هل يفرض كوفيد-19 منظومة تربوية عالمية؟
فئة : مقالات
ملخص:
لا يستقيم الحديث عن المدرسة دون استحضار أهم النقود التي وجهت إليها، وخصوصا من طرف أطروحتي "إعادة الإنتاج" لكل من بيير بورديو وجان كلود باسرون (Pierre Bourdieu et Jean- Claude Passeron)، و"مجتمع بلا مدارس" لإيفان إيليتش (Ivan Illich)، باعتبارهما من أبرز النقود التي ظهرت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتوجهت إلى المدرسة في علاقتها بالبنيات والأنساق المشكلة للمجتمع.
في ورقتنا هذه، سنحاول إعادة قراءة هذه الطروحات على ضوء الشروط والانعكاسات الذاتية والموضوعية، التي خلفتها تداعيات فرض الحجر الصحي ومسألة التباعد الاجتماعي، كآليات احترازية أولية للحد من الانتشار السريع لجائحة كوفيد-19 (Covid-19)، وسوف نسائل في نفس الآن، الأركان والأسس التي قامت عليها هذه الأطروحات، وذلك بعد وضعها في كفة ميزان، مقابل قضية "التعليم عن بُعد"، باعتبارها الآلية التي حاولت من خلال الدول والحكومات تشكيل وتكييف المدرسة ونظامها التربوي بمختلف مناهجه البيدغوجية والديداكتيكية وفق تداعيات هذا المستجد (الجائحة Pandémie).
تمهيد:
سبب الانتشار السريع والكوني لجائحة كوفيد-19 رجّات عنيفة على مستوى التفكير والحركة، صاحبه تقييد لحريات الأشخاص وتقزيم لدور المؤسسات التقليدية المكونة للدولة العصرية؛ فباستثناء منظومتي الأمن والصحة، نتج عن التطبيق الفعلي للحجر الصحي تغييب كامل لحرية الإنسان ولنشاطه اليومي، فأصبح في وقت قصير جدّا خاضعا للضرورات الطبيعية، رغم التقدم الكبير الحاصل في استعمال العقل وإعمال التفكير، لتسخير الكون بجميع عناصره ومكوناته لمصلحة هذا المخلوق العاقل. لقد أثبت انتشار كوفيد-19 بما لا يدع مجالا للشك، الضعف والقصور المتأصل في الجنس البشري، وأنه يتوجب عليه مزيدا من العمل والبحث والاجتهاد لإخضاع نواميس الكون والتحكم فيها؛ فالعقل البشري -كما يقول أصحاب الاختصاص من الأطباء- له من القدرة الخارقة واللامتناهية على وضع الغايات والأهداف، ثم ابتكار وسائل وآليات لتحقيقها، ونقصد هنا القدرة الكامنة في النفس البشرية على ابتكار أنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية تتكيف مع متغيرات الأوضاع التي تفرضها التحولات الطبيعية غير المتوقعة.
بالرجوع إلى واقع الحياة، ومن داخل الحجر الصحي، نلمس بوضوح أن هناك العديد من الطرائق والأساليب في المعاملات والتصرفات والممارسات التي أبدعها الإنسان، بل وتفنن فيها للتكيف مع الوضع المفروض عليه جبرا، ذلك الوضع الذي يستلزم بالضرورة التباعد الجسدي، فما كان عليه سوى إخلاء كل التجمعات على اختلاف أشكالها وألوانها، مما نتج عنه تباعد اجتماعي بين الفواعل والأنساق الاجتماعية، فتوقفت معظم الأنشطة الحياتية العادية، الأمر الذي دفع هذا الإنسان إلى إبداع صيغ جديدة، لتحويل جميع أنشطته إلى أخرى "عن بُعد"، فأصبح الحديث عن "العمل عن بُعد"، "الإدارة عن بُعد"، "التجارة عن بُعد"، "الدراسة عن بُعد"...
أمام هذه الوضعية التي آلت إليها الحياة الإنسانية، وهذا التحول المفاجئ في أنماط الحياة على جميع الأصعدة، نالت المدرسة حظا وافرا من هذا التحول ضمانا للاستمرارية البيداغوجية، وهو ما تجسد في تكثيف إنشاء مواقع رقمية تربوية حكومية وغير حكومية على الشبكة العنكبوتية، فسارعت العديد من الجامعات والمؤسسات التربوية والأكاديمية إلى توفير مادتها البيداغوجية عن بُعد، واشتد التنافس الحميم فيما بينها لعرض منتوجها التربوي الرقمي والترويج له بكل الطرائق، هذا إلى جانب الزخم الهائل الذي لم يفتر إنتاجه من محاضرات ومقاطع صوتية ومصورة، كما تضاعفت المراجع والمصادر والكتب المرقمنة على الشبكة العنكبوتية، وفتحت المكتبات الرقمية أبوابها أمام مريديها، فأصبح بإمكان كل متردد على الإنترنيت متابعة دروس تهم تخصصه من منصات تعليمية عديدة، والحصول على المحتوى المعرفي الملائم عن بُعد، بل هناك من البرامج والتطبيقات ما يتيح له إمكانية متابعة محاضرات بشكل مباشر والإسهام في النقاشات، وإبداء رأيه حول مواضيعها بغض النظر عن مكان تواجد كل من الملقي والمتلقي، بل والرجوع إليها متى شاء ذلك. فتنامى الإقبال المكثف على التعليم عن بعد، وزاد من حدته التنوع والاغتناء في الندوات واللقاءات والورشات الافتراضية، والدروس التي تعرضها القنوات التلفزية.
أثبت انتشار كوفيد-19 بما لا يدع مجالا للشك، الضعف والقصور المتأصل في الجنس البشري، وأنه يتوجب عليه مزيدا من العمل والبحث والاجتهاد
انطلاقا من هذا التحول السريع والمفروض، فهل نستطيع المجازفة والقول بأن الإنسانية عموما تتجه بصمت نحو بناء منظومة تربوية رقمية عالمية تنصهر فيها المنظومات التربوية القطرية، وتنمحي فيها الحدود الجغرافية الضيقة للدول، وتكون لها من القوة ما يمكنها من تجاوز المناهج البيداغوجية والديداكتيكية التقليدية، لتتكرس كبديل لا محيد عنه للدروس الحضورية التي تتم بين جدران المؤسسات التعليمية؟
من أجل مقاربة التساؤل أعلاه، ارتأينا تناوله من خلال معاودة قراءة النقد الذي تعرضت له المدرسة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لكن بمنظور جديد يتأسس على ضوء قضية التعليم عن بعد ومسألة التباعد الاجتماعي التي فرضتها تداعيات جائحة كوفيد-19.
القراءة الأولى: تعرض لإشكالية تكافؤ الحظوظ والفرص والمساواة والديمقراطية بين تلاميذ مختلف الطبقات الاجتماعية كما جاءت بها أطروحة إعادة الإنتاج، على ضوء مستجد التعليم عن بُعد.
القراءة الثانية: تتناول اللاسلطوية التعليمية "اللامدرسية"، وهي الأطروحة التي تدعو إلى مجتمع بلا مدارس، والاقتصار فقط التعليم عن بعد.
القراءة الثالثة: التي نقف من خلالها على واقع المدرسة اليوم في ظل تداعيات جائحة كوفيد-19، ومسألة التعليم عن بعد.
وذلك لمحاولة استشراف رؤية مستقبلية حول احتمالية قيام منظومة تربوية وتعليمية كونية، انطلاقا من خلاصات تحاليل وقراءات الأطروحات السابقة.
تجدر الإشارة في هذا التمهيد، إلى أن هدفنا في هذه الورقة ليس تقديم شرح كامل وتفصيل شامل لكل من أطروحتي إعادة الإنتاج ومجتمع بلا مدارس وواقع المدرسة حاليا، وننبه أننا تعمدنا تجنب الخوض في جميع الاتجاهات النظرية والنقود التي تناولت المدرسة والمنظومة التربوية، سواء عند رواد علم الاجتماع والفكر التربوي بدءا من سان سيمون وهربرت سبنسر وفرانسوا فورييه ودوركهايم، أو عند المنظرين من الفلاسفة القدامى من أمثال جون جاك روسو وكانط وهيجل ونيتشه وستوارت وجيمس ميل، أو عند مفكري بداية القرن العشرين من أمثال شارل جد وروبنز وهاولي سميت وجورج كاونتر أو حتى عند تربويي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، من أمثال كارل مانهايم ووليم بوكوفر وبيرنشتاين وبودلو واسطابلي وفيفيان جماتي، [1] وغيرهم، بل نريد هنا أن نشير فقط إلى أهم الخلاصات التي جاءت بها أطروحتا إعادة الإنتاج ومجتمع بلا مدارس، باعتبارهما أهم الأطروحات التي خاضت في المدرسة والقضية التربوية، مع إعادة قراءتهما على ضوء مستجد كوفيد -19 وانعكاساته، وخصوصا مسألة التعليم عند بُعد.
ومن داخل الحجر الصحي، نلمس بوضوح أن هناك العديد من الطرائق والأساليب في المعاملات والتصرفات والممارسات التي أبدعها الإنسان
1- "إعادة الانتاج" وقضية التعليم عن بعد
في الستينيات من القرن الماضي، اغتنى الحقل التربوي بالدراسات والتحاليل التي خاضت في المدرسة والمسألة التربوية، وبرزت بشكل لافت أطروحة إعادة الإنتاج، التي أتى بها كل من بيير بورديو وجان كلود باسرون، ونشراها في "إعادة الإنتاج، في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم"[2]، وتم نشرها في بداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث احتلت مكانة متقدمة في التحليل والتفسير لمسألة المدرسة وعلوم التربية بشكل عام، كما أثرت في إعادة توجيه البحوث والأعمال التربوية لدى شريحة هامة من المفكرين والتربويين.
لقد بنى الباحثان أطروحتهما على نظرية الصراع القائمة في المجتمع، وهو طرح يحاول فهم العلاقة الجدلية بين النظام التربوي والتشكيلات الاجتماعية، وأن المدرسة تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع على صورة التباين الطبقي الكامنة فيه[3]، وهي ذاتها (المدرسة) نتاج للتقسيمات الطبقية داخل المجتمع. ما تميزت به هذه الأطروحة، هو كونها عبارة عن نتائج لبحوث أمبريقية قام بها الباحثان على طلبة وطالبات من بعض الجامعات والمدارس العليا بفرنسا، وتوصلا إلى مبدأ أساسي مفاده أن التفاوت في النجاح الدراسي للمتعلمين يعود بالدرجة الأولى إلى الأصل الاجتماعي، وغياب تكافؤ الفرص بين أفراد الطبقات العليا وأفراد الطبقات الدنيا؛ بمعنى أن النجاح والتفوق الدراسي يتحدد من خلال ثلاثة عناصر أساسية؛ أولها: الانتماء الطبقي، ثانيها: مسألة الانتقاء الصارم التي تعتمد بالأساس على معيار القدرة اللسانية للطلبة، ثالثها: معايير وطرائق التصحيح من قبل المشرفين. بتعبير آخر أن هناك علاقة عكسية بين رصيد الرأسمال الثقافي المتحصل من الوسط الاجتماعي، ودرجة النجاح في المدرسة، فالوظيفة الإيديولوجية من بين الوظائف الرئيسة للمدرسة داخل المجتمعات الرأسمالية، حيث تعمل على تمرير ثقافة الطبقة المهيمنة اجتماعيا ونشرها داخل المجتمع من خلال المواد البيداغوجية التي تلقنها للتلاميذ، وفي نفس الوقت تعمق تهميش وإقصاء باقي الطبقات الاجتماعية الأخرى، وهو ما زاد من حدة منسوب النقود التي تعرضت له هذه الأطروحة، خصوصا من قبل العديد من المفكرين والمهتمين بالحقل التربوي، في الوقت الذي تبناها ودافع عنها آخرون، فتمتعت في بدايتها بحظ وافر من المصداقية والصلابة والصمود، بغض النظر عن السياق الزمني والنسق البنيوي الاجتماعي الذي يحيل على نموذج معين هو النموذج الفرنسي الغربي الذي جاءت فيه.
في ظل الشروط السالفة والمتغيرات والتحولات المستجدة التي فرضها انتشار كوفيد-19، ما موقعة أطروحة إعادة الإنتاج داخل نسق منظومة التربية والتعليم بشكل عام، ومسألة التعليم عن بعد بشكل خاص؟
فسارعت العديد من الجامعات والمؤسسات التربوية والأكاديمية إلى توفير مادتها البيداغوجية عن بُعد، واشتد التنافس الحميم فيما بينها لعرض منتوجها التربوي الرقمي والترويج له بكل الطرائق
يبدو أن هذه الأطروحة تجد تربتها الخصبة في أغلب مجتمعات الدول النامية والمتخلفة التي تعاني منظوماتها التربوية من اختلالات كبيرة، وتعرف تعثرا واضحا، تعمق بفعل العديد من الإكراهات التي تعيق تنزيل برامج ومناهج تتلاءم مع خصوصيات هذه المجتمعات. فالتقارير الدولية الرسمية وحتى المحلية، تتضمن تصريحات تنبه إلى قصور هذه المنظومات، وتحصي جملة من الأسباب التي يتحتم تجاوزها للنهوض بمنظومة التعليم، وما يزيد من الوضع تأزما هو تفشي معضلة الأمية بهذه المجتمعات، وخصوصا في صفوف فئة الشباب، ويأتي انخفاض مستوى المعلم (المُدرس) على رأس هذه الأسباب، وتؤكد هذه التقارير أيضا أن المنظومات التربوية بهذه البلدان تعتمد بالدرجة الأولى على آليتي التلقين والحفظ، التي تتم داخل حجرات المؤسسة التربوية، وهي أساليب بيداغوجية كلاسيكية غدت متجاوزة؛ بمعنى أن هذا النمط من التعليم يفرض التقييم عن طريق الاستظهار والاسترجاع كمعايير أساسية لقياس عتبة التحصيل، هذا إلى جانب ضعف الوسائل الديداكتيكية والتكنولوجية الحديثة، إن لم تكن منعدمة في كثير من هذه البلدان، ناهيك عن هزالة الميزانية والموارد المالية المرصودة لهذا القطاع المهم. فحسب تقرير للبنك الدولي[4] الذي جاء فيه أن 80% من المتمدرسين في السلك العمومي بالدول العربية تعاني من غياب الحد الأدنى الذي يعد جسرا موصلا إلى سوق العمل[5]، والسبب في ذلك هو تفشي البيروقراطية في القطاع الحكومي، إلى جانب الإحباط والأفق المظلم، نتيجة الانتشار الواسع لآفة البطالة بين الخريجين من الشباب؛ بمعنى اتساع الهوة بين المنظومة التعليمية وسوق الشغل، كما أن المدارس الخصوصية في هذه البلدان تجري فيها عمليات لتحديث أنماط وطرائق التعليم بشكل بطيء، نظرا لاعتمادها في مادتها المدرسة على بيداغوجيات لا تتماشى ومستويات التلاميذ المتمدرسين[6]، كما أنها بعيدة كل البعد عن الثقافة المحلية بالمعنى الأنثروبولوجي الذي يمنحه مالينوفسكي لمفهوم للثقافة[7]، إضافة إلى ضعف كفاءات وخبرات أطرها التربوية نتيجة ضعف التكوين والتدريب.
أمام هذا التعثر والفشل على مستوى المنظومات التربوية العالم ثالثية، وإلى جانب سوء التدبير والقصور الواضح في السياسات التربوية، خصوصا في إدارة أزمة التعليم عن بُعد في زمن كوفيد-19، التفت الساهرون على الشأن التربوي إلى ضرورة تحديث منظوماتهم التربوية بالشكل الذي ينسجم مع التحولات العالمية المتسارعة في ميدان التربية والتعليم، وهنا يعترضنا سؤال عريض حول مدى فعالية المنظومات التعليمية القطرية، وقدرة مؤسساتها التعليمية والتربوية وجامعاتها الأكاديمية على الانخراط في منظومة تعليمية عالمية، وعن مدى ثقتها في إمكانية التعليم عن بُعد، وجدواه وفاعليته.
لقد حتم كوفيد-19 على أغلب المجتمعات ضرورة الاتجاه إلى الأخذ بهذا النمط الجديد في التعليم، خصوصا بعدما ظهرت في الأفق بوادر نجاح بعض التجارب في بعض البلدان، حيث تكثف الاتجاه إلى اعتماد التقنية والتكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة في برامج تحديث المنظومات التربوية، وتشجيع الأسر على الإقبال على الربط بالشبكة العنكبوتية، والرفع من حضها في الولوج إلى وسائل الاتصال الرقمي الحديث. وهذا الاتجاه الجديد في الانفتاح يحتم مسائلة صمود الثقافات المحلية والهويات الخصوصية الوطنية والمحلية في وجه الثقافات والقيم الوافدة التي تتسلل إلى المجتمعات عبر الانخراط في هذا البراديغم الجديد، ومسائلة هذا الارتماء المتسرع وغير المحسوب العواقب من قبل هذه المجتمعات لمسايرة سيرورة وصيرورة التحول والانتقال إلى منظومة تربوية عالمية رقمية بامتياز.
هذه البلدان تعتمد بالدرجة الأولى على آليتي التلقين والحفظ، التي تتم داخل حجرات المؤسسة التربوية، وهي أساليب بيداغوجية كلاسيكية غدت متجاوزة
من جانب آخر، يظهر أن غالبية الدول المتقدمة التي لها حظ وافر من الديمقراطية، والتي تمتاز بمنظومات تربوية فعالة وجيدة، استطاعت أن تتكيف بسهولة مع التحولات المستجدة، ساعدها في ذلك ما ترصده حكوماتها من ميزانيات ضخمة للتعليم، ومن خلال العناية الكبيرة التي توليها لأطر الجهاز التربوي والتعليمي، ومما تخصصه للتلاميذ والطلبة من اهتمام وتشجيع وتحفيز على استكمال ومتابعة التمدرس، وما تستعين به في أساليبها الديداكتيكية والبيداغوجية من تقانة حديثة، وما توفره الشبكة العنكبوتية من امتيازات وإمكانات في خدمة منظومتها التعليمية، ومن ميزة تغطية إنترنيت شاملة لجميع المؤسسات التربوية والبيداغوجية، والاستفادة من التقدم التكنولوجي الحديث في وسائل الاتصال الرقمي، إلى جانب توفر جميع الأسر والمنازل على ربط بشبكة الإنترنيت. أقول، كل هذه الشروط السابقة، جعلت المنظومة التربوية لهذه البلدان تعرف نجاحا كبيرا، وبرز ذلك بوضوح إبان فترة تدبير مسألة التعليم عن بعد. فبالنظر للحصيلة الجيدة التي راكمتها أغلب الدول المتقدمة في تجربتها تلك، يمكن القول صراحة إنها فعلا تتجه بكل ثقة صوب الأخذ بنمط التعليم المرقمن، أو التعليم عن بُعد، وهو مطمح أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه مطمح مشروع وضروري، بالنظر للكم الهائل من الفوائد التي تم جنيها منه، وقدرته على فرض نفسه على أن يكون البديل الواعد للدروس الحضورية، خصوصا في فترات الجوائح والأزمات.
بناء عليه، إذا كان استعمال مفهوم إعادة الإنتاج في مدرسة المجتمعات الغربية، وخصوصا الأوروبية، له ما يبرره واقعيا، فإن ترحيله وإنزاله في مساقات اجتماعية وتاريخية مختلفة، يعكس مجموعة من الصعوبات، منها ما هو نظري ومنها ما هو تطبيقي، خصوصا في غياب تنضيدات اجتماعية محددة، وصراع اجتماعي واضح المعالم، وأيضا في غياب وجود هيمنة ثقافية وإيديولوجية تبلور مشروعا مجتمعيا يؤطر نوعا من التكامل بين الدولة والمجتمع والأمة[8]. هذا دون أن ننسى أن المدرسة ليست دائما تضطلع بدور نشيط في توزيع الأدوار الاجتماعية والمراتب والوظائف، بل يتدخل في هذه الأخيرة مجموعة من المضمرات والمقنعات، وغياب التنظيم والعقلنة داخل المجتمع، وقيام البناء العلائقي على شبكات الزبونية والقرابة والولاءات المختلفة[9].
في زمن كوفيد-19، التفت الساهرون على الشأن التربوي إلى ضرورة تحديث منظوماتهم التربوية بالشكل الذي ينسجم مع التحولات العالمية المتسارعة في ميدان التربية والتعليم
يمكن القول باختصار، إن المحاولات الأولى لتجاوز القصور الحاصل في أطروحة إعادة الإنتاج، انطلقت من خلال ابتكار طرق وأساليب تحقق قدرا من تكافؤ الفرص والحظوظ، أهمها لجوء العديد من المؤسسات التربوية الوازنة ذات الاستقطاب العالمي إلى توفير المادة البيداغوجية بكل مكوناتها عبر وسائل الاتصال (الدراسة بالمراسلة)، إلا أن الإقبال عليها في البداية كان ضعيفا، ثم ما لبث أن بدأ يعرف اهتماما متزايدا بفعل الانتشار الواسع للشبكة العنكبوتية، وظهور وسائل التواصل الاجتماعية، وبرامج المحادثات والبريد الإلكتروني، إلا أنه ومع تفشي جائحة كوفيد -19، وما استتبع ذلك من حجر صحي لمنع تفشي المرض وانتقال العدوى، تم اللجوء إلى التعليم عن بُعد كبديل استثنائي للدروس الحضورية. هذا النمط الجديد انتفى معه الحديث عن مسألة الانتماء الاجتماعي للتلميذ، وعن مسألة تكافؤ الفرص والحظوظ بين أبناء طبقات المجتمع، وعن مسألة الانتقاء والقدرة اللسانية للطلبة، كمحددات رئيسة في مسألة التفاضل في النجاح المدرسي؛ بمعنى أن التعليم عن بعد تجاوز آليا جميع الانتقادات التي رفعتها أطروحة بيير بورديو وجان كلود باسرون للمدرسة، وبالتالي فـ "إعادة الإنتاج" لم تعد صامدة أمام مسألة التعليم عن بُعد، وبالتالي يمكن القول إن هذا النمط من التعليم يضرب الأسس التي قامت عليها هذه الأطروحة.
2- كوفيد-19 يبعث الأمل في "مجتمع بلا مدارس"
من بين النقود التي وجهت للمدرسة إلى جانب أطروحة إعادة الإنتاج، نجد أطروحة أخرى دعا من خلالها أصحابها إلى موت المدرسة، وأن تصبح مجتمعاتنا بلا مدارس، وقد برز بوضوح في هذا الاتجاه، المفكر إيفان إليش[10] وأتباعه من المدرسة اللاسلطوية الأناركية.
باستقراء التاريخ القريب، نجد أن الإرهاصات الأولى التي مهدت لولادة أطروحة مجتمع بلا مدارس، ترجع إلى ما كتبه ويليم جودوين في رسالته التي نشرها سنة 1795، حيث تحدث صراحة عن مسألة اللاسلطوية في ميدان التعليم، ثم "التعليم الإلزامي الفاشل" الذي نشره بول غودمان سنة 1964، فـ "موت المدرسة" الذي ألفه إيفريت رايمر ونشره سنة 1965، ليأتي إيفان إليتش بـ "مجتمع بلا مدارس" سنة 1970.
تؤسس كل هذه الاجتهادات لفلسفة تربوية واجتماعية وسياسية، انطلاقا من مدرسة لا سلطوية؛ بمعنى الرفض المطلق لأية سلطة خارجية على المتعلم
تؤسس كل هذه الاجتهادات لفلسفة تربوية واجتماعية وسياسية، انطلاقا من مدرسة لا سلطوية؛ بمعنى الرفض المطلق لأية سلطة خارجية على المتعلم، بل ورفض مؤسسة المدرسة في كليتها، والدعوة إلى موتها، انطلاقا من رفض المرتكزات والأسس والتوجهات الإيديولوجية التي تقوم عليها المدرسة الحديثة. ومن بين أهم هذه المرتكزات، هناك التعليم الإلزامي الذي يرى فيه منظرو تيار اللاسلطوية التعليمية -وخصوصا إليتش- اعتداء على حرية الأفراد، من خلال جبر المتعلم على البقاء في مكانه مدة طويلة، وتسلط المعلم عليه، بغض النظر عن وعي أو عدم وعي المتمدرس بمعنى وشكل الحرية، فلكي يشعر هذا الأخير بالابتهاج والفرح والسعادة يجب أن يحس بأن له أهمية داخل النسق الاجتماعي، وأن مسألة إلزامية التعليم تشعره بأنه نكرة ولا رأي له، كما أنه يصبح خاضعا وخائفا من تقلبات أمزجة ونفسية المعلم، وأن التعليم الذي يتم داخل أسوار المدرسة حسب ما ذهب إليه إليتش يبرمج عقول المتعلمين على قبول "إشكالية التمدرس"؛ بمعنى يوقعهم في الخلط بين المدرسة والتعلم، بين الخدمة والقيمة؛ أي استساغة الخدمة المدرسية وتجاهل قيمتها، فينتفي حسب إليتش الهدف الأسمى من المدرسة، ومن أجل تجاوز ذلك، يقترح تحصيل المعرفة والعلم خارج أسوار المدرسة.
فكيف يتم التعليم خارج مؤسسة المدرسة حسب هذه الأطروحة؟ وما هي البدائل والحلول التي تقترحها؟
يستدل منظرو هذا الاتجاه بمجموعة من الشواهد، منها:
أولا: عندما ظهرت الحاجة إلى تعليم اللغة الإسبانية في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية لعدد من المدرسين والعمال، قام المفكر موريس جيري سنة 1956 بتكوين وتأهيل فرق عديدة ممن يتقنون هذه اللغة، حيث تكون لغتهم الأم، وفي أقل من ستة أشهر نجحت مهمة تعليم عمال المشروعات ومدرسي اللغة الإسبانية.
ثانيا: تجربة باولو فريري[11] الذي كان ينجح في تعليم الفلاحين وأهالي القرى القراءة خلال ثلاثين ساعة فقط، وسره في ذلك أنه كان يجمع الكلمات والموضوعات أثناء النقاشات التي تدور بين القرويين، فكان يوظفها في مناهج تعليم الناس القراءة، مبتعدا في ذلك عن موضوعات ومفاهيم معدة مسبقا، وأساليب جاهزة لا تمت إلى واقعهم الاجتماعي بصلة، ولا تشغل بالهم واهتمامهم. بمعنى آخر، أنه كان يرفض التعليم البنكي الذي يقوم على نقل المعلومات ومقررات الكتب المدرسية إلى أدمغة المتعلمين، ويرفض التلقي السلبي واسترجاع المعلومات المودعة لدى المتعلم.
وهناك حجة دامغة أخرى يمكن أن ترفع من منسوب الدعوة إلى التخلص من المؤسسة التعليمية، هي أن أغلب خريجي المدارس وأصحاب الشواهد لا يجدون عملا في مجتمعاتهم
ويعلن إليتش في مؤلفه "مجتمع بلا مدارس" صراحة أن الطالب أو التلميذ يجلس في مقعد بالمدرسة لعدة سنوات لتعلم لغة معينة، لا يقوى حتى على تكوين جملة مفيدة، بل لا يستطيع قراءة بعض الكلمات وتمييز حروفها. ولتجاوز القصور ذاك، يقترح المفكر بدائل أخرى عن المدرسة منها: التعليم الشبكي، التعليم المنزلي، التربية في الطبيعة، ومعسكرات الكشافة...
لذلك، فهو يدعو إلى التخلص من المدرسة، ويتحجج بأنها تعلم نوعا من الخلط بين كيفية الحصول على المعرفة وبين المادة التعليمية، فلا يعرف المتعلم كيف يميز بين التعلم الذي هو فن العيش، والتعليم الذي يعني تحصيل معرفة محددة بهدف الانتقال من مستوى إلى مستوى آخر، ويضيف أن الثقة العمياء في مؤسسات الدولة: المدارس، الإدارات والمؤسسات عموما، تجعل المتعلم يغير قيمه وتمثلاته عنها ونظرته إليها، حيث لا يمكنه الاستغناء عنها البتة، أو يمكنه تصور دولة بدون مدرسة، وهذا يفضي بالاستتباع إلى أن المدرسة تبني فواعل اجتماعية تسعى إلى المطالبة بمواد استهلاكية ومنتوجات من مؤسسات ومدارس، هي بنيات وتشكيلات مؤسساتية ترزح أصلا تحت قبضة الطبقة التكنوقراطية داخل المجتمع، والتي بإمكانها تغيرها وتشكلها متى شاءت ذلك، وفق مصالحا وتوجهاتها.
وهناك حجة دامغة أخرى يمكن أن ترفع من منسوب الدعوة إلى التخلص من المؤسسة التعليمية، هي أن أغلب خريجي المدارس وأصحاب الشواهد لا يجدون عملا في مجتمعاتهم، وحتى إن تحصلوا على فرصة عمل، فإنهم يتوجب عليهم الخضوع لدورات تكوينية تؤهلهم لممارسة هذه الوظيفة، وهو ما يفسر فشل المدرسة في تكوين وتخريج الموظف الجاهز، بمعنى أن المدرسة تعلم المتعلم ما لا ينفعه ولا يفيده. وهذا برهان بين على أنها تسعى إلى تحقيق مصالح الطبقية المهيمنة إيديولوجيا واقتصاديا وسياسيا داخل المجتمع.
يبدو أن المجتمع اليوم، يأمل في تكوين متعلم يعتمد على ذاته، تكون له الحرية في التفكير والاختيار، الإنسان المتعلم المؤمن بأن المعرفة ليست محصورة فقط بين جدران المؤسسات. الواقع أن المدرسة لا تزرع في المتعلم ذلك الوعي الذي يمكن المراهنة عليه، والذي من أجله وجدت المؤسسة التربوية في مفهومها العام. يمكن القول إن المقولة الشائعة "الحياة مدرسة"، تلتقي مع استنتاجات إيفان إليتش في أن جميع ما يتعلمه ويكتسبه الإنسان في حياته، يكون عن طريق المغامرة أو القلق بالمفهوم الوجودي، وهذا يؤكد لنا مع إيليتش أن المدرسة ليس بالضرورة المكان الوحيد للتعلم، وهو الأمر الذي لا ينفي أيضا التعلم عن طريق التعليم داخل المؤسسة، لكن بشروط ومعايير ومواصفات خاصة.
الواقع أن المدرسة لا تزرع في المتعلم ذلك الوعي الذي يمكن المراهنة عليه، والذي من أجله وجدت المؤسسة التربوية في مفهومها العام
نقول هنا إن ما ذهب إليه إليتش ومن سار في فلكه من اللاسلطويين التربويين، يلتقي في جانب مهم مع مبادئ وأهداف التعليم عن بُعد، التي تتلخص في دمقرطة المدرسة والمسألة التربوية وتعميم الاستفادة من التعليم، واعتماد التحفيز الذاتي للتعلم من خلال توظيف أساليب المكافأة والشجيع، والتحرر من قيود الزمان والمكان، وتوفير فرص تعليمية لمن لا تسمح له ظروف الحياة بالانتظام بمؤسسات التعليم التقليدي، أو يجد صعوبة في التأقلم مع الدروس الحضورية، ثم توفير مصادر تعليمية متعددة ومتنوعة وطنية وأجنبية تلغي الفروقات الفردية والمجالية والاجتماعية بين المتعلمين. بتعبير آخر، إن هذا النمط من التعليم يقوم بالضرورة على مسألة التعليم المنزلي والتعليم الشبكي، وهي أساليب تربوية دعت إليها المدرسة اللاسلطوية الأناركية إبان ظهورها في ستينيات القرن الماضي.
3- تداعيات جائحة كوفيد-19 على مدرسة اليوم
يظهر جليا أن النمط الحالي للمدارس -قبل كوفيد-19- يقوم على المحافظة على قيم الاستهلاك، التي تخدم النظام الرأسمالي؛ بمعنى أن المتعلم الذي يحصل على شواهد عالية يتبوأ مكانة راقية داخل المجتمع، فتتشكل بذلك الامتيازات الهرمية التي تؤسس لقيم مجتمع الاستهلاك والمحافظة على الشرائح المستهلكة؛ أي تعمل على صناعة أشخاص على أنماط وقوالب متشابهة ذات تجربة إنسانية موحدة في مكان واحد (المدرسة)، ولها تصور واحد، وتجربة واحدة، ومدمنة لقيم الاستهلاك العالمية، وليس بمقدورها نقده أو نقد الوظيفة المنوطة به داخل نسق العمل الاجتماعي، ودواليب عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج، أو حتى المطالبة بتغييره. إننا نتحدث هنا عن تحول الدور الوظيفي للمدرسة، لتصبح مشروعا ربحيا قائما على مبدأ تسليع القيمة، وكما تشير سحر سهيل المهايني العظم في كتابها "حمى الاستهلاك: رؤية نقدية في حوار مع الآخر"[12]، وحسب المسلمة الاقتصادية التي تقول: إن كل عملية تسليع لبضاعة ما، تحمل في ثناياها نمطا استهلاكيا، وهذا يحتم بالضرورة أن تكون مخرجات العملية التعليمية عبارة عن مخرجات بائسة ولا قيمة لها، ويستتبع ذلك حصر أهداف المدرسة اليوم في إبعاد التلاميذ والطلاب عن الشارع، ومنح المتفوقين منهم شهادات فقط لانتظامهم والتزامهم بقانون المدرسة، وهو ما يعرف بالمنهاج الخفي المضمر الذي يرافق المتعلم إلى نهاية تخرجه، والذي يؤهله بشكل آلي لتحصيل وظيفة أو شغل دور اجتماعي في المجتمع على غرار التوزيع الاجتماعي الذي يقدمه دوركهايم في "في تقسيم العمل الاجتماعي".
فالمدرسة على جانب آخر، لا تخدم القيمة المنتظرة منها "التعليم والتحصيل"، وإزاء ذلك فإن المحاولات الجادة الداعية إلى تحصيل العلم والمعرفة خارج إطار المدرسة، أو المنظومة التربوية الرسمية لا تحظى بالقبول من لدن مختلف طبقات المجتمع، فرغم الصورة التي تبدو عليها المدرسة الحالية، وبالرغم من النظر إليها كأداة لتعليم وبناء الأجيال القادمة، إلا أنها تخفي في ثناياها ميكانيزمات مضمرة قادرة على صناعة براديغم يتمثل الاختلاس والتدليس بصورة ذكية، بل ويمنح المتعلم الشجاعة على تبرير الاختلاس والتدليس بناء على الشهادات الممنوحة له على أساس انتظامه وتفوقه فيما يقدم له من مواد ومناهج.
اتجاه عالمي يسعى إلى بناء منظومة تربوية كونية مرقمنة، وهو الأمر الذي باتت تفرضه الحاجة إلى الاستمرارية البيداغوجية
الملاحظ على الشبكة العنكبوتية، تزايد أعداد المواقع الجامعية الرسمية التي تمنح شهادات معترف بها، أو معادلة لتلك التي يتم الحصول عليها من المؤسسات الرسمية، من خلال إعلانها وترويجها لجودة المادة التربوية المعروضة، وسهولة الولوج إلى خدماتها، وإلى مكتباتها الرقمية الضخمة، هذا إلى جانب ما توفره الشبكة العنكبوتية من مرونة ويسر وسرعة في البحث، وغزارة في الموارد العلمية والمعرفية، والزخم الهائل من المحاضرات والندوات واللقاءات والتسجيلات الصوتية المرقمنة، والانتشار السريع لوسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب التطور الكبير في وسائل الاتصال والبرامج والتطبيقات الرقمية، كلها عوامل تنبئ بتوجه جيد في نمط للتربية والتكوين يتأسس على مفهوم "التعليم عن بُعد أو المرقمن".
في ظل هذه الوضعية، ومع اقتناع أصحاب القرار بضرورة تطوير وتحديث منظوماتهم التربوية القطرية على أساس مفهوم التعليم عن بُعد، يوازيها بشكل مضمر أو ظاهر اتجاها عالميا يسعى إلى بناء منظومة تربوية كونية مرقمنة، وهو الأمر الذي باتت تفرضه الحاجة إلى الاستمرارية البيداغوجية، وأن مسار التحول الذي حدث فجأة على المنظومات التربوية بمعظم الدول، انتقال لم يكن مهيأ له، وبدت معه المنظومات التربوية التقليدية قاصرة على مواكبة رياح هذا التحول السريع، وأمام ضعفها هذا، تكسرت جميع القيود المفروضة على أنماط التعليم في البلدان الشمولية أو المتخلفة، التي تعمل منظومتها التعليمية وفق خطط ومناهج وسياسات تخدم رجال السلطة المركزية، وتركز نشاطها على إنتاج وإعادة إنتاج "المواطن الصالح" الذي ترضاه وعلى الشاكلة التي تريدها، وفق أنماط وقوالب جاهزة مسبقا؛ أي إن المدرسة تحولت وظيفتها من مؤسسة تربوية تعليمية إلى أداة مطواعة، قادرة على سلب الفرد آليات دفاعه التي بها يحيا حياة حرة وكريمة، لتجعل منه ذلك الكائن المسلوب الإرادة، الخاضع، الخانع، السلبي، القابل لكل ما يعرض عليه في عجز تام.
خاتمة:
نستخلص مما سبق، أن أطروحة إعادة الإنتاج -في ظل أزمة كوفيد-19 ومسألة التعليم عن بعد- أصبحت متجاوزة، بل وانتفى الحديث عنها، أو حتى عن بعض أركانها وأسسها التي قامت عليها، لسببين اثنين:
أولا، نتيجة دمقرطة القضية التربوية من خلال توالي الإصلاحات الهيكلية التي عرفتها أغلب المنظومات التعليمية، سواء في الدول المتقدمة أو الثالثية.
ثانيا، التحول الكبير في الأساليب والمناهج التعليمية والبيداغوجية بفعل الثورة التكنولوجية الحديثة في وسائل الاتصال والتواصل.
كما نستخلص أيضا، أن الانتقادات التي وجهها المفكرون اللامدرسيون وخصوصا إيفان إليتش للنظم التعليمية التقليدية تتضمن في ثناياها معاول هدم لبنيان المدرسة الحديثة، ويتمظهر فشل هذه الأطروحة الأخيرة، في:
أولا، عدم قدرة أصحابها على طرح بديل صلب ومتين قبل الشروع في عملية الهدم تلك، ويكفي في هذا المقام أن نستحضر النقد اللاذع الذي وجهه بيتر مارشال في كتابه "المطالبة بالمستحيل: تاريخ اللاسلطوية" حول عجز اللامدرسيين عن اقتراح نموذج بديل، حيث يقول: "إن عدم قدرة منظري التيار على تجسيد أفكارهم على الأرض هو ما يدفعهم للإغراق في اللغة النقدية والجذرية والرومانسية كذلك، فأفكارهم كالفاكهة اللذيذة يستطيبها الفم، لكن لا قدرة له على هضمها".
ثانيا، البدائل التي يقترحونها (التعليم الشبكي، التعليم المنزلي، التربية في الطبيعة، ومعسكرات الكشافة...)؛ فهي بدائل مهلهلة، ولا تحظى بالقبول من المجتمعات، كما تنطوي على صعوبات في كيفية تنزيلها على أرض الواقع.
وإذا أخذنا في الاعتبار التطور السريع والمذهل لوسائل الاتصال والتواصل، خصوصا على مستوى الشبكة العنكبوتية، ومع بداية ظهور تكنولوجيا الجيل الخامس، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، وآليات الضبط والرقابة الرقمية الشديدة على هذه الوسائل، فإن وضع وتدبير وتسيير منظومة التعليم الحضوري من قبل الحكومات والدول لم يعد من أولويات سياساتها العمومية، حيث تملصت من مسؤولياتها وقلصت من تدخلاتها وأدوارها في الحقل التربوي، وهو الأمر الذي يصدقه تخفيض الميزانيات المرصودة لوزارات التعليم، خصوص في الدول العالم ثالثية، وتشجيع التعليم الخصوصي والمرقمن، فتزايد بذلك عدد المواقع الجامعية، والمؤسسات والمعاهد ومراكز التكوين والتدريب الخاصة المعترف بشواهدها عالميا.
ومع نجاح بعض تجارب التعليم عن بُعد في ظل انعكاسات جائحة كوفيد-19، ومع احتمال ظهور أمراض وفيروسات معدية وسريعة الانتشار مستقبلا، وصعوبة إيجاد لقاح عاجل لها، إلى جانب عولمة المعرفة والمعلومة، وسهولة الوصول إليها نتيجة التقدم التكنولوجي السريع. يمكننا القول إن الإنسانية في مخاض عسير، وأن هناك ملامح لميلاد منظومة تربوية كونية رقمية معولمة تنصهر فيها المنظومات التعليمية القطرية التقليدية، بل وهناك اتجاه عالمي بدأ في التشكل لخلق براديغم تربوي بخصائص وسمات عالمية، ولا يعترف بحدود القيم والثقافات والهويات المحلية المميزة للشعوب والأمم.
لائحة المراجع:
الكتب:
- المهايني سحر سهيل العظم، حمى الاستهلاك: رؤية نقدية في حوار مع الآخر، 2009، الطبعة 3
- إليتش إيفان، مجتمع بلا مدرسة، ترجمة الهادي الهيلوش، دار الكلام، بدون طبعة
- بلاندييه جورج، الأنثروبولوجية السياسية، ترجمة جورج أبي صالح، منشورات مركز الانماء القومي بيروت 1986
- تريمش ماهر، إعادة الإنتاج، في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، بيروت لبنان، الطبعة 1 نونبر 2007
- فريري باولو، تعليم المقهورين، ترجمة يوسف نور عوض دار القلم بيروت لبنان، بدون طبعة
- دوركهايم إميل، في تقسم العمل الاجتماعي، ترجمة حافظ الجمالي، المكتبة الشرقية بيروت لبنان، طبعة 1982
- كوامن ديفيد، الفيض أمراض الحيوانات المعدية وجائحة الوباء التالية بين البشر، الجزء الثاني، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، سلسلة عالم المعرفة، شتنبر 2014، 416
- واتس شلدون، الأوبئة والتاريخ المرض والقوة والإمبريالية، ترجمة أحمد محمود عبد الجواد، الطبعة 1، 2010، المركز القومي للترجمة العدد 1474
- Pierre Bourdieu et Jean- Claude Passeron, «La Reproduction: Eléments pour une théorie du système d’enseignement», Les Editions de Minuit, Paris, 1970
المقالات:
- المشهداني عبد الفتاح محمد، الوبائيات، دراسة سوسيولوجية في انتشار الأمراض، مجلة جامعة تكريت للعلوم، المجلد 19 العدد 4 2012
- محسن مصطفى، في المسألة التربوية، نحو منظور سوسيولوجي منفتح، المركز الثقافي العربي 2002 الطبعة 2
- محسن مصطفى، اتجاهات نظرية في سوسيولوجيا التربية، مقاربة تحليلية نقدية، مجلة دراسات عربية، العدد 6، أبريل 1988
- وطفة على أسعد، قراءة في إعادة الإنتاج، في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، مجلة إضافات العدد 5 شتاء 2009
- تقرر البنك الدولي حول التعليم بالبلدان العربية، سنة 2017
- Ivan Illich «Une société sans école» extraits sélectionnés par Jean-Pierre Lepri.
[1] محسن مصطفى، اتجاهات نظرية في سوسيولوجيا التربية، مقاربة تحليلية نقدية، مجلة دراسات عربية، العدد 6، أبريل 1988 ص 47 و49
[2] "إعادة الإنتاج، في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم" ترجمة وتقديم تريمش ماهر، بيروت لبنان، الطبعة 1 نونبر 2007، عنوان الكتاب الأصلي هو (La Reproduction: Eléments pour une théorie du système d’enseignement) من تأليف بيير بورديو وجان كلود باسرون (Pierre Bourdieu et Jean- Claude Passeron).
[3] وطفة على أسعد، إعادة الإنتاج، في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، مجلة إضافات العدد 5 شتاء 2009 ص 177
[4] تقرر البنك الدولي حول التعليم بالبلدان العربية، لسنة 2017
[5] نفس المرجع السابق
[6] نفس المرجع السابق
[7] يعرف مالينوفسكي الثقافة بذلك الكل المركب والمعقد من الأدوات وطبائع الجماعات الاجتماعية والأفكار الإنسانية والعادات والتقاليد والقيم والأعراف والممارسات، والتي تؤلف في مجموعها الجهاز الذى يحقق حاجات الإنسان الضرورية، ويؤكد مالينوفسكى أيضا أن كل ثقافة هي كيان كلى وظيفي متكامل، حتى أنه يشبهها بالكائن الحي، بحيث لا نستطيع فهم أي جزء من الثقافة إلا في ضوء علاقته بالكل.
[8] محسن مصطفى، في المسألة التربوية، نحو منظور سوسيولوجي منفتح، المركز الثقافي العربي 2002 الطبعة 2
[9] بلاندييه جورج، الأنثروبولوجية السياسية، ترجمة جورج أبي صالح، منشورات مركز الإنماء القومي بيروت 1986
[10] إيليتش إيفان (Ivan Illich) ولد في شتنبر 1926 وتوفي في دجنبر 2002، فيلسوفا كرواتيا نمساويا، وكاهنا كاثوليكيا، عرف بنقده الشديد لمؤسسات الحضارة الغربية الحديثة، اهتم بالأساليب المعاصرة في التعليم، وكتابه الذي اشتهر به هو «مجتمع بلا مدارس» الذي نشره عام 1971؛ أي بعد سنة من نشر أطروحة إعادة الإنتاج لكل من بيير بورديو وجان كلود باسرون، ينتقد فيه إيليتش إلزامية التعليم، إذ ناقش فيه إيليتش مسألة البنية المستبدة للنظام المدرسي غير قابلة لإعادة الهيكلة، وأنه يجب أن تفكك كليا في سبيل تحرير الإنسانية من الآثار المدمرة، وإضفاء الطابع المؤسسي على جميع جوانب حياتنا.
[11]باولو فريري Pawlo Frerie ولد من رحم المعاناة سنة 1921 في مدينة رسيف بالبرازيل (أبشع مراكز الفقر في العالم) حصل على درجة الدكتوراه في التربية سنة 1959 توفي سنة 1997 من أهم مؤلفاته "التعليم كممارسة للحرية"، "تعليم المقهورين"، "تربية الحرية: الأخلاق، الديمقراطية، الشجاعة، المدنية".
[12] كتاب صدر سنة 2009، الطبعة 3 يتحدث عن مكونات ومؤثرات ثقافة استهلاكية وبائية، وهي ثقافة عملت أمريكا على تصديرها للعالم، بهدف اختراق المكون الثقافي العالمي وتعميم القيم والمفاهيم الرأسمالية التي تخدم اقتصاد السوق المعولم.