هم الذات في فلسفة ميشيل فوكو ـ الجزء الثالث: التربية: الذات في قبضة الخطاب والسلطة
فئة : مقالات
هم الذات في فلسفة ميشيل فوكو ـ الجزء الثالث:
التربية: الذات في قبضة الخطاب والسلطة
كيف يفكر فوكو تربويا؟
نعود مرة أخرى إلى متن الفيلسوف ميشيل فوكو بصفة عامة، لنتبين الوجوه التي يمكن اعتبارها مدخلاً للتربية في فلسفته، مادام أن المجالات الواضحة المرئية لأول وهلة لا تضم فلسفة التربية بين جوانبها، وهي ميادين ثلاثة تأتي كالآتي:
أولها بالطبع هو الإبستيمولوجيا مع أنه لا ينبغي الحديث بيقين عن فوكو كإبستيمولوجي مثل باشلار أو توماس كون، بسبب أن فوكو لا يهتم كثير اهتمام بالعلوم، أو لا يهتم بالعلوم فقط، بل يدرس تطور هيكل المعرفة مقصوداً به العلم، إلى جانب الأدب والفلسفة والدين، ونظم الحكم والاقتصاد، وكل ما يتعلق بهذه الأمور. ومن الواضح أن هذا القسم من فلسفة الرجل يعدّ مدخلا واضحا إلى نظرته للتربية لما كانت هي الشيء الذي سيصلُ العلم بالسلطة، والمعرفة بالمجتمع.
وثانيها: هو نوع من "فلسفة السلطة" دون أن يكون "فلسفةً سياسيةً"، وهذه الدائرة في فكر الرجل تحمل أسلوبا فلسفيا عميقاً في بحث السلطة وتجلياتها وعلاقاتها مع النظام ومع الخطاب وغيرها من المفاهيم الكبيرة، لكن وكما ذكرنا دون أن يكون هذا البحث فلسفة سياسية خالصة. وفي هذا أيضا تعريجٌ على التربية، ما دام أن السلطة في هذه الحالات المختلفة ستستخدم أساليب تربوية محددة، لتحسين سلوك هذه الفئات وإدماجها في المجتمع.
وثالثها: وهو الأخير في حياة ميشيل فوكو هو تاريخ الجنسانية، وهو اكتمال العِقد الفكري الذي ينتقل فيه البحث إلى الذات؛ وذلك من خلال بحث تاريخي معمق في أشكال تدبير الرغبة الإنسانية -الجنسية منها بالأخص- في عصور ولحظات تاريخية مختلفة وصولاً إلى العصر الحديث، وبطبيعة الموضوع لامسَ فيه أبعاداً أخلاقية وتربوية متعلقة بالتصورات التي حكمت تربية النشء على التعامل مع الذات ونزوعاتها.
فبتبين هذه الحالات جميعا، ينبغي أن يكون مفهوماً أننا لا نتحدث عن نسق فلسفي تربوي خالص، بل عن "تأملات تربوية" ووجهة نظر فلسفية متميزة في التربية مع الارتباط باستمرارٍ برهانات الفيلسوف في الدوائر السابقة، وبالتي يبدو الانطباع الأول هو تصور التربية عند ميشيل فوكو كقطاع وسيط ومركب "هجين الأهداف" يحمل تقاطعاتٍ بين بنية المعرفة المنتشرة وشكل السلطة المتحكمة ودوافع الذات المنطلقة. فترتسم صورة التربية بوصفها: آلة الطبع والقولبة التي تمتلكها السلطة، ووسيلةً لانتشار الخطاب واستعماله، وأداة الفرد للانخراط في هذا الخطاب والانضمام لهذه السلطة، كما سنتطرق إلى ذلك في هذه الصفحات.
أولا: التربية والسلطة
فالتربية في هذه الفلسفة، هي أحد مفاعيل القوة والسلطة، وأحد أدوات الخطاب التي يستمد منها تربته الجديدة؛ أي: الأجيال القادمة، فهي التي لها "أن تعيد النظر في الحياة وتكونها رأسا على عقب، ولها أن تعدل مفاعيل هذا الشكل من المعرفة، وأن تسد ثغراته، بنوعٍ من الإجراء الضاغط" [34]. فالتربية هي آلة القولبة التي يمتلكها الخطاب والسلطة لمسح النشء الجديد وطبعه مثل عملات نقدية يتم تخريجها وتسطيحها لتصدر على سليقةٍ واحدةٍ، وهذا لا يعني أن جميع خريجي الآلة التربوية طرازٌ واحدٌ، بقدر ما يعني أن دور هذه الآلة هي إزالة التحدبات والتقوسات النفسية والفكرية والأخلاقية في الجيل الصاعد، حيث تتم إزالة كل العناصر والأطراف المعارضة أو المناوئة لحكم الخطاب، فلا يجب أن يبقى إلا الاختلاف غير الضار بسلطة الدولة والطبقة الفكرية والثقافية والخطاب السائد. وإن أحد مستلزمات هذا الأمر وشروطه هو إيقاف حالة العزلة الفردية التي تسمح ببزوغ الذات، وتطلعها، ولكن؛ ماذا إذا كان صعود هذه الذات مضادّا لمضامين الخطاب السائد؟ ولمقررات السلطة المهيمنة؟ فوقاية من ذلك، فإن المدرسة مصممة خصيصاً للوفاء بهذا، يقول فوكو: "هؤلاء لا تعمل العزلة إلا على مفاقمة قصورهم (عن اللحاق بمعايير الخطاب) وإذن فيجب أن يعيشوا مع الآخرين، ضمن مجموعات منتظمة العدد تخفزها اهتمامات اجتماعية، وتخضع لرقابة صارمة". [35]
ولنر أوجه التشابه مع المدرسة علما أن فوكو لم يصرح باسمها صراحةً، لكن لنقرأ هذا الوصف: "يجب إبقاء السجين تحت النظر بشكل دائم، ويجب تدوين واحتساب الملاحظات التي تؤخذ عن السجناء، وقد وجدت مجموعة من المشرفين تقوم بالإشراف، الملاحظة، الأمن، المعرفة.." [34]؛ فهذا الوصف الذي قيل فوكوياً عن السجن يصلح دون تردد على المدرسة بالقياس بالمماثلة بين السجين والطفل، بين المعلم والمشرف وبالمطابقة بين مؤسستين ونظامين شديدي التشابه والتماثل، وشريكين في غايةٍ واحدة هي حفظ النظام وترسيخه وتنقية الزوائد والإضافات والمعاكسات في الجسم الاجتماعي والأخلاقي للأمة، وهما أيضا زميلان في نفس الوظيفة والعمل بوصفهما "أشكالاً مجسدةً لممارسة السلطة". ولنلاحظ ذلك مثلا في الهندسة المعمارية لكل منهما: الخطوط المستقيمة والساحات الدائرية المسيجة الأقسام/الزنازن الأبواب والجدران، الحراسة، الحماية، والحدود، الأوقات وهذه التفاصيل هي التي يعبر عنها فوكو مجمعةً بعبارته: "هذا البرنامج الهندسي البنائي كان الأسلوب الأكثر مباشرة لترجمة ذكاء الانضباط بواسطة الحجر، لجعل الهندسة البنائية شفافةً أمام تنظيم السلطة." [34]
والغاية من ذلك بعيدة الهدف عميقة الوسيلة، فالجهاز المعماري للتربية ليس بريئاً ولا أصما أو محايدا، بل هو جزءٌ من عقيدة التربية نفسها، وإذا كان تصميم المدرسة يوازي تصميم السجن، يقول فوكو: "فالسلطة من جهة والهندسة المعمارية من جهة أخرى كان عليهما أن يركبا المؤسسات باتجاه تلطيف العقوبات.." [34] فإن هناك تظافرا بين المؤسستين في العمل، لنتابع هذه الكلمة "إن الشعوب التي لا تبني المدارس محكوم عليها ببناء السجون" لكن هل هذه الكلمة دفاع عن المجتمع أم دفاع عن الدولة؟ بعبارة أخرى، هل هي دفاع عن المدرسة أم دفاع عن السجن؟ في واقع الأمر، فإنه لا مكان لأي حسن نية هنا، إذا اعتبرنا بظن سيء أن قائل هذه العبارة لا يدافع عن المدرسة؛ أي عن تربية الإنسان تربية صالحة، لئلا ينحرف فيما بعد وتسوء عاقبته أو "تسوء معاقبته"، بل إن قائل هذه العبارة يتحلى بنفس فوكوي، فهو يقول -بدون تحسر- إن على الدولة أن تختار في تطويع مواطنيها بين طريقتين لنفس الغاية، أو بين وجهين لنفس الطريقة؛ أي المدرسة والسجن لنفس الطريقة "الانضباطية". وواضح أن الوجه الأول: التربية. أقل تكلفة، وأسهل إكراهاً وأكثر فاعلية، أكثر قوة ونعومةً في الوقت نفسه. أما المواطنون الصالحون حسب السلطة، فإن سلوكهم الحسن يعفيهم من زيارة السجن، ما داموا قد أمضوا نصف أعمارهم أو يكاد تحت عين السلطة، وانفتقت أدمغتهم ووعيهم وطموحاتهم وأحلامهم بين أنامل هذه السلطة، فهل سترغب السلطة بعد ذلك في تعريض هؤلاء للسجن؟ وهم الذين زرعوا وتم استتباتهم في مؤسسة لا تقل عن السجن في شيء، بل تزيد عليه سطوةً في النفس وتأثيرا في السلوك. أما من يتعرض للسجن بعد ذلك، فهو محكوم يواصل حكماً استئنافياً في مسيرة الترويض والتطويع التي يستمر وتتطور بشكل دؤوب لا يتوقف؛ وذلك "وفق تشريع عليه أن يرجع إلى أصل عيوب الشعب لكي يصبح مبدأ توليد الفضائل التي يتوجب على الشعب تطبيقها" [34] وهكذا فتصميم المؤسسة التربوية موجه لخارج هذه المؤسسة أكثر من داخلها، فتصميم حجرة الدرس مثلاً بشكل يجعل المتعلمين متحلقين في مجالس أو كراسي بحجم صغيرٍ، على أرضية منخفضة، موجهين في نفس الاتجاه، باتجاه أرضية أخرى مرتفعة، عمودياً، باتجاه السبورة أو المنصة، يعلم الجميع دوره، ووظيفته في المستقبل: الجلوس، الانتظار، عدم المبادرة، انتظار التوجيه من الأعلى، واستقبال المعلومات والأوامر والتوجيهات؛ أي انتظار المبادرة والتنظيمات والمعرفة من السلطة التي يمثلها الأستاذ الذي يجلس في صدر المجلس على كرسي أو مجلس أضخم حجما، وأكثر تأثيثاً؛ لأنه يمثل القوة والسلطة هذه السلطة التي تأتي من خلال المعرفة. وبالتالي، فالتصميم كله موجه على شكل رسالة توصي بالتزام الاحترام الأعلى شأنا ورتبة، واتباع الاتجاه نفسه الذي يتبعه الآخرون (باتجاه السبورة/باتجاه السلطة/ باتجاه الإعلام..) وبعدم معارضة الخطاب، بل في أن مجاراته، واتباعه، وتعلمه، هو الوسيلة الوحيدة للتطور والصعود الاجتماعي؛ أي باعتبار أن الوسيلة الوحيدة لصعود الفرد هي أن يكون وقوداً للسلطة والخطاب يكون جزءاً من اللهب؛ أي جزءا من انتعاش هذا الخطاب وهذه السياسة وهذه الأيديولوجيا.
ثانيا: العلاقة معرفة – سلطة - تربية، الثقافة الإسلامية نموذجاً:
ولنتوسع في مسألة هذه البعد الرمزي لهندسة المؤسسة التربوية، ومكانته الرمزية، لنطبق هذا المنهج الفوكوي على ثقافتنا:
يقول أحمد شوقي:
قف للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
يدعو هذا البيت على سبيل المثال، إلى احترام المعلم عبر الوقوف له. إنه شكلٌ من أشكال الاحترام، التبجيل، شكل مخفف من التقديس، الذي ينتقل مباشرة إلى احترام العلم، حب المعرفة الذي يمثله المعلم. لكن أيضا؛ تبجيل السلطة، القوة، الدولة التي يمثلها المعلم أيضاً. ويهدينا الشعر هنا علامةً تأويلية مهمة "كاد المعلم أن يكون رسولاً" على اعتبار أن العلم رسالةٌ يجب تبليغها، ونشرها... لكن كلمة {رسول} ليست بريئة في السياق، بلا شك فإنها لا تعني حامل العلم أو المعرفة، بل تشير مباشرة إلى علم محدد، إلى النبي محمد، مؤسس الإسلام كدين، وكأمة عربية-إسلامية هي التي تجزأت منها كل الدول التي تشكل اليوم "العالم العربي" أو "العالم الإسلامي" التي تمتاز هذه النطاقات السياسية بالثقافة العربية الإسلامية التي هي في نظر فوكو "نمطٌ مميز من الخطاب الذي تعاضده سلطة"، وبالتالي فالمعلم يمثل "الرسول" من جهتين:
من جهة المعرفة، باعتبار أن الرسول هو حامل الرسالة المعرفية، فدور المعلم هو تقليد أو إتمام لدور الرسول الذي يحمل رسالة علمية ومعرفية وأخلاقية معينة لينشرها في حقل معين.
ومن جهة السلطة، باعتبار أن المعلم يمثل سلطة الدولة التي تمارسها عبر التربية، وهذه الدولة في سياقنا هي دائما استمرار تاريخي وثقافي عضوي وروحي، لمجموعة من الخلافات المتعاقبة للدولة الإسلامية التي أسسها أيضاً النبي محمد. وللإشارة، ففلسفة فوكو تنطبق حرفيا على التجربة الإسلامية أكثر من غيرها، ما دام أن مؤسس السلطة ومؤسسة المعرفة في السياق الإسلامي هو شخصٌ واحدٌ، فضلا عن أن تأسيس هذه السلطة تم على أساس خطاب واضح محدد صريح هو الخطاب الديني وتحديدا: "القرآني". وبهذا التحليل، تتضح وضوحاً تاما فلسفة فوكو بخصوص علاقة المعرفة والسلطة، وأيضا بخصوص التربية. مادام أن الاحترام المرغوب نشره في المؤسسة التربوية هو موجه للأستاذ، فهو موجه في صورته للدين، وللمعرفة السائدة؛ أي للخطاب السائد في المجتمع. ومن جهة أخرى، هو موجه من خلال المعلم إلى الدولة والحكومة التي تكون عادةً مشخصة في شخص الملك أو الرئيس ويتم التعامل معها -في سياقنا- كما يتم التعامل مع المعلم حرفياً أي: الوقوف لها، وإيفاؤها حق التبجيل، كما لو كانت رسولاً، بل كما لو كانت إلها.
ثالثا: التربية الانضباطية؛ عودة إلى كانط
لا ترتبط التربية الحديثة كما في مثالنا هذا بالدين، بل ترتبط بالعمل "ففي مجتمع صناعي، يكون على التربية أن تتجه إلى إنتاج أفراد عاملين: العمل هو العناية الإلهية بالنسبة إلى العصور الحديثة، فهو يقوم لديها مقام الأخلاق، ويملأ فراغ المعتقدات ويؤخذ كمبدأ لكل خير. إن العمل يجب أن يكون دين السجون والمدارس والمجتمع...تلك هي صناعة (فبركة) الأفراد-الآلات". إن تحليل فوكو هذا في غاية العمق، فالمجتمع الحديث الذي أنجب مفهوم "الإنسان" هو نفسه الذي ينظر إليه كآلة عمل، وآلة استهلاك، فإذا كانت السلطة القديمة تحتاج إلى الطاعة، فإن السلطة الحديثة تحتاج إلى الضرائب. لذلك، فالتعليم الحديث يركز فعلا على الانضباط، لكنه يؤكد على الخدمية والفاعلية، فهو يخبر الطفل كل مرة بالمنتظر منه: الامتثال والأداء.
في الفصل الأول من كتاب "إرادة العرفان" الذي عنونه بـ"الفرضية القمعية" يربط ميشيل فوكو ظهور المدرسة، بالقرن السابع عشر، حيث تطورت المدارس الدينية لتصبح مدنية، لتقوم بدور جديد في إنشاء وترسيخ النظام المعرفي والاجتماعي الحديث الذي استمر -على الأغلب- حتى أيامنا هذه، وانتشر من أوروبا إلى العالم كله ليسع المشارق والمغارب. هذا النظام الذي قام أساساً على إزالة الفوضى والعفوية التي اتسمت بها العصور القديمة، فكان لا بد؛ لإرغام السلوكيات والأفكار على اتخاذ مكانها في سير متراص التقدم، من ممارسة قمعية. يقول ميشيل فوكو عن القرن السابع عشر أنه كان "بدايةً لعصر القمع، في المجتمعات البورجوازية، التي لا زلنا لم نتحرر من نظامها حتى الآن" [36]. ستقوم المدرسة إذن، ونظام التربية بالدور الأبرز في حوكمة المجتمع وتنظيمه. إن الدور الذي ستقوم به الشرطة في تنظيم سير الحياة اليومية، ستقوم التربية بدور مماثل له كشرطةٍ زمنية، ينظم استمرار الأفكار والخطابات والتراتيب والأنظمة من جيل إلى جيل. لنتأمل مثلاً بالتوازي مع فوكو كيف كانت وجهة النظر الفلسفية في هذا العصر إلى التربية، مع كانط مثلا في عصر الأنوار "إن الأطفال في أول الأمر يرسلون إلى المدرسة، لا بقصد أن يتعلموا فيها شيئاً ما، بل من أجل أن يتعودوا البقاء جالسين والامتثال لما يؤمرون به." [37]. مع أن أكثر ما يحرص عليه النظام التربوي ليس امتناع الطفل عن الحركة، بل امتناعه عن الكلام. فالمطلوب تربوياً ليس الهدوء بقدر ما هو: الصمت؛ ذلك أن الخطر في الفرد على نظام المجتمع هينٌ إذا كان ماديا، فالخوف من الفرد المختلف والمنفلت من نظام الخطاب هو خوفٌ مما يقول، وليس مما يفعل. فالتربية تفرض قواعدَ للياقة والحشمة ومعايير للسلوك الحميد وتقوم بدور شرطة الملفوظات فتحدد "أين ومتى ليس من الممكن الحديث عنه، في أي وضع، وداخل أي علاقات اجتماعية.." [36] وبهذه الطريقة تقيم التربية -بالتعاون مع آلات الضبط الأخرى- "مناطق للصمت المطلق، أو على الأقل للحساسية والرصانة: بين الآباء والأطفال مثلا، أو بين المربين والتلاميذ" [38]، وبالتالي بين الشعب بصفة عامة والدولة، وبين الطبقات المحكومة والطبقة المتحكمة...فالتربية هي اقتصاد يندرج في هذه السياسة للغة والكلام والسلوك، وهذه التراسيم الذي فرضتها السلطة لإعادة التوزيعات الاجتماعية في العصر الكلاسيكي.
تعتمد السلطة تقنيات لجعل التربية أداتها الناجعة للتحكم والتحديد، إحدى هذه التقنيات التي تستخدمها وتنعكس أيضا على التربية هي صناعةُ جدارٍ من الهالة والمسافة بين المعلم والمتعلم، حتى ينبغي للأول أن يعامَل من طرف الثاني، بما تتمناه السلطة، وترجو أن تُعَامَلَ به. يقدم فوكو نموذجا على ذلك بقوله: "ان حريةً قديمةً في الكلام قد اختفت بين الأطفال والراشدين، أو بين التلاميذ والمدرسين. ولم يكن بإمكان أي مربي، في القرن السابع عشر، أن ينصح تلميذَهُ علانيةً" [39] مع أن فوكو يركز على أن هذه التربية لم تتخذ شكل صمت مطبق، بقدر ما ركزت على إيجاد طقوس في الكلام ترسخ بنية عمودية ما، حيث ترسخ شكل المجتمع كنظام هرمي فيه جهات مسؤولةٌ عن الأمر وأخرى مطلوبٌ منها الطاعة، الأولى يحق لها الكلام، والثانية يجب عليها الصمت وهو الأمر الذي سيتوسع بعد اكتمال دور التربية لتتحول هذه العلاقة إلى علاقة أوسع بين السلطة والجمهور.
كان موضوعا دراسة ميشيل فوكو العظيمان هما السلطة والذات؛ كيف ترتبط السلطة بـ "رعاياها"؟ كيف تكون السلطة عملية استعباد؟ إن خاصية القوة التعليمية هي على وجه التحديد الإخضاع؛ بمعنى أن قضيتها هي أن يصبح الطفل ذاتًا، وقدرته على أن يكون جزءًا من المجتمع، وأن يدمج ضرورات القانون الاجتماعي. يحيط ميشيل فوكو علما بالتغيرات التي طرأت على السلطة منذ القرن السابع عشر فصاعدًا، والتي تتقدم بشكل أقل عن طريق فرض الضرائب، بقدر ما تتم عن طريق التحريض على الإنتاج؛ بمعنى أنها لم تعد تتجه نحو الموت، بل نحو الحياة (القوة الحيوية). ويتمثل التحدي في أن يكون تحت تصرفنا شعب يتمتع بصحة جيدة، وأخلاق جيدة، وطيع، وبالتالي منتج. يصف فوكو إنشاء مجتمع تأديبي في السجون وورش العمل والمدارس، بحثًا عن وسائل للتحكم الأكثر عقلانية في السكان من أجل زيادة الإنتاج. فالأمر لا يتعلق بالسلطة المركزية (السيادة السياسية التقليدية) بقدر ما يتعلق بالسلطة المنتشرة الموجودة في جميع أنحاء المجتمع. ومن ثم، فإن الانضباط المدرسي ليس سوى جانب واحد من مخطط تأديب اجتماعي أكبر. يجب أن نتحدث بهذا المعنى عن المجتمع الانضباطي منذ القرن السابع عشر الذي خلف مجتمع السيادة القديم، مثل قوة القاعدة وقوة القانون. يصبح الانضباط نموذجًا للمجتمع بأكمله. علاوة على ذلك، يبدو أن الانضباط المدرسي كان في المقام الأول، ثم امتد بعد ذلك إلى المستشفيات والجيش. المؤسسة التأديبية الأولى هي، عند ميشيل فوكو، الكلية الكلاسيكية [40]. وفي المقابل يعود الانضباط من الجيش إلى المدرسة بإسهاماته الخاصة، فيحدث تداول حقيقي للمخطط التأديبي من مؤسسة إلى أخرى، مما يؤدي بدوره إلى زيادة فعالية الانضباط.
إن علم أصول التدريس هو في الواقع فن المكان والزمان، ستسمح الشبكة الزمنية بالتحكم في النشاط. يتعلق الأمر، في الواقع، بتقطيع الوقت، وإجراء عمليات المسح، وتحديد دورات التكرار. يجب أن يكون وقت المدرسة مفيدًا تمامًا. ولهذا، من الضروري تطوير الفعل زمانيًّا، لتكوين مخططات تشريحية كرونولوجية للسلوك تنظم توزيع الإيماءات، ووضعيات الجسم، وبالتالي في فعل الكتابة. وتنظيم الجينات يعني تقسيم وقت التعلم إلى مراحل، كما هو الحال مع مراحل القراءة السبع، بطريقة بيداغوجية تحليلية. ومن ثم، يصبح وقت التعلم قابلاً للمأسسة. إن تتابع التمارين وتعقيدها يحددان برنامجًا مدرسيًا يحدد القدرات ويقيسها، كما هو الحال في لوائح مدارس مدينة ليون و، قبل كل شيء، في مدارس إخوة الحياة المشتركة. [41]
رابعا: التربية أداة للتحكم في الخطاب
تتقدم الصورة الأخرى التي لتصور فوكو عن التربية، في علاقتها بالخطاب المعرفي السائد، هذا الخطاب الذي ينتشر في المجتمع يخضع لإدارة طبقةٍ عملية يسميها فوكو بِ "جمعيات الخطاب" هذه الجمعيات المكونة للخطاب وتسعى إلى فرضه والحفاظ عليه عبر آليات كالمذاهب العلمية، وقواعد النشر والفروع المعرفية وبالطبع التربية: ولعلها العنصر الأبرز في تنظيم انتشار الخطاب واستعماله. إنها تملٌّكٌ اجتماعيٌّ للخطابات؛ وذلك بسبب أنها "الطريقة الوحيدة التي يمكن بفضلها لكل فرد يندمج في الخطاب" فالتربية ومن خلال ما تسمح به وما تمنعه وشكل توزيعها وكثافة محتويات معينة فيها، أو خفة وجود محتويات أخرى تتبع الخطوط المتعلقة بالتباينات الاجتماعية؛ أي بشكل السلطة وشكل الخطاب الذي يستحبه هذه السلطة وترغب فيه، حتى إن كل "منظومةٍ تربوية عبارةٌ عن طريقةٍ سياسية للإبقاء على تملك الخطابات أو لتعديل هذا التملك. بجانب ما تملكه هذه الخطابات من معارف وسُلَط". [42]
فهذه الآلات الثلاث: طقوس الكلام وجمعيات الخطاب، والمجموعات المذهبية، والتملكات الاجتماعية، لا يجوز الفصل بينها إلا نظرياً. أما في الواقع، فهذه الأدوات تتظافر وتتقاطع، يعزز بعضها بعضاً ويغذي أحدها الآخر لتشكل صرحاً من توزيع الذوات (الموارد البشرية) على أنماط الخطاب، وتؤمن تمليك أجزاء من الخطاب لذوات معينة، تقمع الخطابات التي تطل برأسها، وتحافظ على سيادة الخطاب وتماسكه بتلك الإجراءات التي تتوحد في غاية واحدة، ألا وهي: إخضاع الخطاب.
خامسا: المحتوى المعرفي للتربية
يقوم فوكو في محاضراته في الكوليج دو فرانس بإلقاء الضوء بشكل مباشر على العلاقة الدقيقة بين التربية والمعرفة. هنا حيث سادت انتفاضةٌ فكرية ضد المعرفة، واحتجت الثقافة الفرنسية على تكثيف المضامين المعرفية في المؤسسات التربوية هذه اللحظة التي يشير إليها فوكو بشعارات ثلاثة "لا للمعرفة، نعم للحياة. و؛ لا للمعرفة، نعم للواقع. لا للمعرفة، نعم للمال والرحلة." [43] ويقوم فوكو بتحليلٍ أركيولوجي للمسار الذي أوصل إلى هذه النقطة. إنه يقوم ببحث استقصائي لذلك الانتقاء الذي يحدد أي معارف يجب اتباعها ونشرها، وتعليمها وبالتالي تجديدها وبعثها وتنميتها وأي معارف يتم تهميشها، بغض الطرف عن استبعادها واستعدائها، وبالتالي تفقد حتى صفتها كمعرفة؛ لأن من بنود معنى كلمة معرفة أن يوجد من يعرفها، وتكون معروفة لفئة معينة، وإلا آلت إلى غياهب النسيان، وعن هذه الجزئية يتحدث فوكو عن "ما يمكن تسميته بانتفاضة المعارف الخاضعة" [43] وهي بحسب فوكو جملة من المضامين التاريخية المتخفية والمقنعة في تماسك وظيفي. لكي نوضح هذا المعنى، لنعد على بدء إلى فلسفة المعرفة لدى ميشيل فوكو، لنتذكر ذلك الوصف لحالة المعرفة منذ وجدت؛ أي إنها خطاب، وبالتحديد خطاب تسنده قوة، أو خطاب يمتلك قوةً سياسية واجتماعية وفكرية، وبما أن هذه القوة ليست وحيدةً، ولا هذا الخطاب بمفرده. فإن العالم الفكري يكون مغمورا بألوان من الخطابات لا حصر لها، والعلاقة الطبيعية التي تنشأ بينهما هي: علاقة الصراع.
ونتيجة هذا الصراع تكون قوى منتصرة أو خطابات منتصرة، وأخرى مهزومة، وبالتالي خاضعة للأولى. فهذا مبدئيا معنى تسمية فوكو لهذه المعارف بالخاضعة. وبما أن حالة الفكر كما حالة كل قوة أخرى ليست ثابتة ولا قارة، فسرعان ما ترتخي قبضة الخطابات المسيطرة، لتلوح المعارف الخاضعة برأسها باحثة من جديد عن كرة أخرى، وفرصة جديدة. وهذا معنى تسمية فوكو لها بالمعارف الخاضعة، ولنحاول تطبيق هذا المنهج على ثقافتنا.
في الثقافة الإسلامية، ارتبطت السيادة تاريخيا بالخطاب الإسلامي السني، الذي كان المذهب الكلاسيكي للسلطة في العالم الإسلامي، لكن عندما ترتخي سطوة هذه السلطة-المعرفة السنية تحت تأثير عوامل معينة (العولمة، وسائل التواصل، الإعلام، الضعف السياسي..)، فإن المجال يسمح بما يسميه فوكو "انتفاضة المعارف الخاضعة"، وهي كل الخطابات المعارضة (العلمانية، التشيع، ..) وظهور هذا الظهور أو بالأخرى إعادة الظهور هو نتيجة انكشاف الآليات أو المساحات التي ينبني عليها سلطة الخطاب، والتي أولها التربية. وما يؤكد هذا الانكشاف بالتأكيد هو النقد بما فيه المنهج الأركيولوجي الذي يتبعه فوكو، وأبرز ميادينه هو التاريخ لذلك كان فوكو في كل بحث من أبحاثه يعود إلى فترات زمنية وحضارية سابقة. فهذه المضامين التاريخية هي التي سمحت "بنقدٍ حقيقي فعال؛ لأنه بواسطة المضامين التاريخية وحدها، يمكن الحصر والكشف عن انفلاق المواجهات والصراعات، حيث كان غرض الترقيعات الوظيفية والتنظيمات النسقية، إخفاء المضامين التاريخية وطمسها وتقنيعها." [43] ولنغتنم هذه الفرصة لنشير في سياقنا العربي-الإسلامي إلى التعتيم الذي تتعرض له مواضيع أو فترات تاريخية معينة (الفتنة الكبرى/الحشاشين/فترة الردة/الزندقة..) يقول فوكو: "يتعلق الأمر بالمعرفة التاريخية للصراعات والنضالات. ففي الحقل الخاص بالمعرفة العميقة، او الحقل الخاص للمعرفة المتروكة في الهامش" [44]
فهذه الكتل من المعارف التي أظهرها النقد والمناهج الحديثة، هي التي تبين حساسية الدور الذي تلعبه التربية بشكل سلبي؛ أي عبر التجاهل والتخطي والصمت والإقصاء لمواضيع معينة، حيث تجعل معارف محددة بالشكل الذي وصفها به فوكو؛ أي بجعلها "سلسلة من المعارف غير المؤهلة كمعارف مفهومة؛ أي معارف غير كافية وغير مشكلة، معارف ساذجة وتحتل مكانة دنيا من الناحية التراتبية. إنها معارف تحتية مقارنةً بالمعارف والعلوم المكتسبة أو المحققة". [43] وإذا كانت هذه الوضعية في الغرب تحتلها مواضيع كالمعارف المرتبطة بالدين مثلا التي يتم تهميشها في النظام التربوي قياساً إلى العلوم أو التكنولوجيا والتواصل...فيمكن التساؤل مثلا عن المكانة التي تحتلها المعارف الدينية "الشرعية" في العالم العربي، فنلاحظ من خلال عدد المؤسسات التي تهتم بهذا النوع من المعارف ودخول مناهجها في البرامج الأخرى...فيمكن ملاحظة الإرادة التي تسعى بقوة إلى ترسيخ هذا النوع من الخطاب والمعرفة، في علاقته بالنظام القائم اجتماعيا وسياسيا.. فيما يكفي مثال واحد كنظرية التطور المعتمدة عالميا، يكفي ملاحظة المساحة المخصصة لهذه النظرية في البرامج التعليمية، لملاحظة جدة منهج فوكو، وكيف تصح تطبيقها على مثالين حيين كالبرنامج التربوي لجزئين متباينين من العالم. فنلاحظ المقارنة بين "مضامين لمعارف تاريخية صارمة ودقيقة التي تم تركها تستريح في الحاشية." [44]
وهذه المعارف المهضومة، لا تنفك تثور وتعود إلى الواجهة، إلا أن هذه العودة أو هذه الانتفاضة بلغة فوكو لا تكون ضد المعرفة بشكل صرف، حتى وإن كانت تبدو كذلك، بل إنها تكون "مناهضة للآثار الممركزة لسلطة مرتبطة بمؤسسة ما، ولطريقة عمل خطاب علمي أو طريقة توظيف خطاب علمي منظم داخل مجتمعٍ كمجتمعنا." [45]
لنتوقف لحظة مع عبارة فوكو هذه "سلطة مرتبطة بمؤسسة ما" فأي مؤسسة مرتبطة حتماً بسلطة. لا بل إن تأسيس أي مؤسسة يحتاج إلى قدر مؤكد من السلطة، وليست من ذلك استثناءً؛ المؤسسة التربوية، فهي تحتاج لسلطة في تأسيسها وهذه السلطة ضرورية للإجبار، لإلزام الأطفال، المتعلمين، والتلاميذ، وأهلهم على هذه التربية. وبالتالي، فالتربية هي السلطة التي تمارس على الناس لإدماجهم في الخطاب السائد؛ أي لدمجهم وهضمهم في بنية المعرفة وبنية السلطة. وكلاهما متخادمان تماماً ومتعالقان أكثر من أي مجال آخر في التربية، حيث يتم تأطير المعرفة وتسييجها ولا يتم إلحاق العناصر غير المرغوبة داخل هذا السياج، بل تبقى خارج النطاق. ولعل من يتمنى بذلك أن لا تصل هذه المعارف -غير المرغوبة- إلى ذهن المتعلم أبداً، وأن لا يصل إلى هذه المعارف ذهن إنسان على الإطلاق، وهذا مغزى إقصاء المعارف الخاضعة من النظام التربوي، بالإضافة إلى أن السلطة تريد ألا تهددها المعرفة، حتى لا ينفرط عقد هذا التحالف. إنها تريد استعراض الاستملاك؛ امتلاك السلطة للمعرفة. وتوزيعها بعد ذلك بالشكل الذي تريد وترى، وهذا ما يسميه فوكو بمأسسة الخطاب العلمي؛ أي جعل الخطاب ممتلكا لمؤسسة هي تتحكم في تطويره ونشره وتنميته أو ضغطه وإضعافه وإعطائه أكثر الأشكال نفعاً لها، وأقل الأشكال تهديدا أو معارضة لها بالأقل، على "أن هذه المأسسة Institutionnalisation للخطاب العلمي تجد قوتها في الجامعة مثلاً، وبشكل عام في أي مؤسسة تربوية أو بيداغوجية." [45]
ولهذه الغاية، يردف فوكو منهجه الأركيولوجي بمنهج آخر هو المنهج الجينيالوجي، وهو مستمد أيضا كما يصرح فوكو من نيتشه، وهو نفسه المنهج الذي يسبر أغوار الحقيقية في بطون اللغة، بل إن كتابا لفوكو يحمل هذا العنوان: "جينياليوجيا المعرفة"، والذي يناقش فيه فوكو مسألة اللغة والمعنى، والتي تتضح علاقتها بالبعد التعليمي كما سنرى، يرى فوكو أن اللغة قد ولدت نوعين من الاعتقادات:
● "الاعتقاد بأن اللغة لا تقول بالضبط ما تعنيه"، وأن ما نفهمه هو معنى يغلف المعنى الأقوى المضمر.
● "اللغة تتجاوز صورتها اللفظية الصرفة" [46]؛ فهناك أشياء أخرى تتكلم دون أن تكون لغةً(الأشياء).
وبالتالي، فاللغة ولدت اعتقادين كلاهما مضادين لها؛ الأول يعتقد أن اللغة مخاتلة، سرية وكتومة ومموهة تقول ما لا تقصد، وتقصد ما لا تقول. أما الثاني، فهو يعتقد أن اللغة ليست إلا قشرة لشيء أعمق، أو هي وسيلة من وسائل أخرى حتى إن أشياء أخرى تقول أيضأ معاني دون أن تكون لغةً كأسلوب اللباس، أو الهندسة المعمارية، أو علاقات التعامل، وعلاقات السلطة والاعتماد المتبادل وغيرها.. وكل هذا يولد سوء نية عام تجاه اللغة؛ أي تشكيكا واسع النطاق في كل ما يقال، ويسمع، وينشر، يتم تداوله، وتعليمه والتربية عليه... وفي هذا تتضح ضرورة التأويل وحيويته تجاه الغموض والتعتيم الذي تقوم به، وتعاني منه اللغة في نفس الآن. يؤكد فوكو ذلك، فكل ثقافة عرفتها الحضارة الغربية قد كانت له منظومة تأويل وتقنيات ومناهج للكشف عن اللغة التي تريد أن تعني غير ما تقول "وجود لغة خارج اللغة" [47] وهذه اللغة العميقة هي التي سبق عليها الكلام في سياق الحديث عن الخطاب؛ أي نظام الأفكار، أو النظام العميق للخطاب. إنها الإبستيمي الذي يحكم اللغة والخطاب معاً ويتحكم في ميدان اللوغوس بكل معانيه بما فيها النظام، ويمكن أن نضيف إليها السلطة أو القوة.
وحسب فوكو، فإن الثقافة الغربية شهدت ثلاثة إبستيميات (بلغة الكلمات والأشياء)، أو منظومات تأويل [47]
1 إبستيمي عصر النهضة (القرن 16): في هذا الإبستيمي تهيمن مقولة التشابه، ففي هذا النسق المعرفي، حيث تم تصور العالم والكون على أنها مجموعة من الرموز تتشابه وتدل بعضها على بعض؛ لأن الموجودات كلها تنتمي إلى أسر مختلفة بينها علاقات تماثل وتشابه وتقارب وتعاطف. وفي هذا النسق، فإن مهمة المعرفة انحصرت لذلك الحين "في البحث عن أوجه التشابه والاتفاق بين المظاهر المختلفة للوجود، وكان السبيل إلى ذلك هو العودة إلى الكلمات والعلامات باعتبارها ترتبط أزلياً بالأشياء، وكأن قرابة قدَرِيةً تجمع بين الكلمات والأشياء" [48] فميدان التأويل العام للقرن السادس عشر وما قبله، كان هو التشابه هو المفهوم السائد الذي لعب دورا رئيسا في داخل الكوسمولوجيا وعلمي النبات والحيوان والفلسفة. ورغم أن هذه التشابهات تبدو لنا نحو أبناء القرن العشرين غامضة ومشوشة، إلا أن عصر النهضة اعتبرها ميدان العلم ووطن المعرفة "حيثما كانت الأشياء تتشابه كان هناك معنى يمكن الحفر وراءه." [47]
2 إبستيمي العصر الكلاسيكي (القرنان 17 و18) في هذه المرحلة، لم يعد هناك تشابه بين الكلمات والأشياء، انفصمت العرى بينهما وسقطت المعاني. إن "النقد الذي وجهه بيكون وديكارت للتشابه قد لعب دوراً كبيراً في وضع تلك التقنيات النهضوية بين قوسين".[49]
وهكذا سقطت المعايير الأفقية التي اعتمدت التوازي بين الأمور والأشياء، لتسود معايير عمودية تصفف الأشياء في رفوف، وأقسام، ومجالات...لقد تعرضت الطبيعة في هذا العصر للتقسيم والتبويب لتصبح سلاسل من الأشياء المرئية القابلة للترتيب والتصنيف "ومن هنا سيادة مقولة النظام على إبستيمي ذلك العصر". [50]
3 إبستيمي عصر الحداثة (منذ نهاية القرن 18)؛ ففي هذا العصر سوف تقل أهمية النسقين السابقين، النظام والمتشابهات، وتعزز نمطية شكل جديد لا يعتمد على أي أساس ثابت، إلا على أساس النقد والمساءلة؛ أي فضح الثغرات وتوجيه الأسئلة والعناية بالهوامش، وإلى هذا النسق تعود ولادة مفهوم الإنسان لأول مرة في بنية الثقافة الغربية، رغم أن العناية بالإنسان والدعوات الإنسانية كانت عريقة في جذور الفلسفة الثقافة الغربية منذ القدم. "لقد خصت النزعة الإنسية في عصر النهضة والعقلانية في العصر الكلاسيكي، البشر بمكانة ممتازة في نظام العالم، ولكنهما لم يستطيعا التفكير في الإنسان [..] إن الإنسان اختراع حديث العهد؛ صورةٌ لا تتجاوز مئتي سنة. إنه مجرد انعطافٍ في معرفتنا، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلاً آخر". [51]
فظهور الإنسان في هذا العصر بالذات، كان بسبب تغير طرأ على بنية المعرفة والخطاب فيه، ومرتبطا بالذات بمنظومة تأويل جديدة؛ ذلك أن "القرن التاسع عشر، وعلى الأخص ماركس، ونيتشه، وفرويد. فقد طرحوا أمامنا إمكانية قيام تأويلٍ جديد". [49]
ويرتبط هذا التأويل الجديد بنصوص مثل الرأسمال، مولد التراجيديا، جنيالوجيا الأخلاق، تأويل الأحلام...فقد أخذ الإنسان يؤول نفسه بواسطة هذه التقنيات التي أدت إلى تأويلات، ثم تأويلات لتأويلات ناتجة عن الاستخدام، والاستخدام المتكرر لنفس التقنيات..
وهكذا يقوم المنهج الجنيالوجي بتحديد الفروق وتحديد المساحات جنبا إلى جنب مع المنهج الأركيولوجي ليحدد أي نظام تسود فيه أي أنظمة معرفية، فإذا كان المنهج الأركيولوجي يتولي الجانب التاريخي، فإن الجانب الجنيالوجي يتولى شق اللغة، وهي من الأهمية بمكان عظيم في بنية المعرفة، نقرأ لفوكو: "كيف يمكن أن يكون الإنسان ذاتا لِلُغةٍ تشكلت منذ آلاف السنين، وليست له على نسقها أي سيطرة؟ لغة يستغرق معناها داخل الكلمات [..] لغة يجد الإنسان نفسه مرغماً على أن يسكن فيها كلامه وأفكاره كومض لحظةٍ، في شبكة لا تحصى من الإمكانيات." [52]
وعلى أي حال، فإذا كانت أهمية المنهج الأركيولوجي تتراجع في دراسات حالات تبتعد من الماضي لتقترب من الحاضر، فإن أهمية المنهج الجنيالوجي تتقدم عند دراسة حالات معاصرة أو مزامنة مثلا لعلاقة التربية بالمعرفة بالسلطة.
يضرب ميشيل فوكو لهذه العلاقة مثلا سافراً عن السلطة في البلاد الشيوعية، حيث كانت أنظمتها التربوية تعتبر الماركسية علما. إنهم يطرحون سؤالاً هل هي (الماركسية) علمٌ أم لا؟ الجنيالوجيون يتركون الجواب عن هذا إلى سؤال آخر، وسنلاحظ كيف تتعلق هذه الأسئلة مباشرة أكثر من أي شيء آخر بالتربية وبالنظام التعليمي:
"- ما هي أنواع المعارف التي تريدون إقصاءها، وتقرون بعدم أهميتها عندما تصفون الماركسية بأنها خطاب علمي؟
- ما هي الذات المتحدثة أو المتكلمة؟
- ما هو الموضوع الذي تريدون تحجيمه أو تقزيمه عندما تقولون أنا أملك خطابا علميا؟" [53]
يقوم ميشيل فوكو هنا بتحليل أسباب الادعاء بعلمية الماركسية، وهي بتأمل ما؛ أسبابٌ سياسية وأيديولوجية. وهذا الادعاء بالطبع، موجه توجيها هجوميا ضد خصوم أيديولوجيين، وقبل تحليل جوهر هذا الادعاء، وصحته من خطئه تكون السلطة-الخطاب الماركسيان قد قاما بتحديد الجواب سلفاً وترسيخه في المؤسسات التربوية والتعليمية لتلك البلاد، وجعلاه عقيدة لا تناقش لأجيال عديدة، وفي هذه الحالة تكمن قوة التربية، أو بالأحرى قوة الخطاب عندما يعتمد على التربية في انتشاره، وقوة السلطة عندما تعتمد على التربية في ترسيخ نفسها. وهذا هو "الرهان الذي يتضمنه التعارض والنضال بين الجنيالوجيا والنظريات الأحادية أو هذه الانتفاضة الخاصة بالمعارف ضد المؤسسة وآثار المعرفة والسلطة الخاصة بالخطاب العلمي" [54]
وفي الحقيقة مجددا، فإن التربية تشكل صلة وصل بين السلطة والمعرفة من حيث التي "تنشر وتمرر آثار السلطة" هذه الآثار التي يحددها خطاب الحقيقة، هذه الحقيقة التي نحن ملزمون بإنتاجها "بإنتاج الحقيقة التي تتطلبها السلطة من أجل أن تعمل" فالسلطة لا تتوقف عن الطلبات والتوجيهات، ولا تتوقف عن مساءلتنا وعن التحقق والتسجيل، وفي ذلك تعينها التربية "إنها تمؤسس الحقيقة للبحث عن الحقيقة، وتجعله احترافيا وتمنحه مكافأةً." [55]
المبحث 5: التربية على الاهتمام بالنفس
يفسح ميشيل فوكو في مشروعه الفكري الأخير، تاريخ الجنسانية: الاهتمام بالذات. المجال لنموذج آخر للعقلانية التربوية فيما يعتبر اهتماما تربويا حقيقيا يهتم بحرية الآخرين. من خلال تحليل دستور الاهتمام بالذات في المدارس الفلسفية في العصور القديمة من أفلاطون وألسيبياد إلى المعالجين الإسكندريين الذين يعتنون بالكائن، مرورا بالأبيقوريين والمدارس الرواقية. تتضمن العناية بالنفس (كمجموعة من التقنيات الروحية) تدريب الذات والآخر، وهي طريقة يمكن أن تتنوع أشكالها (المدرسة الأبيقورية، والتوجيه الروحي، وما إلى ذلك). يهدف هذا التدريب إلى تعديل كيان الشخص الذي نتحدث إليه (نوع من علم النفس النفسي، ان يكون الإنسان عالما بنفسه، أو طبيب نفسه، ومعلما لنفسه). بالنسبة إلى ميشيل فوكو، تبقى هذه النفسانية قريبة من التربية؛ لأن التزام الحقيقة يبقى على جانب السيد (المخرج، المرشد) في التصريح، قول الحقيقة حيث المتكلم حاضر فيما يقول، حيث الكلمة تشترك مع الكائن في العيش وطريقة الحياة. تؤثر هذه الممارسات التعليمية (تقنيات الاستماع والقراءة والكتابة والتأمل) على الآخرين، حيث تنجح في تكوين علاقة سيادة ذاتية على الذات، والسيطرة على العواطف، وبالتالي حوكمة حقيقية للذات، حيث يكون الغرض من التوجيه هو بالفعل التوجيه الذاتي. التحدي المحدد لعلم أصول التدريس هو أن يصبح الطفل موضوعا، وتستيقظ ذاتيته الحرة.
قائمة المصادر والمراجع
[34] ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي 1990 ص 248
[35] نفسه. ص252
[36] ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية: إرادة المعرفة، ترجمة جورج أبي صالح، مؤسسة هنداوي، 2023، ص 15
[37] إيمانويل كانط، تأملات في التربية، ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر، ص12
[38] ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية: إرادة المعرفة، ترجمة جورج أبي صالح، مؤسسة هنداوي، 2023، ص 16
[39] نفسه، ص25
[40] ميشال فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي 1990 ص 248
[41] نفسه، ص 161
[42] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، التنوير للنشر، ص 24
[43] ميشيل فوكو، تأويل الذات، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة بيروت، طبعة 2003، ص 35
[44] نفسه، ص36
[45] نفسه، ص37
[46] ميشيل فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2008، ص 43
[47] نفسه ص44
[48] موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر "ميشل فوكو، ستراوس، هايدغر"، عبد الرزاق الدواي، كتابك للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1992، ص 138
[49] ميشيل فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2008، ص46
[50] موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر "ميشل فوكو، ستراوس، هايدغر"، عبد الرزاق الدواي، كتابك للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1992، ص 148
[51] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي، ص 329
[52] نفسه، ص 334
[53] ميشيل فوكو، تأويل الذات، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة بيروت، طبعة 2003، ص 38
[54] نفسه، ص 40
[55] نفسه، ص 50