وجودية ألبير كامو* من العبث إلى التمرد

فئة :  مقالات

وجودية ألبير كامو* من العبث إلى التمرد

وجودية ألبير كامو* من العبث إلى التمرد

«هناك في تعلق الإنسان بالحياة شيء أقوى من كل شرور العالم».

ألبير كامو، من كتاب أسطورة سيزيف، ص16

*- في مديح اللاجدوى التي تشكل حياتنا

مثّلت قضية معنى الحياة والموت وجدلية المصير الإنساني محوراً مهمّاً في الفلسفة الوجودية، وانطلاقاً من الموقف الفردي الذي يتجه إلى الإنسان ووعيه، يحتل الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو مكانة مختلفة ومميزة بين الوجوديين، رغم أنه لا يعطي لنفسه صفة الفيلسوف، ويذهب بهذا الرأي الكثير من الباحثين والنقاد الذين وجدوا أن أعمال كامو الروائية والأدبية تسلط الضوء على مشكلات وجودية عميقة أكثر من أعماله الفلسفية الخالصة، لكن إجمالاً يمكننا أن نضع أفكار كامو في خانة الوجودية المتمردة، والتي سعى بها إلى تطوير مقاربة تفضي إلى عدمية الحياة وسخافتها، لكن عدمية كامو لا تدفع الإنسان إلى الانتحار أو التشاؤم، بل تحاول أن تنتشله من مأزقه الوجودي. إن قاعدة التكرار التي ترتكز عليها اللاجدوى تكشف لنا عن أفق من المعاني الذاتية المضمرة، لتصبح منهجاً لحياة الإنسان ومصالحة مع أقداره العنيفة.

*- التناقض والرغبة في الوضوح

يكشف كامو عن التناقض بين الإنسان والعالم، ويتأمل في المشاعر اللامعقولة التي تصدر عن هذا الإنسان في محاولته للفهم أو لتفسير ما يجري حوله.

ما إن يبدأ الإنسان بالتفكر، فإنه يكشف التناقض في محاولته لفهم العالم، ومعنى أن يفهم الإنسان العالم هو أن يجعله بشرياً يخضع لقواعد العقل والمنطق.

هناك دائماً شهوة بشرية للمطلق والوضوح تجسد كل الدراما الإنسانية، وكما يقول كامو: «إذا استطاع المرء أن يقول مرة واحدة فقط: هذا واضح، فسيتم إنقاذ كل شيء»[1].

*- اللاجدوى وحركة التناقض

تنشأ اللاجدوى من الحاجة البشرية الملحة إلى الوضوح والمنطق مقابل صمت العالم اللامعقول، وينبثق الشعور باللاجدوى من المقارنة بين حقيقة مجردة وواقع معين، بين الفعل والعالم الذي يفوق طبيعة ذلك الفعل[2].

واللاجدوى هي نتاج الفكر الذي ينقلب على نفسه، ومن تمظهرات العالم في الوعي البشري؛ فاللاجدوى ليست في الإنسان ولا في العالم، وإنما من التحامهما ومن صراعهما الأزلي.

إن أولى حركات الوعي عند الإنسان في رغبته الدائمة إلى الوضوح والبحث عن معنى تتمخض عن ذلك التناقض الرهيب بينه وبين العالم؛ ففي اللحظات التي يدرك فيها الإنسان ذلك الضباب من العدم، وذلك الليل الذي يتبدى فيه اليأس مضيئاً كالنجوم، تداهمه اللاجدوى بقلقها وعريها المرعب، وهنا تأتي اللحظة التي يجب على الإنسان أن يحمل فيها أعباء الزمن، وأن يكون مسؤولاً عن مصيره ومتناغماً معه في الوقت ذاته.

وعلى الرغم من محاولة الفلاسفة أن يعطوا نظاماً للحياة والأفكار، وأن يغوصوا في أعماق الإنسان وانفعالاته، إلا أن هذه الحياة تبقى بلا معنى ولا هدف في الحياة سوى الحياة نفسها.

هنا يستنطق كامو العديد من الفلاسفة الوجوديين ويبرهن على أن معظم أفكارهم، وإن كانت تحت مصطلحات جاذبة وبراقة، إلا أنها تخفي تحتها الوعي المرعب بلا جدوى الحياة، وما هذه الأفكار إلا محاولات لإشباع الظمأ البشري والفهم والوضوح في عالم تمزقه التناقضات.

ويصف كامو الموقف الوجودي بأنه انتحار فلسفي؛ إذ تصل الأفكار إلى حدودها القصوى والنهائية، ويلجأ الفكر دائماً إلى النفي والتفوق على نفسه، وهذا النفي هو الله بالنسبة إلى الوجوديين[3].

*- اللاجدوى منهجاً للعيش

في اللحظة التي يدرك فيها الإنسان اللاجدوى تصبح انفعالاً، وأشد الانفعالات إزعاجاً. ومن نتائج اللاجدوى ثورة الفرد وحريته، وبواسطة فعالية الإدراك يكون العالم المجدي برمته قاعدة للحياة، لا دعوة إلى الموت أو الانتحار؛ فالعالم اللامجدي يأخذ نبله أكثر من العوالم الأخرى[4]، لكن كيف يمكن للاجدوى أن تكون طريقة في العيش والإنسان محاط بهذا الضجر الذي يبعث على الغثيان، وهذا التكرار الرتيب؟

كيف يمكن أن تتحول المواجهة العنيفة بين الإنسان والموت والزمن إلى علاقة وئام وتصالح؟

يرى كامو أن الحياة تعاش بصورة أفضل إذا لم يكن لها معنى، والعيش هو إبقاء اللاجدوى على قيد الحياة عن طريق التأمل فيها[5].

إن ثورة اللاجدوى تغلف الحياة بطابع من الدهشة، وتجعلها ذات قيمة ومعنى، وتكون هذه الثورة عن طريق يقظة الوعي عند الإنسان بين فترة وأخرى، والشعور القوي بالحاضر واللحظة الراهنة، حيث يفقد الإنسان أي صلة بالمستقبل ويكون خالياً من الأمل. فالإنسان في سعيه نحو مشروع وجوده أو طموحه المستقبلي تتسرب منه سكينة النفس ويقظة الحاضر فتصبح الوسيلة هي الغاية.

لكن لا يكفي للإنسان أن يقتنع بأن الحياة ليس لها معنى، وفي نفس الوقت يكبل نفسه داخل إطار وجودي يتجه إلى المستقبل وإلى تحقيق الغايات؛ فبعض البشر قد سجنوا أنفاسهم داخل حرياتهم، مثلما أصبحوا عبيداً لحقائقهم ومن ثم سقطوا في فخ الآمال الساذجة وفي الصراع المدمر مع أوهامهم وآمالهم البعيدة.

تتفتح اللاجدوى أمام الفرد من خلال اشتباكه العنيف مع الموت والمضي في هذه الحياة بلا اهتمام أو اكتراث؛ ففي اللحظات التي يتفجر الوعي والشعور العنيف بالحرية، يرى الإنسان أن حياته مبنية على التفاهة وعلى الضياع والتلاشي في إرادة الموت التي تنتصر على كل شيء.

إن الإيمان العميق باللاجدوى هو اليقظة المستمرة التي ترافق الإنسان لتحرر روحه من الأمل ومن عبودية الأشياء العظيمة التي يأمل أن يكونها في الغد.

واللاجدوى قد لا تنبع من الألم ومن العقبات التي تواجه طريقنا، ولا من القلق والرعب المحدقين بنا، لكنها قد تنبثق من شعورنا بالسعادة ومن حالات الطمأنينة العميقة.

تقودنا اللاجدوى أحياناً إلى التوحد مع العدم، إلى الحرية التي تربطنا بقوة الحياة وأسرارها الخفية، لكن لا نستطيع عدّها فكرة يتبناها المرء بشكل طارئ كطريقة في العيش، ولا أن نطبعها بطابع الحقائق الفلسفية. واستناداً إلى كامو يمكننا أن نستخلص شيئاً من ماهية اللاجدوى المحتجبة، إذ يقول: «إن اللاجدوى تعلم المرء أن التجارب غير مهمة من ناحية، لكنها من ناحية أخرى تحفزه نحو أكبر عدد من التجارب»[6].

فخلف حالات الصبر، والصراع، ومحبة القدر الذي يسحقنا ويدمرنا، لا نستطيع تصور أنفسنا إلا سعداء عن طريق صدفة كونية يقفز فيها الأمل من عالم اللاجدوى بعد أن نكون قد تخلّينا عن الأشياء وتخلّت عنا، وأصبحنا أحراراً في مصائرنا، وهذا هو سر الثورة الوجودية التي ترنو دائماً إلى انبثاق مفاجئ للأمل[7].

*- أسطورة سيزيف

تعدّ أسطورة سيزيف التي استشهد بها كامو في كتابه خير دليل على عبثية الحياة، وانتفاء معناها؛ كان عقاب الآلهة لسيزيف بأن يدحرج صخرة صعوداً إلى الأعالي، وما أن تصل إلى القمة حتى تسقط الصخرة إلى الأسفل بسبب ثقلها، وكان على سيزيف أن يعاود الكرة مراراً وبلا نهاية، وأن يقضي حياته في تلك العقوبة الأبدية.

ترمز أسطورة سيزيف إلى الأثقال التي نحملها مجبرين في حياتنا ونكرر هذا الفعل بلا كلل أو ملل، دون غاية أو هدف نصل إليه، إلا أن كامو لا يحكم على سيزيف بالشقاء والعذاب، بل يجب على المرء أن يتصور أن سيزيف سعيد؛ فالشعور المؤلم باللاجدوى ينبثق من اللحظة التي يسأل فيها الإنسان.. لماذا؟

وهذا السؤال يسميه كامو بلحظة توقف، فهو يتصور أن سيزيف سيتوقف لحظة ويسأل عن جدوى ما سيقوم به في هذه الدوامة من التكرار والملل والمعاناة.

إن الوقفة هنا والتأمل في الغاية والمعنى للعمل الذي سيقوم به الإنسان هو تماماً سؤال عن معنى الحياة برمتها، وهذا السؤال هو الشعور باللاجدوى الذي ينبثق من لحظات الإدراك والاعتراف.

يتضح مما سبق، وبناء على أسطورة سيزيف أن اللاجدوى جزء من جوهر الكينونة البشرية في بعض لحظات تفكرها وتأملها في العالم والإنسان، وهذا ما سيقودنا لأن نطرح عدة أسئلة، وهي: لماذا لا يقوم سيزيف بإنهاء حياته كوسيلة للخلاص من ذلك العذاب، أو ما نفع العمل الذي أقوم به أنا الآن مع كل هذا البؤس، ومع كل هذه الكآبة القاتمة التي تفصلني عن العالم، ثم ألا يكون الانتحار هنا موقفاً ثورياً ضد كل هذا العبث بوصفه خياراً يخص كينونتي وحريتي؟

كل هذه الأسئلة التي يصوغها الذهن تريد أن تخضع الحياة لمعايير عقلانية، وأن تجعل الوحدة متماسكة بين الإنسان والعالم، لكن الحياة تمضي خارج كل معقول وخارج كل منطق إنساني، ولا تكترث لعذابات الإنسان وصرخاته. وحده العقل البشري من يضع المعايير والافتراضات. ويطلب من العالم أن يخرج من صمته، وأن يقدم لنا الاعترافات والبراهين.

*- اللاجدوى والفن

ينشأ العمل الفني وفقا لكامو من تعدد مظاهر العالم واختلافه؛ إن عاطفتنا تعتريها الغبطة حين ترى تلك المظاهر والمفاتن الدائمة للكون، وهذه المظاهر لا تأتي من عمق العالم، ولكن من الإحساس بها وباختلافها، حيث الإحساس وحده يبقى ولا ينفع التفسير. إن التناقض هو أساس العمل الفني الذي يصنع المظاهر ويغطي بالصور كل ما لا سبب له. والأعمال الفنية تستمد مغزاها التعريفي من الموت وغموضه.

أما لو كان العالم واضحاً، فإن الفن لن يكون موجوداً[8].

*- جمالية اللاجدوى... والتصالح مع المعاناة

يستطيع الإنسان أن يحب مصيره حتى وإن كان مأساوياً، فطالما كان حراً يستطيع أن يتصالح مع المعاناة، وأن يحرر ذهنه من الفكر الذي يفترض ثنائية اللذة والألم في العالم الخارجي؛ فالإنسان وفقاً لكامو يتعود على العيش قبل أن يحصل على عادة التفكير[9] إن القلق، والرعب، والليالي التي تمزقها الدموع هي ملكي، وهي أشياء تخصني وحدي، وبالتالي لا يستطيع أي شخص أن يصدر حكماً عليّ بأني محكوم بالشقاء طالما كنت متأملاً عذابي، وتلك المشاعر التي تضيء باحتدامها وجرحها عالماً استثنائياً تدرك فيه جوهرها.

تصبح الحياة مثيرة أكثر كلما ازدادت شدة صراعها وتحررها من الأمل، وكلما كان الطريق غير منتهي دائماً، أما إرادة الحياة فهي الحرية الأسمى، وهي القوة التي تعلو فوق شرور وآلام هذا العالم، «يكمن سرور سيزيف الصامت هنا أن مصيره يخصه هو وصخرته هي شيئه هو. إن سيزيف يعلمنا الأمانة الأسمى التي تنفي الآلهة وترفع الصخور، وهو أيضاً يعتقد أن كل شيء جيد. وهذا الكون الذي يظل الآن بلا سيد، يلوح له غير عقيم وغير تافه، فكل ذرة من تلك الصخرة وكل قطعة معدنية من ذلك الجبل الذي يملؤه الليل تؤلفان عالماً بحد ذاته. والصراع نفسه نحو الأعالي يكفي ليملأ قلب الإنسان ويجب على المرء أن يتصور سيزيف سعيداً»[10].

*- التمرد... والبحث عن المعنى

يسعى الإنسان الذي تحيط به عدمية اللاجدوى إلى تجربة تحرره من الزوال والنسيان، وإلى أن يحيا ويعترف به من قبل ذوات أخرى، وهذه الحرية لا تأتي إلا من إرادة تجسدها حركة الوعي بفكرة ثورية تتمرد على كل الأشكال العقلية والمنطقية التي يستند إليها العالم.

إن حركة الفكر التي يقودها الوعي إلى الخارج، لا بد أن تحتوي في تمظهراتها على قيمة ضمنية للحياة، أن تنتزع النظام من الفوضى، وترى المعنى متجسداً في قلب العبث، والمعنى لا بد أن يكون فردياً، ليؤكد المتمرد كينونته واختلافه عن طريق الهدم والبناء بالقاعدة التي يراها صحيحة ومناسبة، وبالطريقة التي تعلو بها على جميع القيم والقواعد الأخلاقية المتعارف عليها.

*- التمرد الميتافيزيقي

لقد حفل تاريخ الفكر البشري بيقظات فردية وجودية، تضمن البعض منها أشكالاً من التمرد والعصيان؛ فالإنسان المتمرد موجود قبل عالم القدسيات وبعده، تعتريه الرغبة بعالم إنساني تكون فيه جميع الأجوبة مصاغة بشكل منطقي[11].

وقد عرفت الحضارة اليونانية القديمة التمرد الميتافيزيقي، ووهبتنا أعظم أسطورة عن العقل المتمرد، وهي تصور لنا بروميثيوس مربوطاً إلى عامود قائم في أقاصي الأرض، شهيداً أزلياً محروماً إلى الأبد من مغفرة يرجى التماسها[12].

إن اليقظة الفكرية في العقل الإغريقي حملت أيضاً في ثناياها تمرداً واضحاً ضد الآلهة وأوهام البشر.

يشير كامو في «الإنسان المتمرد» إلى أن أبيقور نفسه يتحول في قصيدة لوكريتوس إلى متمرد رائع لا علاقة له بأبيقور الأصلي، عندما يتجرأ هذا الإغريقي قبل غيره من البشر إلى رفع عينيه الفانيتين في وجه الآلهة[13].

كانت قصيدة الشاعر والفيلسوف الروماني لوكريتوس في ماهية الأشياء عبارة عن ملحمة تمردية عظيمة، ووعياً مفارقاً له طابع الاحتجاج المباشر ضد وهم الآلهة والأساطير، عندما تصف أصل الكون المكون من ذرات أزلية لا يصيبها التغيير ولا يعتورها الفناء، وتدعو عامة الناس إلى التأمل في ظواهر الطبيعة وفي قوانينها الفيزيائية، وإلى التحرر من سلطة رجال الدين الذين يبررون جرائم الآلهة وشرورها لأجل رغباتهم ومصالحهم الذاتية، لكن تاريخ التمرد الذي نحياه كما يؤكد كامو هو تاريخ أبناء قابيل أكثر منه تاريخ تلامذة بروميثيوس، وعلى هذا الأساس يكون إله العهد القديم هو الإله الذي يعبئ الطاقة المتمردة[14].

*- التمرد الماورائي بين الخلق والتدمير

يعتمد التمرد برمته على حركة التناقض، لذا يقوم المتمرد بالاحتجاج على ما يتسم به الوضع البشري من نقصان ومن حالة فانية. ينبثق التمرد الماورائي من صرخة الإنسان الذي يؤكد وجوده في وجه قوى جبارة تسلب منه الحرية والحياة العادلة. يصف كامو التمرد الماورائي بأنه مطالبة مشروعة ضد آلام الحياة والموت، فالمتمرد يرى أن هناك منطقاً يفتقر للتماسك والغائية، وبديهية الرفض هي الشيء الوحيد المتاح له في كينونته، لكن حركة الاحتجاج هذه وإن كانت مفككة في ظاهرها، إلا أنها تطالب بالوحدة في عالم ممزق ومشتت.

عادة ما يكون التمرد بواسطة الشر وما يتصف به من جنوح؛ فغالباً ما يستمد العالم لا معقوليته من طاقة الشر وما تخلفه من دمار ورؤية قاتمة للحياة الإنسانية، لكن رمزية الشر تكتسب صيغة واضحة للتمرد العقلي عندما يكون الإنسان في مواجهة الإله وقدرته الكلية.

تأخذنا ملحمة «الفردوس المفقود» للشاعر الإنجليزي جون ميلتون إلى الشيطان الذي يسعى في ثورته على الإله إلى ترسيخ عنصر الشر وتعاظم قوته عند الإنسان، والشيطان لم يسلك طريق الشر إلا لأن الخير واضح ويستخدمه الإله لغايات ظالمة، فالمتمرد يرى نفسه بريئاً، ويكون مدفوعاً إلى نزعة الشر شوقاً منه إلى خير مستحيل، والشيطان يتمرد على خالقه؛ لأن هذا الخالق استخدم القوة لإخضاعه وقهره. يقول شيطان ميلتون: «لقد صار للخالق أندادٌ في العقل، فسما عليهم بالقوة»[15].

إن وحدة العالم بالنسبة إلى لم تتحقق مع الله، لذا فلا بد لها أن تتحقق ضده، من أجل ذلك يتجه المتمرد لا شعورياً إلى تأسيس أخلاق ومقدسات جديدة، وإلى بناء ملكوت أرضي وفق القاعدة التي اختارها، وهو يحدوه الأمل في إله جديد، وقد انساق منطقياً لإعادة تشكيل الخلق.

هناك المتمردون الذين يتغنون بالانتحار وتدفعهم رغبة ملحة إلى الفناء، وآخرون يتغنون بمشاهد القتل والدمار والجريمة، وفي كلتا الحالتين فإن المتمردين يحترقون بنار الرغبة في الحياة الحقة، ومحرومون من الكينونة[16].

لقد أنكر الماركيز دوساد الإله باسم الطبيعة، وجعل منها قوة مدمرة، فالطبيعة بنظره هي الجنس، وهكذا يقوده منطقه إلى عالم بلا قانون، حيث لا سيد إلا طاقة الشهوة العارمة[17].

إن الطبيعة في روايات دوساد تحتاج إلى الجريمة، تحتاج إلى التهديم كي يعاد خلقها من جديد، ومن واجب البشر أن يساعدوا الطبيعة على الخلق دائماً عن طريق إفناء الذوات الإنسانية.

لم يقتل الماركيز دوساد إلا في المخيلة، فقد بنى صورة خيالية ليوهم نفسه أنه موجود، وجعل الجريمة في الكتابة فوق كل شيء، وما إنتاجه المتمرد إلا دليل رغبته في البقاء[18]؛ فالقدرة على القتل والإذلال تعلو فوق العدم، وتقود الثملين برؤية الدمار إلى نشوة الوجود، لكن ليس شرطاً أن يكون المتمرد ملحداً، وحتى تاريخ التمرد نفسه كما يشير كامو يجب ألا يختلط مع تاريخ الإلحاد، بل نجده أحياناً أكثر قرباً إلى الشعور الديني المعاصر، والتمرد لا ينكر الله، ولكن يجادله ويعاتبه، ليكتسب هذا التمرد طبيعة رومانسية عاطفية. إن إيفان بطل رواية «الأخوة كارامازوف» لدوستويفسكي لا ينكر وجود الله إنكاراً مطلقاً، لكن يُخطّئ الله باسم قيمة أخلاقية، ويخاطبه مخاطبة الند للند.

وهو بذلك يرفع قيمة العدالة إلى مرتبة أكثر من الحقيقة ذاتها؛ فالحقيقة لا تستحق أن نحيا من أجلها إذا كان طريقها معبداً بالآلام ودموع الأطفال والعذابات البشرية، وإيفان في رواية الأخوة كارامازوف يرفض العلاقة العميقة التي أوجدتها المسيحية بين الألم والحقيقة؛ فالحقيقة حتى لو كانت موجودة فلا يسعها أن تكون مقبولة[19].

*- العدمية والتمرد

تحت شعار كل شيء مباح، يبدأ تاريخ العدمية المعاصرة حسب تعبير كامو، تتجه العدمية نحو إنكار كل قيمة مطلقة وكل نظام. لقد اتخذ العدميون المتطرفون من العقل الضيق والغرائز الأنانية عقيدة جوهرية، وهذا دليل على ظلامية عقلانية واضحة لديهم. هذه الظلامية لم تجد النور وظلت تراوح في دوائر المتاهة والدمار، عكس العدمية عند نيتشه الذي اتخذها منهجاً لفن العيش، ولتوازن كينونة الإنسان وانسجامه مع العالم.

يرى كامو إن العدمية مع نيتشه أصبحت نبوئية وواعية لأول مرة، فقد أقرّها وفحصها كواقعة سريرية، وادعى أنه أول عدمي في أوروبا. فقد رأى نيتشه اختفاء كل قاعدة أولية يرتكز عليها أي معنى حقيقي في الحياة، لكن النهج الذي تسير به عدمية نيتشه يفضي إلى نتائج قصوى تحمل العديد من المعاني والدلالات عن طريق الهدم المستمر لكل الأشياء، وقتل الإله الذي يختفي تحت كل المعبودات والمقدسات البشرية.

يصبح تمرد الإنسان عديم القيمة، ولا يؤدي إلى انبعاث أي قيم جديدة أو نهضة حضارية إذا لم يكن خاضعاً لتوجيه، فنيتشه لم يضع فلسفة في التمرد، وإنما بنى فلسفة على التمرد[20].

لا بد للإنسان أن يكون حرَّاً في عالم لا تحكمه الغايات ولا القيم، وهذه الحرية تجد نفسها في الوقوف على حافة الخطر، وفي الاعتراف ببراءة الصيرورة والاستسلام لهذا العالم.

وهذا يؤدي إلى مبدأ الزهد العدمي المنطلق من الاعتراف بالقدر وتمجيده، وهنا تمتزج فرحة الصيرورة بفرحة الفناء وتدخل ألوهية الإنسان إلى هذا العالم. إن حركة التمرد التي كان يطالب فيها الإنسان بكينونته الخاصة تلاشت في خضوع الفرد خضوعاً مطلقا ًللصيرورة، وبهذا يحل حب القدر محل كرهه؛ إذ إن كل فرد يشارك في كل الوجود الكوني[21]، ويتلاشى في دوائر العَود الأبدي للعوالم.

يضع نيتشه -حسب كامو- الفن محل الدين للتخلص من عدمية الحياة، ولمواجهة المشكلات الروحية والنفسية التي تعترض الإنسان؛ إذ تصبح تلك الحياة برمتها متجسدة في العمل الفني، فالفن وحده من يكتنه العالم؛ لأنه يعلمنا كيف نكرر العالم، مثلما يتكرر في حركة العود الأبدي.

*- الفن والتمرد

ما من فن يستطيع أن يرفض الواقع رفضاً مطلقاً، أو يؤكده تأكيداً مطلقاً، فإنما هو يرفض وجهاً من وجوه الواقع ويؤكد وجهاً آخر، وهو يرفض العالم بسبب ما ينقصه دائماً. فبالرغم من هذا النقصان، إلا أن الفن في حركته المثلى يجنح نحو المطلق، نحو عالم يتسم بالوحدة والكمال.

يعيدنا الفن إلى أصل التمرد بمقدار ما يسعى إلى تجسيد قيمة تتلاشى في الصيرورة الدائمة.

إن الأشياء في الفن لا يسعها أن تعجبنا لأننا لا نراها، بل لأن الصيرورة الدائمة تنكرها وتدفنها، وهو ما يحولها إلى أشياء منسية ومهملة في الذاكرة البشرية؛ ففي اللوحات التشكيلية لعباقرة الفن هناك اصطياد لِما هو عابر ومنسي في الحياة اليومية، فمن ذا الذي كان ينظر إلى يدَي الجلاد أثناء الجلد، أو إلى أشجار الزيتون على درب الصليب أو تأملات الإنسان في وحدته وعزلته؟

تكمن عبقرية الرسام في هذا الجمع بين الطبيعة والتاريخ، في تلك الأشياء الصغيرة المتلاشية في الصيرورة الدائمة؛ فالفن هو هذا الانسجام الساحر بين الجزئي والكلي والذي كان يطمح إليه هيغل.

والرواية كذلك تنشأ من روح التمرد، وما العالم الروائي سوى تصحيح لهذا العالم وفق رغبة الإنسان. إن المقصود هنا هو نفس العالم والعذاب نفسه، لكن هنا يتجلى الجهد المبدع في صنع العالم وفقاً لِما نرغبه وما نرتئيه، ودائماً بانحراف طفيف هو علامة الفن والاحتجاج[22].

في رواية «البحث عن الزمن المفقود» ينحت مارسيل بروست في الزمن، ويجعل الماضي حاضراً أبدياً في الذاكرة. إنه تمرد ضد قوى الموت والنسيان، يعيد به مارسيل بروست الوحدة إلى عالم مفكك من خلال تلك اللحظات المنسية التي يصطفيها من حنايا الذاكرة، ليتخيّر من الحياة الذاتية ما هو أكثر ذاتية منها، ويجعل الأبدية حاضرة في حياة الإنسان، لكنها أبدية بلا إله، وبهذا تكتسب الكينونة أعمق معانيها في الزمان من خلال التحالف مع جمال الكائنات والعالم ضد إرادة العدم[23].

*- التمرد والثورة

يفرّق كامو بين التمرد والثورة؛ إذ يرى أنّ الثورة تبدأ اعتباراً من إدخال الفكرة في التجربة التاريخية، في حين أن التمرد هو فقط تلك الحركة التي تقود من التجربة الفردية إلى الفكرة. إن تاريخ حركة التمرد حتى لو كان تاريخاً جماعياً هو احتجاج مبهم لا يستخدم مذاهب ولا أسباباً. أمّا الثورة، فهي محاولة لصياغة العالم في إطار نظري[24].

إن العدمية الفردية في ارتباطها بالحركات الثورية والعقائد قد أصيبت بخيبة وانتهت إلى الإرهاب، وقد سعى بعض المتمردين في انضمامهم إلى الحركات بالخروج من التناقض وإلى خلق القيم التي كانوا إليها يفتقرون، وأصبح هؤلاء المتمردون الذين لا يضعون أي فكرة فوق الحياة الإنسانية، يُقتلون في سبيل الفكرة ويجسدونها حتى الموت.

وقد أدت كذلك الثورات الحديثة أيضاً إلى تعزيز الدولة بإرهابها اللاعقلاني الذي يرى أن ليس لشيء معنى، وأن التاريخ تجسيد لإرادة القوة والسيطرة. إن هذه الثورة العدمية تجلت في الدول الفاشية في أوروبا وتحديداً في الإمبراطورية الهتلرية التي لم تخلق سوى المزيد من الشغف بالعدم والدمار[25].

وهناك الدولة بإرهابها العقلاني التي قامت باستبدال الملكوت السماوي بالملكوت الأرضي، وبالتالي تأليه التاريخ والإنسان كمقدسَين لا يمكن المساس بهما، وقد كانت الدول الشيوعية أحد وجوه هذا الإرهاب العقلاني.

إن معسكرات الاعتقال وعمليات الإبادة الجماعية دليل على هروب الإنسان من العزلة والتعطش إلى الوحدة في حفرة القبر المشتركة؛ فبقدر ما تكون السلطة عذاب الآخر، فإنها بحاجة إلى الآخر أيضاً[26].

*- التمرد نزعة إنسانية

عادة ما يكون المتمرد بحاجة إلى التوحد ذاتياً مع الخير الذي شعر به فجأة، فيتصرف باسم قيمة مبهمة، وهي على الأقل قيمة مشتركة بينه وبين الناس. إن التمرد هو منطق خلق لا تدمير، وهو حركة الحياة التي تجد نفسها في الحب والعطاء[27].

إن هذه القيمة في التمرد ستقودنا إلى صيغة إنسانية مشتركة بين سارتر وكامو في مذهبهما الوجودي، فعندما يطرح سارتر فكرة الاختيار في الوجودية؛ فإن هذا الاختيار يتحول إلى التزام مشترك بين الأنا والآخر، لذلك عندما أختار أنا فإني لا أختار لنفسي فقط، وإنما أختار للناس جميعاً، والشيء نفسه ينطبق على الحرية الفردية التي تصبح مسؤولية، فأنا عندما أكتشف حريتي، فإنني أكتشف حرية الآخرين أيضاً، وبالتالي تتشكل الصورة التي يجب أن يكون عليها وجودي.

وانطلاقاً من مفهومي الالتزام والمسؤولية، لا يمكن أن نحصر التمرد عند كامو في حالة فردية أنانية كما هو شائع عند البعض، وإنما في حالة يجاوز فيها الفرد ذاته نحو الآخر.

مثلما يوجد الإنسان؛ فإن فطرة الوعي تدفعه للتمرد، لكن على تمرده أن يقف عند حد يكتشفه في ذاته، وهو الحد الذي يلتقي فيه جميع البشر في هذا الوجود.

إن الألم الذي يخلفه العبث وعدمية اللاجدوى هو فردي بالدرجة الأساس، لكن في حركة التمرد يصبح الألم جماعياً والمعاناة مشتركة مع البشر ومصائرهم المتقاطعة. ومن هنا نستطيع أن نضفي على التمرد نزعة إنسانية، عندما تدفعنا تجربة العبث إلى الإيمان ببديهية الاحتجاج، عندها ينطلق الفرد من عزلته وعذابه، من يأسه وتمزقه في هذا العالم ليعطي القيمة للبشر جميعاً.

هكذا يصبح التمرد منهجياً عندما تحتوي حركته ضمنياً على القيمة في عالم بلا قيمة ولا معنى، ليصبح الكوجيتو الديكارتي كما يقول كامو: «أنا أتمرد، إذن نحن موجودون»[28].

[1] - ألبير كامو، أسطورة سيزيف، ترجمة أنيس زكي حسن، منشورات دار مكتبة الحياة-بيروت، ط1، 1983، ص36

[2] - المصدر نفسه، ص 39

[3] - ألبير كامو، أسطورة سيزيف، مصدر سابق، ص 50

[4] - المصدر نفسه، ص 21-31-74 (بتصرف).

[5] - المصدر نفسه، ص 62- 63

[6] - ألبير كامو، أسطورة سيزيف، ص72

[7] - المصدر نفسه، ص151 (بتصرف).

[8] - ألبيركامو، أسطورة سيزيف ص113-117-134 (بتصرف)

[9] - المصدر نفسه، ص 16

[10] - المصدر نفسه، ص ص142-143

[11] - ألبير كامو، الإنسان المتمرد، مصدر سابق، ص27

[12] - المصدر نفسه، ص36

[13] - المصدر نفسه، ص43

[14] - المصدر نفسه، ص44

[15] - يراجع، المصدر نفسه، ص63-64

[16] - ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ص 80-128-130 (بتصرف)

[17] - المصدر نفسه، ص 51

[18] - ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ص61

[19] - يراجع، المصدر نفسه، ص34-72-73

[20] - ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ص75-85-86-89-196 (بتصرف).

[21] - المصدر نفسه، ص94-95 (بتصرف)

[22] - يراجع المصدر نفسه، الصفحات: 319-320-321-327-337

[23] - ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ص331-332-333 (بتصرف)

[24] - المصدر نفسه، ص136 (المعطيات نفسها).

[25] - يراجع: ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ص208-214-222-232

[26] - المصدر نفسه، ص308

[27] - ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ص20-21-353-377 (بتصرف).

[28] - المصدر ذاته، ص 28-29 (بتصرف) ھ . واجه هايدغر موجة من الانتقادات الشديدة واللاذعة بعد تأييده لهتلر وانتمائه للحزب النازي عام 1933. ولم يظهر في كتاباته اللاحقة أي ندم أو أسف يعبر عن تلك الهفوة التاريخية التي أثرت في حياته ومساره الفكري.