نظرية التطور وجدل العلم والدين في العالم الإسلامي
فئة : مقالات
نظرية التطور وجدل العلم والدين في العالم الإسلامي[1]
لطالما وضعت نظرية التطور في القائمة السوداء الإسلامية للمذاهب المنحرفة والأفكار الهدامة، وكثيرا ما طبعت الكتب والرسائل في نقدها والتحذير منها، وأصدرت الفتاوى مؤكدة أن القائل بها قد جاء شيئا إدّا وارتكب خطيئة عظيمة تهدد الإيمان؛ بيد أن ذلك لم يحل دون وجود شخصيات فكرية ودينية لم تر حرجا في قبول النظرية، وحاولت إيجاد الوفاق بينها وبين النص القرآني، ومع تنامي الوعي والتفكير العلمي في السنوات الأخيرة وبروز الفكر الإصلاحي ودعوات التجديد؛ عاد سؤال لماذا إلى الواجهة؛ لماذا تحريم نظرية علمية لها أدلتها ومعطياتها؟ ولم الإصرار على معاداة العلم والتفكير العلمي بصفة عامة؟
لقد أصبحت النظرية تحظى بقبول علماء ومثقفين مسلمين لا يترددون في التصريح بأنها حقيقة علمية تقوم على أساس قوي. يؤمن أصحاب هذا الرأي بصحة التطور من الناحية العلمية، ويحتفظون في الوقت ذاته بإيمانهم الديني؛ فالتطور في نظرهم أسلوب الله في خلق الكائنات الحية الذي يشمل الإنسان أيضا بوصفه مخلوقا ينتمي إلى عالم الحيوان. فالتطور هنا تطوير خاضع لتوجيه الخالق، لا يخرج عن الإرادة والتقدير الإلهي، وليس قوة عشوائية عمياء كما تقول وجهات النظر المادية، التطور هنا ليس نفيا للخالقية؛ فلولا العناية الإلهية ما كان التطور ليبلغ التعقيد والإحكام المشاهد في الطبيعة.
فالمسلم التطوري لا يتصور عملية الخلق كما يتصورها المسلم التقليدي الذي يقول بالخلق الدفعي، وهو أن كل كائن حي خلق خلقا مباشرا مستقلا، ومثلما يرى هذا الأخير في النص الديني ما يؤيد معتقده، فإن الأول أيضا يجد فيه ما يكون حجة له. وربما أشعر مصطلح المسلم التطوري بأن الأمر يتعلق بمذهب فكري؛ إلا أن هذا التعبير هو فقط للدلالة على أن هناك من المسلمين من يصدق نظرية التطور، لقد جرت العادة في الكتابات والنقاشات حول النظرية أن يشار إلى المقتنعين بالصحة العلمية للنظرية الذين يعبرون عن أن معتقداتهم الدينية لا تتعارض معها بالتطوريين الإلهيين أو المؤمنين؛ فالذي يؤمن بالجاذبية لا يسمى جاذبيا، ولا الذي يؤمن بالاحترار العالمي يسمى احتراريا.
هذا لا ينفي أن محاولات التوفيق بين الإسلام والنظرية المدفوعة بالحافز الإصلاحي تجعلنا بالفعل أمام اتجاه فكري يحمل شعار التطور والتجديد في مقابل الجمود والتقليد، مستلهما فلسفته من نظرية التطور؛ فإذا كان هذا ناموس الخلق الذي شاء الله أن يخلق الكون والكائنات عن طريقه، فلا بد أنه يسري أيضا على كافة مناحي الحياة الإنسانية، والأحرى أن يُسلك سبيل التطور الذي يتجه نحو الكمال بدل الركون إلى الفكر الثبوتي الذي يبقينا في أطوار النقص الحضاري.
تسعى العديد من الكتابات في تجسير الفجوة بين الدين والعلم بالبحث عن سند قرآني لنظرية التطور، رغم أننا أمام مجالين مختلفين؛ وربما كان البحث عن مخرج تأويلي لتوفيق النص الديني مع النظرية تكريسا لفكرة حاكمية الدين على جميع المجالات، وتأطيره لكافة الدنيويات، كما يمكن أن يشي بالعكس؛ أي إن تأويل النص أحيانا أخرى قد يأتي موافقة ومجاراة للعلم الذي يحتل مركز المتفوق. لكن إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى التأويل الذي يعده الكثيرون وصفة سحرية لحل الإشكاليات؟ فالتأويل بمعنى إسقاط دلالة مختلفة على العبارة القرآنية، أو تمطيط النص ليطال معنى جد مستبعد، والزعم أن النص مليء بالأسرار المكنونة، وأنه قابل لكل معنى، التأويل بهذه المعاني قد لا يخرج عن أحد أمرين: أن يكون سلوكا براجماتيا مع الاقتناع بأن النص لا يقصد المعنى المراد إثباته، أو أسلوبا باطنيا مدفوعا بأفكار عجائبية؛ ومن ثم تكون النتيجة تأويلات فنتازية قد تحقق المتعة الأدبية؛ إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليها في استكناه المعاني الحقيقية للآيات.
وتستخدم آراء أخرى نظرية التطور لنقض فكرة الدين؛ فهي ترى أن مقررات النظرية تناقض بشكل صريح العقائد الدينية في الخلق، وهذا الموقف الذي يوظف العلم الطبيعي في سجالاته الفكرية، ويجعل منه وسيلة لنقد النص الديني الذي يدرس بطرائق أخرى، عادة ما يصطدم بفكرة أن العلم يعضد النص المقدس ويؤكد صحته، وهو موقف التطور الإلهي وبعض الاتجاهات الخلقية، تحاول هذه الاتجاهات أن تواجه "العلمويةَ" بسلاحها، وتستعين بشخصيات علمية وبكتابات ناقدة للتطور كليا أو جزئيا، لكن أطروحاتها عادة ما تنسب إلى اللاعلم، وتوصف بأنها مجرد محاولات للتشويش على العلم؛ لأنها تقتحم عليه المعمل وتخوض في أمور لها شروط الخوض فيها، وبدل أن تقدم البراهين على مذهبها تكتفي بالتشكيك، وتسليط الضوء على الصعوبات التي تواجه النظرية.
وإذا كانت بعض الاتجاهات الدينية ترى وجوب عمل العلم تحت إمرة الدين، فإن العلم لا يسمح بتداخل بينه وبين الديني؛ لأن له منطقه المختلف، العلم منفتح على كل المفاجآت والاحتمالات، ولا يعرف شيئا اسمه الثبات، كما لا يمكن تقييده وتوجيهه وإلا تحول إلى مجرد أداة خادمة، واختل أهم شرط فيه، وقد علمنا التاريخ والواقع أن العلم أي علم إذا خضع للمعتقدات والمذاهب ذهب وضاعت قيمته. وماذا إذا كان في التراث الديني نفسه ما يؤسس لهذا التمييز، مثل الحديث الشهير "أنتم أعلم بأمور دنياكم" فالروايات المختلفة لهذا الحديث تكشف أن النبي محمد لم يأت لتفسير الطبيعة، فهو يختص بالتبليغ عن الله في أمور الغيب والأخلاق والعبادات، وإذا كان له قول في أمر متعلق بالزراعة أو غيرها من أمور الدنيا، فهو رأي لا يصدر عنه من مقام النبوة، فالدين وإن كان يخبر بأن الخالق هو الله، إلا أنه لا يخوض في الجزئيات والتفاصيل؛ مما يعني أن ذلك متروك للخبرة والتجربة الإنسانية.
هذا لا يعني أن العلم بتميزه عن الدين يكون قد طرح كل قيد أخلاقي وعاد أداة في يد الشيطان؛ فإضافة إلى أنه بحياده واستقلاله يحافظ على نزاهته، فإنه يلتزم بالأخلاقيات الكلية؛ فلا يختزل الإنسان ولا يستغله ولا يفعل ما من شأنه الإضرار به أو بالبيئة التي يعيش فيها، وهو في النهاية يبقى مؤطرا بالقوانين والأخلاقيات المجمع عليها. تعد قضية العلم والأخلاق من القضايا الشائكة، ومن الأمثلة التي تساق في هذا الصدد كحجة على ضرورة تديين العلم؛ أن العلم بانفصاله عن الدين أنتج السلاح النووي، لكن الأصح أن يقال إنه بانقياده للمعتقدات والمواقف السياسية أنتج هذا الدمار.
تحظى نظرية التطور بالإجماع العلمي لتوافر الأدلة عليها من علم التشريح المقارن، وعلم الأجنة، والحفريات، وأخيرا علم الجينات الذي يكشف أن التشابه المورفولوجي والسلوكي داخل الفصائل، ينطوي على تشابه كبير على المستوى الجيني، مما يدل على القرابة بين أنواع كل فصيلة، لذا يرى أنصار الخلق التطوري أن لا مناص من التسليم بالنظرية؛ لكنهم يضيفون أن عملية التطور موجهة من لدن الخالق؛ لأن التشابه الجيني بين المخلوقات كما يدل على الأصل المشترك؛ فإنه قد يدل كذلك على التصميم المشترك، ووحدة المصمم الذي خلق من نفس الخامة وبنفس الطريقة، وهذه حجة من يقول بالخلق الخاص أيضا في نفي الأصل المشترك والتطور، يسلم أنصار "التطوير" بالنظرية كذلك؛ لأنهم يرون أن الطفرات المفيدة التي تعد الآلية الأساسية للتطور لا يمكن أن تحدث بشكل عشوائي؛ مما يعني أن تطور الكائنات قد حصل بتدخل إلهي، ولعل أهم اعتراض على هذا الطرح هو أن مفهوم التطور الموجه مفهوم فلسفي؛ فالأمر هنا يتعلق بطرح فكري يقوم على اعتبارات دينية وأخلاقية، لكن أصحابه يصرون على أنه طرح علمي في المقام الثاني. ويُرفض هذا الموقف الوسطي من طرف الخلقويين، والقائلين بعشوائية التطور الذين يؤسسون وجهة نظرهم على آراء فلسفية مناوئة للأديان. فبينما يراه اللادينيون محاولة تلفيقية بائسة، يرى التقليديون أن أصحابه قد لُبس عليهم فصدقوا أن نظرية خرافية كالتطور حقيقة، كما يرون أن القول بالتطور الموجه يناقض صراحة النصوص الثابتة التي تنص بوضوح على الخلق الخاص، ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، إذ يزعمون أن الإيمان بالقرآن وبنظرية التطور لا يجتمعان في القلب.
ويستدعي هذا الموقف نظرية المؤامرة لتفسير "الفتنة العلمية" الحاصلة، فيؤكد أن نشر نظرية التطور جزء من مؤامرة كبرى غايتها إبعاد البشر عن الوحي السماوي، استجابة لأمر الشيطان، واستغلالا للبشر واستدرارا للأموال. ففي نظر بعض المفكرين الإسلاميين، تعد نظرية التطور من النظريات التي استغلها أصحاب "البروتوكولات" لإحكام قبضتهم على العالم. ويكثر الرافضون من الحديث عن محاولة فرض النظرية عن طريق تدريسها وتسخير الآلة الإعلامية الضخمة لترسيخها في العقول، واستبعاد كل من تسول له نفسه معارضتها أو الترويج لما يناقضها، وتكفي هاهنا الإحالة على الشريط الوثائقي "مطرودون Expelled". قد يكون اللجوء إلى نظرية المؤامرة إجابة جاهزة لتبرير الإنكار الدوغمائي للنظرية، فلا يقوم التفكير المؤامراتي على حجج منطقية، بل هو ناتج عن حالة نفسية بارانوية. ومن المعلوم أن الإنكارية القائمة على التفكير البارانوي لا تعرف حدودا، فهناك آراء تنفي كروية الأرض وترى أن صور وكالة ناسا مفبركة، والمبرر بطبيعة الحال هو المؤامرة الرامية إلى صرف الناس عن المعتقدات الدينية، وإغراق العالم في المادية.
من أهم المبررات الفكرية لرفض نظرية داروين القول إنها أدت إلى ظهور أفكار التفوق البيولوجي والعنصرية، واستغلال القوي للضعيف، والإمبريالية، والهيمنة، وخوض الحروب من أجل ذلك؛ لأن البقاء يعتمد على القضاء على الآخر، وعلى الصراع على الموارد والثروات. لكن هذه الأمور كانت موجودة في التاريخ الإنساني قبل أن يصدر داروين "أصل الأنواع"، بل إن الإنسان كثيرا ما سوغ الغزو والرق والاستغلال والهيمنة بمسوغات دينية، فالأمر راجع إلى طبيعة الإنسان بالدرجة الأولى، صحيح أن قراءة فلسفية معينة للتطور من الممكن أن تنتج فكرا عبثيا أنانيا لا أخلاقيا، وينسحب ذلك على أية فكرة أو نظرية، الدين أيضا يمكن أن يقرأ بشكل يؤدي إلى موقف منغلق عدواني.
يقوم الصرح العلمي على أساس الحياد والتجرد، وهذا المبدأ هو روح البحث العلمي الذي لولاه لتحول العلم إلى شيء يشبه الليسنكوية، عندما نتحدث عن العلم فإننا نشير إلى منهج صارم، موضوعي هدفه تفسير الطبيعة موضوعيا، فالعلم ينأى بنفسه عن العقائد الدينية والأيديولوجيات السياسية والاقتصادية، ووجود مزاعم مؤامراتية حول التحيز العلمي، وتسييس العلم وأدلجته؛ لا يعني أن ذلك واقع، فأدوات العلم عالمية، ومجازفة كبيرة أن يعمد العلم إلى تزييف الحقائق. إن العلم لا يهتم بالأبعاد الفلسفية لنظرية التطور؛ فعلاقته بها تنحصر في المعمل، وهو غير مسئول عن الآثار الفكرية التي يمكن أن تنشأ عن تثبيته للنظرية، عادة ما يتم الخلط بين النظرية كعلم وبين المواقف والآراء الفكرية التي تجعل من التطور سيفا لمبارزة الدين؛ وهذا ما يلجئ منتقدي الإلحاد والمادية إلى مهاجمة النظرية في المعمل، والقول بافتقادها للدليل العلمي، وأنها محض ظنون وفبركات. هكذا تؤخذ النظرية العلمية بجريرة آراء فكرية مناوئة للدين.
العلم لا يستهدف الدين بتقريره للتطور؛ بل إنه يفسر تطور أشكال الحياة وتشعبها على الأرض، مثلما يشرح العديد من الظواهر الطبيعية التي يعتبرها المؤمنون حقائق علمية؛ فالعلم يفسر ظاهرة هطول المطر، والمسلم يؤمن أن الله هو الذي ينزل الماء من المزن، وتشرح النظريات الجيولوجية كيفية تكون السلاسل الجبلية والأنهار ولا يجد المسلم تعارضا بين ذلك وبين اعتقاده بأن الله ألقى في الأرض رواسي، وجعل خلالها أنهارا، يبين العلم أن للأمراض أسبابا مادية تتمثل في الممرضات الخارجية والداخلية، ولا يرى المؤمن في ذلك ما يناقض إيمانه بأن المرض ابتلاء من الله. الطيور تحلق في الجو، والفلك تطفو على الماء بقوانين فيزيائية يفصلها العلم، والمسلم الذي يدرس هذه القوانين يعتقد بالموازاة مع ذلك أن الطير ما يمسكهن إلا الرحمن، الذي يجزي الفلك التي تجري في البحر بأمره. الأرض تدور حول الشمس ويوضح العلم كيفية دورانها وسرعته، ومختلف الحسابات المتعلقة بذلك، ويؤمن المسلم أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وأنها تجري لمستقر لها بتقديره الحكيم؛ كما يعتقد المسلم أن الله يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل؛ ولا يعترض على بيان العلم لسبب وجودهما وتعاقبهما.
من الجلي أيضا، أن خلق السماوات والأرض في القرآن مختلف عن السيناريو العلمي لنشوء الكون؛ فالنموذج الكوزمولوجي المعتمد يقول إن الكون بدأ بالتضخم انطلاقا من مفردة صغيرة خلال 13.8 بليون سنة؛ في حين يخبر القرآن بأن كل شيء بدأ بفتق الرتق أو بفصل السماوات عن الأرض، ومع ذلك لا يرى المسلم أي تعارض بين هذه النظرية وبين القرآن؛ بل إن الكثيرين يزعمون وجود تطابق مذهل بينهما مما يدل في نظرهم على الإعجاز العلمي لكتاب الله، فلماذا يختلف الموقف إزاء التطور؟ لعل الجواب أن التطور حافز الكثير من اللادينيين في نقد الأديان، بينما تنفي نظرية الانفجار العظيم فكرة أزلية الكون التي شُغب بها في السابق على الأديان الإبراهيمية التي دافعت ثيولوجيا عن فكرة الخلق من عدم.
قياسا على الأمثلة السابقة يقول القرآن، إن الله جعل من الماء كل شيء حي، ويقوم العلم بدوره في شرح تفاصيل نشوء الحياة على الأرض، ويقول القرآن إن الله خلق الإنسان من طين ونفخ فيه من روحه، وهذا لا يمنع أن يحاول العلم تفسير ظهور الإنسان وترقيه البيولوجي. فكما جاء على لسان الشيخ طنطاوي جوهري الذي وإن قال بالخلق الخاص، ووجه نقدا فكريا شديدا لمذهب داروين في آخر ما كتب، حيث عزا إليه كل فساد، إلا أنه بين مبدأ أساسيا في عملية المصالحة والتوفيق بين العلم والدين بقوله: "واعلم أن خلق آدم وحواء ليس هناك دليل قطعي على كيفيته، والقرآن أتى به مجملا على مقتضى ما تقبله العقول وما تفهمه النفوس، فأما التفصيل فليس ذلك للكتب السماوية، وإنما هذه مقدمات يؤتى بها للمقاصد".
ليس من المفروض أن تتطابق النتائج العلمية مع مضامين النصوص الدينية بالوجه الذي يتحدث عنه المهتمون بالإعجاز العلمي، وبعض التوفيقيين؛ لأن لا ضامن أن كل ما سيكشف عنه المستقبل سيقبل المطابقة الحرفية؛ فالنص الديني مكتمل في حين أن العلم متغير باستمرار، وإلى متى الوثوق بلعبة إعادة فهم الآيات وتأويلها للتوافق مع النظريات العلمية، التي تجعل الدين تابعا للعلم يتقلب بتقلبه، فقد استنفذ البعض الطاقة التأويلية للآيات إلى درجة الشرود عن المنطق بشكل يذكرنا بصنيع الاتجاهات الباطنية. بالمقابل ليس من المنطقي أن يُفرض على العلم أن يبحث عن آدم وحواء؛ أن يثبت العقائد الدينية ويتصرف بأمر رجال الدين أو تُكذَّب نتائجه وترفض مقرراته، فالعلم لا ينطلق من أية خلفية ولا يحتمل أية أجندة. من الحتمي أن العلم سيقوم دائما بدوره لبلوغ هدفه الوحيد وهو الحقيقة المجهولة؛ فهو ينطلق من علامة الاستفهام لا من الأفكار المسبقة، كما أنه لا يسعى إلى إرضاء العقائد أو الإساءة إليها من خلال أبحاثه. ربما كان الخيار الأمثل في التمييز بين الدين والعلم، وعدم جعل أحدهما تابعا للآخر. ومع ذلك لا يعني الإتيان بنتائج مغايرة لما تقوله العقائد إفلاس الدين كما يتصور البعض؛ فالدين يبقى حاضرا في القلوب، لأنه يوفر الاطمئنان والأمل ويقدم الأجوبة عن أسئلة لا يجيب عنها العلم، فالحقيقة العلمية الثابتة في الخارج لا تنفي الحقيقة الدينية الذاتية إذ لكل واحدة مجالها الخاص.
يكمن سبب النزاع والجدل حول هذا الموضوع في أن الخلق في الدين مسألة سمعية؛ فالعقل المحافظ يرى أن الله لم يُشهد أحدا خلق الكون والكائنات، وبناء عليه يظل هذا الأمر سرًّا إلهيا لا يمكن كشفه، والخبر اليقين حول الخلق هو ما علمناه من طريق الوحي، والذي لم يخلق ولم يشهد الخلق محظور عليه أن يقترب من هذه المنطقة. إذا كانت إعادة الخلق من السمعيات التي لا مجال فيها للعقل، فإن بدء الخلق بمعنييه؛ أي ظهور الكائنات الحية ونموها الأمبريولوجي منطقة مشتركة لوقوع ذلك تحت الحس؛ ومن ثم كان من الحتمي أن يمتد إليها البحث الإنساني، إذ بمقدور الإنسان اليوم أن يعرف بعض الأمور التي كانت في الماضي محفوظة للدين، وهي الأمور المتعلقة بالطبيعة، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع نظرية التطور، فإن المشكلة الرئيسة لا تكمن في صحة النظرية من عدمها؛ بل في الرفض الدوغمائي الآلي لكل فكرة غير تقليدية ومحاربتها، باعتبار ذلك من "جبهات الجهاد" المتنوعة، وإلا فالتطور نظرية علمية لها ما لها من أدلة، وبها ما بها من نقائص، ومن حق كل عالم أن يراجعها ويختبر صحتها باعتماد المنهجية العلمية.
[1]- ذوات