هل يوجد إيمان بلا إسلام؟
فئة : مقالات
لو أخذنا ما جاء في كشّاف اصطلاحات الفنون[1] للتهانوي، المتوفَّى سنة 1745م، والمزامن للتنوير الأوروبي دون أن يعاصره، (باعتباره أحد آخر نصوص الملّة حول ماهيتها العميقة، وبنى وعيها بذاتها، من دون أيّة علاقة ببراديغم الحداثة)، فيما يتعلّق بدلالة (الإسلام) و(الإيمان)؛ لوجدنا أنفسنا أمام مسألة مثيرة وجديرة باستئناف المساءلة على الدوام.
قيل: "الإسلام: هو لغة: الطاعة والانقياد، ويطلق على الانقياد إلى الأعمال الظاهرة. وعلى هذا المعنى هو يغاير الإيمان وينفكّ عنه؛ إذ قد يوجد التصديق مع انقياد الباطن بدون الأعمال"(ص696)؛ والسؤال هو: إذا كان الإسلام ينحصر في الأعمال الظاهرة، وإذا كانت تلك الأعمال تعود في جوهرها إلى مجرّد الطاعة والانقياد، فهذا يعني؛ أنّ الإسلام هو، في الأساس، بنية "سلطة"، أو تدبير لأمر عام، أو سياسة إرادة عامة لدى أهلها. أوّل نتيجة، هنا، هي: أنّ مصطلح "الإسلام السياسي" هو مفهوم زائف، إذن، هو (حشو خطابي)، وعلينا الكفّ عن استعماله؛ لأنّه يوحي إلى السامع بوجود إسلام غير سياسي، وهذا ممتنع سلفاً؛ إذ ليست السياسة غير آليّة الطاعة والانقياد تحت سلطة ما مهما كان نوعها، ثمّ لماذا تمّ حصر التعريف الفقهي في شرط واحد؛ هو الطاعة أو الانقياد؟ ما الذي جعل الفقهاء يختزلون دلالة الإسلام المتشعّبة، في معنى الطاعة أو الانقياد؛ أي في نوع من الحرية السالبة؟ وهل ما زال هذا الردّ الفقهي (في معنى الإبوخيا الفينومينولوجية) ضروريًّا؟ أو هل ما زال يحتفظ بادّعاء صلاحيته بالنسبة إلى "مسلمي العصر ما بعد الحديث"؟
إنّ نكتة الإشكال، هنا، هي في دلالة هذا الاستدراك المزعج: "وعلى هذا المعنى، هو يغاير الإيمان، وينفكّ عنه". لنسأل إذن: أيّ معنى، عندئذ، لإسلام (مغاير) للإيمان و(منفكّ عنه)؟ يبدو مفهوم (التغاير) مثيرًا هنا؛ فالتغاير: صيغة مشاركة من الغير، بمعنى؛ أنّ الإيمان بدوره يغاير الإسلام وينفكّ عنه، وهناك، طبعًا، أقوال فقهية أخرى استطاعت أن تفرض تأويلًا مخصوصًا لمشكلة الفرق بين الإسلام والإيمان، لاسيّما وأنّها مشكلة قد أثارها القرآن، وحسمها بوجه ما، في [سورة الحجرات: الآية: 14]: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ} كانت الصيغة الرسميّة وغير المزعجة، لنموذج السلطة الاستبدادية القائمة على منوال (الطاعة والانقياد)، (وهو نموذج الملك في المجتمعات القديمة، سواء كانت؛ وثنيّة أم ملّية)، تنصّ (حسب خبر ابن ماجة) على أنّ الإسلام "يغاير الإيمان ولا ينفكّ عنه" (نفسه). كيف؟
علينا أن نبحث، أوّلًا، عن معنى لفظة (الدين): الذي هو مفترض سلفًا تحت مصطلحيْ الإسلام والإيمان.
- جاء في الكشّاف، أيضًا: "الدّين، بالكسر والسكون، في اللغة: يطلق على العادة، والسيرة، والحساب، والقهر، والقضاء، والحكم، والطاعة، والحال، والجزاء، ومنه: {مالك يوم الدين}، و{كما تدين تدان}، والسياسة، والرأي، ودان، وعصى، وأطاع، وذلّ، وعزّ، من الأضداد" (نفسه، ص 503). ذلك يعني؛ أنّ الأمر في الحالتين يتعلق بنموذج (الطاعة والانقياد)، وهو المعنى الحقيقي للفظة (الدين) في العربية، وهو معطى خطير جدّا؛ لأنّه قد يعني، بالتحديد، أنّ لفظة (religio) اللاتينية، التي تمّ نحتها لوصف العقيدة المسيحية: هو مصطلح لا يترجم معنى (الدين) في العربية القرآنية، ومن ثمّ؛ أنّ (الدين)، لدينا، هو مفهوم مختلف تمامًا عن مقابله السائد في اللغات الغربية؛ إذْ رغم كثرة هذه المعاني الأصلية؛ فإنّها لا تقابل في شيء دلالة اللفظ اللاتيني (religio)؛ وهو لفظ لاتيني، أثار جدلًا بين القدماء وبين المحدثين في التراث الغربي، وقد تمّ إرجاعه غالب الأحيان إلى جذرين لغويين:
أ- relegere؛ أي (إعادة القراءة) أو القراءة ثانيةً، لقول أو نصّ ما، (وهو اختيار دافع عنه شيشرون، وهو: استخدام سائد في الدراسات باللغة الفرنسية).
ب- religare؛ أي (الارتباط بالله) عن طريق التقوى، (وهو اختيار سانده كلّ من سارفيوس، ولاكتانس، ضدّ شيشرون، وهو استعمال سائد في الدراسات باللغة الإنجليزية). ولكنّ علماء اللاهوت المسيحي، من أغسطينوس إلى توما الإكويني، قد نهلوا من تأويل الاختيارين، وخاصة أغسطينوس: الذي أرجع اللفظة إلى معنى "الاختيار"؛ أي أن يختار المرء إلهه على سائر الموجودات، ولكنّ الدلالة الاصطلاحية للدين، بالمعنى الحديث والمستعمل اليوم، لم تستقرّ، حسب المؤرخين، إلّا في منعطف القرنين السادس عشر والسابع عشر، للإشارة إلى الطوائف الدينية أو الكنائس.
ما يهمّنا، هنا، هو: أنّ لفظة "الدين" لدينا، لا تعني (إعادة القراءة)، ولا تدلّ على معنى (الارتباط)؛ بل تعني، رأسًا وبشكل صريح: الطاعة وكلّ مفردات السياسة اللازمة لها، هي علاقة سياسية بحتة، وليست فضيلة خطابية (إعادة القراءة)، أو قيمة أخلاقية (رابطة التقوى)، ومن ثمّ؛ فإنّ "التديّن"، في العربية، لا يعني سوى (الانقياد) (نفسه، ص503)، وما يؤكّد ذلك؛ أنّ لفظة (الديانة) لا تختلف عن ذلك؛ إذ تحيل على ألفاظ مرادفة من قبيل؛ القضاء، والحكم، والشرع.
إنّه، بهذا المعنى تحديدًا، علينا أن نفهم الآية 19 من سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ}، أو الحديث المتواتر: {الإسلام أن تشهد أنّ...}، فهما يقرّران المعنى السياسي العميق للدين، أمّا الإيمان؛ فهو شيء آخر.
لا بدّ أن نشير إلى أنّ مصطلح الإيمان، لم يكن خاليًا من الالتباس والتحيّر؛ فهو يحتمل معان شتّى، ويؤخذ على أنحاء عدّة، جاء في الكشّاف: "الإيمان: هو في اللغة: التصديق مطلقًا، واختلفت فيه أهل القبلة على أربع فرق" (ص94)، ونواة الدلالة، هنا، هي: (التصديق)، وما أبعد التصديق عن الطاعة السياسية.
أمّا المعاني الأربعة، فهي: أ- "الإيمان فعل القلب فقط".
ب- "الإيمان عمل باللسان فقط".
ج- "الإيمان عمل القلب واللسان معًا".
د- "الإيمان فعل بالقلب واللسان وسائر الجوارح" (ص94-95).
ما نلاحظه، هو: أنّ المعنى الأوّل، معنى التصديق بالقلب فقط، معنى الإيمان؛ حيث "الإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا شرط"، وهذا المعنى لم يستقرّ في أفق الملة.
كان المعنى واضحًا، وكان قائمًا على مسلّمة رائعة تقول: "من عرف الله بقلبه، ثم جحد بلسانه، ومات قبل أن يقرّ به؛ فهو مؤمن كامل الإيمان" (وهو قول جهم ابن صفوان).
في هذه الحالة؛ تمّ تنصيب معنى الإيمان، باعتباره فعلًا قلبيًّا خاصًّا تمامًا؛ بل لا يحتاج حتى إلى التلفّظ به أمام أيّ سلطة أخرى، وكان المقصود: هو الإيمان باعتباره حرية موجبة، لدى المؤمن تمنع أيّة سلطة خارجة عنه أن تحاسبه أو تعاقبه.
- لا نحتاج هنا، إذن، إلى التمييز المسيحي بين الدين العمومي والدين الخاص، حتى نفهم نواة الإيمان لدينا، وقد كان المتكلّمون قد استبصروا هذا النوع من الإيمان المستقلّ، الذي لا يدين بنفسه إلى أيّ جهة غريبة عنه، هو إيمان من دون سلطة "أولي الأمر". المشكل، إذن، ليس في القدرة العقلية على اقتراح تعريف مناسب للإيمان؛ بل في قدرة الملة على تحمّل هذا النوع من التعريف الحرّ، ولكن لم تكن الملة جاهزة ولا ملائمة، لتنصيب الإيمان المستقل أو الشخصي في فضاء الجماعة المؤمنة؛ لذلك يمكننا أن نقرأ المعاني الثلاثة الآتية لمصطلح الإيمان، باعتبارها نوعًا من سياسة الحقيقة، التي تعمل جاهدة لتجريد الإيمان من كفايته "الإنشائيّة"، وتحميله أعباء فقهية، سوف تنتهي، لا محالة، إلى مماهاته مع (الإسلام) أو (الدين)، بالمعنى المشار إليه في المعنى الأوّل (المعنى أ)، الإيمان: هو "فعل القلب فقط"، ولكنّه سرعان ما أصبح مطالبًا بالإقرار باللسان (المعنى ب)، وبعمل القلب واللسان (المعنى ج)، وأخيرًا، بفعل القلب واللسان وسائر الجوارح (المعنى د). وعندئذ؛ تمّ النجاح الفقهي في رسم المماهاة السياسية بين (الإيمان) و(الإسلام). وبشكل عام؛ يمكننا أن نقترح التوزيع الآتي: إنّ الملة جهاز روحي وسياسي، لا يمكنه، أو ليس مؤهّلًا لأن يتحمّل الإيمان الحرّ من كلّ طاعة بالأعمال الظاهرة (المعنى أ)، نعني؛ لا يمكنها أن تتحمّل إيمانًا بلا إسلام؛ فنمط الإيمان الذي تحتمله الملّة، هو ذاك الذي أخذ طريقه نحو التماهي مع الإسلام (باللسان؛ وهو الإسلام التلفّظي، أو بالقلب واللسان؛ وهو الإسلام الأخلاقي، أو بالقلب واللسان وسائر الجوارح؛ وهو الإسلام الفقهي).
لم يكن "الإسلام" (أي سياسة الطاعة)، هو الأفق الوحيد للإيمان؛ أي التصديق بالله والرسول؛ بل هو نتيجة إرادة سلطة سرعان ما حوّلت مجرّد (فعل القلب) إلى خطّة سلطانية (لسانية، ثمّ قلبية/لسانية، وأخيرًا؛ قلبية/ لسانية/ فقهية).
ما يجدر بنا أن نعيد البحث فيه: هو طرافة تفطّن الفقهاء إلى أنّ الإيمان ليس واحد؛ بل جملة من حالات التصديق المتفاوتة في القوة والضعف، أو في الحقيقة والظن. ولذلك؛ حين توفّروا على "إرادة اجتهاد" مناسبة، توقّفوا عند (إيمان أكثر العوام)، وإيمان (أطفال المؤمنين)، و(إيمان المقلّد)..، وبنوا أعذارًا وتقييدات مرنة ورشيقة؛ إذ تطرّقوا إلى (الإيمان الإجمالي)، مثل: الإيمان بالملائكة؛ أي دون تفصيل قد يهدم أصل الإيمان، وقبلوا بصلاحية الحكم بواسطة (الظن الغالب)، باعتباره من جنس (حكم اليقين)، وأثبتوا (إيمان الأولاد) من دون تصديق خاص؛ بل فقط بناءً على إيمان الأبوين، واجتهدوا في أنّ جحد الإيمان باللسان لضرورة قاهرة، لا ينقص من الإيمان؛ بل إنّ مجرد الإقرار باللسان، هو إيمان أيضًا (ص94)؛ لأنّ نواة المشكل في فعل القلب وليس خارجه، وتم الاستناد إلى حديث رشيق، لا سلطة فيه، يقول: [يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان] (ص95)؛ بل إنّ أصحاب الحديث قد أثبتوا تعريفًا رائعًا للإيمان، يقول: "إنّ المعرفة إيمان كامل، وهو الأصل"(نفسه).
والسؤال: إذا كان البراديغم الفقهي قادرًا على اختراع ادّعاءات الصلاحية الكافية للدفاع عن حقيقة الإيمان الحرّ؛ فلماذا عزف الفقهاء عنه، وعوّضوه بأنماط من الإيمان لا تختلف عن "الإسلام"؛ أي عن سياسات الطاعة والانقياد؟ لماذا تمّت إزاحة الإيمان من المعرفة إلى الطاعة؟
يبدو الإيمان بمثابة واقعة روحية خطيرة جدًّا، لا يجوز للحاكم أن يتركها من دون قيد فقهي، وكلّ تاريخ الملة: هو تاريخ تقنيات السيطرة على فعل الإيمان وتدجينه في سياسات الطاعة، وبهذا المعنى؛ فإنّ نقد الدين لا يطال نواة الإيمان.
إنّ الدين نفسه عدوّ الإيمان، إذا لم يذعن للطاعة والانقياد، ولذلك؛ يقع العمل بشكل حثيث على ضبط تجربة الإيمان، وحصرها في جهاز فقهي صارم، وأوّل خطوة داخلية، هنا، هي القول: "إنّ أصل الطاعات هو الإيمان" (نفسه)، ثمّ تلت ذلك مجموعة من التنسيبات، تنتهي إلى تجريد الإيمان من نواته الأصلية؛ أي التصديق أو فعل القلب.
إنّ القصد: هو نقل الإيمان من طور التصديق إلى طور الطاعة، والمعتزلة أشارت إلى نوع من (الإيمان المتعدّي)؛ أي أنّ الإيمان، في معنى (أداء الواجبات)، هو: "منقول نقلًا ثانيًا من التصديق إلى معنى آخر" (ص95-96)، ولذلك؛ تمّت بلورة نوع من الإيمان الشكلي، وهو: "اجتناب كلّ الكبائر"، ولكنّ الفقه الرسمي لم يكن على هذا الاستعداد للقبول بالإيمان الحر، وقد كان المقصد الفقهي، هو جرّ الإيمان إلى الخروج من البساطة (الشعورية) إلى التركيب السياسي (ما تمّ تنصيبه هو مركّب فقهي) من قبيل: "الإيمان: هو مجموع ثلاثة أشياء؛ التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان" (ص96)، والحقيقة: أنّ هذا ليس تعريف الإيمان؛ بل هو تعريف الدين، والخلط بين الإيمان والدين هو سرّ سياسة الطاعة، وهو ما يحتاج إليه نمط الحكم في أيّ عصر.
تكمن سياسة الطاعة في ربط الإيمان بشروط غريبة عنه، إلى حدّ صياغة مبدأ خطير جدًّا لسياسة التكفير، مفاده: "من ترك شيئًا من الطاعات؛ فعلًا كان أو قولًا، خرج من الإيمان" (نفسه). إنّ الخروج من الإيمان: هو التهديد الفقهي الرسمي لكلّ إيمان حرّ في أفق الملة، ومن المؤسف؛ أنّ المعتزلة (أو دعاة العقل في ثقافة الملة)، لم ينجحوا في أكثر من تحقيق مكاسب خطابية حول هذه المسألة، وقد أشاروا إليها بعبارة "المنزلة بين المنزلتين"؛ أي من خرج من الإيمان، "لم يدخل في الكفر؛ بل وقع في مرتبة بينهما" (نفسه).
إنّ نواة الإشكال تكمن في الربط المفترض بين الإيمان وبين الطاعات، وهذا الربط حوّل الإيمان إلى حيوان مطارد داخل غابة الملة، وفتح باب التكفير، وهو ما قامت به الخوارج؛ إذ إنهم يعتبرون أنّ "ترك كلّ واحد من الطاعات كفر" (نفسه)، وعلى الرغم من أنّ السلف يثبتون أنّه "لم يخرج من الإيمان لبقاء أصل الإيمان، الذي هو التصديق بالجنان" (نفسه)؛ فهم لا يتخلّون عن سياسة الطاعة، ونلاحظ، عندئذ، الإحراج الدفين، هنا، من جهة الإقرار: "أنّ أصل الإيمان: هو التصديق بالجنان"، ومن جهة عدم التخلي أبدًا عن ضرورة الطاعة، ولذلك؛ يُنقل عن الشافعي (الذي يعترف بأنّ هذه المسألة في غاية الصعوبة) قوله: "الإيمان: هو التصديق، والإقرار، والعمل؛ فالمخلّ بالأول وحده منافق، وبالثاني وحده كافر، وبالثالث وحده فاسق" (نفسه).
النتيجة الخطيرة، هنا، وهي: أنّ من يقف، إذن، عند "أصل الإيمان" فقط؛ هو كافر أو فاسق. ومن السخرية بمكان، عندئذ، أنّ المخلّ بالتصديق؛ أي بأصل الإيمان: هو "منافق" فقط، وليس كافرًا أو فاسقًا، وذلك يعني؛ أنّ الكفر والفسق ليس لهما أيّة علاقة بأصل الإيمان؛ إذ إن الكفر: هو عدم الإقرار باللسان. والفسق: هو عدم العمل بالطاعات. فالكفر والفسق يقعان خارج دائرة الإيمان؛ لأنّهما يتعلقان بشيء غريب عن الإيمان، هو سياسة الطاعة التي تحتاجها دولة الملة. يعترف الشافعي بالصعوبة، من حيث هو عالم أو باحث، ولكنّه يواصل اجتهاد الملة لصيد الإيمان وتدجينه؛ لأنّه فقيه، ونحن المحدثون علينا ألاّ نغفل طرافة ذلك الاجتهاد، وخاصة من ناحية مفهومية، ليس فقط لأنّ السلف يعترفون أنّ الخلاف في بعض الأحيان لفظي؛ لأنّه "راجع إلى تفسير الإيمان" (نفسه)؛ بل لأنّهم على بيّنة قويّة بأنّ الإشكال يكمن في علاقة الإيمان بالعمل: هل يجب القران بينهما، أم أنّ أصل الإيمان في غنى عن العمل؟ هل الإيمان بالقلب تامّ أم ناقص؟ مثلًا: كانت الأشاعرة تعتبر "التصديق بالقلب؛ هو تمام مفهوم الإيمان" (نفسه)، وهذا معطى طريف جدًّا؛ إذ إنه يناسب، مثلًا، نمط حياة الأجيال المعاصرة، لبعدها الشديد عن عصور دولة الملة.
إنّ ما يهمّ هذه الأجيال الجديدة، ليس الفرق بين الإيمان الموجب (الطاعة) والإيمان المنفي (المعصية)، أو بين الإيمان الذي هو (منقول شرعي) والإيمان الذي هو (مجاز)، أو بين (الإيمان المنجي) والإيمان غير المنجي من النار؛ بل مدى علاقة الإيمان بالحرية، ولاسيّما الحرية الشخصية. وتكمن أهمّية المسألة، هنا، في الإيمان، بوصفه تكليفًا: "إن الإيمان مكلّف به، والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية، فلابد أن يكون التصديق بالقلب اختياريًّا" (ص97)، وما يهمّنا، هنا، هو الإشارة إلى أنّ التكليف ليس الطاعة؛ بل تحميل حرية الاختيار.
قال القاضي الآمدي: "التكليف بالإيمان: هو تكليف بالنظر الموصل إليه، وهو فعل اختياري" (نفسه). والدعوة إلى النظر في حكمة الخلق، ليست من جنس سياسة طاعة، والتكليف بها هو نمط الحرية الموجبة في أفق الإيمان، ذلك أنّ؛ التصديق، كما يقول الأشعري، هو: "كلام نفسي"، وليس طاعة لأحد، ويتمثّل فقط في "أن ينسب الصدق إلى المخبر اختيارًا" (نفسه)، التصديق، إذن، هو: فعل كلامي إنشائي من نوع الفعل (المتضمّن في القول)، كما صار يقول التداوليون.
أكثر النتائج طرافة، هنا: هو اعتبار التصديق (كلام النفس)، ثمّ اعتبار كلام النفس هذا؛ هو (عقد الإيمان)" (نفسه).
ومنه "التصديق: هو نسبة الصدق في القلب أو اللسان إلى القائل" (نفسه)؛ فالإيمان، إذن، هو: فعل كلامي، وليس موقفًا سياسيًّا، وهذا، بالتحديد، ما طرح مسألة التغاير مع معنى "الإسلام".
والموقف الذي حصّله التهانوي هو: "الأعمال ليست مما جعله الشارع جزءًا من الإيمان، حتى ينتفي بانتفائها الإيمان؛ بل هي تقع جزء منه إن وجدت، فما لم توجد الأعمال؛ فالإيمان: هو التصديق والإقرار، وإن وجدت كانت داخلة في الإيمان، فيزيد على ما كان قبل الأعمال" (ص98).
هذا السياق، على الأرجح، يوفّر منطلقًا مناسبًا للبحث في "تغاير" الإيمان والإسلام، و"انفكاك" أحدهما عن الآخر.
- جاء في الكشّاف: "وأمّا الإسلام، المأخوذ بالمعنى اللغوي الذي قد يستعمله به أهل الشرع أيضًا؛ فبينه وبين الإيمان تلازم في المفهوم: فلا يوجد، شرعاً، إيمانٌ بلا إسلام، ولا عكسه، وهو الظاهر" (ص696-697).
السؤال هو: هل هذا "تلازم في المفهوم" فقط؛ أي تلازم خطابي أو تأويلي، أم هو "ترادف" فقهي بينهما؟
ما لا ينبغي أن نغفل عن طرافته، هنا، هو: الاعتراف الصريح أنّنا أمام معنيين متغايرين، بقدر ما هما مترابطان في الاستعمال الشرعي، وهكذا صار لدينا وسائل معالجة: ثمّة الإيمان1: (إيمان المفرد)؛ وهو المعنى اللغوي للتصديق بالقلب، ولكن، أيضًا، ثمة الإيمان 2: (إيمان الملة)؛ وهو المرادف الفقهي للإسلام في الاستعمال الشرعي. ولكن لماذا يترادفان؟
جواب الفقه: "إنّ الإسلام: هو الخضوع والانقياد للأحكام، بمعنى قبولها والإذعان لها، وذلك حقيقة التصديق فيترادفان"(ص697)، وما نلاحظه هنا: هو منوال السلطة الذي يملي سياسة التأويل، نعني؛ إرادة الخلط بين معاني الخضوع والانقياد، والقبول (أي الحرية السالبة)، وبين معنى التصديق بالقلب (الحرية الموجبة). إرادة الخطاب هذه ليست قولًا عرضيًّا أو صدفة تأويليّة؛ إذ إن الأمر يتعلق بسياسة واضحة المعالم للحقيقة، ويفترض الفقه: أنّ التصديق؛ هو خضوع وانقياد، أيضًا، ومن ثم؛ هو يخلط بين الإيمان والدين، وبين التصديق والطاعة، وبين التكليف والعقاب، وبين تجربة الحقيقة وتجربة السلطة، وعلى الرغم من الجهد الفقهي الكبير الذي يسعى للسيطرة النظرية على التغاير الأصلي بين الإيمان والإسلام؛ فهو لم يصل إلاّ إلى بلورة صياغة فضفاضة في منطق الملة (تهذّب نظام الخطاب ولا تغيّره)، وتقول، بناء على خبر أحمد: "إنّ الإسلام علانية، والإيمان في القلب"(نفسه). وما يرشح من كلام التهانوي، هو: أنّ الإيمان والإسلام لا يترادفان حقًّا، إلّا عند الكلام عن الأعمال الشرعية، ولكنّ ذلك يعني، فقط؛ أنّ الإسلام قد استولى على دلالة الإيمان، وحوّلها إلى جزء داخلي في سياسة الطاعة التي تحتاجها الملة.
هذا التغيّر من براديغم الإيمان إلى براديغم الإسلام؛ هو ماهية الفقه، وحتى يتمّ تيسير هذا الانتقال بشكل مناسب لسياسة الطاعة؛ فإنّ الفقه قد بلور استعمالًا رخوًا للفروق بين الإيمان والإسلام، من أجل السيطرة عليها، وهو أمر يشتدّ وضوحه عندما تُطرح مسائل قصوى، مثل: الزنا أو الكفر؛ فمصطلح "الإيمان المنفي" قد بناه السلف على الحديث القائل: [لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن]؛ أي لا ينفي عنه الإيمان، ولكن، أيضًا، لا يثبته له؛ بل يصفه بنوع من النقص في الإيمان؛ فهو: "مؤمن ناقص الإيمان" (ص697).
ليس القصد أنّ "إيمان العوام" هو من هذا القبيل؛ بل الإيمان ليس واحدًا، فهو حالة تصديق قلبيّة لا يمكن حصرها، وكذلك، حالة الكفر.
يثبت السلف: "أنّ الإسلام لا ينتفي بانتفاء ركن من أركانه، ولا بانتفاء جميعها، عدا الشهادتين"(نفسه)، وهذا، أيضًا، موقف تيسيريّ رشيق وحصيف، يخفّف من حدّة سياسة التكفير، ويصرف قوّة الطاعة والانقياد لصالح منطق السلطة.
"فتأمّل ذلك حقّ التأمّل" كما أوصى بذلك القدماء.
[1]- التهانوي، كتاب كشاف اصطلاحات الفنون، دار قهرمان للنشر والتوزيع، إسطنبول، المجلد الأول، 1984م، ص ص 696- 697