هوسرل ونقده للنزعة السيكولوجية أو في التأسيس للمنطق المحض
فئة : مقالات
كما يبدو من خلال العنوان، الأمر يتعلق في هذه المحاولة، بالنقد الذي وجهه هوسرل لأصحاب النزعة السيكولوجية، خاصة فيما يتعلق بمجال المنطق، ونحن لا ندّعي أننا سنقف ونجمل القول في موقف هوسرل من النزعة السيكولوجية؛ بل إن مجمل ما سنقوم به، هو لفت انتباه القارئ الكريم لبعض جوانب هذا النقد[1]، والتي بدونها لا يستقيم الحديث عن المنطق المحض.
منذ كتاباته الأولى، أراد هوسرل أن يجعل الفلسفة علمًا صارمًا، وذلك بتخليصها من كل الأحكام والآراء المسبقة، والتي تمنع الفيلسوف من بلوغ معرفة دقيقة؛ فقد كان متشبثًا بهذا الموقف حتى قبل صدور مقاله "الفلسفة كعلم صارم" بوقت طويل؛ لذلك حاول في كتابه (بحوث منطقية)، خاصة في الجزء الأول (مقدمات في المنطق المحض)، الدفاع عن مشروعية المنطق المحض، كنظرية مؤسسة للمعرفة العلمية بشكل عام[2].
ولن يتأتى له ذلك، إلا بتفنيذ دعاوى النزعة السيكولوجية، التي كانت تقرن المنطق بالعمليات السيكولوجية التي تجري واقعيًّا في الذهن البشري، وذلك ببيان مخاطرها التي تقود إلى نزعة نسبية متطرفة؛ بل وريبية. فكيف استطاع هوسرل تفنيد مزاعم أصحاب النزعة السيكولوجية في أن المنطق يقوم على السيكولوجيا؟ وما هي الحجج التي ساقها لهذا الغرض؟
لقد عمد أنصار النزعة السيكولوجية، إلى الطعن في فكرة المنطق المحض، على اعتبار أن المنطق: هو فن عملي معياري، مهمته صياغة معايير أو قواعد التفكير السليم، ومبررهم في ذلك، هو أنه، وإن كان لابدّ لكل فنّ عملي من أساس نظري، (الأمر الذي تطرق له هوسرل في الفصل الثاني "الفنون النظرية باعتبارها أسسًا للفنون المعيارية")[3]؛ فإن العلم النظري الذي يتأسس عليه المنطق هو السيكولوجيا، وعلى اعتبار أن العمليات المنطقية هي في الأصل عمليات نفسية؛ لذلك، فإن دراستها دراسة نظرية تناط بالسيكولوجيا.
هذا بالضبط ما لم يقبله هوسرل، الذي وإن أقر بأن للمنطق شقًّا عمليًّا، وأنّه لابدّ من علم نظري يكون أساسًا للمنطق، إلا أنه يرفض أن تكون السيكولوجيا هي العلم النظري الذي يقوم عليه المنطق؛ بل هو المنطق المحض، الذي يصلح، في نظر هوسرل، لأن يكون الأساس الصلب الذي تقف عليه جميع العلوم.
وفي الفصل الرابع من كتاب بحوث منطقية الجزء الأول، والمعنون بـ"النتائج الإمبريقية للنزعة السيكولوجية"، يعرض هوسرل بعض النتائج الإمبريقية للنزعة السيكولوجية، محاولًا دحضها، ولكي يتحقق له ذلك، فإنه ينطلق من تعريف السيكولوجيا، باعتبارها علم وقائع الوعي في ارتباطه بالمعيش اليومي للأفراد، ومادامت السيكولوجيا علمًا بالوقائع؛ فهي مستمدة من التجربة، وبالتالي، فنتائجها احتمالية وتقريبية، أو بمعنى أدق، مجرد تعميمات تجريبية على أهميتها تظل غامضة، وكمثال على ذلك؛ قوانين تداعي الأفكار التي أرادت السيكولوجيا التداعوية إعطاءها رتبة وعلامة القوانين السيكولوجية الأساسية[4]. وحتى لو افترضنا، حسب هوسرل، أن الأسس النظرية الأساسية للقوانين المنطقية، تكمن في السيكولوجيا؛ فإن هذا سيطرح، بالنسبة للمناطقة من أصحاب النزعة السيكولوجية، مجموعة من النتائج ستخلق صعوبات عديدة.
وبالنتيجة، فإذا كانت الأسس النظرية غامضة، فلا يمكن أن نؤسس إلا قواعد غامضة كذلك، وإذا كانت القوانين السيكولوجية تفتقر إلى الدقة، فهذا سيصدق على القواعد المنطقية، في حين أن القوانين التي تسمى منطقية بالمعنى التام للكلمة، وتمتلك صلاحية مطلقة بشكل قبلي، وبذلك، فهي تمتلك يقينًا مطلقًا.
يقول هوسرل في هذا الصدد: "القوانين التي نقول أنها قوانين منطقية بالمعنى القوي للكلمة؛ هي التي نعرف قبلًا أنها تتأسس باعتبارها القوانين المؤسسة للماهية الحقيقية لكل منطق: المبادئ المنطقية، قوانين نظرية القياس، وقوانين أنواع أخرى كثيرة من الاستدلال مثال: استدلال المساواة، واستدلال برنولي، ومبادئ حساب الاحتمالات.... إلخ"[5]، وهنا، لابدّ أن نلاحظ، أن هوسرل يدرج حساب الاحتمالات ضمن القوانين المنطقية الصارمة، وذلك ليؤكد على أن قوانين الاحتمال، شأنها شأن جميع القوانين المنطقية الأخرى، ليست احتمالية، وأن لها صدقًا مطلقًا.
إذن، كل ما يمكن أن تقدمه السيكولوجيا، لا يعدو أن يكون مجرد تعميمات فضفاضة وغامضة، لا ترقى إلى مستوى القوانين المنطقية، بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لأن قوانين السيكولوجيا مستمدة في مجملها من التجربة، وهذه الأخيرة، لا تمدنا سوى بنتائج تقريبية واحتمالية، انطلاقًا من قضايا جزئية.
على الرغم من كل ذلك، إلا أن صاحب النزعة السيكولوجية لن يتنازل، وسيواصل ادّعاءه، بأن المنطق يتأسس على القوانين الطبيعية؛ أي تلك القوانين التي تهتم بالقوانين النفسية للبشر، لكن هوسرل سيعترض على ذلك، قائلًا: "إنه لا وجود لقانون طبيعي يعرف بشكل قبلي، أو يمكن أن يؤسس على البداهة العقلية"[6]؛ وذلك لأن الوسيلة الوحيدة لتأسيس أي قانون طبيعي هي الاستقراء، وعلى أسس استقرائية، لا يمكن تأسيس الصلاحية المطلقة للقانون المنطقي، في حين أن لقواعد المنطق صلاحية قبلية مطلقة، أما قوانين السيكولوجيا فتقوم على التجربة، والتجربة لا تمدّنا سوى بنتائج تقريبيبة واحتمالية.
فإذا اعتبرنا التجربة هي أساس القوانين المنطقية؛ فإن الطريقة الوحيدة لتأسيس وتفسير قانون ما، هي الاستقراء، انطلاقًا من وقائع تجريبية جزئية، وهنا، لن نتمكن من تأسيس صلاحية مطلقة لهذا القانون؛ بل فقط درجة الاحتمال الخاصة بهذه الصلاحية، وهذا ينطبق على جميع القوانين التي تتأسس بهذه الطريقة، بما في ذلك قانون الجاذبية[7]؛ إذ إن الاستقراءات في العلوم التجريبية، تفتقر للدقة؛ لأنها تخضع في الغالب للمشاهدة.
بناءً على ما سبق، ستكون القوانين المنطقية، من دون استثناء، ذات قيمة احتمالية وحسب. لكن وعلى العكس من ذلك، فإن القوانين المنطقية المحضة؛ هي قوانين صالحة بشكل قبلي، وهذا أمر بديهي في نظر هوسرل؛ لأن هذه القوانين لا يمكن أن تستمد أساسها، ولا تفسيرها من الاستقراء؛ بل من بداهة قاطعة، وما هو مثبت بشكل بديهي، لا يمكن أن يكون احتماليًّا؛ بل إن صلاحيته مطلقة.
إذا كانت السيكولوجيا عاجزة عن تقديم قوانين بديهية، من شأنها أن تشكل النواة الحقيقية للمنطق؛ فهذا لأنها لا تستطيع التمييز في سؤالها عن التفكير السليم، بين مضمون التفكير وعملية التفكير، ولتوضيح ذلك، استعمل هوسرل مثال الحكم؛ حيث إن صاحب النزعة السيكولوجية، لا يستطيع التمييز بين مضمون الحكم، وفعل الحكم؛ أي إنه لا يميز بين محتوى القضية، والعمليات السيكولوجية التي نقوم بها للتعبير عنها، وبذلك، فهو يخلط بين القوانين المثالية (المنطقية)، والقوانين الواقعية (السيكولوجية)، فيستخلص ما هو مثالي عن طريق المقارنة بين الأشياء، وهو ما لا يستقيم مطلقًا في مجال المنطق المحض؛ إذ إن للقانون المنطقي صلاحية تتعدى حدود كل زمنية.
هذا الخلط ستنتج عنه نتيجة أخرى؛ هي أن القوانين المنطقية، كما تنظر إليها النزعة السيكولوجية، تجد أساسها في العمليات النفسية، التي تستدعي بالضرورة، وجود محتويات واقعية مقابلة لها؛ فالنتيجة ترتبط على الدوام، ليس فقط بالمقدمات؛ بل بالظروف، والشروط الواقعية كذلك، بمعنى، أنها تعود في النهاية إلى التجربة، التي تقوم أساسًا على مبدأ الاستقراء والملاحظة، وبذلك، فإنها لا تشير إلا إلى الإمكان، في حين أن المنطق يشير إلى الضرورة.
فالتجربة، إذن، تتأسس على بعض التأكيدات المتعلقة بالاحتمالات، التي تظل عناصرها غامضة، وأما المنطق فيجب أن يقوم على البداهة.
هكذا، وإذا كانت القوانين السيكولوجية تحصل من خلال التجربة، والتجربة لا تعطينا سوى مجرد احتمالات؛ فإن المنطق لا يمكن أن يؤسس إلا على البداهة العقلية، فالمحتوى البديهي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يكون نتيجة لوقائع جزئية؛ وذلك لأن القوانين المنطقية، هي قوانين كلية لا يمكن تحصيلها من خلال وقائع جزئية.
يمكن أن نلاحظ هنا، أن هوسرل يحاول إلغاء الطابع الاحتمالي عن المنطق، وذلك بتأسيسه على البداهة العقلية، لا على معطيات التجربة، التي وإن كانت صارمة، إلا أنها تظل احتمالية، وخاضعة لمقياس الزمان، في حين أن الحقيقة الكلية تتعالى على كل زمانية.
يبدو واضحًا، من خلال ما سبق، أن نقد هوسرل للنزعة السيكولوجية، قد تركز على جانبين؛ الأول: هو أن القوانين السيكولوجية، هي قوانين يتم تحصيلها من خلال التجربة عبر الاستقراء، وبذلك، فهي تفتقر للصلاحية المطلقة، والتي يجب أن تتوفر في القوانين محض المنطقية. أما الجانب الثاني: فهو المتعلق بالخلط الذي يقع فيه المناطقة من أصحاب النزعة السيكولوجية، عندما لا يتم التمييز بين التفكير الصحيح، والوصف التجريبي لعمليات التفكير، ما ينتج عنه خلط آخر بين القوانين المنطقية، باعتبارها قوانين مثالية (حتى لا نقول مجردة)، والقوانين الطبيعية باعتبارها قوانين واقعية. وعن ذلك، ستلزم ضرورة وجود محتويات واقعية، تقابل القوانين المنطقية، وكلا المسارين سيؤدي، في النهاية، إلى إظهار عيوب ونواقص تصور أصحاب النزعة السيكولوجية للقوانين المنطقية.
[1] لا بدّ من الإشارة إلى أن نقد هوسرل للنزعة السيكولوجية Psychologisme، هو نقد موجه، في الأساس، لأستاذه برنتانو، الذي عمل على إرجاع المنطق إلى السيكولوجيا. للمزيد انظر:
Victor Delbós, “HUSSERL. Sa critique du psychologisme et sa conception d’une Logique pure”, Leçon faite à l’École des Hautes Études sociales. In Revue de métaphysique et de morale, XIXe année, n° 5, sept.-oct. 1911, p. 687.
[2] إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة: د. إسماعيل المصدق، مراجعة: د. جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، يوليوز 2008م، الطبعة الأولى، ص 13
[3] يتساءل هوسرل في الفصل الثالث الفقرة 17، بناءً على ما تم التوصل إليه في الفصل الثاني: "ما هي العلوم النظرية (و لنلاحظ، هنا، صيغة الجمع) التي تقدم الأسس الضرورية لنظرية العلم؟".
- EDMUND HUSSERL, Recherches Logiques, tome premier: prolégomènes à la logique pure, traduit de l’allemand par HUBERT ELIE , ALION I. KELKEL et René SCHERER , presses universitaires de France, 1959, p 55.
[4] Ibid , p 68.
[5] Ibid , p 68.
[6] Ibid , p 69.
[7] Ibid , p 70.