نور الدين المكشر: التصوّف وثقافة العنف
فئة : حوارات
التصوّف وثقافة العنف: حوار مع الدكتور نور الدين المكشر([1])
يشهد عالمنا اليوم موجة من التطرّف عاتية ومنسوباً من العنف غير مسبوق، أفضيا إلى تحوّل الإرهاب إلى ظاهرة معولمة بامتياز. ويبدو حظّ البلدان الإسلاميّة من تلك الظاهرة وفيراً، لا سيّما أنّها تلعب في المشهد الدراماتيكي وظيفة الفاعل والمفعول في آن واحد. فهي تنتج فعل العنف وتتحمّل نتائجه. وعلى خلفيّة تنامي العنف المبرّر بالإسلام نصّاً وتاريخاً، أو قلْ بمقاربة مخصوصة للدين تنهض على شطط في التأويل تحوّل بموجبه مداليل الآي القرآني لتصبّ في خانة التشريع للعنف واعتباره طقساً مقدّساً يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فإنَّ هذه الظاهرة أسهمت في تنامي مشاعر الكراهية والخوف تجاه الإسلام والمسلمين، أو ما يُسمّى "الإسلاموفوبيا"، إلى الحدّ الذي جعل بعضهم يقيمون علاقة تلازم بين الإسلام والعنف، وحسبنا مثالاً ما أقرّه الباحث الأمريكي صموئيل هنتجتون (1927-2008) في كتابه الضجّة "صدام الحضارات". ويذهب المتيّمون بأفكاره، اليوم، إلى أنَّ ما كان بالأمس مجرَّد تنظير أضحى بعد 11ـ 9 ـ 2001 وإلى اليوم واقعاً معيشاً.
أمام هذا الوضع المعقّد والمأزوم كان لزاماً على المسلمين قبل غيرهم أن يتساءلوا عن طبيعة العلاقة، حقاً، بين النصّ الديني والعنف. وهنا ينبغي الإشارة إلى أنَّ الإسلام بصفته نمطاً في التمثل والفهم والممارسة قد يتعدّد بتعدّد القراءات والمقاربات لا سيّما أنَّه نصّ منفتح قابل لضروب من التأويل شتّى. ويرى بعض الدارسين في الإسلام الصوفي وما يختزنه من معتقدات وقيم روحيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة سامية ما يجعل التعويل عليه ممكناً للحدّ من نزيف العنف ومنسوب التطرّف.
فما أهمّ القيم والمبادئ التي يحملها الإسلام الصوفي؟ ما صلتها بالعنف رفضاً وقبولاً ؟ وهل بمقدور التصوّف، اليوم، أن يحدّ من غلواء التطرّف والعنف وأن يسهم، من ثمَّ، في إشاعة قيم التسامح والتعايش والسلام؟
للخوض في هذه الشواغل المثيرة للجدل حاورنا الدكتور نورالدين المكشرر بصفته أستاذ مادّة الحضارة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس (تونس)، وهو متخصّص في الدراسات الصوفيّة. اشتغل في أطروحة الدكتوراه على قضيّة "الولاية في التراث الصوفي" (قيد الطبع بمؤسّسة مؤمنون بلا حدود)، وله من المنشورات:
- زعماء الإصلاح وقضيّة تعدّد الزوجات.
- ما سكت عنه المفسّرون.
- ملتقى الأديان في تصوّف ابن عربي.
صابر سويسي: حين نتحدّث عن العنف، هل نتحدّث بالضرورة عن فعل سلبي؟ هل يختزن العنف قيمة سلبيّة أساساً؟
الدكتور نور الدين المكشر: إنَّ الخوض في مسألة القيمة الحقيقيّة التي يحملها العنف بمختلف أشكاله النفسيّة والفكريّة والدينيّة والجسديّة يقتضي، بدءاً، تعقّب مدى حضوره في الثقافات الإنسانيّة وفي الممارسات اليوميّة للشعوب. إنَّ الأساطير بمختلف انتماءاتها التاريخيّة والجغرافيّة والحضاريّة تعجّ بمختلف أشكال العنف، من ذلك أنَّ الملاحم التي تحدّثت عن سؤال البداية، أي بداية الخلق، قد نقلت لنا ضروباً من العنف بين الآلهة لحسم النزاعات وبسط النفوذ (انظر مثلاً أسطورة الخلق البابليّة "إينوما إليش"، وتعني "عندما في الأعالي"، إذ يحضر العنف والقتل بكثافة بين الآلهة كأهمّ آليّة لتحقيق المآرب. بالإضافة إلى أنَّ تقديم القرابين كان فعلاً ملطّخاً بالدّماء، فالتضحية بالأشخاص ـوهي إحدى أشكال العنف ـ كانت من الطقوس الدينيّة السائدة في العالم القديم.
أمَّا على الصعيد الديني، فكلّ الأديان الكتابيّة وغير الكتابيّة تسمح بقدر من العنف شريطة أن يكون صادراً عن الله، أو ممارساً باسمه، وفي هذه الحالة يُعدّ عنفاً شرعيّاً مقدّساً. وحسبنا أن نشير إلى أنَّ الكتاب المقدَّس بعهديه يعوّل على العنف لتحقيق بعض المآرب الدينيّة كنشر الدعوة وردع الخصوم والمخالفين الذين ينقضون العهد ويخرقون الميثاق. واليهوديّة، بالرغم من أنَّ إحدى الوصايا العشر تنهى عن القتل (لا تقتُلْ)، فإنَّها تشرّع العنف الإلهي بالخصوص (قصّة طرد آدم من الجنّة- قصّة الطوفان). أمّا المسيحيّة، فإنَّها تجيز العنف لا سيّما إذا كان الفاعل الله أو المتكلّمين باسمه، ويسوع نفسه يصرّح: "لا تظنّوا أنّي جئت لأُلقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً" (إنجيل متّى 10: 34-35.) ويقول أيضاً: أمّا أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأْتوا بهم إليّ هنا واذبحوهم قُدّامي" (إنجيل لوقا 19: 27.).
وأمّا في الإسلام فممّا يلفت الانتباه، حقاً، أنَّ كلمة "عنف" لم ترد في النصّ القرآني بأيّ صيغة من الصيغ مقابل تواتر كلمات تجاورها معنى من قبيل: عذّب/ قتل/ عاقب/ ظلم/ اعتدى.. ولم يسمّ الله نفسَه عنيفاً بالرّغم من اتصافه بصفات الجلال مثل: المتكبّر، القهّار، الجبّار، المنتقم.. في حين أنَّ "السلام" اسم من أسمائه.
إنَّ العنف في النصّ ضربان: مقدّس شرعي، وهو ما يصدر عن الله باعتباره الخالق والمالك والمدبّر، أو ما يصدر عن المؤمنين به شريطة أن يكون آخر الحلول، وأن يكون عنفاً عادلاً يستهدف الذود عن الدين وقيمه. وصنف ثانٍ مدان ومرفوض، وهو العنف الذي يمارس بدون وجه حقّ فيسلط على الدين والمؤمنين به.
هذا في مستوى النصوص، أمّا على الصعيد التاريخي، فإنَّ العنف لازم الإنسان منذ لحظة البداية، لحظة الخلق وإلى اليوم، فالتاريخ البشري ملطّخ بالدماء، حتى لكأنَّ الإنسان والعنف توأمان لا ينفصلان. والغريب أنَّ معظم أشكال الاقتتال والعنف كانت تبرّر بواسطة المقدَّس، فقد كان "الله حاضراً في كلّ الحروب". وحسبنا مثالاً ما سمّي بالحروب الصليبيّة والاحتلال الصهيوني لفلسطين والحرب الأمريكيّة على العراق، وكلّ العمليّات الإرهابيّة التي تحصد اليوم أرواح الأبرياء في كلّ مكان.
إنَّ هذه التوطئة ـالمطوّلة نسبيّاً- تتضمّن جزءاً من الإجابة عن سؤالك؛ ولمزيد من التعمّق والتوضيح نؤكّد أنَّ العنف يحمل قيمتين: واحدة إيجابيّة وأخرى سلبيّة، مقدّسة عادلة ومدنّسة ظالمة. فهو (العنف) فعل إيجابي متى كان الله فاعله أو كان الأنبياء أو الفاعلون الآخرون يمارسونه ذوداً عن الدين ودفاعاً عنه وحماية له. بالإضافة إلى أنَّ الدول التي تتّخذ العنف وسيلة إخضاع ومعاقبة ما فتئت تضفي المشروعيّة والقداسة على أفعالها. والحركات التحرّريّة والثوريّة تمارس هي الأخرى "العنف الثوري"، وهو في أدبيّاتها عنف إيجابي، بل مقدَّس. والحركة الصوفيّة التي تسلّط على النفس والجسد ضروباً من العنف شتّى تشرّع هي الأخرى ممارستها تلك بواسطة المقدَّس الديني، فعنفها إذن ذو قيمة إيجابيّة.
ولكنَّ الحديث عن العنف يتضمّن كذلك بُعداً سلبيّاً، فكلّ عنف يخرق الأسيجة الدينيّة هو عنف مدان ومرفوض وظالم. وكلّ عنف موجّه للسلطة القائمة سياسيّة كانت أو دينيّة أو فكريّة هو كذلك عنف سلبي. وكلّ عنف يستهدف الأفراد والجماعات بدون وجه حقّ هو كذلك عنف غير مشروع، مع مراعاة مبدأ النسبيّة في الحكم، فما يُعدّ عنفاً سلبيّاً عند زيد، قد يراه عمرو عكس ذلك تماماً.
صابر سويسي: المبدأ الرئيس الذي يتأسّس عليه التصوّف في مختلف مراحله التاريخيّة هو المحبّة، هل تقبل المحبّة العنف؟
الدكتور نور الدين المكشر: لا خلاف في أنَّ المحبّة ركن أساسيّ ومقوّم مركزي من مقوّمات التصوّف ببعديه النظري والعملي، إلى الحدّ الذي يسمح لنا باعتبار التصوّف رديف المحبّة. ولا ننسى أنَّ المحبّة مقام من المقامات الصوفيّة بعد مقام الرضا الذي يعتبر مقدّمة أو مدخلاً لمحبّة الله، وهو مقام مشترك بين العبد وربّه وهو بداية لإرساء علاقة شخصيّة مع الله. فالصوفيّة أحدثوا منعطفاً حاسماً في ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الحقّ والخلق، فقد جاهدوا في سبيل أن تصير علاقة العرفاني بربّه علاقة أنس ومحبّة لا علاقة خوف ورهبة. ولنا في أقوال الصوفيّة وسيرهم شواهد حيّة عن صلة التصوّف الوثقى بالمحبّة ببعديها العمودي والأفقي. فرابعة العدويّة تفانت في محبّة الله محبّة خالصة مجرّدة من المنافع. وشفّت أشعار السهروردي وابن عربي وابن الفارض وابن الرومي عن محبّة إلهيّة لا نظير لها في التراث الإنساني عامّة.
بل إنَّ العرفانيّ الشهير ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود قد أعلى من شأن المحبّة إلى حدّ المغالاة والشطط، ناهيك أنَّه اتّخذها ديناً يُتعبّد به:
أَدِيــنُ بِدِيـــنِ الحُبِّ أَنَّـى تَوَجَّهَتْ رَكَــائِبُهُ فَالحُبُّ دِينِي وإِيمَــانِي.
(ترجمان الأشواق، عين للدراسات، ط1، 1995، ص 245.)
على أنَّ المحبّة الصوفيّة ذات مستويين أو بعدين: بُعد روحي عمودي تجاه الله، وبُعد دنيوي أفقي تجاه الخلق، وهذا ما يفسّر نبذ الصوفيّة العنف ونزوعهم السلمي في التعامل مع الآخر المختلف في الدين والملّة والفكر والسلوك، لأنَّ المحبّة والعنف خطّان متوازيان لا يلتقيان. وممّا يدعم المنزع السلمي في التصوّف الإسلامي أنَّ الخطاب الصوفيّ نفسه يكاد يكون خلواً من الألفاظ العنيفة والصور المخيفة. فهو خطاب شفاف ناصع البياض ينبض رقّة وسحراً وحياة... لا حقد، لا كراهية، لا عنف.
ومن تجلّيات النزوع السلمي في التصوّف التسامح وعدم الانخراط في ردود الفعل العنيفة.
إنَّ معظم رموز التصوّف منذ النشأة وإلى اليوم ما فتئوا يتعرّضون لضروب شتّى من العنف النفسي والحسّي: تشويه، تهميش، تشريد، حرق مؤلّفات، سجن، تعذيب، تكفير، قتل... وحسبنا مثالاً مقتل الحلّاج والسهروردي وعين القضاة الهمذاني بسبب عقائدهم وأفكارهم. وبالرّغم من كثرة المحن التي مرّ بها أهل التصوّف، فقلّما وجدنا متصوّفاً واحداً حرّض على العنف أو دعا إلى تسليطه على خصومه. بل إنَّ بعضهم كان يلتمس العذر لأعدائه حتّى وهم بصدد تعذيبه وسوقه إلى حبل المشنقة، مثلما فعل الحلّاج مع قاتليه وابن عربي مع مكفّريه من الفقهاء والمتكلّمين. ولا يفوتنا أن نشير أيضاً إلى أنَّ المنظومة القيميّة والأخلاقيّة التي يتشوّف السالك إلى التحلّي بها خلال تجربته الروحيّة منظومة تنبض إنسانيّة ورحمة وتسامحاً وتفاؤلاً وحياة.
إنَّ الطريق الصوفي صراع دراماتيكي حاد وعنيف بين الحيوانيّة والإنسانيّة، فبقدر ما يتقدّم السالك في التجربة يتخلّى عن الخلق الحيوانيّة ويتحلّى بالأخلاق والقيم الإنسانيّة المستعارة من الأسماء الإلهيّة أسماء الجمال من رحمة ورأفة وسلام ومحبّة...ولتحقيق ذلك نجدهم يكابدون أشكالاً شتى من المجاهدات والرياضات.
صابر سويسي: إدراك أسمى درجات المحبّة يقتضي ضروباً مختلفة من المجاهدة لعلّ أبرزها تلك المسلّطة على الذات، وهي لا تخلو من عنف، كيف نفسّر ذلك؟
الدكتور نور الدين المكشر: دعنا نتّفق أنَّ المجاهدة من الأركان الأساسيّة في التجربة الروحيّة، فبدونها لا يمكن التحقّق بمقام الولاية وهي أسمى المراتب التي يتوق السالكون إلى بلوغها. وتعني المجاهدة في القاموس الصوفي "فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها". ومن أفعال المجاهدة: طرق النفس/ مخالفة النفس/ ترويض النفس/ إذلال النفس/ حرمان النفس/ تجويع النفس/ بذل الجهد في قيام الليل/ سجن النفس...
الملاحظ أنَّ هذا المعجم يحيل إلى تسليط المريد ضروباً من العنف النفسي والحسّي على النفس والجسد، ومردّ ذلك أنَّ أهل التصوّف يحملون صورة قاتمة عن النفس باعتبارها أمّارة بالسوء، مثلما جاء في القرآن (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف 12/53).
وهي من ثمَّ منبع الشرّ ومصدر العنف والقتل. ويعوّل أهل التصوّف على النصّ الديني لتأصيل الصورة السوداء للنفس البشريّة، وحسبنا مثالاً الآيات (وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) (النساء 4/79) (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة 5/30).
ويتعيّن على السالكين خوض صراع ضار مع النفس المتكالبة على الشهوات المحرّضة على أشكال العنف قصد تقويمها وتطهيرها وتنقيتها من كلّ مظاهر الحيوانيّة التي جبلت عليها لحظة هبوطها من عالم الأرواح إلى عالم الأشباح.
إنَّ النجاة ونيل السعادة ومعانقة المطلق يمرّ حتماً عبر إخماد نوازع النفس واندفاعها نحو الشرّ بمختلف أشكاله قصد ترويضها وتحليتها بأخلاق الخير والفضيلة بديلاً عن الأخلاق الحيوانيّة الدنيّة كاللهفة والرّغبة والمذمّة والجفوة والحقد والكراهية والعداوة... وكلّها مقدّمات لإثارة العنف وممارسته تجاه الآخرين.
إنَّ العنف الصوفي المسلّط على النفس والجسد هو بمثابة طقس العبور؛ العبور بالنفس من الوضع الحيواني إلى الحال الإنساني، من النفس الأمّارة إلى النفس المطمئنّة. فالسالك يقسو على نفسه ويعاقبها في سبيل تصفيتها من الشوائب بما في ذلك نزوعها نحو العنف. إنَّ جلد الذات فعل مقدَّس في السياق الصوفي، لأنَّه يقوّم اعوجاج النفس ويرتقي بها إلى مصافّ النفوس الطاهرة.
ثمّ إنَّ فاعل العنف -في القطاع الصوفي- هو نفسه ضحيّته، فهو إذن لا يؤذي غيره. والجحيم لدى أهل الطريق ليس الآخرين كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الوجودي سارتر. إنَّ الجحيم الحقيقي لدى السالك هو نفسه، وكلّ عمليّة ترقٍّ من الحيوانيّة إلى الإنسانيّة تتطلّب ضرورة إخماد رغبة العنف الكامنة في النفوس: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد 13/11).
إنَّ المجاهدة بما هي ضروب من العنف لا ظلم فيها ولا قتل ولا دماء، إنَّها ـفي العقيدة الصوفيّة- شكل من العنف المقدَّس الهادف إلى البناء والتقويم. والقرآن نفسه يحثّ على محاربة النفس لاجتثاث نزعة الشرّ فيها (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات 79/40-41).
صابر سويسي: بعضهم يعتبر آيات القتال في النصّ القرآني مشرّعاً لأشكال مختلفة من العنف، ولكنّ للصوفيّة في تفسيرها وجهة نظر خاصّة. كيف وجّه الصوفيّة فهمهم لهذه الآيات وطوّعوها لتشريع تجربتهم السلوكيّة؟
الدكتور نور الدين المكشر: لقد تبيّنّا أنَّ حظّ العنف في المجال الصوفي لا يكاد يتجاوز الذات إلّا في ما ندر وفي سياقات وأوضاع تاريخيّة معيّنة. وهذا وجه الاختلاف بين الصوفيّة وغيرهم من الأطياف الدينيّة التي تشرّع ممارستها العنف ضدّ الآخر المختلف بالتعويل على النصّ التأسيسي برافديه: القرآن والحديث النبوي. وبما أنَّ العنف آليّة تغيير وتقويم وإصلاح ذاتي، فإنَّ الصوفي يؤوّل آيات الجهاد والقتال بما يشدّ وجهة نظره ويبرّرها. وحسبنا دليلاً أنَّ الجهاد في القاموس الصوفي وفي الرؤية الصوفيّة عامّة هو في المقام الأوّل "جهاد النفس" قبل محاربة الآخر ومقاتلته. واللّافت للانتباه أنَّ التعريف الصوفي للعنف لا يتضمّن معنى الاعتداء والإضرار بالغير فـ"العنف في اللغة هو القوّة، وفي الشّرع هو قوّة حكميّة يصير بها أهلاً للتصرّفات الشرعيّة" (الجرجاني: التعريفات، ص 161).
ووفق هذا التمثل لمفهوم العنف والجهاد يفسّر العرفانيّون آيات الجهاد والقتال.
وقبل الخوض في المقاربة الصوفيّة لبعض آيات الجهاد دعنا نشر، ولو باقتضاب، إلى مقاربة أخرى صارت اليوم مستفحلة، وهي تلك التي تعوّل على النصوص الدينيّة لتشرّع للعنف وتمارسه على أوسع نطاق، لا ضدّ المختلف الديني وحسب، بل كذلك ضدّ من ينتمي إلى العقيدة نفسها، ويحدث ذلك تحت قاعدة الجهاد في سبيل الله، وبالتعويل على تأويل معيّن للنصوص. وقد نمّت هذه الأفكار والممارسات ما يسمّى بالإسلاموفوبيا. ويُعدّ التفسير الصوفي لآيات القتال وجهة نظر مخالفة تماماً لما تذهب إليه الحركات الإسلامويّة الجهادويّة العنيفة.
ومن الآيات التي يتّخذها الجهاديّون ذريعة لممارسة القتال ضدّ الآخر وشرعنة العنف الآية: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت 29/69)، ولكنَّ الصوفيّة يوجّهون معنى الآية إلى جهاد النفس وليس إلى محاربة الآخرين وقتالهم، من ذلك أنَّ القشيري في "لطائف الإشارات" أفاد أنَّ المراد بالجهاد هو جهاد النفس "بترك المحرّمات والشبهات ثمَّ ترك الفضلات، ثمَّ قطع العلاقات والتنقّي من الشواغل في جميع الأوقات..." (ج2، ص 463). وكذا الشأن بالنسبة إلى الآيات:
"انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" (التوبة 9/41)
"وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ" (الحجّ 22/78)
فقد ذهب معظم المفسّرين من أهل التصوّف من أمثال السلمي والقشيري وابن عربي إلى أنَّ المقصود بالجهاد إنَّما هو جهاد النفس.
أمّا بالنسبة إلى الحديث، فإنَّ الصوفيّة يعتمدون حديثاً نبويّاً اختلف في تخريجه وفي درجته من الصحّة إلى الضعف، وهو أنَّ الرسول قال إثر عودته من إحدى غزواته: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ فقال: جهاد النفس".
استثمر الصوفيّة هذا الحديث لإثبات أنَّ الجهاد النفسي مقدّم على كلّ ضروب الجهاد الأخرى، وهو أكبرها وأعظمها وأشقّها وأكثرها نفعاً وتحقيقاً للنجاة والسعادة. في حين أنَّ جهاد الإنسان للعدوّ الظاهر جهاد أصغر، على أساس أنَّ الخصم واضح المعالم وأنَّ منازلته تكون أيسر من عدوّ باطن يسكن داخلنا.
إنَّ الجهاد الأكبر هو تهذيب النفس وتطهيرها من بذور الشرّ وتوجيهها تجاه الخير والفضيلة، وهي بذلك تكون مؤهّلة أكثر لمحاربة الأعداء والغاصبين، بل إنَّ منازلتهم ومقارعتهم تصبح أيسر، لا سيَّما بعد أن تمرّن الفاعلون وتدرّبوا على شكل من الجهاد أكبر وأشقّ.
والتاريخ شاهد على خوض الصوفيّة الجهاد الأصغر متى اقتضت الظروف ذلك.
صابر سويسي: التجربة التاريخيّة تكشف مساهمة الصوفيّة في حروب مسلّحة وثورات، هل هو من باب الانخراط الطبيعي في الحياة الاجتماعيّة والانتماء الجغرافي أو العقائدي، أم له عند الصوفيّة تفسير آخر؟
الدكتور نور الدين المكشر: حريّ بنا أن نبيّن أنَّ الصوفيّة قد تعرّضوا إلى كثير من الانتقاد والتهجّم على خلفيّة أنَّهم مهادنون ولا يساهمون في الذود عن أوطانهم، بل كثيراً ما يتصالحون مع الأعداء ويفتون بعدم مواجهتهم. هذه وجهة نظر لا تخلو من صحّة، لكن لا بدَّ من تنسيبها، لا سيَّما أنَّ موقف الصوفيّة من الجهاد الأصغر ليس متجانساً، فمثلما نجد موقفاً متخاذلاً مهادناً سواء للسلطات الرسميّة أو للغازي الأجنبي، فإنَّ التاريخ القديم والحديث يشهد بمدى إسهام المتصوّفة فكريّاً وعمليّاً في الحروب والثورات دفاعاً عن أوطانهم ودينهم ومعتقداتهم، ومقاومة السلطان الغاشم.
إنَّ الجهاد لدى الصوفيّة ضربان: أكبر وأصغر، وهما متكاملان لا ينفصلان، وإن كان الجهاد الأكبر مقدّماً على الجهاد الأصغر الذي يعني محاربة العدوّ الظاهر المعتدي. والمدوّنة الصوفيّة تؤكّد أنَّ محاربة الآخر متى كان غاصباً ومعتدياً ومحتلاً جزء من العقيدة الصوفيّة. بل إنَّ الجهاد الباطني ـلديهم- عقيم إن لم يساعد على محاربة الأعداء والثورة على كلّ أشكال الظلم والتسلّط الخارجيّة والداخليّة. ونشير إلى أنَّ المصنّفات الصوفيّة التأسيسيّة لم تحفل كثيراً بمسألة جهاد الأعداء، ولكن بمجرّد تنامي الخطر الخارجي في العصر الوسيط بالخصوص، وتتالي الاعتداءات على المسلمين مع الحملات التي سُمّيت لاحقاً صليبيّة، والغزو المغولي... أعلن العديد من أعلام التصوّف مواقفهم الواضحة في التحريض على ضرورة التصدّي للغزاة والدفاع عن الدّين والوطن، وها هو ابن عربي (560هـ-638هـ) يشير بوضوح إلى أنَّ عماد التصوّف جهادان: جهاد النفس وجهاد العدوّ، والأوّل موصول بالثاني وميسِّر له: "وعليك بالجهاد الأكبر، وهو جهاد هواك، فإنّك إذا جاهدت نفسك هذا الجهاد خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء الذي إن قتلت فيه كنت من الشهداء الذين عند ربّهم يرزقون" (كتاب الوصيّة، ضمن الرسائل، طبعة دار الكتب العلميّة، ص 403).
إنَّ العقيدة الصوفيّة من أركانها الأساسيّة "تقوية الصلة بالله (الجهاد الأكبر) والشجاعة بالقتال للجهاد (الجهاد الأصغر). هذه العقيدة الصوفيّة الراسخة عبّر عنها أبو حامد الغزالي في كتاب "الإحياء" حين أبان أنَّ من واجبات الزاهدين القتال في سبيل الله.. "إنَّ المنافقين كرهوا القتال خوفاً من الموت، أمّا الزاهدون المحبّون لله تعالى، فقاتلوا في سبيل الله كأنّهم بنيان مرصوص".
هذا على الصعيد النظري، أمَّا من الناحية التاريخيّة، فإنَّ الأحداث والوقائع العديدة تثبت مدى إسهام أهل التصوّف في الدفاع عن الدين والوطن وفي الثورة ضدّ الأنظمة السياسيّة الجائرة.
فإلى جانب اعتبار أعلام التصوّف الجهاد الأصغر واجباً دينيّاً مقدّساً وتحريضهم على ممارسة صدّ المحتلّ، فإنَّ لنا في العصر الحديث نماذج عدّة قاومت الاستعمار الغربي، كما هو شأن العالم المصري الصوفيّ محمّد ماضي أبو العزائم (1286هـ-1356هـ) الذي كان مقاوماً شرساً للمستعمر الإنجليزي، وقد كابد في سبيل ذلك ما كابد، وهو أستاذ للسياسي المعروف سعد زغلول.
وفي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قادت الطريقة السنوسيّة ومؤسّسها محمّد بن علي السنوسي (ت 1859م) الكفاح المسلّح ضدّ المحتلّ، ولم تكن الزاوية مجرّد مكان للعبادة وتربية المريدين فحسب، بل لتعلّم فنون القتال ومواجهة الاحتلال في ليبيا. وتجلّى الأمر أكثر حين احتلّت القوّات الإيطاليّة ليبيا، فقد قاد الصوفي الشهير عمر المختار (1858م-1931م) حركة المقاومة ضدّ المحتلّ حتّى لحظة إعدامه.
وفي موريتانيا خاضت "الطريقة الفاضلة" معارك ضارية ضدّ الوجود الأجنبي. وفي المغرب قاومت الطريقة الدرقاويّة الاستعمار الفرنسي للمغرب. وساهم الصوفيّ الأمير عبد الكريم الخطابي (1881-1962م) في الكفاح ضدّ الإسبان والفرنسيّين. وفي الجزائر اضطلعت الطرق الصوفيّة بدور ريادي في المقاومة ضدّ المحتلّ، وحسبنا شاهداً المناضل الصوفي عبد القادر الجزائريّ (1807-1885م). وفي فلسطين المحتلّة يُعدّ عزّ الدين القسّام (1882-1935م) رائد الكفاح المسلّح ضدّ الاحتلال الصهيوني. وقد تربّى تربية صوفيّة أهّلته ليكون مناضلاً شرساً ووقوداً ثوريّاً لمن جاء بعده.
أمّا في تونس، فمن الطرق الصوفيّة مثل القادريّة ما كانت مهادنة للمحتلّ الفرنسي وعملت على تهيئة النفوس للقبول بالأمر الواقع والإيهام بأنَّ الاستعمار قضاء وقدر محتوم، وأنَّه لا رادّ لقضاء الله وقدره. ولكن من الطرق من واجه المحتلّ مثل الطريقة الرحمانيّة التي كانت تقاوم المحتلّ وتدعو إلى مواجهته بقوّة السلاح.
من الواضح إذن أنَّ أهل التصوّف وبالرغم من اتهامهم بكونهم أبعد ما يكونون عن الجهاد، مثلما ذهب إلى ذلك ابن تيمية (انظر كتاب الاستقامة، طباعة ونشر جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة بالرياض، ط2، 1411هـ، 1/268)، فإنَّ الكثير منهم قد انخرط في حروب مسلّحة وثورات، وهو ما يؤكّد أنَّ موقف ابن تيمية ـوهو عدوّ التصوّف اللدود- لا يخلو من تجنٍّ، ولا يستقيم مع المعطيات التاريخيّة قديمها وحديثها.
صابر سويسي: في بعض طقوس الاحتفال ذات المرجعيّة الصوفيّة نجد اليوم تجسيداً واستحضاراً لمشاهد عنيفة وأحياناً دمويّة أصبحت بمثابة الفولكلور. هل يستقيم مثل هذا التقليد مع منطق التصوّف؟ بمَ نفسّره؟
الدكتور نور الدين المكشر: إنَّ ما يلاحظ اليوم من طقوس احتفاليّة عنيفة وملطّخة بالدماء تتنافى تماماً مع منطق التصوّف العالم أو النخبوي. وقد كان الصوفيّة الأوائل مناهضين لكلّ مظاهر الشعوذة والسحر والدجل وضدّ كلّ مظاهر العنف الشديد وأشكاله التي تسلّط على الجسد، بالرغم من حرصهم كما رأينا على محاسبة النفس وتطويق نوازع الجسد. فكان العنف المسموح به معنويّاً بالأساس، ويكاد العنف المادي يقتصر على الجوع دون أن يتجاوز ذلك إلى أشكال أخرى دمويّة.
أمّا هذه الطقوس المغالية في العنف، فقد تفشّت مع استفحال ظاهرة التصوّف الطرقي بداية من القرن الخامس هجريّاً. والحقيقة أنَّ هذه الأشكال من العنف لا صلة لها بالمعتقد الصوفي، فهي مجرّد مشاهد فلكلوريّة متأثّرة بالثقافة المحلّيّة وهي من وسائل تجييش مشاعر المتلقي والكسب المادي، لا غير، بالرغم من ادّعاء أصحابها أنَّها من باب الخوارق والكرامات.
إنَّ الكرامة الحقيقيّة لدى أقطاب التصوّف هي الاستقامة والأخلاق الفاضلة والمعرفة، وما عداهما دخيل على المنطق الصوفي وبعيد كلّ البعد عن العمق الروحي الذي عرف به التصوّف النخبوي.
صابر سويسي: الزاوية اليوم تُعدّ رمزاً من رموز التجربة الصوفيّة وتحتلّ مكانة متميزة في وجدان الجماعة المؤمنة، ولكنّها تُستهدف من جماعات محسوبة على الإسلام السياسي. لماذا في نظركم يُستهدف التصوّف اليوم ويعنّف؟
الدكتور نور الدين المكشر: الثابت أنَّ مؤسّسة الزاوية قد لعبت أدواراً متعدّدة في تاريخ التصوّف ـ لا سيَّما التصوّف الطرقي- ولها في المتخيّل الجمعي مكانة متميّزة بل مقدّسة. فلكلّ زاوية أتباعها وأنصارها ومريدوها وطقوسها ووظائفها الدينيّة والدنيويّة. وبالمقابل نجد حركات إسلامويّة وجهاديّة تستهدف الزوايا وتمارس العنف على الأضرحة أي على الأموات.
إنَّ تفسير هذه الظاهرة يستدعي منّا العودة إلى التاريخ، وتحديداً إلى ما كانت عليه علاقة الصوفيّة بغيرهم من الفرق والمذاهب الدينيّة.
يشهد التاريخ أنَّ الحنابلة كانوا أعداء لدودين للتصوّف ورجاله، فهم أوّل من بادر بتكفير المتصوّفة وأفتوا بإراقة دمائهم، وحسبنا الاطلاع على المصنّفات الحنبليّة لكلّ من ابن تيمية وابن الجوزي حتّى نتبيّن مدى توتّر العلاقة بين الفرقتين. والمعلوم أنَّ أسباب العداء بين الحنابلة والصوفيّة تعود أساساً إلى مسائل كلاميّة لا مجال هنا لتعدادها.
ويشهد التاريخ أيضاً أنَّ أعلام التصوّف قد سلّطت عليهم كلّ أشكال العنف وأقصاها القتل. فما علاقة الأمس باليوم؟
الجواب ما أشبه اليوم بالبارحة! لأنَّ الحنابلة الجدد هم أساساً الذين يستهدفون الزوايا والأضرحة، ومن المعلوم أنَّ الحركة الوهّابيّة استهدفت منذ نشأتها في الحجاز المتصوّفة، فقامت بهدم الزوايا والأضرحة، ولاحقت الصوفيّة في كلّ مكان. وقد رأينا الأفعال نفسها تتكرّر في العديد من البلدان الإسلاميّة، ومنها تونس حيث ظهرت في السنوات القليلة الماضية محاولات عديدة تدبّر بليل مستهدفة العديد من الزوايا والأضرحة.
وأعتقد أنَّ فعل الاعتداء ناجم عن تمثّل متهافت لمكانة الزاوية ووظيفتها، فالجماعات المحسوبة على الإسلام السلفي الحنبلي ترى في الزاوية مكاناً منافساً للمسجد، وترى في زيارة الأضرحة والتبرّك بها ضرباً من الشرك وفساد العقيدة، والحال أنَّ الأمر ليس كما يتمثّلون، فكثيراً ما كانت الخلفيّة الدينيّة ثانويّة أمام أسباب أخرى اجتماعيّة ونفسيّة تدفع الناس إلى زيارة الزوايا واللوذ بها من الظروف العصيبة التي يمرّون بها.
صابر سويسي: هل يمكن أن يكون التصوُّف حلّاً لمواجهة العنف؟ كيف؟
الدكتور نور الدين المكشر: لا شكّ في أنَّ منسوب العنف بمختلف ضروبه قد تنامى بشكل غير مسبوق، وهو عنف مبرّر في معظمه بالدين، أعني أنَّه في منظور أعوانه، منظرين وفاعلين، عنف مقدَّس أي هو بمثابة الطقس الديني الذي يثاب فاعله فيضمن جنّة النعيم والسعادة، ويعاقب تاركه بجهنّم وبئس المصير. وقد أثبت العديد من المفكّرين مدى التواشج بين العنف والمقدَّس إلى درجة التماهي. من ذلك أنَّ الأنتروبولوجي الفرنسي روني جيرار (1923-2015) أقرَّ هذه الحقيقة في كتابه المهم "العنف والمقدَّس" («Le jeu du sacré et celui de la violence ne font qu’un»). والثابت أنَّ العنف المشرع بالديني هو أشدّ الأشكال تعقيداً وأكثرها شططاً وغلوّاً، ومن ثمّ تبدو مواجهته في منتهى الصعوبة، زدْ على ذلك أنَّ هذا اللون من العنف تجاوز الحدود العربيّة الإسلاميّة ليتحوّل إلى ظاهرة كونيّة معولمة بأتمّ معنى الكلمة. وتتبدّى مظاهر العولمة ـ على الأقلّ- في مستويين اثنين: مستوى الفاعل أو الجلّاد الذي تعدّد وتنوّع حتّى شمل مختلف الجنسيّات والثقافات والأجناس. ويتجسّد المستوى الثاني من العنف المعولم في الضحايا أنفسهم، فقد أضحت الإنسانيّة قاطبة في مرمى سهامه بقطع النظر ـ غالباً- عن الانتماءات الدينيّة والعرقيّة والثقافيّة والحضاريّة.
هذه الوضعيّة المركّبة والمعقّدة للعنف تجعل مواجهته مستعصية إلى أبعد الحدود. ولكن ليس معنى ذلك أن نكتفي بمتابعة المشهد مكبّلي الفكر مقيّدي الأيدي.
ويبدو أنَّ بعض المحاولات الفكريّة والعمليّة قد انطلقت في العديد من البلدان، سواء تلك التي اكتوت بنار العنف الأعمى أو تلك التي قد لا تكون في مأمن منه، من ذلك أنَّ بلداناً عربيّة وإسلاميّة عديدة قد انطلقت في رسم الخطط ووضع الآليّات الكفيلة بالتصدّي لهذه الآفة والحدّ من استتباعاتها الكارثيّة.
والملاحظ أنَّ معظم الحلول المتوخّاة كانت حلولاً أمنيّة. لكنَّها، والحقّ يقال، لم تتوفّق في اجتثاث هذه الظاهرة التي ما فتئت تتناسل سرطانيّاً في كلّ مكان من العالم. ما يقيم الدليل على أنَّ الحلول الأمنيّة، بما هي مواجهة للعنف بالعنف، ليست ناجعة لاستئصال الداء. إذن؛ ما العمل؟
ينبغي ـفي نظري المتواضع- أن تتعدّد طرائق المواجهة وتتنوّع، وأهمّها المواجهة بالسلاح نفسه الذي يستثمره العدوّ، أعني الدين، وبالتحديد مقاربة مختلفة للإسلام نصّاً وتاريخاً عمّا يسوقه دعاة التطرّف الديني وممارسو العنف. وأعتقد جازماً أنَّ الإسلام الأصلح والمؤهّل أكثر من غيره للعب دور سلاح المواجهة هو الإسلام الصوفي.
والحقيقة أنَّ العديد من الدّول ومراكز البحث والاستشراف قد انتبهت إلى دور الديني والتربوي والأخلاقي في تغذية المواجهة والتصدّي للحركات الإسلامويّة المتطرّفة والعنيفة. وعديدة، اليوم، هي المؤتمرات والندوات والملتقيات الدوليّة التي تعقد هنا وهناك تحت شعار: "التصوّف في مواجهة التطرّف"، كالذي انتظم مؤخّراً في المغرب الأقصى (10 ماي 2017) بحضور عشرات الدول بغاية الخوض في سبل تأهيل التصوّف الإسلامي ليكون الحلّ الأمثل في مواجهة كلّ أشكال التطرّف والعنف التي تتّخذ الإسلام سنداً ومشرّعاً.
ولكن أيّ تصوّف يمكن أن يكون جزءاً من الحلّ في هذه المواجهة؟
لا شكّ في أنَّ التصوّف الإسلامي ليس كتلة متجانسة، بل متعدّد المشارب والاتّجاهات؛ منها العالم الذي يبشّر بقيم دينيّة وروحيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة عالية، ومنها الشعبي أو الطرقي الذي انتشر خاصّة في فترة الركود الثقافي والحضاري بداية من القرن الخامس للهجرة ولم ينقطع إلى اليوم بالرغم من انحساره. وقد كان التصوّف الطرقي وراء تغذية أشكال عدّة من العقائد الفاسدة والأخلاق السلبيّة والسلوك المنحرف كالعقيدة الجبريّة وتعطيل العقل وادّعاء خرق قوانين الطبيعة بإبطال النسبيّة والإيمان بالأولياء أحياء وأمواتاً واتّخاذ التواكل قيمة والشعوذة والدجل مسلكاً. ولا نعتقد أنَّ "إسلاماً صوفيّاً" يسوّق لهذه القيم الأخلاقيّة والدينيّة والفكريّة الفاسدة بمقدوره أن يكون صالحاً اليوم في مواجهة قيم التطرّف والعنف الملتحفة بالإسلام نصّاً وتاريخاً.
إنَّ الإسلام الصوفي مهيّأ ليكون رافداً مهمّاً بل الأهمّ ـفي رأيي- في محاربة التطرّف والعنف الناجم عنه، شريطة:
- تنقيته من الشوائب العقديّة والقيميّة والأخلاقيّة التي علقت به، خصوصاً في عصر الانحطاط، وأهمّها العقيدة الجبريّة والتواكليّة والخضوع لسلطان الشيوخ والأولياء ممّن يدّعون الواسطيّة بين الله وعباده، وتحريره من مختلف صنوف الشعوذة والدجل وادّعاء الكرامات وإبطال العقل وقوانينه ومختلف الطقوس التي لا صلة لها أصلاً بالدين، بل هي صنيعة متخيّل صوفي مأزوم.
- إذكاء الأبعاد الروحيّة العميقة التي بشّر بها أعلام التصوّف العالم من أمثال الجنيد والحلّاج والقشيري والكلاباذي والسهروردي وابن عربي والجيلي وابن الفارض وجلال الدين الرومي والفيلسوف الصوفي الحديث محمّد إقبال (1877-1938)...من هذه القيم الروحيّة السمحة نذكر مجاهدة النفس وتهذيبها وترويضها وتعويدها على الحق والخير والجمال والرحمة والمحبّة والتسامح والتسامي والترفّع عن كلّ أشكال الشر، بما فيها العنف ضدّ الآخر المختلف لمجرّد أنَّه مختلف ومغاير.
- تنمية الأخلاق الإيجابيّة الوظيفيّة التي يحملها التصوّف عامة، والتي دعا إليها الشاعر الصوفي محمّد إقبال في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، ورسالته في الدكتوراه "ازدهار علم ما وراء الطبيعة في إيران". وقد أكّد أنَّ التصوّف نتيجة لازمة لحركة القوى العقلانيّة والأخلاقيّة التي توقظ الروح من هجوعها إلى المبدأ الأسمى للحياة. وقد قدّم في مؤلّفاته الإسلام في بُعده الصوفي بالخصوص على أساس أنَّه رسالة إلى الإنسانيّة كافة. ودعا أيضاً إلى نوع من الوحدة الروحيّة الصوفيّة بين الناس جميعاً. ذلك أنَّ الحياة الإنسانيّة روحيّة في أصلها ومنشئها، ولكنَّه في الوقت نفسه لا يستبعد العقل ولا يهوّن من شأنه، بل يراه رافداً من روافد تقوية القيم الأخلاقيّة والروحيّة الإنسانيّة.
- ضرورة تجديد الخطاب الصوفي داخل المؤسّسات الدينيّة التقليديّة والجامعات لملء الفراغات وعدم ترك المجال أمام الإسلام السياسوي الذي فرّخ الحركات المتطرّفة فكراً وممارسة.
- ضرورة مواكبة الإسلام الصوفي لقيم الحداثة الإنسانيّة، ومنها الثقة بالإنسان وبالعقل، وذلك حتّى يكون إسلاماً مقنعاً وجذّاباً وفعّالاً.
- وبذلك نرى أنَّ التصوّف قادر على مكافحة التطرّف والعنف، ومن ثمّ هو قادر على الإسهام في بناء السلم العالمي وإشاعة التعايش والتسامح بين الثقافات والأمم.
صابر سويسي: كيف يفهم الصوفيّة التسامح؟
الدكتور نور الدين المكشر: لقد أشرنا -في ما مرّ- إلى أنَّ التصوّف لا يتوسّل العنف آليّة في التعامل مع المختلف، وأنَّه يعوّل على ضرب من العنف الموجّه لتقويم الذات وتهذيب النفس، فمن الطبيعي ـوالحال تلك ـ أن يكون الصوفيّة دعاة تسامح وسلام.
لا شكّ في أنَّ التصوّف الإسلامي مبنيّ في جوهره على فكرة الخير والرحمة والتعايش والمحبّة والعفو والتسامح، ومن ثمّ نبذ كلّ أشكال الكراهية والتطرّف والعنف. فالتصوّف في وجدان أصحابه تجربة قوامها التخلّي والتحلّي والترقّي: التخلّي عن القيم والخلق الحيوانيّة الدنيئة، والتحلّي أو التحقّق بالقيم والخلق العليا؛ إنَّه بتعبير آخر رحلة السالك من الحال الحيواني إلى الوضع الإنساني عبر التحلّي بالأسماء الإلهيّة: أسماء الجمال كالرحمن ـ الرحيم ـ الغفّار ـ الباسط ـ العدل ـ اللطيف ـ الطاهر ـ الكريم ـ الصبور ـ العفوّ ـ الوليّ ـ الودود ـ الواسع - السلام...
هذه هي أركان الفلسفة الأخلاقيّة لدى المتصوّفة، والملاحظ أنَّ المنظومة القيميّة والخلقيّة والروحيّة الصوفيّة تحيل كلّها إلى معاني: المحبّة والتسامح والرحمة وقبول الآخر... وهي من أسس القول بالتسامح.
إنَّ الخطاب الصوفي وتاريخ الصوفيّة يشهدان بمدى حضور قيمة التسامح في التصوّف الإسلامي معتقداً ومسلكاً، والأدلّة كثيرة، لعلّ أهمّها:
- مفهوم العزلة: إنَّ من أهمّ الأخلاق العمليّة في التصوّف العزلة، وهي أوّل المقامات في الطريق الصوفي، وتعني الخروج عن مخالطة الخلق، ليس تجنّباً لشرّهم وإنّما حماية لهم من شرّ النفس. ما يعني أنَّ المتصوّف يدين نفسه قبل أن يدين غيره أو يعاديه أو ينتقم منه.
- وعلى خلاف سارتر الذي يرى أنَّ الجحيم هم الآخرون، يذهب الصوفيّة إلى أنَّ الجحيم الحقيقي هو الأنا. أي نفس المريد أو السالك. هذا الأساس الفلسفي، إن جاز القول، في العقل الصوفي من شأنه أن يحدّ من شعور الكراهية والعنف، لأنَّ في السيطرة على النفس احتواء للعنف وسيطرة عليه.
وممّا يدعم نزعة التصوّف السلميّة والمتسامحة ما جاء على لسان الورّاق الصوفي: "كان أجلّ أحكامنا الإيثار بما يفتح عليها، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا، بل نعتذر إليه، ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا احتقار أحد، قمنا بخدمته والإحسان إليه حتّى يزول" (الرسالة القشيريّة).
إنَّ من الخلق الصوفي إذن الإيثار والتواضع والإحسان واحترام الآخر، وهي من أهمّ أسس التسامح. وابن عربي يرى أنَّ "الوجود كلّه رحمة"، وأنَّ "العالم كلّه جميل"، ثمّ إنَّ قوله بوحدة الوجود، أي وحدة الخلق والحقّ، جعله يؤكّد أنَّ أيّ تعدّ على مخلوق من مخلوقات الله كأنَّه تعدٍّ على الله نفسه وتنكّر لمشيئته.
- إنّ أصل التصوّف قائم على المحبّة النقيض المباشر للكراهية التي يراها المتصوّف من أخلاق النفس الحيوانيّة، علما أنَّ من الفلاسفة من ذهب إلى أنَّ العنف نتيجة طبيعيّة لمشاعر الكراهية والعداء المتأصّلة في الإنسان، فتحت تأثير الكراهية يصير الإنسان عنيفاً (فرويد). وقد تعلّق الصوفيّة كثيراً بالمحبّة، حتّى جعلوها أسمى المقامات في عروجهم الروحي. بل إنَّ متصوّفة مثل رابعة العدويّة اتّخذت من المحبّة الإلهيّة وسيلة تعبّد وتقرّب من المحبوب (الله). وتطوّرت علاقة التصوّف بالمحبّة والعشق، حتّى أنَّ العرفاني الشهير محيي الدين بن عربي اتّخذها ديناً استعاض به عن سائر الأديان والطقوس التعبّديّة:
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني
ولنا في خطاب المتصوّفة وسيرهم ما لا يسمح المقام بذكره في مجال المحبّة، وهي من أجلّ أركان التسامح، لا سيَّما أنَّ شعور المحبّة لا يصل قلب الصوفي بربّه فقط، بل إنَّه ينسحب على جميع مخلوقات الله باعتبارها تجلّيات إلهيّة: إنَّ الصوفي يحبّ الحقّ والخلق معاً. وإذا كانت الكراهية رأس العنف، فإنًّ المحبّة أصل التسامح.
- إنَّ من مبادئ التسامح الفلسفيّة احترام الآخر وقبول حّق الاختلاف. وهذا المبدأ أسّ أساسي من أسس التصوّف الإسلامي العالم بالخصوص. لا شكّ في أنَّ أرقى ضروب التسامح احترام الآخر المختلف دينيّاً، لأنَّ في ذلك إقراراً بقيمة إنسانيّة عليا هي حرّيّة المعتقد.
وإنَّ من يتدبّر التراث الصوفي، يظفر منه بما يكفي من الأدلّة والشواهد على مدى احترام الصوفي للاختلاف والتعدّد، لا سيَّما أنَّ التصوّف نفسه قد تشرّب من معين الفلسفات والأديان المختلفة على خلفيّة أنَّ "الحكمة" التي هي ضالة المؤمن ليست حكراً على فلسفة دون أخرى أو دين دون آخر. ومن ثمّ يتعيّن البحث عنها أنّى وجدت. وفي هذا الموقف صورة من صور الانفتاح على الآخر، ليس بصفته عدوّاً، بل باعتباره شريكاً، وهو وجه من وجوه التسامح لدى المتصوّفة.
أمّا الوجه الأهمّ، فيتّصل باحترام الإسلام الصوفي الأديان الأخرى -بما فيها الوثنيّة- ولعلّ أكثر الشواهد تعبيراً عن هذا المبدأ آراء ابن عربي ومواقفه.
لا خلاف في أنَّ التسامح الديني هو أرقى ضروب التسامح، لأنَّ الصراع بين الأديان كان وراء موجات من العنف الدموي على امتداد التاريخ البشري. هذا التسامح الديني من المواقف الإنسانيّة الباهرة التي وقفها التصوّف الإسلامي تجاه المختلف الديني. إنَّنا لا نجد في الخطاب الصوفي عداء تجاه الأديان الأخرى ولا رفضاً لها ولا تحريضاً على معتنقيها، بل بالعكس، فمن الصوفيّة الكبار من أمثال ابن عربي من كان يحترم سائر الأديان على خلفيّة أنَّها ذات أصل واحد، وإن تنوَّعت وتعدّدت أشكالها.
لقد كشف ابن عربي عن تصوّره لطبيعة العلاقة بين الأديان التوحيديّة خلال رحلته المعراجيّة المناميّة (الإسرا إلى المقام الأسرى)، فرأى أنَّها فروع من أصل واحد يجمعها ويؤلف بينها وهو القرآن، وحسبنا هذا التصوير الرائع لطبيعة العلاقة بين الديانات التوحيدية: "وتعاين هناك أربعة أنهار، منها نهر عظيم كبير وجداول صغار تنبعث من ذلك النهر الكبير، ذلك النهر تنفجر منه الأنهار الكبار الثلاثة فتسأل عن تلك الأنهار والجداول فيقال لك: هذا مثل مضروب أقيم لك. هذا النهر الأعظم هو القرآن. وهذه الثلاثة الأنهار الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والزبور، وهذه الجداول الصحف المنزّلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام".
صحيح أنَّ ابن عربي يبجّل القرآن، إذ جعل منه أصل الأديان، ولكنَّ هذا لا ينفي اعترافه بالأديان الفروع واحترامه لها. يتجلّى ذلك من خلال الإقرار بأصالتها وتساويها مع الديانة الأمّ في الرتبة والمصداقيّة: "فمن شرب من أيّ نهر كان أو جدول، فهو كمن شرب منه (القرآن)، وكلّ حقّ فإنَّه كلام الله تعالى".
لا أوضح من هذا القول شاهداً على احترام الصوفي التنوّع الديني والاعتراف بحقّ الاختلاف.
وممّا يدعم هذا الاستنتاج هذه الأبيات (الطويل):
لقد كنتُ قبل اليوم أُنكِرُ صاحبي إذا لم يَكنْ ديني إلى دينه دَانِ
لقدْ صار قلْبي قابلاً كُلّ صُورةٍ فمرعى لغزلانٍ ودِيرٌ لِرُهْبانِ
وبيتُ لأوْثـــــان وكعبـــةُ طائفٍ وألواح توراةٍ ومصحفُ قُرآنِ
إنَّ الترقّي الروحي والمعرفة الكشفيّة أحدثا تحوّلاً مهمّاً في وعي السالك باكتشاف الوحدة من خلال الكثرة، وإدراك أنَّ الأديان، وإن تعدّدت وتنوّعت، فإنَّها لا تعدو أن تكون صوراً ومظاهر للكلمة الإلهيّة، فلا معنى، والحال تلك، لرفض المختلف ونبذ المغاير، بل ينبغي قبوله واحترامه، لأنَّ الآخر جزء من الأنا. ولا شكّ أنَّ هذا الضرب من التفكير يفتح أبواب التسامح الديني على مصراعيها ويدعم الحوار بين الأديان، ومن ثمَّ السلام العالمي، إذ "لا سلام بين الأمم ما لم يوجد سلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان ما لم يوجد حوار بين الأديان" (هانز كونج).
[1] نشر هذا الحوار ضمن كتاب "التصوف والعنف"، تنسيق صابر سويسي.