نفحات صوفية في فجر الفلسفة
فئة : أبحاث محكمة
نفحات صوفية في فجر الفلسفة
المستخلص
يتوجه هذا البحث نحو العودة إلى تقاليد التأويل الفيزيوقراطي للعالم، الذي تبناه فلاسفة الطبيعة الأوائل، وتقييم نتائجه في ضوء مخرجات التفسير الذي قدمه، من أجل رصد ظرفيته الخاصة التي تحتم عليه الانسجام وشروط عصره الثقافية (عصر المسلمات) وترشده إلى ضرورة الاحتفاظ ببعض خصائص التأويل الديني والدفع به إلى حدوده القصوى، وهو تعديل وظيفة الإله وصورته داخل العالم، من خلال منظور وحداني قائم على فاعلية وحيوية الجوهر الأول. هذا التعديل سرعان ما سيذوب في أعراف التقليد الأكاديمي اللاحق عليه، من خلال منظور إنساني (أخلاقي وسياسي) مبكر يرى في مبادئ السابقين ما يحث على ضرورة تربية الكائن العاقل على استعادة هذه الفاعلية، وما يترتب عليها من قيم وحكم، وإرشاده إلى نشرها بين الناس. والجدير بالملاحظة هنا، أن كلا التقليدين يحرص، في سياقه الخاص، على استعادة أصل إلهي مفقود، سواء داخل العالم الطبيعي (سلطة العناصر الطبيعية)، أو داخل العالم الإنساني (سلطة المثال)، وتأصيل تداعياته على مستوى النظر والعمل.
تمهيد
لم يتصور العقل الفلسفي كما العقل الديني أيضا، كما هو شائع في ماضيهما، إمكانية نشدان الرابط بين التفلسف، كآلية معينة للتفكير أريد لها ولنتائجها الاستقلال عن نماذج الأصل والسلطة والمقدس، والتعبُد، كمسلك عملي يرجى منه التبعية والخضوع لأي نموذج، دون حرج أو تردد، حيث ظل مفهوم العبادة محاصرا خارج دائرة التفلسف في رمزية الخضوع، ومفهوم التفلسف خارج دائرة العبادة في رمزية الحرية/التحرر. ودأبت عادات الفلاسفة واللاهوتيين معا على إطالة أمد هذا الحرج وإبقاء الجذب والنفور بين الرمزيتين معلقا على أوصال الهزيمة أو الانتصار التي قادت أعظم الأزمنة التاريخية التي سميت بالحاسمة، الحاسمة في قدرة من يقدر منهما على بناء ماهية خالصة لكيانه، أي بشكل مستقل عن كيان الآخر، ويفرضها عليه. على هذا النحو، آمنت الفلسفة، شأنها في ذلك شأن اللاهوت، بوجود ماهيتين خالصتين (سلطتين متخاصمتين في شأن القدسية والأصالة)، بحيث يستعصي تسويغ مشروعية الواحدة منهما دون الوقوع في حرج نقد الثانية وإبطال مزاعمها.
ينكشف هذا الحصار العفوي الذي شيدته الميتافيزيقا ضد نفسها (فلسفيا أو لاهوتيا) في الصراع المفتعل على مرّ تاريخها بين قصد الفيلسوف وقصد اللاهوتي، والذي على إثره شيد مفترق الطرق (عند اللاحقين) بين الفلسفة والدين (العلم والإيمان، المنطق والشعور، البرهان والإخبار، التحليل والسرد، الكتابة والكلام، الخاص والعام، العقل والسمع...)[1]، وكان من نتائج هذا المفترق أن تكون الفلسفة من جنس البرهان والدين من جنس الكلام، فلا يكون بعدها للفلسفة إلا حظوة الحكمة وللدين حظوة النبوءة، لكن إلى أي حد يجوز التسليم بمشروعية ما للفلسفة عبر استبعاد جذورها اللاهوتية؟ وهل يمكن تسويغ معقوليتها خارج مشروعية اللاهوتي الكامن فيها؟ هل كانت غايتها فعلا القطع مع الثقافة الدينية السائدة أم تعديلها بما يوافق طبيعتها الخاصة؟ كيف نحكم على العلاقة بينهما؟ ألا يجوز أن تتغير معايير التقييم في الحكم على هذه العلاقة لمصلحة الاستمرار لا القطيعة؟ ألم يكن الفيلسوف يسلك طريق الهداية، فيكون مبشرا بتقليد خاص وفق أدوات خاصة؟ ألا يجوز بالمثل للنبي أن يكون حكيما، فيسلك درب الحكمة في خوض غمار التفسير والبحث في الحقيقة؟ بأيّ معنى ينبغي مسك ماهية الفيلسوف؟ هل من شخصيته الفلسفية وأصولها النظرية المتفردة، أم من مسلكه النبوي الذي تكشفه نتائجها العملية؟
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
[1]- ساهمت الفلسفة منذ فجرها في إثبات تفردها عن علم الكلام وأدواته وتثبيت أدواتها الخاصة، (بيان ذلك الفصل الذي أحدثته بين مسلك الفيلسوف ومسلك اللاهوتي عند الفيزيوقراطيين الأوائل والأكاديميين)، وقد ساهمت في توطين منعطف رمزي يمكن به تأويل ما بقي لدى اللاحقين (الفارابي وابن رشد على الخصوص) من أسباب لتشريع ذلك الفصل (الاختلاف في السبل والأدوات وطبيعة المتلقي) دون المساس بمعقولية المقاصد المشتركة بينهما والتي تصب في إدراك الوحدة الجوهرية للعالم عبر تأمل جزئياته وما ينتج عنها من وحدة النظر للطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية على حد سواء.