هجرة الأفكار
فئة : قراءات في كتب
علي أومليل مفكر مغربي قليل الإنتاج، بميزان من يجعل الكم معيارًا في تصنيف العلماء إلى طبقات وإحلال كل واحد منهم المقام الجدير به اعتمادًا على الوزن الصافي لحجم ما أساله من مداد وما خطه من أوراق، وبهذا المقياس سيكون أومليل، لا محالة، في عداد الطبقة السفلى من المثقفين، فعدد كتبه على مدار أربعين عامًا وزيادة لا يكاد يتجاوز عشرة كتب، غير أن معايير الجدة وعمق التفكير وأصالة الإنتاج وتميز المنهج كفيلة برفعه الى أعلى المقامات، وإنزال كثير من ذوي الأقلام السيالة إلى أسفل الدركات.
ظل أوميليل، كغيره من المثقفين العرب الملتزمين، مهمومًا بالقضايا الكبرى للوطن العربي، مركزًا في أعماله على قضايا الإصلاح السياسي والثقافي ومفاهيم حقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية، وإشكاليات التراث وإعطاب دولة ما بعد الاستقلال. ومن آخر ما صدر للدكتور أومليل عن مركز دراسات الوحدة العربية العام الماضي كتاب أفكار مهاجرة في 223 صفحة، يطرح فيه الإشكالات التالية:
- كيف تتبلور المفاهيم داخل موطنها الأصلي تاريخيًا؟
- وكيف هاجرت بعض من هذه المفاهيم من موطنها الثقافي الأصلي، وكيف استقبلت في موطن ثقافي أخر؟
- وكيف تم تأويل هذه المفاهيم في بلد الاستقبال؟
- وما الأسباب الكامنة وراء استعمالها لمقاصد غير مقاصدها الأصلية؟
يدور موضوع الكتاب حول سياقات ميلاد مفاهيم، كالديمقراطية والشعب والفرد والتنوير والعقلانية...إلخ، والكيفيات التي هاجرت بها هذه المفاهيم بلدها الأم، وللآليات التي تم من خلالها استقبال هذه المفاهيم في البلد المستضيف، وشبكات القراءة التي أعملها هذا الأخير في قراءتها وتكييفها، بل إفراغها من معانيها الأولى، وإعادة ملئها بمعانٍ جاهزة في الثقافة التراثية.
يحتوي الكتاب على مقدمة مهمة ومِؤطرة لكل مضامين الكتاب وستة فصول؛ ففي مقدمة الكتاب يعقد مقارنة بين هجرة الأفكار وهجرة البشر، فالأولى إما مطلوبة أو تأتي في ركاب الغزو، وهي فارضة نفسها في الحالتين، تتبناها نخب ترى فيها سلاحًا للّحاق بالعصر، وتقاومها تيارات أخرى ترى فيها سلاحًا لمسخ الهوية والتمكين للمستعمر.[1] غير أن الأفكار، مثلها مثل البشر، تتحول في معانيها ومقاصدها كما يتحول هؤلاء بفعل الهجرة، إذ يعمد المستقبلون إلى تراثهم للبحث عن المرادفات المحتملة، ليس بغرض الترجمة والتقريب فحسب، بل تحت تأثير آلية نفسية ذهنية تروم إثبات الذات الجماعية عبر ادعاء السبق والأفضلية.[2] كما يؤكد أومليل على أن تلون الأفكار ببيئتها وفقدانها للدلالة الأصل، ليس في حد ذاته بالأمر السيء، ولا بالأمر الذي يمكن تجنبه، شرط أن تساهم آلية التبييء هذه في إصلاح الأحوال؛ أي أن معيار المصلحة يصبح هو المحدد في نهاية المطاف.
غير أن هذا ليس ذريعة تعفي النخبة المثقفة من الاطلاع على أصول هذه الأفكار وحقل تداولها، وبمقتضى هذا الشرط يكون لزامًا التفرقة بين الاستعمال الدعوي السياسي للمفهوم واستعمال الباحث له، لأن المتلقي عند الأول هو الجمهور، بينما الفئة المخاطبة عند الثاني هي الجماعة العلمية، وعليه فإذا أعفى الأول نفسه من معرفة أصل المفاهيم التي يستعملها، فإن الباحث غير معفى من ذلك، خاصة إذا تعلق الأمر بلعبة المترادفات التي كثيرًا ما تطلق جزافًا[3] تحت عقدة التفوق، أو عملاً بمنطق النظائر والأشباه، فتختفي المسافة الدلالية والتاريخية بين الديمقراطية والشورى، وبين حرية التفكير والاجتهاد، وبين الهيئة النيابية المنتخبة وبين أهل الحل والعقد.
في الفصل الأول من هذا الكتاب الذي عنونه بـ"الإصلاح المقارن اليابان والصين وبلدان إسلامية" يحدد أومليل أوجه الاتفاق والافتراق بين التجربتين الآسيويتين، وبين تجارب مقابلة لها في العالم الإسلامي، خاصة في مصر وتونس والمغرب، إذ يسجل وجود مشترك أساسي بين هذه النماذج "وهو أن الدافع إلى الإصلاح لم يكن نتاج دينامكية داخلية، بل لمواجهة خطر استعماري يختلف نوعيًا عن كل تجارب الغزو التي عرفتها هذه البلدان قبل عصر الحداثة".[4] وللإجابة على هذا التحدي، تباينت المواقف عندنا كما عندهم إلى ثلاثة:
. اتجاه أول يدعو إلى العودة إلى الموروث وتأويله وفق أغراض الحاضر.
. اتجاه يدعو إلى القطيعة، ونسخ الخاص بالإنساني العام، الذي صارت تمثله الحضارة الغربية.
. اتجاه ثالث يمثله غالب الإصلاحيين الذين دعوا "إلى التمكن من أسباب قوة الغرب علومًا وتقانة وتنظيمات، مع تأصيلها ثقافيًا.[5]
بيد أن ما يمارسه الأنموذج الثالث من جاذبية سطحية يجب ألّا يخفي عنا الصعوبات الجمة التي تعترضه في محاولته المزج بين الأصيل والدخيل وبين الموروث والوارد. غير أن أوجه الاتفاق السابقة لا تمنع من الإقرار بوجود اختلافات جوهرية، بين التجربتين فيما يتعلق بمحتوى الهوية ومدى رسوخ الدولة وقيادتها للإصلاح، ودور الفكر الاقتصادي في عملية الإصلاح واختلاف مفهوم الدين عندنا وعندهم، والقرب أو البعد الجغرافي من أوروبا. فعلى المستوى الهوياتي، يلاحظ أومليل أن الدين عندنا يحتل مركز هذه الهوية، لذلك لا جرم أن يلعب الدور نفسه في تصور الإصلاحيين العرب والمسلمين، بخلاف التجربتين اليابانية والصينية اللتين نجد فيهما الهوية حضارية أكثر منها دينية، والدين عندهم قيم وأخلاق وتصور لكون أبدي غير قابل للفناء، أكثر مما هو شريعة "إذ لا نجد عندهم كتابًا دينيين يجعلون السياسة فرعًا للشريعة، ويسعون إلى تنظيم الاقتصاد ونظام البنوك على قواعدها، ولا شريعة عندهم تضع نظامًا للضرائب والإرث، وشروط تولي الولاية العظمى.[6] أما على مستوى العلاقة بين الدولة والأمة فيسجل أومليل أنها علاقة وحدة وتطابق، وهي وحدة ليست وليدة اليوم، بل هي وحدة متجذرة في التاريخ عكس ما هو عليه الوضع في العالمين العربي والإسلامي، إذ يتشبث القومي والإسلامي بعدم شرعية هذا التطابق، جاعلاً الأول من وحدة الأمة العربية على قاعدة الدولة القومية الكبرى أفقه، والثاني من وحدة الأمة الإسلامية تحت راية الخلافة الراشدة هدفه البعيد".[7]
أما العامل الاقتصادي، فلم يكن له دور أساسي في حركة الإصلاح العربية والإسلامية مثلما كان دوره في اليابان والصين، حيث غاب التقعيد الاقتصادي والاجتماعي للأفكار عند التراثيين والحداثيين، بينما لاحظنا كيف قادت الدولة الإصلاحية في اليابان "عملية بناء اقتصاد قوي، فتكون كارتيل الشركات الكبرى للصناعة والتجارة والتأمين والاتصالات والمواصلات، كما قام التحديث في الصين الماوية على أولوية تغيير البنية الاقتصادية للمجتمع "حتى صار بالإمكان الحديث عن قومية اقتصادية، حيث أضحى البناء الاقتصادي في هذين البلدين أداة لإثبات الهوية القومية"[8] عوض الاكتفاء بالشعارات والغرق في العموميات دون قاعة اقتصادية داعمة كما هو الحال عندنا.
ويناقش أوميليل في الفصل الثاني علاقة المفكرين العرب بالأنوار، مؤكدًا في بداية الفصل على أن أهم خاصية ميزت عصر الأنوار هي خاصية النقد، وخاصة "نقد الفكر الديني: نقد المعجزات والطقوس والأسرار والثيولوجيا"،[9] وهو ما لم يكن بمقدور المفكرين الإصلاحيين العرب القيام به، وعلة هذا الاختلاف تعود أولاً إلى أنّ نقد الأنوار جاء محصلة "لتطور في نمط التفكير، بفعل ثورات علمية متعاقبة، فكان لا بد أن تتصادم العقلانية العلمية والفلسفية لعصر الأنوار بالأسانيد التي يرتكز عليها الإيمان بالوعي وكتبه المقدسة، وبالمعجزات حين تكون حجة لإثبات الأديان، ومناقضة للتفسير الطبيعي للظواهر." والعلة الثانية مردها أن "الإسلام شكل هوية جماعية دفاعية لمجتمعاتنا الواقعة تحت الضغط الأجنبي، لذلك فقصارى ما استطاعوه هو محاولة تخليص الدين من الخرافات والوسائط."[10] وعكس الدين الطبيعي الذي تبناه الأنواريون، فقد دعا الاصطلاحيون المسلمون إلى "دين الفطرة مطهرًا من كل ما تراكم عليه من صنوف التقليد".[11]
وإذا كان نقد الدين هو الموضوعة الأهم التي اشتغل عليها مفكرو التنوير، فإن نقد الاستبداد لا يقل أهمية عن سابقه، مع ضرورة الإقرار بصعوبة الفصل بينهما، اللهم إلا على المستوى الإبستمولوجي والمنهجي. أما على مستوى الممارسة التاريخية، فغير خافٍ ما قام بينهما من علائق تراوحت بين التحالف والاحتواء والهيمنة والصراع...إلخ. وفي هذا السياق النقدي يلاحظ أومليل بذكاء أن نقد التنويريين للاستبداد الشرقي كان وسيلة غير مباشرة لنقد الاستبداد في بلدانهم.[12] إذ أعتبر هذا الاستبداد في نظر مفكري الأنوار هو المرض العضال الذي تسبب في ركود وتخلف المجتمعات الشرقية، وهو التشخيص الذي أٌقرّ به المصلحون العرب والمسلمون.[13] غير أن أومليل لا يخفي دهشته من أن الأمر لم يتوقف عند حدود الاتفاق في التشخيص، بل امتد إلى الحد الذي اقتبس فيها بعض إصلاحيينا من مفكري الأنوار، مفهومًا غريبًا عن روح الأنوار أولاً ومتناقض ثانيًا مع خلاصة التشخيص الذي أكد على أن الاستبداد السياسي هو العلة الأكبر للانحطاط. هذا المفهوم هو المستبد المستنير عند التنويريين والمستبد العادل عند إصلاحيينا، وهو الوحيد الذي بإمكانه أن يباشر إصلاحات عميقة في زمن مختزل يتحقق فيه ما تحقق عند الغير في الزمن العادي.[14] والسر الكامن وراء هذه المفارقة حسب أومليل هو ذلك البون الشاسع بين أفكار المثقف وما عليه واقعه، فهو من جهة يريد أن تتحقق أفكاره في مدى عمره، ومن جهة ثانية يصطدم بحقيقة أن زمان التغير التاريخي هو عادة أوسع من زمان العمر الفردي، ولكن المثقف وهو يستعجل التغيير قد يصاب باليأس أو قد يدعو كما دعا الإصلاحيون إلى مستبد عادل ينقذ البلاد ويصلح الأحوال.[15] ليخلص في نهاية الفصل إلى أن الإصلاح العميق بحاجة إلى قاعدة اجتماعية تسنده، وهي عادة الطبقة الوسطى المستنيرة، وهي للأسف ضئيلة وهشة في مجتمعاتنا العربية.[16]
ويقف بالتفكيك في الفصل الثالث عند مفهوم المركزية الغربية النابع من عقيدة التفرد والشخصية الاستثنائية التي صنعت ما عجز الآخرون حضاريًا عنه من علوم وقوانين وفنون وأنظمة اقتصادية،[17] ومقابل هذا الغرب المتفرد هناك شرق رازح تحت نير الطاعة والعبودية والكسل والخرافة من جهة، والعنف والتعطش للسيطرة من جهة أخرى."[18] وعبر هذا التمييز يرصد الصورة العدائية والمشوهة التي ارتسمت في المخيلة الأوروبية عن الإسلام منذ العصر الوسيط، باعتباره بدعة ضالة أو هرطقة مسيحية، أو ديانة يهودية في حروب عربية، "وما نبي الإسلام سوى طماع دجال دموي شهواني..."[19] هذا العداء القديم ظل كامنًا في الوعي الجماعي الغربي وطفا على السطح مرة أخرى لكن لأسباب غير الأسباب القديمة، يذكر من بينها الإرهاب الذي أعلنته تنظيمات إسلامية متطرفة على الغرب تحت مسمى الجهاد، ثم الهجرة ونتائجها على هوية المجتمعات الغربية.[20] والملاحظ أن "الذين يتشددون في الدفاع عن هوية الغرب يلتقون عند أومليل مع غلاة الإسلاميين، فالهوية التي يدافع عنها أولئك وهؤلاء هوية مغلقة متوحشة تكرس العدوانية كأداة لحفظ الاستثناء وحماية الخصوصية."[21]
وفي الفصلين الرابع والخامس، يطبق أومليل المنهج التاريخي المقارن الذي سبق أن أعمله في كتابات سابقة خاصة في كتاب الإصلاحية العربية والدولة الوطنية مع مفاهيم الشورى والديمقراطية والفطرة والطبيعة والإصلاح والاجتهاد...إلخ، في مقاربة حركية المفاهيم من الغرب إلى الشرق، ضاربًا في كتابه الجديد مثلين آخرين هما الفرد والشعب. وفيما يتعلق بالمفهوم الأول يؤكد أومليل على أن تبلوره كمفهوم مركزي داخل الحداثة الغربية في مناحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يعود إلى ممهدات عدة أدت إلى تغير عميق في العقليات من قبيل إرجاع المسألة الدينية إلى الضمير الفردي، وتأسيس الدولة الوطنية المدنية التي تكون معها مفهوم الفرد المواطن كذات قانونية وأخلاقية، وإقرار الحق في الملكية الخاصة وتقعيده القانوني، وجعل العمل سلعة تبادلية في علاقة العمل قوةَ إنتاج بالملكية.[22] "إن الفرد كقيمة في ذاته وكصاحب حق في حرية المعتقد والتفكير والتعبير، وفي المبادرة الشخصية، وكناخب يدلي بصوته في معزل الاقتراع، لا يمكن لأحد أن يثبت أنه وجد في كل العصور والمجتمعات، بل هو نتاج الحداثة الديمقراطية."[23] وبناءً عليه ينبه إلى عدم الالتفات إلى الزعم القائل بوجود أشكال تعبيرية لهذا المفهوم في جوانب من تراثنا، كشعر الفخر أو الغزل، فكثيرًا ما تكون معانيها مطروقة مكررة. وعلى الرغم من أن التصوف تجربة ذاتية إلا أن التعبير عنها يتشابه، فالجميع يتحدث عن الأحوال والمقامات والحب الإلهي ومعراج السالك، ولعل ما يثبت صحة هذه الدعوى ندرة السير الذاتية في تراثنا الأدبي".[24]
أما فيما يتعلق بمفهوم الشعب، فإن عراقته على مستوى اللفظ، لا تقوم دليلاً على تشابه في الدلالة والمعنى، فكلمة الشعب كما هي متداولة في الفكر السياسي الحديث لا رابط بينها وبين كلمة الشعب القديمة سوى رابط الاشتراك اللفظي، بينما المعاني هي على طرفي نقيض، ذلك أن الشعب اليوم في تمثلنا هو كيان جماعي مرتبط بروابط مشتركة وفاعل سياسي، ومصدر للسلطات، وصاحب سيادة، بينما الدلالة القديمة لا تحيل سوى على مجموعة قبائل يشترك السواد الأعظم من أعضائها في سمات قدحية من "فقر وجهل وغلظة الطباع وسرعة الهيجان والانقياد إلى الفتنة والفوضى."[25] بيد أن التعريف الحديث لمفهوم الشعب، باعتباره فاعلاً سياسيًا مالكًا للسيادة ومصدرًا للسلطة، لا يترتب عليه لزومًا، علاقة تطابق بين الديمقراطية والشعب، فالتقريب بينهما يقتضي عملاً مستمرًا شاقًا وطويلاً، "لتغيير العقليات من جهة، والنضال السياسي لرفع الشعب السوسيولوجي إلى مستوى المرجعية الديمقراطية بقيمها المتكاملة."[26] وهو التحدي الأكبر الذي تواجهه مجتمعاتنا العربية، خاصة من شهد منها حراكًا ثوريًا وانتخابات، ما دامت الديمقراطية كمنظومة قيم، هي أكبر من أن تختزل في العملية الانتخابية، مهما كانت درجة نزاهتها، إنها أولاً ثقافة تتأسس على "الإيمان بحرية الرأي والتعبير والاعتقاد والقبول بالتعددية والحق في الاختلاف، والقبول بنتائج الانتخابات لتسهيل تداول السلطة، كما تستلزم انتشار تعليم حديث ينشأ على القيم الديمقراطية، وقاعدة واسعة لاقتصاد حديث ومجتمع أساسه المساواة في المواطنة وليس الولاء الديني والطائفي والعشائري".[27]
وفي الفصل السادس والأخير من الكتاب، والذي عنونه بمدينة الفلاسفة، يطرح أومليل السؤال التالي:
هل يستطيع المفكرون العرب المعاصرون أن يجدوا في تراثنا الفلسفي سندًا لهم في تأسيس فكر سياسي؟
وفي مقاربة الأشكال بمنهجية تاريخية يعقد أومليل عبر صفحات مقارنة تمثيلية بين أفلاطون والفارابي ليخلص إلى جملة من النتائج، منها: أنه ليس هناك فكر سياسي تركه لنا فلاسفتنا، فكل حديثهم عن المدينة والعلم المدني والرئيس والملك...إلخ، هو حديث ميتافيزيقي محض لا علاقة له بالسياسة علمًا أو نظامًا، وما يسمى المدينة الفاضلة عندهم هو عقيدة نظام معرفي ميتافيزيقي، رأسه ما سموه الواحد الأول واجب الوجود، تصدر عنه العقول والأفلاك والسماوات حتى العالم الأرضي، وذلك عبر وسائط تحفظ لله وحدانيته وتنزيهه، فنحن أمام نظرية في المعرفة موغلة في الميتافيزيقا، ولسنا أمام فكر سياسي.[28]
لقد اقتدى فلاسفتنا، من مثل الفارابي وابن سينا وابن باجة، بالمدينة الأفلاطونية المثالية، بيد أنهم فهموها مجردة، وقد حولوها إلى مدينة منتزعة من كل إحالاتها السياسية والتاريخية. لا وجود لمفردات سياسية أساسية في كتابات فلاسفتنا القدامى، على الرغم من وجودها في مؤلفات الفلاسفة اليونانيين التي نقلت إليهم، كالحرية المدنية والسياسية وحرية التعبير والدستور المكتوب...إلخ، مع العلم بأن هذه المفردات الأساسية في الفكر السياسي قد قرؤوها فيما ترجم لهم من كتابات أفلاطون وأرسطو."[29] ليختتم كتابه داعيًا المثقفين العرب إلى عدم المراهنة على التراث السياسي للفقهاء أو الفلاسفة مفتاحًا نظريًا لولوج عصر الحداثة السياسية.[30]
إن تأسيس الفكر السياسي العربي الحديث مهمة لم تنجز بعد، ودور مثقفينا اليوم هو رفع هذا التحدي دون سند من الأقدمين. غير أن هذا الكتاب، على ما يحويه من أفكار غنية، بدا لي أن بعض القضايا والاستنتاجات الواردة فيه لا زالت بحاجة إلى توضيح وتفصيل أكبر.
. إذ نلاحظ مثلاً أن المقارنة التي عقدها الدكتور أومليل بين التجربتين الصينية واليابانية من جهة، والتجربة العربية الإسلامية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ما زالت بحاجة إلى تفاصيل ومعطيات أكبر، لتتضح على وجه الدقة مواطن الاختلاف والاتفاق. فالكتاب تضمن أطروحات كبرى وهامة، لكن ينقصها، إلى حد ما، المؤشرات التفصيلية الكافية، خصوصًا في حديثه عن علاقة الدين بالدولة. وفي هذا السياق كنت أود لو أن الكاتب بين لنا كيف أن عبادة الإمبراطور في اليابان، وتقديس مؤسسة الأسرة بقيمها التقليدية مثلاً لم تقف حائلاً أمام تقدمها، في الوقت الذي وقف فيه نظام السلطنة، والأسرة الممتدة بموروثها الثقافي المشرعن للهيمنة والسيطرة الذكورية مثلاً حاجزًا أمام تقدمنا؟
. في تكامل مع الملاحظة السابقة أرى أنه كان من الضروري التركيز بتفصيل على دور الجغرافيا السياسية في نجاح التجربتين اليابانية والصينية، رغم الصعوبات التي واجهتهما والتجارب الأليمة التي مرت بهما، في الوقت الذي فشلت فيه التجربة النهضوية عند العرب. فلا شك أن عامل القرب والموقع الاستراتيجي والصراع التاريخي الطويل بين المسيحية والإسلام جعل العرب يدفعون ضريبة أغلى، دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية العوامل الداخلية التي قادت إلى الانحطاط؛ فنحن ضحايا أنفسنا أولاً، ومن أخطائنا القاتلة نفذ الآخر، فأجهض وتحكم وتمكن.
. عند حديثنا عن التجربة الصينية، فإن أول ما يسجله الملاحظ، بعيون ليبرالية، هو المفارقة التالية: هناك تقدم اقتصادي وتكنولوجي كبير، ونسب نمو عالية، يوازيه استبداد سياسي يجمع بين تراث سلطوي كونفوشيوسي، وإيديولوجيا شمولية حديثة ومستوردة. فهل نحن بصدد تناقض مآله، بنظرة مستقبلية، إلى زوال، باعتناق الصين لليبرالية السياسية، أم نحن بصدد أنموذج مختلف قائم على ملائمة بعض منجزات الغرب الفكرية والتقنية مع التقاليد الآسيوية، والإيدولوجيا الرسمية للدولة؟ وهل الأنموذج الصيني، إذا وصمناه بالأنموذج، هو أنموذج قابل للتصدير، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نجاح التجربة السنغافورية؟
. عند حديث الكاتب عن الأصول التاريخية للفكر والممارسة الشعبوية خاصة في شقها السياسي، كان من المفيد لو عقد مقارنة بين الشعبوية في التجربة الغربية، ونظيرتها في التجربة الآسيوية، والتجربة العربية خاصة، أثناء المد الثوري الأخير وعند جزره، لنتبين هل الشعبوية تجري على نمط واحد، أم هناك اختلافات ثانوية أو جوهرية تتحكم فيها خصوصيات البيئة والمجتمع، والإرث الثقافي، ونوعية التحديات والمشاكل المطروحة؟
. عند تحليل الكاتب لطبيعة الصراع الإيديولوجي والاستقطاب السياسي إبان الثورات العربية وبعدها، أقام في تقديري فصلاً واضحًا بين التيارين المدني والأصولي، فالأول في نظره منافح عن الديمقراطية وفلسفتها، وداع للدولة المدنية، والثاني مناقض في عمقه للديمقراطية ومبادئها. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني هو: ألم تُظهر هذه التجارب الثورية نفسها، وما ترتب عليها، محدودية هذا التقسيم؟ فكم من الليبراليين والقوميين واليساريين الإصلاحيين، كشفوا عن مواقف، وأعطوا تصريحات، وقدموا مبادرات، وخطّوا كتابات، تقف على طرف نقيض والقيم الديمقراطية. ثم ألا تظهر التجربة التونسية ونجاحها إلى حدود اللحظة، قدرة التيارات الوطنية المعتدلة، بما فيها حركة النهضة، على تجاوز الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي، وخلق ما يشبه كتلة تاريخية، قائمة على أرضية ديمقراطية ودستور ديمقراطي متقدم؟ وبناءً عليه، ألا يمكن القول إن الصراع الحقيقي اليوم هو بين قوى الاستبداد، بكل أطيافها، والقوى الديمقراطية بكل مكوناتها؟ وأن تقسيم علي أومليل لا يستطيع أن يعكس لنا بدقة بهذا الصراع؟
. في الفصل السادس، وعند حديث أومليل، عن السياسة كما تمثلها الفلاسفة المسلمون، نفى بشكل جازم أن يكون أحد منهم استطاع أن يمتلك فكرًا سياسيًا، بل إنه يفهم بعمق ما كتبه أفلاطون وأرسطو في هذا المضمار. لكن الغريب هو اقتصاره في الحديث على الفارابي وابن سينا وابن باجة، وإغفاله لابن رشد، وما أظن ذلك نسيانًا منه أو سهوًا. فهل رأى الكاتب أن استحضار ابن رشد، وهو الذي اختصر كتاب السياسة لأفلاطون تحت عنوان "الضروري في السياسة"، وعقب عليه وربط بعض أفكاره بالمناخ السياسي الذي عاش فيه عهد الموحدين، سيحد من عمومية الاستنتاج الذي توصل إليه؟
ولا نحتاج ختامًا إلى التأكيد على أن الملاحظات السابقة لا تقلل من متانة وعمق الكتاب، بل لا أبالغ إن قلت إنه، عكس كثيرين ممن نقرأ لهم مئات الصفحات، ولا نكاد نخرج من قراءتنا لهم، بفكرة وحيدة تتسم بالجدة والأصالة، فإن كتابات علي أومليل ممتعة وعميقة ومركزة إلى الحد الذي يصعب معها محاولة تلخيص ما كتبه دون تعسف أو إخلال، فكل ما يطرحه مهم، ومن ثم فلا غنى للقارئ عن معانقة النص الأصلي.
[1] علي أومليل، هجرة الأفكار، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 7
[2] نفسه، ص 8
[3] نفسه، ص 10
[4] نفسه، ص 33
[5] نفسه، ص 34
[6] نفسه، ص 56
[7] نفسه، ص 57
[8] نفسه، ص 58
[9] نفسه، ص 73
[10] نفسه، ص 82
[11] نفسه، ص 83
[12] نفسه، ص 86
[13] نفسه، ص 93
[14] نفسه، ص 96
[15] نفسه، ص 101
[16] نفسه، ص 102
[17] نفسه، ص 107
[18] نفسه، ص 112
[19] نفسه، ص 113
[20] نفسه، ص 114
[21] نفسه، ص 120
[22] نفسه، ص ص 127-128
[23] نفسه، ص 145
[24] نفسه، ص 144
[25] نفسه، ص 153
[26] نفسه، ص 160
[27] نفسه، ص 165
[28] نفسه، ص 194
[29] نفسه، ص 195
[30] نفسه، ص 197