نقض امتناع الميتا أخلاق
فئة : مقالات
مقدمة:
هنالك خمس حالات قادمة من خمس رؤى فلسفية يمتنع معها التسليم بإمكانية أية نظرية تأسيسية في الأخلاق، ولا يمكن إثبات أية نظرية أخلاقية قائمة بالفعل أو تأسيس جديدة دون نقض هذه الحالات الخمس، فإن هذا البحث سيتصدر لنقض بعض تلك الرؤى على أمل التمهيد لإثبات نظرية تأسيسية ما.
وإذا كنا هنا بصدد السؤال المعرفي في الميتا أخلاق، فإنه بمحاولة نقض النظريات التي تمنع في جوهرها قيام نظرية تأسيسية في الأخلاق، نكون قد أنجزنا شوطًا لنقض امتناع الميتا أخلاق، وسنكون مصحوبين بمنهجية بحثية تقوم على:
المنهج التحليلي: لتحليل الخطاب الذي تقدمه هذه الفلسفات وتبيان ممانعتها لتأسيس نظرية في الأخلاق
المنهج النقدي: لنقد هذه الممانعة، وبانتهاء البحث سنكون قد أنجزنا نقد نصف هذه الممانعة التي تحدثنا عنها على أمل استكمال المشوار في أبحاث قادمة.
إذا انتفت حرية الإرادة بشكل لا يقبل النقاش عن الناس، فإن أية محاولة لمطالبتهم بالالتزام بمنظومة أخلاقية تصبح باطلة
الرؤية التفكيكية: لتبيان سيطرة شبح الرؤية الكلية على ابن عربي خلال محاولته التبرير لإنشائه مذهبًا أخلاقيًا.
وأخيرًا يمكن وصف هذا المبحث باعتباره داخلًا في حقل فلسفة المعرفة، وحقل الميتا أخلاق بطرحه السؤال المعرفي المتعلق بإمكانية الأخلاق أصلًا.
1- الحالات الخمس:
هنالك سببان في امتناع تأسيس نظرية في الأخلاق مع هذه الرؤى؛ أولًا: لما في بعضها بشكل واضح أو مستتر من نفي لمبدأ الحرية الإنسانية، ونحن نعلم أنه إذا انتفت حرية الإرادة بشكل لا يقبل النقاش عن الناس، فإن أية محاولة لمطالبتهم بالالتزام بمنظومة أخلاقية تصبح باطلة، فالفعل الأخلاقي لا يُطلب إلا من شخص يمتلك الحرية على رفضه أو القبول به، وثانيهما: لما في بعضها من نفي لمبدأ الشر عن العالم بشكل جلي أو متواري، وفي هذه الحالة أيضًا يفقد أي فعل أخلاقي قيمته وماهيته، على اعتبار أن الأفعال الأخلاقية موجهة في الأساس للتصدي لما يمكنُ وصفه بالشر، محاولة منع حدوثه، أو حتى التقليل من حدته.
هذه الحالات الخمس على نحو مجمل ستكون أولاها: بعض الاتجاهات الماركسية التي تؤمن بالحتمية التاريخية[1]، ثانيها: الجدل الهيجلي لما فيه من صيرورة تاريخية يحكمها ويقف عند نهايتها الروح المطلق[2]، ففي الأولى تنتفي الحرية الإنسانية قبل الصيرورة وينتفي الشر عن العالم بعد تحقق المجتمع المشاعي، ويصبح الفعل الأخلاقي الوحيد هو فعل التحرر من الرأسمالية، وفي الثانية يتحول أي فعل أو ماهية شريرة إلى حالة من الخير الأسمى والارتقاء التاريخي نتيجة دخوله في حالة من الجدل مع بقية المتناقضات انتهاءً باكتمال التاريخ في الروح المطلق؛ أي أن أي فعل شرير يتحول إلى عكسه في النهاية مما يفقد الشر ماهيته، أما ثالث هذه الحالات فهي وحدة الوجود لدى سبينوزا، والتي يمتنع معها مبدأ الحرية الإنسانية تمامًا على اعتبار أن الإنسان مجبر بالكلية من قبل قوانين الطبيعة، ولا وجود لمبدئي الخير والشر، حيث لا يوجد سوى قانون الطبيعة، والقانون كما نعلم لا هو خيِّر ولا شرير، أما الحالة الرابعة فنجدها في الفلسفة الحلولية ووحدة الوجود لدى ابن عربي نموذجًا، وفي هذه الحالة أيضًا يذوب الشر الجزئي في الخير المطلق الحال في الموجودات ليتحول في النهاية إلى خير، أو العكس الصحيح، وحين يفقد الشر ماهيته تنتفي القيمة والأهمية لكل ما يمكن أن نسميه فعلًا أخلاقيًا، فما قيمة المنظومة الأخلاقية إذا انتفي وجود الشر عن العالم؟ أما الحالة الأخيرة، فنجدها لدى علم الأعصاب وعلم نفس الأعصاب، وفيها نفي لأية احتمالية وجود حرية إنسانية، حيث يكون الإنسان مسيّرًا في كافة أفعاله وسلوكياته من قبل الجينات التي تتحكم في الأعصاب، على اعتبار أن الأعصاب هي البنية المادية الحقيقية للعقل والنفس معًا.
ماذا لو قمنا من خلال ضربة واحدة بنقض السبب الثاني الذي يمنع إمكانية تأسيس نظرية في الأخلاق، والذي تشترك فيه ثلاث من هذه الرؤى السالفة الذكر، وهو: نفي الشر عن العالم، ربما تبدو كضربة حظ لكن وعلى العكس التام من ذلك سنكون مصحوبين بالبرهان الذي لا يقبل الشك تمهيدًا لا لنقض هذه الرؤى، بل لنقض نصف الممانعة الداخلية التي فيها مع تأسيس نظرية في الأخلاق.
2- مبدأ الشر الكلي:
يبدو أننا إذا تأملنا السبب الرئيس الذي ينفي وجود الشر عن العالم، سواء في حالة صراع المتناقضات المحكوم بالروح المطلق لدى هيجل، أو في حالتي الحلول ووحدة الوجود لدى سبينوزا وابن عربي، سنجد أن جل هذه الرؤى تشترك في شيء واحد، هو كالآتي: لابد أن يكون أن الشر كليًا حتى يمكن اعتباره شرّا، في هذه الحالة يصبح الشر الجزئي في حالة من انعدام الوجود كونه تحول إلى حالة من الصيرورة الدائمة، هذا بالنسبة إلى هيجل أو ابن عربي، وبالنسبة إلى هذا الأخير، فإنه حلول الإله الذي يتحول فيه ماهيته كل شر إلى كل خير مطلق، أو ينتفي وجود أي شر جزئي أصلًا كون هذا الإله هو الوحيد الموجود أنطولوجيا وكل ما في الكون هو مجرد أعراض له، أما بالنسبة إلى سبينوزا يصبح الشر الجزئي عالقًا في القانون الكلي الذي هو قانون الطبيعة، وبالتالي يفقد هذا الشر ماهيته أيضًا نتيجة لأن الكلي في حد ذاته لا يمكن توصيفه بالشر أو بالخير على حد سواء، يبدو أن لبّ المشكلة يكمن في التأكيد المضمر على ضرورة أن تتصف الأفعال الأخلاقية بصفة الكلية حتى تكون المنظومة الأخلاقية كلية ومطلقة وثابتة أيضًا، وبالتالي لابد أن يكون الشر الذي يتصدى له الفعل الأخلاقي الكلي كليًا وثابتًا.
المطلق عند هيجل:
ستكون هذه الرؤى الثلاث الخاصة بهيجل وسبينوزا وابن عربي ممتنعة عن تأسيس أية نظرية أخلاقية، طالما أنها تنظر إلى الشر بأنه لابد وأن يكون كلّيًا حتى يصبح شرّا، وإلى الفعل الأخلاقي بأنه لابد وأن يكون كلّيًا حتى يصبح فعلًا أخلاقيًا، ولا يفوتنا الدليل من داخل فلسفات هؤلاء من أجل اعتماد هذا التوصيف، فهيجل نفسه كان يرى إلى نابليون بونابرت (الحامل للشر الجزئي) تمثلًا من تمثلات الروح المطلق، أو "روح العالم الجامح"[3] على اعتبار أن هذا الشر الجزئي لن يكون ذا بال إذا ما قورن بالخير المطلق حال دخوله إلى صيرورة الجدل، ولذلك لن يتورع هيجل عن خلع الفضيلة على نابليون نفسه بكل جرائمه التاريخية، على اعتبار أن هذه الجرائم هي التي ستدفع جدلية التاريخ إلى الخير المطلق في نهاية المطاف.
الذات الإلهية عند ابن عربي:
المعضلة لدى ابن عربي بالذات وما يجعل نقد ممانعة نظريته لتأسيس مذهب في الأخلاق صعبًا، هو قيامه بتأسيس مذهب في الأخلاق على أساس رؤية صوفية؛ أي أن ابن عربي ظاهريًا لا يعارض هذه الفكرة أصلًا -ولا يهمنا في هذا المعرض ما يبدو من ظاهر الفلسفة الأكبرية أو الفلسفات الحلولية عمومًا بل ما ينتج عن جوهرها- وبالرغم من ذلك ستكون هذه الصعوبة بالذات هي مصدر برهاننا على أن السبب الرئيس في تلك الممانعة هو قيام فلسفته على فكرة الفعل الأخلاقي الكلي وفكرة الشر الكلي (تمهيدًا لنقض تلك الفكرة أصلًا) ، من خلال تتبع الآليات التي استخدمها ابن عربي ليتخطى هذه الممانعة الأصيلة في نظريته، حتى يتمكن من تأسيس مذهب في الأخلاق، وهو من خلال العودة خطوة للخلف، فلما رأى أن اعتماده فكرة أن الشر لابد أن يكون كليًا حتى يوصف باعتباره شرّا يعني فساد مذهبه الأخلاقي، قام بتحويل المسؤولية الأخلاقية على الإنسان مرة أخرى من خلال آلية كلامية قديمة تدور حول الجدال على صفة العلم الإلهي المسبق، ثم بتحليل خطابه عن الشر والوجود والعدم سوف يثبت لنا سيطرة هذه الفكرة على مخيلة ابن عربي منذ البداية.
يقول ابن عربي في الفتوحات المكية "الخير في الوجود والشر في العدم"[4] فمن خلال خلع صفة الشر على انعدام الوجود وحده، يحاول ابن عربي خلع صفة الشر عن الذات الإلهية "ولأن لا موجود على الحقيقة إلا الله"، "وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني، فإنه فيه انفتحت صور العالم أعلاه وأسفله"[5] من خلال اعتبار أن الذات الإلهية هي الموجود الوحيد، وأن كافة المخلوقات التي نراها، باعتبارها موجودا هي مجرد أعراض لهذه الذات، وهو ما يعني أن الفاعلين في مجال الأخلاق بأفعالهم غير موجودين بالأساس فما هم إلا مجرد أعراض، وشرورهم الجزئية لا يمكن وصفها باعتبارها شرورًا، وبالتالي حتى يمكن وصف شيء ما بأنه شرير، فلابد أن يكون موجودا وجودًا حقيقيًا، بمعنى آخر "كائنًا كليًا".
السبب الجوهري والمخفي في ممانعة رؤية ابن عربي لتأسيس نظرية في الأخلاق هو عدم اعتدادها في جوهرها بالشر
بالإضافة إلى تحليل خطاب ابن عربي، فإن تحليل الآلية التي حاول من خلالها الخروج من هذه الأزمة ستكون مفيدة أيضًا، فلكي يبرر قيام مذهب أخلاقي على فلسفة تمانع ذلك، يقوم باللجوء إلى الجدال الكلامي القديم حول مبدأ العلم الإلهي المسبق، وهو يدفع في هذا الشأن بعدم تعارض العلم الإلهي المسبق بالأفعال البشرية المستقبلية مع مبدأ الحرية الإنسانية، على اعتبار أنه علم بالمعلوم[6]؛ أي أن الله يعلم بالطبيعة التي تحكم البشر "المعلوم" ومن ثم فإنه يعلم بدقة كيف ستتصرف هذه المعلومات في المستقبل، وعلى الرغم من أن ابن عربي يقع في التناقض مرة بنفي الحرية الإنسانية من خلال وصف الكائنات الإنسانية وأفعالها، باعتبارها مجرد أعراض للجوهر ومرة أخرى بإثبات الحرية الإنسانية، وعلى الرغم من أن الدليل الأخير لم يكن كافيًا لحل المعضلة، إلا أن ما يهم هنا هو أن تلك الآلية التي استخدمها ابن عربي للخروج من الأزمة ليست إلا دليلًا على اعتماده مبدأ "الأخلاق الكلية والشر الكلي" منذ البداية بدليل أنه لكي يحل المعضلة أتى بالمبدأ الضد من فلسفة الكليات التي رسخها منذ البداية، وهو العودة للجزئيات (مسئولية الجزئيات عن أفعالهم)؛ أي أن شبح الكليات كان يسيطر عليه، وهو يتحدث عن الشر والوجود، وكان يسيطر عليه أيضًا، وهو يقول بنتائج على الشاطيء الآخر من تلك المتأتية عن فلسفته في الشر والوجود، ونحن نعلم أن الشيء وضده وجهان لعملة واحدة؛ أي ناتجان عن نفس الفكرة، أو نفس الدافع الذهني والنفسي.
خلاصة القول هو أن السبب الجوهري والمخفي في ممانعة رؤية ابن عربي لتأسيس نظرية في الأخلاق هو عدم اعتدادها في جوهرها بالشر، باعتباره شرّا إلا إذا كان كلّيًّا، والسبب في استفاضتنا في الحديث عن ابن عربي ليس إلا لكون أفكاره هنا مرآة عاكسة ومعبرة عن كافة الفلسفات الحلولية الأخرى.
إله سبينوزا:
أما في حالة سبينوزا، فالأمر لا يحتاج إلى محاولة إثبات، فهو بنفسه ينفي إمكانية الفعل الأخلاقي ولا يعترف إلا بنوع واحد من الأخلاق الذي هو أخلاق الضرورة؛ أي الخضوع لقانون الطبيعة كامل الخضوع، وبصرف النظر عن التناقض الذي يكمن في وصف الفعل الأخلاقي (المفترض أنه حر كي يكون أخلاقيًا) بالضرورة، إلا أنه حين يلجأ لاعتماد توصيف واحد للأخلاق، فإنه يذهب إلى الكلي لا للجزئي، وكذلك -نتيجة لبرهان سبينوزا- لا يكون الفعل الضار شريرًا طالما أن الكلي (قانون الطبيعة) ليس شريرًا[7].
خلاصة القول هو أنه وجب علينا أولًا إثبات أن هذه الرؤى الثلاث تتفق بشكل معلن أو مستتر حول أن الشر لابد وأن يكون كلّيًا، حتى يمكن الاعتراف بوجوده، وأن الفعل الأخلاقي الذي يتصدى للشر ينبغي أن يكون كلّيًا بالتبعية، لزم علينا هذا الأمر حتى لا يتم اتهام برهاننا باختلاق المشكلة من أجل تبرير علاجها، ولذلك سنكون جاهزين الآن لنقض هذه الفكرة بأريحية شديدة.
3- نحو نقض نصف الممانعة:
علينا أولًا أن نلجأ إلى السؤال الأصلي عن ماهية الشر الذي يمكن اعتباره شرّا، وبالتالي عن ماهية الفعل الأخلاقي الذي يمكن اعتباره فضيلة، ولذلك سنكون أمام قضيتين منفصلتين من حيث المبدأ لكنهما مرتبطتان من حيث النتائج.
نحن في جميع الأحوال كائنات إنسانية لدينا موهبة فطرية في الشعور بالألم واللذة، والنفس البشرية بشكل طبيعي وقبل أي برهان فلسفي أو منطقي تلجأ إلى وصف ما يسبب الألم أو ينتقص من اللذة بالشر، وما يمنع الألم أو يستجلب اللذة بالخير، بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة فنفس الفعل الذي يمكن أن يمنع الألم عن النفس يمكن أن يتسبب فيه للآخر في نفس الوقت، وما يحول بين تحقق الألم في مجموعة أو قبيلة أو طائفة أو أمة يمكن أن يوقعه على الأخرى في ذات اللحظة، وكذلك إذا قمنا بفعل من شأنه أن يستجلب اللذة لفرد أو مجموعة، سنكون معرضين لانتقاصها من أفراد أو مجموعات أُخرى أو حتى لإنزال الألم عليهم، ونفس هذه الأسباب هي التي دفعت فلسفة الأخلاق في مسارها الطويل في أغلب الأحيان إلى استبدال مفهومي اللذة والألم الجزئيين بلذة وألم كليين؛ أي استبدال الخير والشر الجزئيين بخير وشر كليين لا يتعلقان بالأفراد مثلما يتعلقان بالمطلق الكلي الذي يمكن أن يكون إلهًا، روحًا كلية، صيرورة تاريخية، أو حتى قانون الطبيعة، فماذا يمكن أن نفعل حيال هذه المفارقة التي يبدو أنها بلا حل.
فلكي نعتمد مفهوم الشر الجزئي، باعتباره شرًا سنكون معرضين لتعريض الآخرين للشر أيضًا، ولكي نعتمد مفهوم الشر والخير الكليين، باعتبارهما الخير والشر الوحيدين، سنكون معرضين لتعريض أنفسنا والآخرين لأنواع شتى من الشر الجزئي، فضلًا عن أنه في هذه الحالة الأخيرة بالذات ستمتنع في الغالب إمكانية تأسيس نظرية أخلاقية بسبب أن الكلي عصي على الفهم من جانب، فيصعب تحديد ما هو بالضبط وبشكل عملي خيره وشره، ومن جانب آخر ستكون الكائنات الإنسانية مسيرة لخدمة الخير والشر المطلقين دون أدنى حرية أو فهم عملي لماهية الكليات.
للخروج من هذه المفارقة، لا يبقى أمامنا سوى اللجوء لحقيقة واحدة لا تقبل الشك وهو أنه لا يوجد على هذه الأرض فعل أخلاقي كلي، فضلًا عن أنه لا يوجد من الأساس فعل أخلاقي خالص، بيد أنه يلزمنا أولًا التدليل على هاتين الحقيقتين وإلا سنكون في موضع المجازفة بكل شيء، وثانيًا وهو الأمر الأخطر: أية نظرية في الأخلاق ينبغي أن تقوم على توصيف مبدئي للفعل الأخلاقي، باعتباره هجينا غير خالص من أضداده، ولا يكون قابلًا للتحقق دون أن يحوي بداخله الخير والشر جنبًا إلى جنب.
في هذا العالم الذي يقوم على محدودية في الموارد ووفرة في الأفراد، فإن أشد الأفعال بساطة واتفاقًا بين الجميع على اعتبارها أفعالًا أخلاقية ستصبح حاوية على شيء من اللاأخلاق بداخلها، أصغر الأشياء كرغيف الخبز الذي أقوم بقضمه صباحًا لإشباع جوعي، رغيف الخبز الذي حصلت عليه من عرق جبيني. الأمر الذي لا يختلف عليه اثنان، وهو أن يأكل المرء من ثمرة تعبه يعد فعلًا أخلاقيًا، إلا أن نفس هذا الفعل الأخلاقي -ونحن نؤكد على ذلك أيضًا- يحوي بداخله شيئًا من رائحة اللاأخلاقي، فوصول هذا الرغيف إلى يدي لا يعني سوى أمر واحد، وهو أنه تم اقتطاعه من يد شخص آخر في مكانٍ لا أعلمه، هذا الشخص ربما يكون قد عمل وتعب ولكنه لم يحصل على الرغيف، أو لم تتوفر لديه الظروف الموضوعية التي تجعله قادرًا على العمل أصلًا، هذا الأمر لا يعني أن يتوقف المرء عن قضم خبزه كي يكون أخلاقيًا وصاحب فضيلة، لكن أن ينتبه جيدًا إلى أن هذا العالم الذي نحيا فيه كمخلوقات محكومين بقوانين وظروف موضوعية لا مجال فيه لأية فضيلة خالصة أو فعل أخلاقي نقي، والفضيلة الحقيقة هي تلك التي تحتوي بداخلها على القليل من ضدها، وما عدا ذلك فهو فضيلة متخيلة وغير موجودة بالأساس.
في واحدة من أبسط الغرائز وأكثرها جوهرية كغريزة الجنس، حيث يقوم الإنسان بتقديم جسده كمصدر للمتعة لشريكه الجنسي، إذا كنا بصدد مؤسسة اعتبارية كمؤسسة الحب أو الزواج وبصدد اعتماد تقديم اللذة كفعل أخلاقي وفضيلة، وهو أمر لا يقبل الشك، فتقديم الإنسان جسده أي أهم ما يملك لخدمة متعة شخص آخر لابد وأن يكون فعلًا أخلاقيًا، وتبادل المنفعة في هذه الحالة لا ينفي تبادل الأفعال الأخلاقية، لكن وعلى الجانب الآخر في مقابل هذه الفضيلة يقوم نفس الشخص الذي يمنح جسده بتقييد جسد الآخر والتحكم في سلوكه لا على الفراش فحسب، بل وفي الشارع أيضًا، وهو ما يعني تقييد اللذة التي يمكن للآخر الحصول عليها لو لم يكن ركنًا في هذه المؤسسة، هذا التقييد نفسه الذي لا يمكن إلا أن يكون شيئًا من اللافضيلة لكنه مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بفعل الفضيلة الأكبر منه الذي هو فعل الحب والزواج، ولا يمكن للفضيلة هنا أن تحدث دون مصاحبتها باللافضيلة الداخلة في تكوينها.
ستكون أول خطوة في برهاننا كالتالي: لا يمكن تصور أي فعل خال من تحقيق اللذة والألم في نفس الوقت، ونفس الفعل الذي سأقوم به لتحقيق اللذة لشخص ما سيتسبب في إلحاق الأذى أو الانتقاص من لذة شخص آخر.
الخطوة الثانية: نحن كائنات إنسانية، لا يمكننا أن نفهم أية لذة أو أي ألم خارج نطاق جهازنا الشعوري الذي تمت برمجته على نحو محدد وسابق على الوجود الفردي لأي منا.[8]
الخطوة الثالثة: كي نفهم لماذا لجأت الفلسفة في مشورارها إلى الاستعانة بالكليات في مجال الأخلاق، علينا أن نعود للخطوة الأولى في البرهان وهو الصعوبة البالغة التي تكتنف تحديد ما هو خير وما هو شر في مجال حياتنا اليومية، ومن أجل ذلك تم اختراع براهين عدة انتهت بالفلسفة في طريق تجاهل كل ما هو يومي (لصعوبة تحديده) واستبداله بما هو كلي.
إذا كان ذلك كذلك، فإنه لا يكون أمامنا في مجال الأخلاق إلا واحد من طريقين، الأول هو أن نطلب من المطلق أن يفسر لنا أفعالنا الأخلاقية وتقييم ما هو شرير وما هو خير طالما سنختلف في كل مرة على تحديد ماهية الشر الجزئي (باعتبار أن كل خير جزئي يتحقق لشخص يحوي بداخله شرًا جزئيًا تجاه شخص آخر) والفلاسفة، حينما كانوا يلجؤون إلى طريق المطلق في مجال الأخلاق لم يفعلوا ذلك إلا لسبب واحد، وهو الصعوبة البالغة التي تكتنف تحديد الشر من الخير في حالاتهم الأرضية الواقعية، لكن بمضينا قدمًا في هذا الطريق -أي طريق الكلي- سنصل إلى شارع مسدود، نتيجة لعدم إمكانية نفي أو إثبات هذا المطلق في حد ذاته، وثانيًا: لاستحالة تحديد كيف يكون هذا الشر أو الخير الذي يرضي هذا المطلق تحديدًا منطلقًا من الأدلة المادية والبرهانية، وذلك النوع من الأدلة هو الوحيد الذي يستطيع العقل البشري فهمه والتعاطي معه.[9]
أما الطريق الثاني، فهو الخروج من نطاق الكليات إلى نطاق الظاهريات، فطبقًا للخطوة الثانية في برهاننا، فإننا لا نستطيع أن نفهم أو نشعر بالألم أو اللذة إلا في نطاق ما فطرت عقولنا ومشاعرنا عليه، بمعنى آخر أن أية لذة (خير) وأي ألم (شر) بالنسبة إلى أي إنسان في أية مرحلة تاريخية، لا يمكن فهمهما إلا من خلال الإنسان نفسه، ومن خلال فهم طريقته في الشعور، لا من خارجه (أي من مجال الكليات)، وإذا كان مشوار الفلسفة قد اعتمد الاستعانة بالكليات من أجل فهم الخير والشر نتيجة للصعوبة البالغة التي تكتنف تحديدهما بأشكالهما الأرضية الجزئية، فإنهم بذلك كانوا يضحون بطريق صعب للغاية من أجل الحصول على طريق من المستحيل استكماله.
الخطوة الرابعة: إذا كان مجال الظاهريات الذي يستوجب تحديد الخير والشر طبقًا لما يشعر به الإنسان لا طبقًا لما تستوجبه الكليات يستتبع عنه نوع من الصعوبة البالغة، فعلينا أن نثبت أن هذا الأمر ما هو إلا مجرد صعوبة لا استحالة، ولا يتأتى ذلك إلا بالرجوع للحقيقة الدامغة التي تحتويها الخطوة الأولى في برهاننا، وهي التي بحد ذاتها تحول من وجهة نظرنا تجاه ما هو شر وما هو فعل أخلاقي، ونحن حين نعترف أن الفضيلة جزئية لا كلية، وأنها ليست خالصة أبدًا ولابد من احتوائها على شر آخر جزئي داخل فيها، سنكون بإزاء نظرية في الأخلاق مغايرة تمامًا لتلك النظريات القائمة على الكليات، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ستجعلنا هذه النظرة التي لا تنظر إلى الأفعال البشرية، باعتبارها أفعالًا خالصة لا يشوبها شائبة من نقيضاتها في مهمة أسهل.
إذا اعتمدنا هذه النظرة سيكون الطريق إلى تحديد ما هو شر جزئي (أرضي) وما هو خير جزئي (أرضي) وما هو فعل أخلاقي إنساني (جزئي وأرضي بالضرورة) ممكن التحقق، بخلاف الطريقة المستحيلة التحقق في حالة الكليات، والدليل على ذلك هو أننا إذا اعتمدنا هذه النظرة لن نكون في حاجة سوى إلى تحديد النسبة التي ستجعل الفضيلة فضيلة؛ أي نسبة اللذة أوتخفيف الألم التي ستجعل الفعل الأخلاقي أخلاقيًا مقارنة بالنسبة إلى الأصغر التي يحتويها نفس الفعل من تحقق الألم وانتقاص اللذة، وكذلك إلى تفعيل مبدأ الوعي بالضرورة[10].
الخلاصة:
بهذا البرهان، سنكون قد أتممنا أمرين مهمين للغاية؛ أولهما الوصول إلى نظرة مغايرة ومؤسسة على الأدلة لما هو الفعل الأخلاقي بالضبط، وثانيهما: التحقق من وجود الشر في العالم بما يهدم امتناع الرؤى الثلاث الخاصة بهيجل، سبينوزا وابن عربي، وهو ما يعني أننا قطعنا خطوة في سبيل إثبات إمكانية تحقق نظرية تأسيسية في الأخلاق.
يتبقى لدينا نقض الممانعة التي في رؤية الحتمية التاريخية التي تتضلع بها بعض الاتجاهات الماركسية، وثانيًا: إثبات وجود الحرية الإنسانية على عكس ما في معظم الحالات الخمس سالفة الذكر خصوصًا تلك الحالة القادمة من مجال علم الأعصاب وعلم نفس الأعصاب، وهو ما لا يتسع له المجال الآن.
[1] ماركس، كارل- إنجلز، فريدريك: البيان الشييوعي، تقديم سلامة كيلة، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة 2014، ط1: 53، 93
هاو، آلان: النظرية النقدية، ترجمة ثائر ديب، المركز القومي للترجمة، القاهرة ط1: 43-46
[2] رويس، جوازايا: محاضرات في المثالية الألمانية، ترجمة أحمد الأنصاري، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2003، ط1: 145- 163
[3] رويس، جوازايا: محاضرات في المثالية الألمانية، ترجمة أحمد الأنصاري، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2003، ط1: 78
[4] ابن عربي: الفتوحات المكية، ج2: 47
[5] ابن عربي: فصوص الحكم، الفص 27 (المحمدي)، ج1: 219
[6] الإدريسي، محمد العدلوني: ابن عربي ومذهبه الصوفي الفلسفي، دار الثقافة، الدار البيضاء 2004: 72
[7] قاسم، شعيب: وحدة الوجود لدى سبينوزا (ميتافيزيقا اللا ميتافيزيقا..الإله والطبيعة والإنسان)، مؤمنون بلا حدود، 2015: 1-17
[8] بيد أنه يمكننا تحسين الطريقة التي يمكن أن نشعر بها تجاه اللذة والألم لكن داخل سقف معين لا يمكن تخطيه (الحرية تحت سقف)
[9] بشكل مبدئي نستطيع الاتفاق مع الفكرة الكانطية التي تقول بامتناع الدليل الأنطولوجي والدليل الكوزمولوجي على الوجود، أي بعد إمكانية نفي أو إثبات وجود الإله بشكل برهاني. راجع كانط، إيمانويل: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت 1988 ط1: 296 -306
[10] هذا المبدأ بالذات هو ما سيقينا من مغبة الوقوع في أن نتحول لمنفعيين، وربما تأتي الفرصة لشرح هذا المبدأ في وقت لاحق.