هل يمكن لضحى التنوير عند حسن حنفي أن يرى شمسًا؟
فئة : مقالات
هل يمكن لضحى التنوير عند حسن حنفي أن يرى شمسًا؟[1]
مقدمة
من الصعب عندما ترغب في الكتابة عن فيلسوف موسوعي بحجم حسن حنفي - يذكّر بعبد الرحمن بدوي في هذه النقطة تحديدًا - أن تختار نقطة الكتابة فيه. أخذت أتأمل كتبه ومواقفه فوجدت أنّ حسن حنفي من الممكن أن يكتب فيه كتب ودراسات كثيرة بالإضافة إلى كل ما كتب عنه. إلا أنّني اخترت في النهاية أن أقيم مشروعه بصفة عامة: "التراث والتجديد" والذي يطلق عليه أحيانًا "ضحى التنوير" مع التركيز على كتابه "فشتـة: فيلسوف المقاومة"[2] هادفًا من هذه الورقة إلى بيان إلى أي مدى حقق هذا الكتاب الدور الذي أعطاه له حنفي في سياق مشروعه العام الذي منحه عمره كله معبرًا من وقت لآخر عن تخوفه أن ينقضي العمر ولا ينهي مشروعه، وإلى أي مدى يمكن لهذا المشروع –على النحو الذي يقدمه به حنفي- أن يحقق الغاية منه، وبالتالي يرى التنوير شمس ضحاه.
مشروع حسن حنفي
يقسم حنفي مشروعه إلى ثلاث جبهات وهو ما يحرص في أغلب كتبه على ذكره[3]. يطلق على الجبهة الأولى موقفنا من التراث القديم، الجبهة الثانية: موقفنا من التراث الغربي، والجبهة الثالثة: موقفنا من الواقع (نظرية التفسير)، جاعلاً لكل جبهة ما أسماه البيان النظري. صدر "التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم" - الذي عده حنفي البيان النظري للجبهة الأولى - أول ما صدر عام 1980 في القاهرة من خلال المركز العربي للبحث والنشر. يضع حنفي الجبهة الأولى في سبعة أجزاء هي على النحو التالي:
1- "من العقيدة إلى الثورة" محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين. وصدرت طبعته الأولى في القاهرة: مكتبة مدبولي 1988
2- "من النقل إلى الإبداع" محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة
3- "من الفناء إلى البقاء" محاولة لإعادة بناء علوم التصوف
4- "من النص إلى الواقع" محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه
5- "من النقل إلى العقل" محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية (القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، الفقه)
6- "العقل والطبيعة" محاولة لإعادة بناء العلوم العقلية (العلوم الرياضية والطبيعية).
7- "الإنسان والتاريخ" محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية (اللغة، الأدب، الجغرافيا، التاريخ).
أصدر حنفي البيان النظري للجبهة الثانية- التراث والتجديد موقفنا من التراث الغربي، مقدمة في علم الاستغراب[4]- بعد انتهائه من الجزأين الأولين فقط من أجزاء الجبهة الأولى، واجدًا في هذا البيان النظري ما يغني مؤقتًا عن تنفيذ الجبهة الثانية في أجزائها الثلاثة حتى تكتمل الأجزاء السبعة للجبهة الأولى[5]
ينوي حنفي وضع الجبهة الثانية: "الموقف من التراث الغربي" في ثلاثة أجزاء - بعد أن كان قد نوى وضعها في خمسة أجزاء[6] - هي:
1- مصادر الوعي الأوروبي
2- بداية الوعي الأوروبي
3- نهاية الوعي الأوروبي
أما الجبهة الثالثة (موقفنا من الواقع) - ولم يصدر منها شيء حتى الآن - فينوي أن يجعل أجزاءها
1- المنهاج
2- العهد الجديد
3- العهد القديم
على نحو تراجعي- كما يقول- يكشف فيه الحاضر الماضي[7]. وإن كان يرى أنّه سبق وأن عرض لهذه الجبهة حين قام بتنظير مباشر للواقع على مستوى الخطاب الثقافي العام لجمهور المثقفين في "قضايا معاصرة"، والتي كانت شهادة على الجمهورية الأولى، و"الدين والثورة في مصر 1952-1981" التي كانت شهادة على الجمهورية الثانية، "هموم الفكر والوطن" التي عدها شهادة على الجمهورية الثالثة، وإن كان يرى أنّ هذه الجبهة الثالثة ستظل بعيدة المنال حتى تستكمل الجبهة الأولى ويملأ فراغ الجبهة الثانية بمزيد من العرض للتراث الفلسفي الغربي.[8]
هدف المشروع
هدف حنفي من مشروعه هذا في جبهاته الثلاث تحليل وعينا القومي: وعينا بتراثنا القديم وبالآخر الغربي وبالحاضر من أجل تحقيق التوازن في الوعي بين هذه الأبعاد الثلاثة التي غالبا ما يغيب عنها التوازن[9]. تهدف إعادة بناء التراث القديم إلى جعله قادرًا على الدخول في تحديات العصر الرئيسية، وتساعد على وقف التغريب الذي يرى أنّ بعض الخاصة قد وقع فيه وهو لا يعلم عن التراث القديم سوى أنّه مضاد لمصالح الأمة فيهرب منه. كما يريد بالموقف من التراث الغربي مساعدة المتغربين على أخذ موقف نقدي منه بدلاً من الانبهار به والإلقاء بالذات في أحضانه، أو رفضه رفضًا مطلقًا تأكيدًا للهوية. إنّ عدم إقامة حركة نقده إلا في أقل الحدود هو أحد أسباب ضرورة تناول هذا الآخر من منظورنا. كذلك فإنّ أخذ موقف إيجابي من الحاضر قد يكون نتاجًا للسأم من المدخلين التراثيين واتهامهما بأنّهما محض نظريات مجردة فيصبح الواقع هو الضحية. من هنا رأى حنفي ضرورة أخذ موقف نقدي منهما[10].
ولكن كيف يمكن تحقيق هذا الهدف وفقًا لحنفي؟
يصف حنفي مشروعه هذا بأنّه "ضحى التنوير" بعد أن فشلت – كما يقول- المشاريع العربية المعاصرة. ما ينتظره من ضحى التنوير هو أن يعيد بناء الموروث كله بناءً على التحديات الرئيسية للعصر، فما يعنيه بإعادة بناء علم الكلام تحويله من الأشعرية إلى الاعتزال، ومن الاعتزال إلى الثورة، حتى تتحول العقيدة إلى أيديولوجية ثورية للعرب والمسلمين، والتحول من الإنسان الكامل في نظرية الذات والصفات والأفعال إلى الإنسان المتعين الحر العاقل دفاعًا عن حقوق الإنسان[11].
وما يعنيه بإعادة بناء علوم الحكمة تقديم الإنسانيات وإبرازها - تلك التي كانت موزعة بين الطبيعيات والإلهيات في علوم الحكمة القديمة الثلاثية: المنطق والطبيعيات والإلهيات - وجعلها هي محور علوم الحكمة، وتحويل المنطق من منطق صوري إلى منطق شعوري، والطبيعيات من طبيعيات ثنائية عقلية إلى طبيعيات شعرية، والإلهيات من واجب الوجود إلى ممكن الوجود من أجل التحقق والفعل وفلسفة جديدة للتاريخ[12].
وما يعنيه بإعادة بناء علوم التصوف تحويله من مقاومة سلبية إلى مقاومة فعلية في الداخل، ومن استشهاد أئمة آل البيت أيام الفتنة إلى نجاح المقاومة في جنوب لبنان، ومن ثم تتحول المقامات من الرضا والتوكل والزهد والتوبة إلى مقامات المقاومة من ثورة ورفض وتمرد وعصيان، وتتحول الأحوال من الخوف والخشية والغيبة إلى أحوال الشجاعة والثقة بالنفس، ويتحول الطريق من الخلف إلى الأمام للمساهمة في تقدم التاريخ وإسراع حركته.[13]
وما يعنيه بإعادة بناء علم أصول الفقه إعطاء الأولوية للواقع على النص تماشيًا مع روح "أسباب النزول"، أولوية المكان، و"الناسخ والمنسوخ"، أولوية الزمان ومن ثم تكون أولوية ترتيب المصادر من الاجتهاد إلى الإجماع إلى الحديث إلى القرآن لتشجيع الاجتهاد، والتعامل مع الواقع مباشرة دون التوسط بالنص. وتحويل مبادئ الحقيقة والمجاز والظاهر والمؤول والمحكم والمتشابه إلى تحريك للشريعة وصولاً إلى الاجتهاد، وتحويل مقاصد الشريعة الكلية إلى حقوق الإنسان الفردية والاجتماعية التي من أجلها تم وضع الشريعة ابتداءً[14].
إنّ إعادة بناء العلوم النقلية تعني إعطاء أولوية للواقع على الفكر والتحول من فقه العبيد والنساء والصيد والذبائح إلى فقه المقاومة والتنمية والاستقلال والتقدم والعدالة الاجتماعية والحرية والديموقراطية[15].
ويقصد حنفي بنقد التراث الغربي وضعه في إطاره وحجمه التاريخي الصحيح وعدم الانبهار به وذلك بتحويله من مصدر للعلم إلى موضوع للعلم بدلاً من جعله معيارًا مطلقاً تقاس به كل الثقافات[16].
وما يعنيه بالموقف من الواقع التنظير المباشر للواقع والتفاعل مع تحدياته مباشرة دون توسط نص من القدماء أو نص من المحدثين وذلك بإبداع النصوص الجديدة التي تتعامل مع الحاضر مباشرة أسوة بما يفعله المحدثون وما كان يفعله القدماء. على هذا النحو يتعود الفكر العربي التعامل مباشرة مع الحاضر وعلى هذا النحو يقترب ضحى التنوير ويتسارع بتجاوز موضوع إعادة بناء الموروث القديم أو أخذ موقف من الوافد الجديد[17].
هل يمكن لأهداف حنفي أن تتحقق على هذا النحو؟؟
الحقيقة أنّ مناقشة أهداف مشروع حنفي في تفاصيلها تتجاوز هدف هذه الورقة والمساحة المحددين لإنفاذها ولكن مع هذا من الممكن توجيه بعض الملاحظات التي تبين صعوبة تحقيق أهداف حنفي على هذا النحو، وبالتالي صعوبة أن يرى التنوير شمس ضحاه.
فإذا بدأنا بموقفه من التراث، فإنّ الباحث بداية يتفق مع علي مبروك في "أنّ سعيًا لقراءة التراث بهذا القدر من الشمول والكلية لم يتبلور في تاريخ الفكر العربي قبل حنفي. إذ ظل التراث من قبل مجرد ساحة للتفتيت والانتقاء"[18]. ويتفق مع عصمت سيف الدولة في أنّ ما يكتبه حنفي هو حديقة غناء على حد وصفه لموسوعة حنفي "الدين والثورة في مصر"[19].
إلا أنّه لا بأس من توجيه بعض الملاحظات لما رأى حنفي أنّه من الممكن أن يحقق أهدافه.
إذا كانت محاولات إعادة بناء العلوم هي ما أدت به - في الجبهة الأولى - إلى أن تكون العناوين "من....إلى..."، في الأجزاء الخمسة الأولى، فلم لم يضع عنواني الجزأين السادس والسابع على النحو ذاته؟ يفسر حنفي ذلك بأنّ هذين الجزأين يؤكدان الأبعاد الغائبة في وعينا القومي الحالي وهي العقل والطبيعة والإنسان والتاريخ[20].
الرد على ذلك أنّه حتى لو كانت غائبة الآن، هل كانت غائبة في تراثنا القديم؟ لِمَ لَمْ ينتقل من وجودها في تراثنا القديم إلى محاولة إحيائها إذا صدق زعمه أنّها غائبة الآن؟
رأى حنفي في إطار محاولة إعادة بناء علوم الحكمة، تحويل الالهيات من واجب الوجود إلى ممكن الوجود.
لا يفهم الباحث في الحقيقة كيف يمكن تحويل مبحث الإلهيات إلى ممكن الوجود ويظل مع هذا مبحثًا في "الالهيات". هل يمكن للإله أن يظل "إلهًا" إذا تساوى في تصورنا له مع بقية الموجودات؟ إنّ تصور الله كواجب الوجود تصور فرض نفسه على الفكر البشري على مدار تاريخ البشرية. فلم يحدث أن مرت مرحلة تاريخية لم يتخيل فيها الإنسان وجود إله يلجأ إليه ويعبده نتيجة شعوره الدائم بالنقص والعوز، فعبد الإنسان - في أمكنة وأزمنة مختلفة- الشمس والقمر والأصنام والبقر. إنّ فكرة وجود إله بالضرورة فكرة تفرض نفسها على البشر نتيجة شعورهم بأنّهم "ممكن الوجود".
أما فيما يتعلق بإعادة بناء علوم التصوف، فإنّه بعيدًا عن رأي الباحث في التصوف والذي يرى فيه أنّ التصوف المكتوب الموجود بيننا لم يكتبه المتصوفة الحقيقيون – ولهذا الموضوع مقام آخر- فإنّ الباحث يرى بداية أنّ التصوف على حالته من أحوال ومقامات لا يعيق تحقيق أهداف حنفي المتمثلة في مقاومة الاحتلال والظلم والتمرد والثورة عليه وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولا يعيق إسراع حركة التاريخ وذلك لعدة أسباب: ليست الأمة جميعها أمة متصوفة، ولا مفكروها الذين يدعون إلى الإصلاح والنهضة متصوفة ولم يحدث أن حول علم التصوف الأمة إلى أمة تقاوم مقاومة سلبية –على حد تعبير حنفي-. إذا كانت الأمة تسلك أحيانًا سلوكيات سلبية تجاه بعض مشكلاتها، فما كان ذلك مرجعه لعلوم التصوف ولكن لأسباب أخرى ليس للتصوف دخل فيها. إنّ أحوال التصوف أحوال موجهة لله الواحد من فئة قليلة اختارت الحياد والبعد عن اتخاذ موقف إيجابي تجاه مشكلات عصرها وهؤلاء فئة لا يؤثر عددها ولا دراسة علومها التأثير الذي يحتاج منا إلى تغيير موضوعات علومها. هؤلاء فئة لا نستطيع أن ننكر حقها في الانعكاس على الذات والتقرب إلى الله بأسلوبها الذي اتخذته.
وفيما يتعلق بإمكانية إعادة بناء علم أصول الفقه، فإنّه يرى ترتيب المصادر بطريقة عكسية حيث الأولوية للاجتهاد ثم الإجماع فالحديث ثم القرآن وذلك لتشجيع الاجتهاد على حد قوله. كما ينادي بالتعامل مع الواقع مباشرة دون التوسط بالنص.
هنا نرى أنّه لما كان الاجتهاد في حاجة إلى مرجعية نجتهد وفقًا لها، فما حاجتنا للقرآن أو للحديث إذًا؟ إنّ ضرورات الاتساق تقتضي منه رفضهما كمصدرين بدلاً من جعلهما المصدرين الأخيرين. البدء بالاجتهاد يفترض ألا وجود سوى للاجتهاد. لن نكون بعد الاجتهاد في حاجة إلى أي نص من قرآن أو حديث.
أما فيما يتعلق بإمكانية تحويل التراث الغربي إلى موضوع للعلم فإنّ هذا يقتضي من وجهة نظرنا أن يكون موضوع العلم مهضومًا مستوعبًا من قبل من يخضعه للنقد. فإذا كانت المرحلة التاريخية الراهنة تجعل أدوات التناول النقدي للموضوع ومناهجَه لا تنفصل عن الموضوع المراد بحثه، أو أنّها على أقل تقدير أدوات مستعارة - ولو في قدر منها - من هذا التراث الغربي، فإنّنا على أحسن تقدير لن نستطيع بحث الآخر سوى بأدوات مشتركة من الأنا والآخر، مما يحوله إلى موضوع ومصدر للعلم معًا. ذلك لأنّ بعض أدوات النقد المستخدمة هي أدوات الآخر، أدوات مستمدة من الآخر. من هنا لن تستطيع أن تحوله إلى موضوع للعلم إلا بعد أن تقر به مصدرًا للعلم أو أحد مصادر العلم.
ثم يفاجئنا حنفي بإمكانية تجاوز موضوع إعادة بناء الموروث القديم أو أخذ موقف من الوافد الجديد وذلك بالتنظير المباشر للواقع والتفاعل مع تحدياته مباشرة دون توسط نص من القدماء أو نص من المحدثين.
يرى الباحث أنّ هذه الفكرة تهدم مشروع حنفي إذ تجعل حنفي متذبذبًا فيما يجب فعله. فعلى حين يرى حنفي هنا إمكانية تجاوز موضوع إعادة بناء الموروث وأخذ موقف من الوافد والتنظير المباشر للواقع، يذكر في فقرات أخرى أنّ هذا ليس هو الصواب إذ قد ينجم عنه غياب التوازن في وعينا القومي، ذلك أنّه قد يأخذ الوعي الفردي موقفًا إيجابيًّا من الواقع نتيجة التعامل المباشر معه ممّا يجعله يسأم - عن دون وجه حق - المدخلين التراثيين. فإذا كان الإبداع يكمن في التعامل المباشر مع الواقع، فإنّه يرى - في موضع آخر - أنّ "عوامل الإبداع ثلاثة: الموروث والوافد وموطن الإبداع أو بوتقته التي ينصهر فيها الموروث والوافد"[21]، وهو ما يبين بشكل جلي عدم إمكانية تخطي أو تجاوز هضم الموروث والوافد أولاً.
عرض كتاب "فشتة: فيلسوف المقاومة"
والآن إلى النقطة الثانية من البحث الخاصة ببيان إلى أي مدى حقق كتاب فشتة الدور الذي أعطاه له حنفي في سياق مشروعه العام؟
إنّ أي قارئ لكتاب فشتة يشعر للوهلة الأولى أنّه يقرأ سيرة حسن حنفي واهتماماته وليس فشتة.
يعرض حنفي أعمال فشتة في خمسة أبواب، وكل باب في فصلين على النحو التالي:
الباب الأول: الدين والثورة، ويعرض فيه ما يرى أنّهما أهم عملين مبكرين لفشتة في الدين والثورة
الفصل الأول: نقد الوحي، ويتضمن عرض "نقد لكل وحي" 1791، أو منطق الوحي أو نظرية التفسير التي تعتمد على القانون الخلقي ونقد العقل العملي
الفصل الثاني: شرعية الثورة، ويتضمن "اعتبارات تهدف إلى تصحيح أحكام الجمهور على الثورة الفرنسية" 1791 والدفاع عنها ضد مهاجميها من النبلاء. يرى حنفي أنّه من هذا الباب، أي من نقد الوحي والسياسة، نشأت نظرية العلم.
الباب الثاني: نظرية العلم، ويرى حنفي أنّها الأساس النظري الرئيسي لمذهب فشته.
الفصل الأول: يسميه حنفي "التكوين والمصادر" (1792-1794) ويحلل فيه الكتابات الأولى التي ساهمت في تكوين نظرية العلم مثل "الحرف والروح"، و"البحث عن الحقيقة" واللغة ومفهوم نظرية العلم، وخصائصها.
الفصل الثاني: يطلق عليه حنفي "البنية والتطور" (1794 -1797) ويعرض فيه بنية نظرية العلم بعد تكوينها في صياغاتها الكاملة.
الباب الثالث: يصفه حنفي بأنّه تطبيقات نظرية العلم في القانون والأخلاق
يعرض في الفصل الأول "علم الحقوق" (1796) الذي يراه معادلاً لكتاب "أصول لفلسفة الحق" لهيجل.
الفصل الثاني: خصصه لتحليل كتاب "علم الأخلاق" الذي يراه معادلاً لكتاب كانط "نقد العقل العملي".
الباب الرابع: الصراع ضد الرجعية والرأسمالية في الدين والاقتصاد.
الفصل الأول: غاية الإنسان (1799)، ويعرض نظرية الإيمان والاعتقاد والشك والمعرفة بعد اتهامه بالإلحاد.
الفصل الثاني: الدولة التجارية المغلقة (1800) ويعرض تصور الدولة وسيطرتها على وسائل الإنتاج وتأسيس القطاع العام، وتحديد الأسعار، وتوزيع الدخل بما يحقق العدالة الاجتماعيّة لمواجهة الاحتلال.
الباب الخامس: الصراع من أجل التحرر الوطني، ويتضمن مناهضة الرجعية الدينية وسلطات الاحتلال.
الفصل الأول: الحياة السعيدة (1806)، ويعرض نظرية التصوف الفلسفي أو الفلسفة الصوفية ونظرية السعادة.
الفصل الثاني: نداءات إلى الأمة الألمانية (1808)، ويعرض كيفية تحرير ألمانيا من احتلال نابليون ومخاطبة ألمانيا الروحية المثالية، روح ألمانيا الخالدة وليس ألمانيا الدولة المهزومة.[22]
هل الكتاب على وضعه هذا يحقق الوظيفة التي أرادها له عرضًا لفكر نتمثله من مصادره ونقف منه موقفًا نقديًّا؟
يذكر حنفي في أسباب كتابة هذا الكتاب أنّ هذا الفيلسوف يراه حنفي "الفيلسوف الأمثل في الوطن المحتل"[23]: ويراه الفيلسوف الأكثر احتياجًا إليه لقراءة الأنا من منظور الآخر[24] ومرة يقول قراءة الآخر من منظور الأنا[25] فكأنّه لا يفرق بين رؤية الآخر من منظور الأنا ورؤية الأنا من منظور الآخر.
وفي وصفه لكتابه يقول أيضًا إنّ هذا الكتاب يمثل وفقًا له بداية العرض والتأليف، إذ أنّ الوعي الفردي - وفقًا له - مثله في ذلك مثل الوعي الجمعي يتحول تحولاً طبيعيًّا من الترجمة والشرح إلى العرض والتأليف. يرى حنفي أنّه بعد أن يتم اختزان التراثين القديم والجديد في الوعي يبدأ العرض.[26] فكأنّه يرى أنّه قد تمثل بالفعل التراثين على الرغم من عدم إكماله بعد لجبهتي المشروع الأوليين إكمالاً مجسدًا في كتب تظهر للقارئ. ربما يأتي الرد بأنّه قد تمثلهما معا في الوعي ولم يتبق سوى ترجمتهما على الورق، ولكننا عندئذ سنقول إنّ هذا يضع الكتاب - إذًا - خارج الجبهة الثانية وليس ضمنها، ذلك أنّ هذا الكتاب لا يندرج قطعًا ضمن الجبهة الأولى في اطار مشروع حنفي، إلا أنًه بعرض وصف حنفي للجبهة الثانية نجد صعوبة في تحديد ما إذا كان هذا الكتاب يندرج ضمنها أم لا، فهو من جانب يقول إنّ صلته بالفلسفة الغربية لم تنقطع منذ ستينات القرن الماضي في "الفكر الغربي المعاصر" وترجماته لبعض نصوصها... والثمانينات في "دراسات فلسفية" ودراساته عن كانط.. والتسعينات في مقدمة في علم الاستغراب[27]. وأنّ هذا الكتاب يمثل مرحلة نضجه ونموه الطبيعي بتحوله من الترجمة والشرح إلى العرض، ويتمنى أن يكتب أيضًا فيورباخ والاغتراب الديني، وظاهريات هوسرل ونهاية الوعي الأوروبي، وهيجل وذروة الوعي الأوربي، وشلنج ووحدة الروح والطبيعة وبرجسون والإحساس بالزمان والحرية والحركة والإبداع والبطولة، ونيتشة وهدم القيم القديمة وإعادة بناء قيم جديدة وماكس شيلر وظاهريات الحياة الخلقية ليمتلئ مؤقتًا فراغ الجبهة الثانية[28]، ومن جانب آخر يذكر أنّ هذا الكتاب هو نتاج اختزانه للتراثين القديم والجديد في وعيه الخاص، [29] مما يضعه خارج نطاق الجبهة الثانية.
الحقيقة أنّ هذا الكتاب مثال لصعوبة تناول الآخر موضوعًا للمعرفة بصورة محايدة حتى يتحقق تناوله نقديًّا، فقارئ الكتاب يلحظ من الوهلة الأولى أنّه يقرأ لحنفي عن حنفي وليس عن فشتة. حتى العناوين التي اختارها حنفي لفصول كتاب فشتة تلحظ أنّها عناوين كتب حنفي مثل عنوان الباب الأول "الدين والثورة". أضف إلى هذا أنّه إذا كان هذا الكتاب هو أحد كتب التناول النقدي للتراث الغربي من أجل تحديد تاريخية الوعي الأوروبي، فلم يربطه بظروفنا العربية الراهنة؟ لم يقول إنّه أراد أن يخرجه بمناسبة الذكرى العاشرة لاتفاقية كامب دافيد ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية وثورة أطفال الحجارة؟؟ ولماذا عندما لم تسنح الظروف لذلك قرر أن يصدره بمناسبة عشرين عامًا على معاهدة السلام الأولى[30]؟
لقد عاش حنفي طوال حياته الفكرية وفي كل دراساته ومؤلفاته تقريبًا يذكر الإحساس بالظلم ويضع ضمن أهدافه الإعلان الدائم عن ضرورة مقاومة الاحتلال، ويتحسر على الوضع العربي ذلك الذي انهار بالاعتراف بالعدو الصهيوني والأرض مازالت محتلة[31] فكان أن وجد– على نحو ما نرى - في فشتة الفيلسوف الذي تشكل مرحلة النضال من أجل التحرر الوطني مرحلته الفلسفية المشتعلة كما يقول حنفي [32]- ضالته المنشودة ليسقط نفسه عليه أو يرى نفسه من خلاله. انظر إلى العنوانين الذين اختارهما حنفي للبابين الرابع والخامس من كتاب فشتة تلحظ مدى سيطرة أهداف حنفي الخاصة حتى على توزيع فصول كتب فشتة. فهو بالتأكيد لم يلحظ أنّه يكاد لا يكون هناك تمييز بين العنوانين. فعنوان الباب الرابع هو: "الصراع ضد الرجعية والرأسمالية في الدين والاقتصاد"، وعنوان الباب الخامس يجعله "الصراع من أجل التحرر الوطني، ويتضمن مناهضة الرجعية الدينية وسلطات الاحتلال".
فإذا عدنا إلى النظرة الكلية لمشروع حنفي نجد أنّه يأخذ على المشاريع العربية أنّها مشاريع نخبوية من صنع أفراد وليست حركات شعبية عامة من صنع جماهير وأنّه ليس هذا ما نحتاج[33]. ولكن أليس مشروع حنفي ذاته مشروعًا نخبويًّا من وضع فيلسوف ومفكر نخبوي لا يقرأه العامة؟
ثم يأخذ على المشاريع السابقة عليه الممثلة لشروق التنوير- كما يقول- أنّها فشلت في إيقاف مسلسل الانهيار العربي بالاعتراف بالعدو الصهيوني والأرض مازالت محتلة[34]، فهل استطاع مشروعه هو أن يعيد الأرض المحتلة؟
رأى حنفي أنّ الفلسفة تستطيع "أن تساهم في انتزاع جذور التسلط والقهر من الوجدان العربي المعاصر"[35]، فهل استطاعت الفلسفة بالفعل ذلك؟ ويرى أنّها بإمكانها ذلك دون أن يكون هذا "عملاً نخبويًّا بقدر ما هو ثورة ثقافية عامة". لم يشرح لنا حنفي كيف يمكن للفلسفة ألا تكون عملاً نخبويًّا. هل يقصد بذلك - مثلاً - أنّهاأنتا تضع أسس الثورة الثقافية[36]؟
في النهاية: إذا كان الشعر - كما تقول مفكرنا الكبير - هو "جوهر العربي إذا أعوزته الثقافة، وانحسر عنه العلم"[37] فهل تجدي العربي الآن - والثقافة والعلم منحسران عنه بالتأكيد في المرحلة الراهنة - مشاريعنا الفلسفية؟؟
سؤال يحمله لك من يحمل معك هموم الفكر والوطن.
خاتمة
من كل ما سبق يتبين لنا صعوبة تحقيق مشروع حسن حنفي نظريًّا وعمليًّا، وبالتالي صعوبة بزوغ ضحى التنوير للأسباب الآتية:
1- إنّ إعادة بناء الموروث لن تؤدي إلى بزوغ ضحى التنوير إما لصعوبات نظرية في أحد جوانب المشروع ذاته - تحويل الإلهيات إلى ممكن الوجود - أو لغياب صلة بين إعادة البناء والأهداف المرجوة - لا تقف علوم التصوف على النحو الذي هي عليه الآن عائقًا في سبيل تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية ورفع الظلم، أو لعدم الاتساق الكامن في بعض جوانب عملية البناء نفسه - الواضح في دعواه ترتيب مصادر التشريع بطريقة عكسية في إعادة بناء علم أصول الفقه.
2- صعوبة نقد التراث الغربي بتحويله من مصدر للعلم إلى موضوع للعلم لأنّ واقع المرحلة التاريخية الراهنة يجعله ولو جزئيًّا مصدرًا للعلم. فهو - على الأقل كما أوضحنا - مصدر أدوات النقد.
3- صعوبة النظر للآخر نظرة موضوعية في انفصال تام عن الذات كما حاولنا بيان ذلك أثناء عرضنا ومناقشتنا لكتابه "فشتة: فيلسوف المقاومة".
4- التناقض الكامن في مشروع حنفي في قوله أحيانًا بتكامل الجبهات الثلاث، وعدم إمكانية اكتمال المشروع بدون أضلع المثلث الثلاثة وقوله في موضع آخر بإمكانية تجاوز موضوع إعادة بناء الموروث القديم أو أخذ موقف من الوافد الجديد والتنظير المباشر للواقع.
المراجع
1- حسن حنفي، فشته: فيلسوف المقاومة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، 2002
2- حسن حنفي، حصار الزمن: الحاضر (إشكالات)، القاهرة: مركز الكتاب للنشر، الطبعة الأولى، 2004
3- حسن حنفي، التراث والتجديد موقفنا من التراث الغربي، مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة: مركز الكتاب للنشر. الطبعة الأولى، 2009
4- عصمت سيف الدولة: الحاكمية لله: حوار مع د. حسن حنفي، في أحمد عبد الحليم عطية (تحرير) "جدل الأنا والآخر"، القاهرة: مدبولي الصغير، الطبعة الأولى 1997
5- علي مبروك، التراث والتجديد.. ملاحظات أولية، في أحمد عبد الحليم عطية (تحرير)، "جدل الأنا والآخر" القاهرة: مدبولي الصغير، الطبعة الأولى 1997
[1] الأمانة العلمية تقتضي أن أسجل الشكر للصديق والأخ الأصغر د. غيضان السيد علي الذي وصلت بعد نقاش معه إلى عنوان هذه الورقة.
[2] وإن كان يعطيه عنوانًا آخر في ص 11 وهو "فشته فيلسوف الأرض المحتلة". على كل، ليس الاختلاف كبيرًا. راجع حسن حنفي، "فشته فيلسوف المقاومة". القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. الطبعة الأولى 2002
[3] يشير حنفي إلى جوانب مشروعه في كتبه "دراسات إسلامية"، "موقفنا الحضاري"، "الدين والثورة في مصر"، "الدين والثقافة الوطنية"، "التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم"، "فشتة فيلسوف المقاومة"، و"مقدمة في علم الاستغراب" وغيرها.
[4] صدر في القاهرة، مركز الكتاب للنشر، الطبعة الأولى 2009
[5] حسن حنفي، التراث والتجديد موقفنا من التراث الغربي، مقدمة في علم الاستغراب، ص 10
[6] كان قد أعلن الأجزاء الخمسة في كتابه "التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم" ص ص 209 – 212، وكانت الأجزاء الخمسة هي:
عصر آباء الكنيسة، العصر المدرسي، الإصلاح الديني وعصر النهضة، العصر الحديث، العصر الحاضر (راجع: علم الاستغراب هامش ص 15)
[7] المرجع السابق ص 11
[8] حسن حنفي، "فشتة: فيلسوف المقاومة" مرجع سابق ص 10
[9] حسن حنفي، علم الاستغراب، مرجع سابق، ص 13
[10] المرجع السابق ص ص 12- 14
[11] حسن حنفي، نحو تنوير عربي جديد في "حصار الزمن"، ص ص 227-228
[12] المرجع السابق، ص 229
[13] المرجع السابق.
[14] المرجع السابق، ص ص 229- 230
[15] المرجع السابق، ص 231
[16] المرجع السابق.
[17] المرجع السابق، ص ص 231- 232
[18] علي مبروك، التراث والتجديد.. ملاحظات أولية. في "جدل الأنا والآخر" إعداد أحمد عبد الحليم عطية، القاهرة: مدبولي الصغير، ص 35
[19] عصمت سيف الدولة: الحاكمية لله: حوار مع د. حسن حنفي، في "جدل الأنا والآخر"، مرجع سابق ص 275
[20] حسن حنفي، علم الاستغراب، مرجع سابق، ص 10
[21] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، مرجع سابق، ص 12
[22] حسن حنفي "فشتة: فيلسوف المقاومة" مرجع سابق، ص ص 20- 22
[23] المرجع السابق، ص 5
[24] المرجع السابق ص 11
[25] المرجع السابق ص 9
[26] المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[27] المرجع السابق، ص 8
[28] المرجع السابق، ص 11
[29] المرجع السابق، ص 9
[30] المرجع السابق، ص 5
[31] حسن حنفي، "نحو تنوير عربي جديد" في "حصار الزمن"، مرجع سابق، ص 226
[32] حسن حنفي، فشتة: فيلسوف المقاومة، ص 14
[33] حسن حنفي، "نحو تنوير عربي جديد" في "حصار الزمن"، مرجع سابق، ص 226
[34] المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[35] حسن حنفي، "هل تستطيع الفلسفة أن تنزع جذور القهر والتسلط من الوجدان العربي المعاصر"، في "حصار الزمن"، ص 206
[36] المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[37] حسن حنفي، فشتة، مرجع سابق، ص 5