نقد الذات السيكولوجية في الرسالة المنطقية الفلسفية لفيتجنشتاين

فئة :  أبحاث محكمة

نقد الذات السيكولوجية في الرسالة المنطقية الفلسفية لفيتجنشتاين

نقد الذات السيكولوجية في الرسالة المنطقية الفلسفية لفيتجنشتاين

الملخص:

يتناول العديد من الباحثين نقد السيكولوجيا عند الفيلسوف النمساوي لودفينج فيتجنشتاين (Ludwing wittgenstein) انطلاقا من مرحلته الثانية التي جرت تسميتها عادة ب "المرحلة السيكولوجية"، غير أن الذي يذهب إليه هذا البحث هو أطروحة مفادها أن هذا النقد يجد أساسه في عمل كان قد بدأه الفيلسوف منذ مرحلة رسالته الفلسفية المنطقية؛ وذلك على شكل نقد للأساس الذي يقوم عليه هذا المعجم برمته، ألا وهو أساس "الذات" (Sujet) أو الأنا.

نعثر في الرسالة على موقف متشكك من الذات، حيث يشرع فيتجنشتاين في نقده لـ "الذات التجريبية"، إلا أن هذا النقد لا ينطبق على الذات الميتافيزيقية أو الفلسفية. هذه الذات السيكولوجية نجدها غائبة عن التجربة؛ لأنها تقع في حدود "التجربة". لذلك، يبدو أن فيتجنشتاين يقترح إعادة تأهيل مفهوم الذاتية، وفي هذا يستبعد الشكوكية التي ترفض أن تنسب إلى الذات أي وجود أو حقيقة، والدوغمائية التي تعطيها حقيقة مطلقة. إن بالذات الفلسفية" بالنسبة إلى فيتجنشتاين هي التعبير الأمثل عن تسوية بين الموقفين معا: فهي ذات لا تنتمي إلى العالم، ومع ذلك فمن خلال تقييد هذا العالم، هي شرك لإمكانية وجوده. إنها ذات لا يمكنها أن تكون موضوعا لعلم النفس، ومع ذلك فهي تظل موضوعا للفلسفة. لذلك، يبدو أنه من خلال إعادة تعريفه لهذه الذات الفلسفية، قد تمكن فيتجنشتاين من إيجاد طريق ثالث بين الميتافيزيقا الديكارتية من جهة، والأطروحات الإقصائية للذات من جهة أخرى.

تقديم:

حسب الصياغة الشهيرة لـ Ebbinghous، فإن السيكولوجيا، بما هي علم، لديها "ماض طويل وتاريخ قصير[1]"؛ ماض طويل لأن التفكير حول العقل البشري ومحاولة تنظيم مبادئه هي أقدم من التفكير الفلسفي ذاته، وهي تجد جذورها حتى فيما يسمى بسيكولوجيا الحس المشترك أو "السيكولوجيا الشعبية"، وتاريخ قصير لأن ولادة السيكولوجيا بما هي شعبة علمية مخصوصة تعود فقط إلى نهاية القرن التاسع عشر. فقد سبق لأرسطو أن عرف السيكولوجيا بوصفها "علم النفس"، ولكنه لم يحدث أي تمييز أو تقسيم بينها وبين البيولوجيا؛ إذ لم تكن لديه، مثلما لدى مفكري القرون الوسطى، علم مفصول عن العقل البشري وخصائصه. فما يفصل الإنسان عن الحيوان هي الإرادة والذكاء، وهما (عنصران غير ماديين)، (وليس الحساسية) التي هي غير ممكنة بدون جسم مادي، مادامت الحيوانات قادرة مثل الإنسان على أن تُحس.

لكنه ابتداءً من رينيه ديكارت René Descartes، فإنه الوعي وليس الذكاء أو العقلانية من سيصبح الطابع الذي من خلاله يتحدد العقلي؛ فالعقل من وجهة نظر ديكارتية هو مجال ما هو مُتاح للاستبطان كما تثبت ذلك دراسته للفكر كامتداد مفصول عن الجسم. ضمّن ديكارت من بين خصائص العقل الحساسية، واستثنى الحيوانات بوصفها لا تمتلك هذه الخاصية؛ لأن كل شكل للحساسية الإنسانية حسب مؤسس الفلسفة الحديثة يتضمن عنصرًا روحيا أكثر من كونه ماديا، والذي هو الوعي، كما أن إعادة توزيع هذه العلاقة بين العقل والجسم جعلت النفس تتموقع ضمن موقع مفصول: "لقد كفت على أن تكون "صورة" وخاصية لجسم لتصبح جوهرا، وصار من الممكن بالتالي دراستها انطلاقا من الجسم؛ أي انطلاقا من الخصائص المتبقية أو المحفوظة في الوعي"[2]. ومن هنا، فإن نطاق الذات أصبح غير مفصول عن الأشياء المادية. وبهذا، يمكن فهم لماذا يعتبر ديكارت مفتتح تاريخ السيكولوجيا؛ وذلك عندما طرح التكوين الثنائي الذي يميز الإنسان: من جهة النفس التي تنعكس من خلال الفكر ويتم تعرفها من خلال الحدس الفكري، ومن جهة أخرى الجسم الذي ينبغي دراسته انطلاقا من مبادئ العلم الطبيعي.

تعد محاولة لودفينغ فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein محاولة جذرية في إعادة ترتيب هذه العلاقة بين النفسي والجسمي، وهو ما كان يفيد تجاوز كل سيكولوجيا أو منزع سيكولوجي لديه؛ أي كل محاولة لإرجاع معنى التعابير اللغوية إلى سيروارت نفسية داخلية محددة بشكل قبلي. لذلك، نؤكد على هذه النقطة الأساسية، وهي أن السيكولوجيا منظور إليها كعلم هي السيكولوجيا التي تأسست على التجربة الداخلية المنظور إليها بوصفها ليست قبلية بشكل خالص، أي السيكولوجيا التجريبية، وهي التي سيكرس لها فيتجنشتاين الجزء الأكبر من أعماله اللاحقة. لكن لن نتطرق إلى هذا النقد، وإنما سنحصره في النقد الذي توجهه الرسالة المنطقية إلى سيكولوجيا مخصوصة، وهي السيكولوجيا الديكارتية أو "سيكولوجيا الحس المشترك"، أو ما يسميه كرستيان وولف Christian Wolff بالسيكولوجيا العقلانية؛ أي تلك السيكولوجيا التي تحاول دراسة خصائص النفس الإنسانية بشكل مستقل عن كل تجربة، أي بشكل قبلي.

استكمالا لما تقدم، فإن المتوخى في هذا الشق هو بيان كيف تصل الرسالة إلى تعويض علم النفس بالنحو؛ وذلك كتتويج لمسارها في تعويض المعجم السيكولوجي بمعجم منطقي، وهو ما يمكن التعبير عنه بنفس المعنى بتعويض الأنا السيكولوجي بالأنا اللغوي؛ إذ يُسيطر على هذين التوجهين معا فكرة ستحكم سائر المشروع الفلسفي اللاحق لفيتجنشتاين، وهو الانتصار لفلسفة إيجابية على حساب علم نفس عقلي؛ أي كتحليل فلسفي موضوع في صورته العامة كوصف. هذا المشروع الذي حكم فيتجنشتاين طيلة مرحلته الثانية الممتدة من المباحث إلى آخر أعماله الفلسفية يجد أساسه في الرسالة؛ وذلك على شكل نقد للأنا السيكولوجي وإقرار بذات أخرى منطقية، أو ما سيعبر عنه لاحقا بالذات التعبيرية. لهذا الغرض، سنعيد في مرحلة أولى التفصيل على نحو أكثر وضوحا في المقتضى الديكارتي الذي تقوم عليه السيكولوجيا العقلانية، وهو المتعلق بالفصل بين النفس والجسم، ثم سنتطرق للنقد الذي تم توجيهه من قبل إيمانويل كانط Emmanuel Kant للسيكولوجيا العقلانية بناء على هذا المرتكز؛ وذلك كتتويج يخدم التأصيل النظري لفكرة نقد الأنا هذه عند فيتجنشتاين. وللكشف لاحقا عن أساس التمايز بين النقد الكانطي ونقد فيتجنشتاين لهذا المفهوم، بالرغم من نقط الالتقاء الشديدة بينهما، والتي غالبا ما تجعل هذا الموضوع مكتنفا بنوع من الخلط والغموض من الناحية النظرية.

قبل ذلك، سنعيد ربط هذا النقد بمشروع الفلسفة التحليلية متمثلا في غوتلوب فريجه Gottlob Frege من جهة وفينومينولوجيا إدموند هوسرل Edmund Husserl من جهة أخرى؛ وذلك تأكيدا على أطروحة حضور الرسالة كامتداد لهدا العمل من خلال فكرة المعنى واستقلالية المنطق بشكل مخصوص؛ لأن الهدم الذي تصل إليه الرسالة للأنا السيكولوجي لا يمكن فهمه إلا كخاتمة لهذا العمل المتمثل في محاولة إقامة صلاحية فلسفية، أو بناء معين للمعنى خارج السيكولوجيا، تتجاوز ليس الأنا الديكارتي فقط، بل مطلبه في اليقين نحو مطلب آخر، وهو مطلب المعنى.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] Pascal engel, philosophie et psychologie, èditions gallimard, paris, 1996, pp 26

[2] Idem, pp27