّب فيها حرب نوويّة أو هجوم فضائي أو الاصطدام بنيزك أو انحسار المناخ عن الحياة...إلاّ أنّنا سرعان ما نستفيق من هذا النبل الميتافيزيقي للخيال العلمي ونجد أنفسنا أمام كارثة من نوع دنيويّ تماما: كارثة تفجير مسجد من طرف مؤمنين ينتمون إلى نفس الديانة. إنّها الملّة تفجّر نفسها من الداخل. ومن ثمّ أنّ هذا الحدث المروّع لا يحقّ له حتى أن ينال شرف التصنيف تحت خانة أحداث المستقبل، ولو كانت تهدّد الحياة على الأرض. إنّه حدث تافه تماما، نعني لا ينطوي على أيّة أصالة خاصة. ومع ذلك هو تفاهة مسلّحة ومخرّبة لإمكانية التعايش بين المؤمنين بإله واحد، فما بالك بالتعايش مع غير المؤمنين به.
قال نيتشه ذات مرّة: "حتى يمكن أن يُشيَّد معبد، ينبغي أن يُهدَم معبد آخر". كان نيتشه يقصد بذلك أنّ خلق قيم جديدة يتطلّب دوما، وهذا بمثابة قانون أخلاقي، أن نمحوَ لوحةَ قيمٍ قديمة. لكنّ هذا التخريج لا ينطبق على ما يقع لنا. إنّ جميع الذين يقتلون ويُقتلون هم من ديانة واحدة ويدّعون تقريبا نفس الدعاوي الأخرويّة حول أنفسهم. فالمسجد هو آلة أخرويّة لإنتاج الآخرة. ولذلك يبدو النزاع غريبا بشكل مرعب: إنّه ليس نزاعا حول ملكيّة المسجد أو حول تقنيات الصلاة أو مشاريع الدعاء إلى اللّه، إنّه ليس نزاعا أخلاقيّا حول معنى الخشوع أو نزاعا تأويليّا حول دلالة السجود. إنّه ليس نزاعا حتى حول ماهية السلطة العمومية أو خطة الشرعنة في فضاء المواطنة الحديث، بل فقط هو تفجير لشكل الحياة الذي يوجد داخل باحة المسجد. والشكل الوحيد للحياة داخل المسجد ليس شيئا آخر سوى الإنسان. لا أحد يمكنه أن يدّعي وجود حياة أخرى هناك، مثل النبات أو الحيوان، إذْ أنّه لم توجد المساجد من أجل حماية الحيوانات المهدّدة بالانقراض أو لحماية النباتات النادرة. إنّ المسجد هو المكان الذي تجتمع فيه مساحة الأرض برمّتها تحت جبهة شخص واحد. وهذا شكل من المكان لم يصبح ممكنا إلاّ تحت فرضية الإله الخالق، والتي صارت اليوم ادّعاء أخلاقيا منهَكاً.
لا تقتل التفجيرات التي يقوم بها "مسلمون" إلاّ أشخاصاً "مسلمين"، مثلهم. ويبدو أنّه قد صار علينا منذ الآن أن نضع هذه المسمّيات بين أهلّة وأقواس ومعقّفات غليظة. إنّ سرديّة "الإسلام" حول نفسه قد باتت مهدّدة على نحو غير مسبوق، وليس ذلك لخطر خارجي من ملّة أخرى أو من حضارة ما بعد-دينية، أو من إرادة كولونيالية، أو ممن الخطر البيو-تكنولوجي للتقدّم العلمي، بل فقط هي سرديّة أصبحت مهدّدة بالتفكّك بسبب حبكتها الخاصة. ثمّة أمان سرديّ وأمان أخلاقي وأمان إنساني لم يعد ممكنا داخل أفق هذه السرديّة. وهو أمان تأسيسي للعلاقة بين البشر بعامة، قبل أن يكون أماناً تأسيسيا للعلاقة المحصورة بين "المؤمنين" دون غيرهم. لا تتأسّس العلاقة بين البشر إلاّ على عقد الأمان الأخلاقي فيما بينهم. وإنّ الطامّة الكبرى هو أن يتمّ فقدان هذا الأمان التأسيسي في أبعد مكان ممكن عن العداوة بين البشر أو بين المؤمنين: نعني في حرمة المسجد. ثمّة خيط إنساني قد تمّ بترُه بشكل مفزع عندما نسمع إنّ "مسلمين" قد فجّروا مسجدا. كيف يمكن إبلاغ هذا الخبر إلى الصحابة أو إلى الرسول محمّد؟ كيف يمكن مناقشته أمام "المسلم" اليومي؟ هل يكفي أن نبرّئ ذمّة السردية التأسيسية من المؤمنين بها؟ إلى أيّ حدّ يمكن تبرئة "الإسلام" من "المسلمين" الحاليين؟
إنّ "من" يهاجم الله في بيته يفاجئنا بانتساب جديد إلى أنفسنا القديمة لم يكن معروفا إلاّ داخل تواريخ الطغاة أو سرديات الحروب الدينية. طبعا، كان ثمّة قصّة مسجد ضرار الذي بناه جاهليّ وأعطى النموذج الأوّل لسوء استعمال المساجد أو لإمكانية تحويل المسجد إلى فخّ أو كمين ميتافيزيقي ليس فقط للمؤمنين بل للنبيّ ذاته (التوبة ، الآية/107-108)، ثمّ كانت محاولات هدم الكعبة من أزماع تبّع وأبرهة الحبشي إلى يزيد ابن معاوية ومن الحجاج الثقفي إلى القرامطة...وكانت يومئذ تُرمى بالمنجنيق وقد حوصرت وأُحرقت. إنّ مهاجمة الله في بيته ليس خبرا جديدا إذن. وثمّة تقاليد عريقة داخل سردية الملة عن وقائع هدم المساجد على رؤوس مصلّيها وخاصة عن الجرأة الأخلاقية والسياسية على مهاجمة المصلّين باعتبارهم أهدافا حربيّة للـــــــــ"مجاهدين". وهذا يعني أنّ سرديّة الملة لم تكن تلتزم بتحييد "الأبرياء"، وكان ثمّة دوما تساؤل محرج عمّن يكون هؤلاء الأبرياء؟ وهل يوجد أبرياء أصلا عندما تتمّ مهاجمة المساجد؟ وربّما من المفيد أن نذكر هنا فيلم "البريئات"، والذي يحكي قصّة حقيقية وقعت في بولونيا في ديسمبر من سنة 1945 تسرد عمليّة اغتصاب الراهبات المسيحيات من طرف جنود سوفيات ووضعهنّ لأطفال. من يغتصب الراهبة يكسّر الجدار الأخلاقي الأخير للجسد الديني ويهاجم الله في بيته.
إنّ من فجّر مسجد الروضة في عريش مصر في نوفمبر 2017 هو يهاجم الله في بيته، ومن ثمّ يدفع بعلاقتنا مع السردية التأسيسية إلى أقصاها، ويضع مفهوم الدين بعامة موضع سؤال على نحو غير مسبوق. لا يتعلق الأمر بمسجد ضرار حتى نمنع الناس من الصلاة فيه؛ لا علاقة للأمر بالصلاة بما هي كذلك. بل ثمّة سخرية من الصلاة أو تعليق أخلاقي لها يجعل من المصلّين أهدافا سهلة للقتلة. فجأة صارت الصلاة إذن عملا بريئا لا يمكن الدفاع عنه. كذلك لا يتعلق الأمر بنزاع مع من يدّعي الخلافة ويمارس خطرا على بيعة يزيد بن معاوية. بل إنّ المشكلة تقع خارج أفق الملّة أصلا. إنّ تفجير المسجد هو قتل لبراءة المصلّين وإجبارهم على مراجعة انتمائهم إلى الفضاء العمومي للدولة الحديثة. هو إذن نزاع حول الفضاء العمومي وليس حول ماهية الدين. يريد الإرهابيون أن ينصبوا فخّاً لبراءة الصلاة وإرباك الأمان الإنساني الذي يأتي المصلّون للبحث عنه في باحة المسجد أو لدى الجماعة الروحية التي ينتمي إليها. لم يعد المسجد عندئذ مكاناً محيّدا، نعني يقع خارج الصراع مع الدولة الحديثة حول شكل السلطة. إنّ الإرهاب هو إعادة رسم مرعبة لمعنى الإنسان داخل أفقنا. هو عبارة عن تضحية بالإنسان من أجل ولائم لاهوتية تتجاوزه. لأوّل مرة نشعر أنّ ثقافة القرابين قد عادت في شكل متوحّش. لكنّ القربان لم يعد نباتًا أو حيوانا أو حجرا أو طعاماً، بل استعاد وجهه البدائي، السحيق القدم، عندما كانت المعابد ما قبل الأديان التوحيدية، تضحّي بالبشر من أجل الآلهة. وإنّه قد آن الأوان لمراجعة ثقافة التضحية بالإنسان من أجل الآلهة. لم يعد هناك أيّ إله يستحقّ الموت من أجله. هذا ما خرجت به شعوب الإنسانية الحالية، وصار موثّقا في بيانات حقوق الإنسان العالمية. إلاّ أنّ هذا الخبر العالمي لم يطأ أسماع "المسلمين" الأخرويين، ولاسيّما منهم أولئك الذين يهاجمون الله في بيته.
ولو حاولنا أن نفهم "عقلانية" التفجير لوجدنا أنفسنا أمام أسئلة مرعبة أخذ يطرحها الدين على المعاصرين من دون تحضير أخلاقي مناسب. ماذا كان يقصد هؤلاء "المجاهدون" عندما هاجموا الله في بيته؟ هل كان الأمر جهادا ضدّ الله التوحيدي في عقر داره؟ أم من أجل تحرير المؤمنين به من أنفسهم؟ - كان ثمّة دوما تقاليد في القتل المنظّم. مثلا: يوجد مصطلح عسكري فرنسي هو "الجندي الذي يُقتل للعبرة" (soldat fusillé pour l’exemple)، وهو قتل قانوني من أجل إبقاء الجنود الآخرين في حالة الطاعة التامة؛ وهو ليس قائمة على إدانة بالقتل بعد قضية وشهود، الخ.؛ وكان يوجد أيضا مصطلح القتل العشوائي (décimation)، والذي كان يمارسه الرومان على الجنود الجبناء أو الفارين من الجندية، وذلك بقتل واحد من كلّ عشرة جنود مذنبين؛ وتوجد أيضا عمليات الإعدام العلنية، وهي تقليد انسحب من حياة فرنسا مثلا ومنع قانونيّا بعد 1939.
لو استأنسنا بهذه الأمثلة لوجدنا أنّ التفجير "الجهادي" لمسجد الروضة في مصر أو أيّ مسجد إسلامي آخر، هو حالة استثنائية: أوّلا ليس ثمّة في تفجير مسجد مملوء بالمصلّين والمؤمنين أيّ "عبرة" لمن يعتبر. قتل المؤمنين ليس عبرة في أيّ ثقافة. ثمّ لا يمكن أن يدّعي أنّه أمر قانوني. ولا علاقة لذلك بالطاعة بالمعنى العسكري، لأنّ المؤمن العادي ليس جنديّا لأحد. وذلك أنّ فكرة "جيش الله" هي تناقض في الألفاظ أو استعارة سخيفة. ثمّ إنّ تفجير المسجد لا يمكن أن يكون من صنف التعشير الروماني للجنود المذنبين. وذلك على الرغم من الاشتراك في خاصة واحدة هي القتل العشوائي. وهذه العشوائية في القتل هي عنصر جوهري في القتل الجماعي يبدو أنّ الإرهاب قد نشّط نموذجه الأصلي، نعني قتل البدائيين أو "المتوحّشين" بوصفهم كائنات فلانيّة من دون ذوات خاصة ولا هويّات شخصية. وأخيرا، يجدر بنا التنبيه إلى أنّه على الرغم من أنّ تفجير المساجد من طرف "الجهاديين" هو نوع من عمليات الإعدام العلنية فهو ليس عملا عموميّا أو ليس جزءا من أحداث الفضاء العمومي للدولة الحديثة. ثمّة إعدام بارد للأبرياء بوصفهم أهدافا عسكرية، لكنّ الحافز على ذلك ليس الذنب القانوني أو الجريمة الأخلاقية أو الخيانة السياسية، بل فقط الصلاة بوصفها تطبيعاً دينيّا مع الحاكم وإن كان "مسلمًا".
هل ثمّة يأس أخلاقي أخطر على ماهية الانتماء إلى أنفسنا العميقة مثل قتل المصلّين؟ يبدو أنّ الله نفسه لم يعد آمنا في بيته. ولكن كيف يجدر بنا، نحن الآتين من المستقبل، أن نُقنع "المسلمين" بعدم الإسراف في قتل "المؤمنين" من أبناء جلدتهم؟ هل ثمّة برامج توعوية ضد القتل العشوائي؟ وهل يكفي أن نتبرّأ من القاتل حتى نحمي أهل القتيل إذا كانا يبيتان في جسد واحد؟...