هل الندم توبة؟ أو في براءة الله من المؤمنين به
فئة : مقالات
حين كان المسيحيون يبحثون عن ألفاظ يونانية؛ كي تعبّر عن معنى ديني مثل: "التوبة أو الندم" على الذنب، اختاروا اللفظة اليونانية "μετάνοια"- métanoia، المكوّنة من "méta" (ما بعد، ما يتجاوز، ..)، ومن الفعل "νοεῖν"- noein (فكّر، عقل، أدرك..)، ويعني (ما وراء العقل)، أو النظر فيما أبعد من عقولنا.
إنّ الفرق بين المعنى اليوناني (تغيير وجهة النظر)، والمعنى المسيحي (الندم أو التوبة): هو كلّ مساحة النقاش حول ما يشيع في معارك الضمير في أفق الهوية المعاصرة. ولكن هل الندم توبة؟
جاء في كشاف اصطلاحات الفنون: "التوبة في اللغة: الرجوع، وفي الشرع: الندم على معصية؛ حيث هي معصية، مع عزم أن لا يعود إليها إذا قدر عليها". علينا أن نتساءل: رجوع إلى أين؟ ذلك أنّ المطالبين بالتوبة اليوم، في عصر الإرهاب هم أصلًا قد حطّموا مفهوم المكان المعاصر؛ أي مفهوم الوطن، وأقاموا أمرهم على أنّه لا وجود لأيّ حدود (قومية أو هوويّة) بين الناس أو الشعوب أو العصور، ومن ثمّ، باتوا فجأة بلا مكان يمكن الرجوع إليه، وهذه العلاقة الهلاميّة مع المكان، هي جزء لا يتجزّأ من تصوّر جذريّ للانتماء: إنّه انتماء إلى (جماعة أو دولة) يمكن نصبها في أيّ مكان. ومع أنّ ربط التوبة بالندم، هو علامة مهمّة على دلالة التوبة، إلاّ أنّ القيود التي أثبتها الفقه الإسلامي الكلاسيكي، هي إشارات صارمة على أنّ التوبة لا تخلو من مفارقات مرعبة.
إنّ موضوع التوبة هو "المعصية"، مع تمييز شديد عن مجرّد (الزلّة)، فقتل الأبرياء ليس زلّة؛ أي ليس فعلًا من الصغائر يفعله [الفاعل] عن غير قصد؛ بل هو معصية؛ أي فعل حرام يقصد إلى نفسه مع العلم بحرمته. وهكذا، فإنّ الشرع (أي فقه الملة الدينية)، قد تلطّف في استخراج معنى التوبة، حتى لا ينقلب الأمر إلى سخرية من الله بوسائل أخلاقية. لا يمكن أن يتوب "المؤمن" إلاّ عن معصية؛ فما هو مباح ليس موضوع للتوبة. وأوّل مفارقة تعترضنا، هنا، أنّ المؤمن لو كان يعتقد أنّ القتل ليس معصية؛ بل (جهادًا صُراحاً)، لكان في حلٍّ من أيّ توبة، وبالتالي، فإنّ النقاش معه على أساس التوبة هو مغالطة فقهيّة لغير الناطقين بها.
لا يندم المرء على المباح أو على طاعة ولي الأمر: هذا يعني؛ أنّ الإفتاء بالقتل يجعل، المؤمن في حلّ من التوبة. وفجأة يتعقّد الإشكال؛ لأنّ "التكليف" قد غيّر من وجهه، فلا يندم، إذن، إلاّ من كان يشعر أنّ فعله "معصية دينية"، وليس مجرّد زلّة شخصية. قال التهانوي: "من ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع، أو خفة العقل، أو الإخلال بالمال والعِرض لم يكن تائبًا شرعًا". هو يميّز هنا بين ما هو ديني (المعصية)، وما هو إنساني (صداع، خفة عقل، إخلال بالمال والعرض)، بين ما يدخل في "الحياة الخاصة" وما هو "عمومي". لكنّ ذلك يعني أيضًا: أنّ خفّة العقل قد تحمينا من مسألة التوبة؛ فالمجنون غير مكلّف. وبالتالي، لا يمكن مطالبته بالتوبة. والمريض، أيضًا، لا يمكن أن نطالبه بالتوبة عن مرضه، وكذا المخلّ بماله وعِرضه.
وهكذا، فإنّ التوبة ليس مشكلًا أخلاقيًّا إلاّ عرضاً، وبهذا هي مشكل عموديّ؛ أي إزاء سلطة شرعية وبالتحديد غير بشرية. وليس المجتمع هو من نتوب إليه بل الله، وهكذا علينا أن نتساءل: ما هي صلاحية مطالبة "الجهاديين" بالتوبة باسم السلم الاجتماعية مثلاً؟ أو باسم الدساتير الوطنية؟ ألا يُعدّ ذلك مهاترة، ما بعد، حديثة معهم؟
شرط كلّ نقاش عن التوبة مع الجهاديّ المعاصر (أي القاتل باسم الدين راهنًا): هو أن نقنعه، أوّلًا، بأنّ القتل "معصية"، وهذا هو المعنى اللطيف في قول التهانوي: "الندم على معصية، من حيث هي معصية". عبارة: "من حيث هي"، يسمّيها هيدغر: "من حيث هي؛ تأويلية" هذه العبارة هي التي تعيّن مقام النقاش عن التوبة، فإذا لم يقتنع القاتل بأنّ القتل هو معصية؛ أي معصية من حيث ماهيته، فإنّ كلّ حديث عن التوبة هو شجار أخلاقي خارج قواعده، وحتى لو أنّه أقرّ بأنّ فعله معصية، فإنّه يجب أن يصاحب ذلك الإقرار "عزم أن لا يعود إليها إذا قدر عليها"، فالعزم قرار، ولكنّ مضمونه ليس الفعل؛ بل تعطيل القدرة على الفعل. ذلك يعني؛ أنّ العاجز أو غير المتمكّن من "القتل"، لا يُعدّ موضوعًا للتوبة، ومن يترك ما لا يستطيع ليس تائبًا؛ فوحده القادر على القتل يمكنه أن "يعزم" على عدم العودة إلى القتل. وهكذا، لا تنتج التوبة عن العجز أو الفشل. فالتوبة ليست فشلًا إجرائيًّا؛ بل هي قرار شرعي، حيث لا معنى لأيّ عامل نفسي، مثل: صداع شارب الخمر، أو خفّة عقله. أو اجتماعي (الإخلال بالمال)، أو أخلاقي (العِرض)، ومن ثمّ، فإنّ توبة المتديّنين تقع خارج مفردات النقاش الحديث عن النقد الذاتي، أو مراجعة المواقف، فهي اعتراف بأنّ القتل، مثلًا: "معصية من حيث هي معصية".
وهذا تقرير مقوليّ، يتعلّق بمقولة التوبة، كونها موقفًا تأويليًّا يفهم المعصية بوصفها معصية، وليس بوصفها شيئًا آخر لا يدخل في تعريفها "الشرعي"، وهي في نفس الآن عزمٌ أو قرار جذري بعدم العودة، حتى لو تيسّرت القدرة على إتيان الفعل نفسه. بذلك يتوضّح أنّ الندم ليس توبة إلاّ استبشارًا؛ أي كنوع من الدعوة إلى التوبة، وهي دعوة لا يمكن أن تتمّ إلاّ بين "متديّنين" داخل نفس الجماعية الدينية، وليس بين (جهاديين ومجتمع مدني حديث).
ومن المفيد هنا، أن نذكّر بأنّ الجدل حول صحة التوبة في الإسلام الكلاسيكي، لم يكن بسيطًا أو على سمت واحد، أو خاليًا من المفارقات؛ بل كان نقاشًا ثريًّا ومعقّدًا ومؤلمًا، مثلًا: إنّ أطروحة المعتزلة عن التوبة لم تكن موضع ترحيب عند أهل السنة؛ إذ تشترط المعتزلة في التوبة أمورًا ثلاثة: "رد المظالم، وأن لا يعاود ذلك الذنب، وأن يستديم الندم". وعند أهل السنة هذه الأمور غير واجبة في صحة التوبة. وذلك على هذا النحو: هم يخرجون رد المظالم من باب الندم، ولا يشترطون عدم المعاودة، وأخيرًا، يعتبرون أنّ استدامة الندم لا تخلو من "الحرج المنفي عنه في الدين". هذه الاعتراضات الثلاثة تقودها نزعة واضحة للتخفيف في شروط التوبة: التوبة لا تحتاج إلى محاسبة، والتوبة ليست موقفا نهائيًّا من الحياة، والتوبة يجب حمايتها من "الحرج" الذي يؤدّي إلى إفساد أصل الدين، فهي ليست تعجيزًا. وذلك يعني أنّ المطالبة بالتوبة ينبغي أن تُفصل عن المحاسبة القانونية، وهي لا ترتبط بالندم إلاّ بشكل ظرفي، وينبغي ألاّ يكون الظرف فوق طاقة البشر.
هذا الجدل حول صحة التوبة، سمح بتطوير جهاز مفاهيمي مثير حولها، فتمّ اختلاف كبير حول مفاهيم (التوبة المؤقتة) في وقت دون وقت، و(التوبة المفصّلة) عن أمر دون أمر، و(توبة العوام؛ أي توبة الذنوب)، و(توبة الخواص؛ أي توبة الغفلة عن الله)، و(توبة الإنابة؛ أي أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك)، و(توبة الاستجابة؛ أي أن تستحي من الله بقربه منك)؛ بل تمّ تخريج تأويلي للتوبة بناء على بنية تجربة الزمان الخاصة بالمؤمن في العصر الوسيط.
"قال أهل السنة: شروط التوبة ثلاثة: ترك المعصية في الحال، وقصد تركها في الاستقبال، والندم على فعلها في الماضي". وهذه "فينومينولوجيا" صغيرة عن التوبة، باعتبارها تأخذ بنيتها العميقة من الشعور الثلاثي بالزمان؛ فالتوبة لا تكون إلاّ في الحال، وليس هناك توبة لا تتمّ في الحاضر، وهي موقف حضوري بحت، والتوبة: قصد نحو المستقبل، وعزم على نوع جديد من المستقبل، ولا معنى لتوبة بلا وعود؛ أي بلا مستقبل أو عاجزة عن المستقبل، وهي ندم على الفعل الماضي؛ فلا معنى لتوبة بلا ذاكرة.
وهو تفريع إشكالي وجد في كلام المتصوّف أنحاءً مثيرةً من التأصيل، ولاسيّما على أساس الربط بين التوبة والنسيان. هل التوبة نسيان؟ لا يمكن فهم ندم لا ذاكرة له؛ فالناسي ليس نادمًا، ومن ثمّ، فإنّ التائب: هو من يجيد تذكّر الذنب الذي اقترفه.
وهكذا قال السري السقطي (وهو من أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري): "التوبة: أن لا تنسى ذنبك". لكنّ التهانوي سرعان ما يأتي بقول للجنيد: "التوبة أن تنسى ذنبك". ويؤكّد أنّه: "لا تناقض بين العبارتين"؛ إذ إنّ التوبة: مصطلح يقول الشيء وضدّه، وهي سمة رائعة سوف يطلق عليها هيغل صفة "الروح التأمّلية للغة"، تلك التي تعرض عن العناد بين "إمّا... أو"، وتقول الأمرين في لمسة واحدة. والمتصوّفة يذهبون بالتوبة إلى أقصى احتمال لها، حيث يقول الثوري: "التوبة أن تتوب عن كل شيء سوى الله". وقال رويم بن أحمد: "معنى التوبة أن تتوب من التوبة".
هذا التدرّج الصوفي في مقامات التوبة: من عدم النسيان، إلى النسيان، ثم إلى توبة التوبة. قد يؤدّي استدعاؤه اليوم في النقاش الحالي حول توبة الإرهابيين إلى مهزلة فقهية؛ إنّها مهزلة النقاش حول مفردات الملة، وخاصة في شطحاتها الصوفية، ولكن على ركح المجتمع الحديث حيث تكون لكلّ نوع من الخطاب محامل تداولية مرعبة، وكلّها تصبّ إمّا في تنصيب مغالطات عمومية حول التوبة، وإمّا في محاولة معاجلة مشكل أمنيّ بوسائل دينيّة، وفي الحالتين تسود إرادة خطاب مضرّة، حتى لو كانت بريئة.
إنّ الرهان المعياري الكبير هنا: كيف يمكن الجمع في مستوى حجاجي واحد بين توبة المؤمنين (في فقه الملة)، وتوبة الإرهابيين (في قانون الدولة الحديثة)؟ إذ بقدر ما تتبيّن طرافة مفهوم التوبة في فقه الملة؛ حيث إنّ: "التوبة هي صفُّ عامة للمؤمنين"، بقدر ما يرعبنا الدفاع السياسي عن توبة الإرهابيين، وكأنّ مفهوم التوبة يمكن أن يخرج من عقيدة الإرهاب الحديثة.
إنّ الإرهاب: هو نوع العدميّة الخاصة بالمجتمعات، والتي لا تزال تستمدّ من الدين شطرًا أخلاقيًّا حاسمًا من مشروعيتها العميقة، ومن ثمّ، فإنّ فصل الدين عن الإرهاب، هو الشكل الوحيد من تحرير التوبة من غير المؤمنين بها، ولا معنى لأيّ نقاش حول توبة الإرهابيين، فلا يتوب إلاّ المؤمنون.
موضوع الإرهاب هو قتل الأبرياء، أمّا الإيمان فهو براءة الله في أفق الإنسانية، فوحده الله، إذن، يتوب عن المؤمنين.