ناجية الوريمي بوعجيلة: بنية المؤسّسة الدّينيّة
فئة : حوارات
بنية المؤسّسة الدّينيّة (الجزء الثالث)([1])
حوار ناجية الوريمي بوعجيلة
د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذة ناجية الوريمي، وكنّا قد وصلنا في الجزء الثّاني منه إلى نقطة مركزيّة تناولتها بالبحث في أطروحتها حول "ثنائيّة السّائد والمهمّش في الفكر الإسلامي القديم"، وهي مازالت تطرح نفسها بقوّة خاصّة في مجال الخطاب الدّيني، فهناك خطاب دينيّ سائد يحتلّ المركز، ويحظى بنوع من الشّرعية الاجتماعيّة نظراً للبنية الفكريّة السّائدة، وخطاب دينيّ آخر مهمّش أمام احتكار الخطاب الدّيني السّائد الحديث في الدّين وفي شؤونه. فحتى الأستاذة ناجية الوريمي التي تبحث وتقرأ وتنقّب في مصادر التّراث، ربّما قد لا يكون لها في نظر هذا الخطاب الدّيني السّائد الحق في أن تقتحم هذا المجال. ولعلّنا لم نتحرّر بعد من هذه القيود في إطار المجتمعات العربيّة والإسلاميّة بصورة عامّة، لذلك فنحن لم نمرّ بالتّجربة التي عاشتها أوروبا منذ الإصلاحات الكبرى بداية من القرن السّادس عشر. فهل يمكن الحديث عن بنية في الخطاب الدّيني السّائد اليوم؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: اسمح لي ههنا أن أشير إلى حقيقة طريفة تتعلّق بالصّراع الذي واجهه الطّاهر الحدّاد (1899-1935) إثر صدور كتابه "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع"، فخصومه في ذلك الوقت؛ أي شيوخ الزّيتونة، لم تثرهم أفكاره الإصلاحيّة المتعلّقة بتحسين وضع المرأة، فهو أمر لا يخالف الإسلام ولا يتعارض مع مقاصده، بل أثارتهم جرأة الحدّاد على اقتحام ميدان يعتبرونه ملكاً لهم وحكراً عليهم، ويبنونه على ثوابت هم الذين صنعوها. وقد اقتحم الطّاهر الحدّاد مجال تفسير القرآن وتأويل آياته خاصة منها المتعلّقة بالمرأة، معتمداً آليات غير الآليات التّقليدية وأفكاراً جديدة، ولعلّ ما ذكره حول علاقة النّص القرآني بالتّاريخ في مقدمة كتابه ''امرأتنا في الشّريعة والمجتمع'' يبيّن ذلك، وهو ما جعل شيوخ الزّيتونة التّقليديّين ينتبهون إلى أن قراءة الحدّاد يمكن أن تضرب في العمق الثّوابت التي أرادو بموجبها أن يحتكروا تفسير القرآن.
نأتي الآن إلى الخطاب الدّيني السّائد؛ ففي كل المجتمعات الكتابيّة كان هناك فئة تدّعي أنّها أقدر من غيرها على فهم الدّين وعلى إفهامه للنّاس، وهذه الفئة عموماً تتواضع وتتّفق على جملة من الآليّات التّفسيريّة، وعلى رصيد كامل من الدّلالات التي تنسبها إلى النّص وتعتبرها ثوابت يمنع المساس بها، وهذه الفئة عندما تستمع إلى خطاب مغاير في قراءة الدّين تثور كما ثار شيوخ الزّيتونة على الحدّاد، وأنا لا أقوم هنا بعمليّة مماثلة في مستوى الأطراف، ولكن أنبّه فقط إلى مسألة السّائد والمهمّش؛ كيف أنّ السّائد يريد أن يكرّس قراءات يراها الأصلح لكلّ زمان ومكان، ويعتبر كلّ من يخالف هذه القراءات، إمّا متطفّلاً على هذا المجال وليس أهلاً له أو مخطئاً دون إيضاح أسباب خطأه، أو صاحبَ بدعة، أو في أقصى الحالات كافراً. لذلك، تمّ تكفير الطّاهر الحدّاد ونصر حامد أبو زيد وجماعة كبيرة غيرهما. وهذا أمر يتكرّر دائماً، والمشكلة أنّ هذا الخطاب الدّيني، الذي لا أسمّيه سائداً بل تقليديّاً، لم ينتبه إلى طبيعة المعرفة الحديثة، ففي القديم كانت المجتمعات تفتقر إلى التّعليم والتّنوير وكانت الثّقافة شأناً فئويّاً ونخبويّاً، وكانت نسبة من يحسنون القراءة والكتابة ضئيلةً، في جميع المجتمعات وليس في المجتمع العربي الإسلامي فقط، وقد تغيّر ذلك كلّه فالمجتمع الحديث أضحى متعلّماً وقادراً على أن يقرأ وأن يفهم وأن يستعين بآراء مختلفة وبأصوات كثيرة في فهم ذات النّص أو ذات الظّاهرة. لطالما كان رجال الدّين يستمدّون مشروعيّتهم من جهل النّاس، فممّا سيستمدّونها اليوم؟ لا مجال في نظري اليوم لفئة يمكن أن تُعتبر علماء دين أو رجال دين، فمسألة الخصوصيّة هذه قد ولّى زمانها، والدّين شأن ذاتي، وهو إيمان بين الإنسان وربّه، وهو فرديّ ويتعلّق بحريّة الضّمير التي لسنا في حاجة لأن نضع لها رجال دين ولا حتّى من يسمّون علماء دين. ولكنّ الإشكال ليس في وجود هذه الفئة في حدّ ذاتها، ولكن في أن تجعل نفسها وصيّة على فهم النّص الدّيني، وتجعل قراءتها معياراً لتقييم قراءات الآخرين. فلو كان هؤلاء يقدّمون مقترحاً يتوجّهون به إلى فئات معيّنة من النّاس ماتزال تتأثّر بهم، فهذا من حقّهم، ولكلّ الحقّ في أن يعبّر عمّا يرى وفي ما يعتقد، ولكن عندما ينصّبون أنفسهم حكَماً وهم الخصم، ويمنعون تدخّل أطراف أخرى غيرهم في المجال الدّيني الذي يعتبرونه حكراً عليهم وحدهم، فهذا لا حق لهم فيه بكلّ المعايير. واسمح لي أن أتحدّث هنا عن تجربة الجامعة التّونسيّة التي تزخر بكفاءات قادرة على أن تقرأ النّص الدّيني والتّراث عموماً، مسلّحة بمداخل حديثة في قراءة النّصوص، من شأنها أن تقدّم تمثّلاً للدّين يتماشى تماماً والقيم الإنسانيّة والكونيّة اليوم، ومن بينها قيمة الدّيمقراطية القائمة على الحقّ في الاختلاف وعلى حقّ الجميع في وجود متساوٍ. لم يعد هناك، في هذه الحالة كما ذكرت، مجالاً لأن نضع الدّين وقراءاته بين أيدي فئة معيّنة تتحكّم فيه وفي ضمائر النّاس، كما كانت تفعل في الماضي.
د. نادر الحمامي: نحن نتّفق في هذا، ولكن سؤالي الآن متعدّد الجوانب؛ فهل ترين لدى من يعتبرون أنفسهم ممثّلين للمؤسّسة الدّينية ومتمسّكين بالثّوابت على أسس تقليديّة دون وعي حقيقي بالتّحوّلات التّاريخيّة والاجتماعيّة، بوادر لمراجعة خطابهم القائم على احتكار فهم الدّين أوّلاً، حتى تكون لديهم القدرة على فهم معاني حرّية الضّمير الفردي وحرّية التّديّن وحرّية الاعتقاد؟ وهل يمكن اعتبار أنّ مجتمعاتنا اليوم، إذا نظرنا إليها نظرةً موضوعيّةً، قادرة فعلاً على استيعاب مثل هذه القيم واستبطانها والاقتناع بها؟ أنت تتحدّثين عن دور الجامعة، وهو مهمّ، ولكن الإنتاج الأكاديمي إذا بقي في إطار الجامعة فقط فسيكون نخبويّاً، لذلك نتساءل هل سيساير المجتمع ما يقوله الخطاب الدّيني المحافظ أو التّقليدي، أم أنّه سيتّبع هذه الرّؤى الجديدة والتّاريخية التي تُنتَج أساساً في الجامعات ومراكز البحث؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: دعني أوّلا أعود إلى قضيّة المؤسّسة الدّينية اليوم، وسأقف عند نموذجي الأزهر في مصر والحوزات الدّينية الشّيعية في العراق أساساً؛ فكلّ من هذه المؤسّسات تعيد إنتاج ذات التّصوّر التّقليديّ المذهبيّ، وتعيد إنتاج ظروف الصّدام المذهبي، وأعتقد أنّ المؤسّسات الدّينيّة، إن اقتصر دورها على إعادة إنتاج ما تعتبر أنّه ثوابت المذهب وعلى إعادة إنتاج منطق إقصاء الآخر، فإنّها تعطّل حركة تطوّر المجتمع العربي، إذ تحافظ على شروط الاختلاف المذهبيّ المدمّر. وما يحدث اليوم في المشرق العربي خاصّة من صراعات مذهبيّة حادّة ودمويّة لا يمكن تقبّله بأيّة حال، فنحن في مطلع القرن الحادي والعشرين، وكأنّنا لا نزال في القرن الأوّل أو الثّاني للهجرة. لذلك، فمن حقّنا اليوم أن نضع مدار سؤالٍ الدّور الذي تقوم به المؤسّسة الدّينيّة المتمذهبة أو الواقعة تحت تأثير مذهب بعينه؛ فهذه المؤسّسات لا تزال تقوم بدور تقليديّ وتدميريّ يؤجّج الصّراعات المذهبيّة التي نحاول اليوم أن نستعيض عنها بفكر نقديّ متسامح يعترف بالآخر وينسّب الأمور.
نعلم جميعاً أن المذاهب الإسلاميّة ليست قرآنيّة فهي نتاج تاريخيّ، ولكن مع ذلك لا تزال تتمّتع بقداسة تضاهي قداسة القرآن نفسه أو تفوقُ. وعلى هذا الأساس، فالمؤسّسة الدّينية مؤثّرة وربّما هي أقدر من الجامعة على التّأثير في الرّأي العام الدّيني، فالجامعة اليوم قد تغيّر دورها ولم تعد ذلك البرج العاجي الذي تُتداول فيه مسائل نظريّة بعيدة عن اهتمامات الجمهور كما كانت في التصوّر الكلاسيكي، ثمّ إنّ التّعليم الأكاديميّ في مجال الإنسانيّات قد تطوّر وأصبح يهتمّ أكثر فأكثر بما يهتمّ به النّاس من قضايا، ويدرسها بشكل أكاديميّ معمّق في إطار الجامعة. لكن الحلقة المفقودة ههنا هي أسباب الرّبط بين الثّقافة الأكاديميّة التي تُنتَج في إطار الجامعات وعامّة المثقفيّن، فلا يمكن اليوم أن نتحدّث عن أناس أمّيين، وحتّى وإن وجدوا فهم قلّة، ولذلك فإنّ حلقات الوصل بين المعرفة الأكاديميّة من ناحية، وعموم النّاس والمثقّفين من ناحية ثانية، أمر أساسيّ وأعتقد أنّ ما تقومون به في مثل هذه البرامج يندرج في هذا الاتّجاه، فأنا اليوم وغيري من الجامعيّين لا نتّجه إلى الطّلبة في إطار أكاديميّ مغلق، وإنّما نتّجه إلى كلّ من يريد أن يفهم وأن يسمع سواء قبِل المحتوى أو لم يقبل، ونحن نريد أن نؤسّس مبادئ الحوار وأن ننبّه إلى أن للمسألة أكثر من وجه، وأنّ ادّعاء الحقيقة الواحدة المطلقة التي تندرج ضمنها قراءات الجميع قد ولّى زمانه، ونحن نعمل على تحقيق شروط المعرفة الحديثة، لأنّنا ما لم نلج الحداثة المعرفيّة فسنظلّ نعاني، كما نعاني اليوم، من مشاكل لا حدّ لها، والغريب في الأمر أنّ مصدرها الدّيني العقائديّ لا يقلّ قيمة ولا خطراً عن مصدرها الاجتماعي أو الاقتصادي أو السّياسي؛ فعلاقة المجتمع العربي بالمسألة الدّينيّة إشكاليّة، ونحن نجتهد بما أمكن في أن نحوّل تلك العلاقة من مستوى الإشكال إلى مستوى الرّافد المساعد على التّفهّم ونشر القيم الكونيّة التي لا يمكننا أن نغضّ الطّرف عنها.
د. نادر الحمامي: هذه القيم الكونية التي انتهيتِ إليها تتعارض مع التّمذهب، وقد أشرتِ في حديثك إلى المؤسّسة الدّينية المتمذهبة، فرغم المحاولات التّوفيقيّة أو التّلفيقيّة الرّامية إلى تجاوز المؤسّسة الدّينية المتمذهبة بالتّعالي عن المذاهب كافّة أو التّقريب بينها لم يزد سوى تعميق الإشكال. فما الدّاعي إلى هذا التّقريب، خاصّة أنّنا لا ندعو إلى التّماثل بل إلى التّعدّد في إطار الاختلاف وقبول ذلك الاختلاف، إذن أنت لا تدعين إلى التّقارب أو التّماثل بقدر ما تدعين إلى تجاوزه تماما والقبول بالاختلاف؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: طبعا،ً فأنا أكاد أسمّي مسألة التقريب بين المذاهب خرافةً، فهي في شكلها الحالي ليس لها أفق ولا أيّة نتائج يمكن أن تُحسب، وكم من مؤتمر عقد في هذا الاتّجاه ومع ذلك فالصّراع المذهبي لا يزال حادّاً في أنحاء كثيرة من العالم العربي الإسلامي. وفي نظري، فالطريق الوحيد القادر على تجاوز المسألة المذهبيّة والتّقريب بين المتمذهبين، وليس بين المذاهب، هو التّأكيد على مفهوم المواطنة، والفصل في معيار الانتماء هل هو معيار مذهبيّ دينيّ أم هو معيار مواطنيّ، وإذا كنّا سنحافظ عليه في إطار المعيار المذهبي، فينتسب كلّ منّا إلى مذهب بالقول مثلاً أنا شيعيّ أو أنا سنّي، أو أنا إباضيّ أو أنا ملحد أو أنا مسيحي... فإنّنا لن نتجاوز بؤرة المشاكل التي نتخبّط فيها، ولكن إذا غيّرنا معيار الانتماء الأساسي إلى معيار المواطنة، فيقول كلّ منّا مثلاً أنا تونسي أو أنا عراقي أو أنا سوري أو أنا مغربي بصرف النّظر عن مذهبي، حينذاك يكون معيار المواطنة هو القادر على تذويب هذه الخلافات، وعلى جعلها تتخلّف درجات عن المعيار الأساسي في التقاء الجميع، وهو معيار المواطنة.
ومن المواطنة أمرّ إلى مفهوم الدّولة الحديثة، فما يعمّق الاختلافات المذهبية بين المسلمين هو أن كل جماعة تحاول أن تؤبّد فقهها، وأن تجعل تراثها الفقهي معتمَداً دائماً كما اعتُمد في الماضي، لكنّنا عندما نتحدّث عن الدّولة الحديثة؛ فنحن نتحدّث عن دولة تعتمد قوانين ليس مصدرها المذاهب، وعندما يقول البعض إن قوانين الدّولة مصدرها الشّريعة فهذه مغالطة، لأنّهم في الحقيقة يقصدون أنّ مصدرها المذاهب الفقهيّة. لذلك، فعندما نريد أن نطبّق قاعدة ما في قضيّة من القضايا في إطار الدّولة الحديثة وجب أن نكون فوفق المذهب كلّها، وحتى من داخل المذهب السّنّي أو الشّيعي فالقضية، إمّا أن تكون مرجعيّة الدّولة في تنظيم المجتمع مرجعيّة عقليةً تستجيب لمصلحة المواطنين عموماً ولحركية التّاريخ، أو أن تكون مرجعيّة مذهبيّة، فليس هناك مرجعيّة دينيّة في المطلق، لأنّ كافّة المرجعيّات الدّينية هي مذهبيّة بالأساس. أضف إلى أنّ هناك مجتمعات مواطنوها ينتمون إلى ديانات مختلفة يهوديّة ومسيحيّة وإسلاميّة، والإشكال ههنا كيف يمكن أن نكرّس مفهوم المواطنة في دولة حديثة، ونحن مازلنا متمسّكين بمرجعية مذهبيّة في تنظيم المجتمع. ولذلك، فإنّ هذه الدّعوات "الجميلة" إلى التّقريب بين المذاهب لن تؤتي أكلها، لأنّها تحافظ على أسباب الاختلاف، فأن نلتقي معاً في مؤتمر معيّن ونتبادل التّرحاب والمجاملات، ثم نخرج منه وكلّ منّا معتقد أنّ الآخر مخطئ في قراءته للإسلام، فلن يتغيّر شيء وستتواصل الأمور على هذا الأساس، ولكن عندما نجعل معيار انتماء الإنسان عموماً هو معيار الانتماء إلى الدّولة التي تعتمد القوانين الحديثة، فهذا من شأنه أن يُنتج هويّة مواطنيّة ترتقي فوق الهويّات المذهبيّة الضّيّقة ''القاتلة''؛ فالهويّات المذهبيّة والدّينية الأصوليّة هي هويّات قاتلة، بينما الهويّة المواطنيّة الحديثة هي القادرة على أن تحتوي الجميع باختلافاتهم، وأن تحافظ على تلكك الاختلافات في إطار حريّاتهم الشّخصيّة والدّينيّة والعقديّة.
د. نادر الحمامي: لذلك، فإنّ المؤسّسة الدّينية عادة ما تعارض الحرّيات الكونيّة التي أصبحت قيماً كونيّة باسم مخاتل كثيراً هو "ثوابت الدّين"، في حين أنّ ما يسمّى ثوابت هو في الأصل متعدّد وليس شيئاً واحداً، ودائماً ما نجد معارضات لكلّ الحقوق على أساس أنّها تمسّ من الهويّة التي يسمّونها "الهويّة الإسلاميّة" في حين أنّك تعتبرينها "هويّة مذهبيّة"، ولا يمكن أن تكون جامعة، ولا يمكن أن يتمّ الجمع إلاّ على أساس ما تسمّينه الحقوق المواطنيّة التي لا يمكن أن تكون إلاّ حقوقاً كونيّة، لذلك فالسّمة الأساسيّة للمؤسّسة الدّينيّة في المجتمعات الإسلاميّة هي الهويّات القاتلة كما استلهمتِ من قول أمين معلوف، وهي هويّات مغلقة ينبغي الخروج منها لبناء منظومة قيميّة كونيّة. أظنّ أنّ قراءتك للتّراث في مختلف ما كتبتِ ربّما هدفها هو هذا في نهاية المطاف؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: صحيح، ففي الحقيقة هاجسي المعرفي الأساسي ومشروعي المعرفي، إن جاز لي أن أتحدث عن مشروع معرفي، هو بالأساس تفكيك الأرثوذوكسيات والأصوليّات، لأنّ المجتمع العربي الإسلامي اليوم هو من أكثر المجتمعات التي لا تزال تعيش بعمق المسألة الدّينية التي لا تزال تُطرح بعمق في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة خلافاً للكثير من المجتمعات؛ حتى لو نظرنا إلى المجتمعات الغربيّة المسيحيّة؛ فالمسألة الدّينية هناك ليست بذات الثّقل الذي تُطرح به في مجتمعاتنا، ومع الأسف فتراثنا الدّيني لم يمر بمرحلة نقديّة ومرحلة تشريح قادرة على التّمييز بين ما يمكن أن يكون معرفيّاً مساهماً في تطوّر المجتمع، وما هو إيديولوجيّ ظرفيّ، فلا يزال الأيديولوجي والمعرفي في التّراث مختلطين، فما هو إيديولوجي يُعتبر معرفيّاً إسلاميّاً صميماً وما هو بالفعل يمكن أن يكون إسلاميّاً صميماً يظلّ مغموراً وغير متمتّع بحضور يليق به؛ فالإشكال في نظري هو أن الماضي يعود اليوم بكلّ عنف دون أن يخضع لعمليّة نقديّة تساهم في إنتاج معرفة قادرة على أن تكون معاصرة، وهو يعود أيضاً في شكل شعور بالانتماء، جميل أن يكون للإنسان ماضٍ وقبيح أن نقطع مع هذا الماضي فقط، لأنّه ماضٍ، ولكن علينا أن نفكّر في الجسور التي يجب أن نبنيها في علاقتنا به؛ أي أن نجعل من الماضي دافعاً من دوافع البناء في المستقبل لا أن يكون سبباً للهدم والتّدمير وللإرهاب وغير ذلك. إنّ مشكلتي ليست مع الماضي ولكن مع من ينتصب عقَبةً في طريق المستقبل انطلاقاً من استحضار هذا الماضي وتمثّله، وفي كل ما كتبت تقريباً، كنت أحاول في كلّ مرّة أن أفكّك أرثوّذوكسية ما أو مسلّمة ما تُتمثل على أساس أنّها حقيقة مطلقة، وليس على أساس أنّها اختيار طرف ما في زمن ما وفي مكان ما، وهي قد تكون أدّت دوراً في ذلك الوقت ولكنّها لا يمكن أن تُعتبر بأيّة حال حقيقةً مطلقةً تفترض المطالبة بإعادة إنتاجها وتطبيقها في الزّمن الرّاهن.
د. نادر الحمامي: أنت تحدّثتِ عن عودة الماضي، هذه العودة التي تجثم علينا ونحن نرى الحروب هنا وهناك بفعل القراءة الضيّقة لكل هذا الماضي وتناحر كبير على أساسه، فهل هذه العودة تعبّر عن انسداد أفق؟ وهل من رؤية حتى لا نترك هذا الماضي ولا نقطع معه قطيعة تامّة، كما أكّدتِ على ذلك في الجزء الأول من حوارنا، وحتّى لا يعود إلينا بطمّ طميمه وبكلّ مساوئه كما هو الحال اليوم؟
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: نعم، ربّما علينا "ترشيد" قراءة الماضي، وهذا أمر مهم ينبغي أن ننتبّه إليه، فنحن مجتمع حديث ولكنّنا ككل المجتمعات الكتابيّة نظلّ خاضعين لمسائل عقديّة مهمّة، وأهمّيتها تبدو خاصّة في إيمان فئات عريضة من المجتمع بهذه المسائل، وعندما نحاول أن نفكّك أسباب التّعصّب ورفض التّعايش مع الآخر، باعتباره موازياً لنا في الحق في الوجود، نكون بذلك في الطّريق نحو تأسيس عقائد متسامحة بالمعنى الحديث. فالاعتقاد والعقيدة والدّين بمفهوم عام ليست دوافع للتّعصّب والتّقاتل والتّناحر، وإنّما كيفيّة اعتقادنا وتصوّرنا للآخر المختلف عنّا هي التي تكون وراء هذه الكوارث التي لا نزال نعيش تبعاتها إلى اليوم؛ فالمؤمن الحقيقي أيّاً كان إيمانه هو ذاك الذي يثق بنفسه كما يثق بالآخر، فالآخر له إيمان بطريقته والطّريق إلى الله متعّددة وليست بالضرورة طريقا واحدة، ولا يمكن أن نؤسّس دلالات مفيدة من هذا القبيل ما لم نواصل عمليّة القراءة النّقديّة المنتجة لتراثنا الدّيني. وعلى هذا الأساس، فأنا لست مع أولئك الذين يعتبرون أنّ قضاء الوقت وبذل الجهد في العودة إلى نصوص قديمة جدّاً أمر لا طائل من ورائه، فلا يجب أن نترك هذه النّصوص في أيدي أناس متعصّبين وقادرين على تجييش النّاس بتوظيف ما جاء فيها، وإنّما علينا أن نخوض هذا المجال ليس من أجل الردّ على أولئك، ولكن من أجل تأسيس عمليّة معرفيّة نقديّة ضروريّة لتأسيس حداثة عربيّة اليوم. فما لم نحسم علاقتنا بالماضي وما لم نتخلّص من أسباب الشّدّ إلى الوراء، لن نبني الحداثة؛ وانظر اليوم إلى كافة أنحاء العالم العربي فلن تجد تجربة حديثة بالمعنى التّام خاليةً من المشاكل ذات الطّابع الدّيني، والتي لا نزال إلى اليوم نتخبّط فيها لأنّنا مقصّرون باعتبارنا باحثين وأكاديميّين ومختصّين كلٌّ من مجاله، في القيام بهذه العمليّة النّقديّة التّشريحيّة للتّراث التي تجعله، كما ذكرت وأعيد وسأعيد دائماً، عامل دفع إلى الأمام وليس عامل جذب إلى الوراء.
د. نادر الحمامي: إذن فمواصلة قراءة هذا التّراث أمر ضروري، رغم أنّه صعب، وهو يفتح أمامنا ورشات كبرى، وقد قلتِ إنّنا مازلنا مقصّرين في هذا المجال، وأنت بذلك تفتحين هذه المشاريع الكبرى التي علينا أن نتعاون جميعاً لمواصلتها، وقراءة التّراث لا لمجرّد قراءة الماضي ولكن للنّظر في اتّجاه المستقبل، وقد سمح لنا هذا اللّقاء معك اليوم أن نتناقش في قليل من كثير ممّا يمكن أن نتواصل فيه معك. نجدّد لك شكرنا العميق أستاذة ناجية الوريمي بوعجيلة على قبولك دعوتنا لهذا الحوار، وأنت لم تتركينا دون أن تفتحي لنا أبواباً أخرى، لنتعامل معك دائماً على أسس معرفيّة وأكاديميّة ونقديّة وتشريحيّة وتفكيكيّة، وهذا ما نأمله منك دائماً.
دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: شكراً لك أستاذ نادر، وأرجو لكم دوام التّوفيق.
[1]- حوار لنادر حمامي مع ناجية الوريمي، نشر في مارس 2018 على قناة مؤمنون بلا حدود على يوتيوب، قام بتفريغ الحوار فيصل شلوف.