وقفة تأمليَّة في رجم العقلانيَّة
فئة : مقالات
وقفة تأمليَّة في رجم العقلانيَّة([1])
يُتَّهم الإنسان العربي إجمالاً بالمغالاة والابتعاد عن العقلانيَّة والموضوعيَّة، إذ نراه يتأرجح بين تطرّفين، يتراوحان بين إفراط وتفريط: لدينا من جهة، العربي الذي ينبهر بأنوار الغرب انبهاراً يُعمي بصيرته إلى حدٍّ يجعله غير آبهٍ بتراثه، فيحجّمه، ويرميه في دائرة التخلّف والماضي السحيق الذي تمَّ تجاوزه، إذ لا نفع منه البتة اليوم. نراه يخجل من نفسه ومن تاريخه ومن إنجازات أسلافه مقارنة مع ما يتمُّ ضخُّه من أفكار وتقنيات واكتشافات متسارعة على الساحة العالميَّة. لذا نجده يَطوي صفحات مشرقة خطّها الأوائل مركّزاً فقط على البضاعة المستوردة باعتبارها الأجود والأنفع والأكثر ملاءمة للعصر.
وفي المقابل، هناك العربي الذي مسَّه جنون العَظَمة، فغرق في التباهي بماضيه وتراثه وعُظمائه مكتفياً بالتغنّي بالأمجاد الغابرة وتقديس كلّ ما أنتجه الأسلاف، وتحريم المسّ به، معتبراً أنَّهم قاموا بكلّ ما يجب فعله في هذا المجال أو ذاك، فلا ضرورة للبحث عن المزيد، لأنَّ التراث يحوي كلَّ ما نحتاج إليه، ولن نتمكن من تخطّي الكبار الذين سبقونا، لذلك يُنصِّبهم سادةً على حاضره بكلّ أبعاده وحاجاته وأزماته.
للأسف، نجد الفيلسوف يقف وحيداً، تتوهَّج في عقله شعلة نور ترشده بعيداً عن هذين التطرُّفين، ويحرّك قلبَه شغفُ البرهان على أنَّ الحقيقة أبعد من التعصُّب والأدلجة والتشرنق ونفي الآخر المختلف.
يتصدَّى الفيلسوف للمتطرّف الأوَّل فيعلن له ما يأتي: في الغرب كثرٌ أُعجبوا بتراثك، فانكبُّوا عليه، وأمضوا العمر في الحفر فيه، والتحلّق من حوله، والانهمام بمقولاته، فكم بالحري بك أن تلتفت بدورك إلى ما تكتنزه طبقات تاريخك العابقة بالفكر، وتنضمّ إلى قافلة الباحثين فتسهم بجهدك في مسيرة بناء صروح المعرفة.
وفي الوقت عينه، يقف الفيلسوف ليرفع الصوت عالياً في وجه المتطرّف الثاني قائلاً له: استيقظ أيُّها النائم واضبط ساعتك وفق زمنك الحاضر، انغرس في واقعك الفكري ولا تكتفِ بمواكبة التطوُّر المادي للحضارة الغربيَّة، غافلاً عن مسار الفكر في السعي وراء المزيد من النقد والحفر والتفكيك والقفز إلى الأمام نحو الأفق الأبعد. لا تخشَ من ارتكاب متعة التفكير، وتعرية الواقع من الإسقاطات. معاشرة العقلانيَّة جرمٌ حلال عرفه الأقدمون فنجوا لحظة القيام به من الفناء في اللَّامعنى.
ما أحوجنا اليوم في العالم العربي وفي لبنان على وجه الخصوص، في هذا الزمن الحاضر تحديداً، وفي خضمّ ما نشهده من ورش عمل لتجديد المناهج التربويَّة، وبخاصة في ما يتعلق بالفلسفة العربيَّة، ما أحوجنا إلى أن نبذل كلَّ الجهد للابتعاد عن هذين التطرُّفين، فنحافظ على خصوصيَّة الفكر العربي الإسلامي، بما يتضمَّنه من سياقات ومصطلحات وإشكاليَّات تميَّز بها، من دون تقليص أهميَّة الغرب وما أنتجه من مناهج ومصطلحات وأفكار. إنَّ الفترة الراهنة تحمّلنا مسؤوليَّة كبرى، والويل لنا من لعنة الأجيال إن تغاضينا عنها؛ مسؤوليتنا تكمن في كشف الثروة الدفينة، ونفخ الغبار عن الذهب، وتشجيع المزيد من الشباب على عشق الفلسفة العربيَّة بدلاً من جلدها، وفي إبراز قوَّتها والاشتغال على تأوينها وجعلها أكثر قابليَّة لاحتواء القلق الفكري والعطش المعرفي. نحن، وأكثر من أي وقت مضى، مدعوُّون للالتفات إلى الذات العربيَّة في المرآة، والتأمُّل في مكامن وجعها، والعمل على النهوض بها من كبوتها. نحن اليوم، ولكي يعترف بنا الغرب، علينا قبل كلّ شيء أن نعترف بأنفسنا، أن نقيّم تراثنا بنظرة موضوعيَّة. علينا أن نتدافع في سبيل المعرفة العلميَّة الرصينة التي تضيء ظلمة الجهل، وتكبح سرعة انتشاره، وتنظر إلى الواقع الفكري والحضاري كما هو، لا كما نريده أن يكون. كفانا انشغالاً بـ"تأسيس الجهل" والعمل على انتشاره. الجهل بماضينا وحاضرنا، بمشاكلنا وكيفيَّة التصدّي لها. كفانا هدراً للطاقات والمجهودات الفكريَّة في سبيل بناء مناهج تزيدنا اغتراباً عن ذاتنا وعن مجتمعنا، وعن تاريخنا بكلّ ما يتضمَّن من فصول.
في محاولة منّي على عُجالة، اخترت ثلاثة نصوص تراثيَّة للتأمُّل فيها، لعلَّ هذه القراءة توقظ الرغبة في تسليط الضوء على مكامن مشرقة من العقلانيَّة التي سبقنا إليها مفكرون غاصوا في التنظير والبحث والتنقيب، والتي تتمُّ محاربتها عن طريق طمسها وإخفاء معالمها، تارة باسم التقدُّم التكنولوجي والتطوُّر العلمي المتسارعين، وتارة أخرى تحت عنوان مخالفة التعاليم والشرائع الدينيَّة.
توقفت عند هذه النصوص لكي نجول بمعيتها للحظات، فنعود إلى زمن التفكّر الرصين، حيث يجتهد العقل في السعي وراء الحق وتأسيس المعرفة الموضوعيَّة. النصُّ الأوَّل للكندي يتحدَّث فيه عن أهميَّة الفلسفة، والثاني للرازي الذي يبرز ارتقاء منزلة العقل مشدّداً على دوره القيادي في عمليَّة المعرفة، والنصُّ الثالث لابن رشد الذي ينتقد أفلاطون في اعتقاده باختصاص اليونان من دون سواهم بالفلسفة.
- «إنَّ أعلى الصناعات الإنسانيَّة منزلة وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة، التي حدّها: علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأنَّ غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق، وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى، (...).وينبغي لنا اقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنَّه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق (...). فحَسَن بنا أن نلزم إحضار ما قال القدماء (...) وتتميم ما لم يقولوا فيه قولاً تاماً، على مجرى عادة اللسان وسُنَّة الزمان (...)، مع العلة العارضة لنا في ذلك، مع الانحصار عن الأتباع في القول، اتقاء سوء تأويل كثير من المتّسمين بالنظر في دهرنا، من أهل الغربة عن الحق (...)، ليضيق فِطنهم عن أساليب الحق وقلة معرفتهم»[2].
- «إنَّ البارئ ـ عزَّ اسمه ـ إنَّما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهرِ مثالِنا نيله وبلوغه. وإنَّه أعظم نِعم الله علينا وأنفع الأشياء لنا وأجداها علينا. (...) وإذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته فحقيقي علينا أن لا نحطّه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله وهو الحاكم محكوماً عليه، ولا هو الزِمام مزموماً، ولا هو المتبوع تابعاً، بل نرجع في الأمور إليه ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه، فنُمضيها على إمضائه ونوقفها على إيقافه، ولا نسلّط عليه الهوى الذي هو آفته ومكدّره والحائد به عن سننه ومحجّته وقصده واستقامته، والمانع من أن يُصيب به العاقل رشدَه وما فيه من صلاحِ عواقب أمره، بل نروّضه ونذلّله ونحمله ونجبره على الوقوف عند أمره ونهيه. فإنَّنا إذا فعلنا ذلك صفا لنا غاية صفائه وأضاء لنا غاية إضاءته وبلغ بنا نهاية»[3].
- «وهذا الرأي [يقصد اختصاص اليونان دون غيرهم بالفلسفة] إنَّما يكون صحيحاً لو أنَّ جنساً من الناس هو وحده المُعدُّ للكمالات الإنسانيَّة، وبخاصَّة النظريَّة منها. ويشبه أن يكون هذا هو ما كان يعتقده أفلاطون في اليونانيين، وقد نسلّم أنَّهم، في الغالب، مُعدُّون بالطبع لقبول الحكمة؛ ولكن لا يلزم عن هذا أن نُنكر وجود كثيرٍ من هؤلاء أعني المُعدّين للحكمة، أمثال أولئك الذين كانوا في بلاد اليونان وما جاورها، وفي بلدنا هذا، أعني الأندلس، وفي الشام والعراق ومصر، وإن كان وجود ذلك في بلاد اليونان أكثر. وحتى لو قبلنا بهذا، فالأولى أن نقول في سائر الفضائل، إنَّه لا يمْتنِع أن تكون أمَّة من الأمم معدَّة بالطبع، على الأغلب، لفضيلة بعينها دون غيرها، كأن يكون الجزء النظري (من النفس: الحكمة) لدى اليونان، أغلب، والغضبي (الشجاعة) عند الأكراد والجلالقة أقوى. وها هنا مكان فحصٍ دقيق؛ إذ يُظَنُّ أنَّه عندما يكون الجزء النظري (من النفس: العقل) حاكماً تكون الفضائل أنسب وأصلح؛ أعني الصلاح الذي في الطبع (...)»[4].
يعلّق الكندي، في النص المذكور أعلاه، أهميةً كبرى على طلب الحق وعدم الاكتفاء بذلك وحسب إنَّما يقرنه بالسعي إلى العمل به. يحدّد مهمَّة الفيلسوف ببُعديها النظري والعملي انطلاقاً من البحث العقلاني عن الحق. نلحظ أنَّه يُسقط الحدود في عمليَّة البحث هذه، إذ يدعو إلى طلب الحق من أيّ جهة أتى، من دون التقوقع في إطار اللغة أو الدين أو الأمَّة. إنَّ في هذه الخطوة إبرازاً لقيمة الانفتاح على القدماء، أي على كلّ من لديه تجربة ناجحة في طلب الحق.
أمَّا الرازي فنجده يضع العقل في مرتبة القيادة، ولا يقبل بما هو دون ذلك مقاماً. ملفتٌ ما يُلحق بالعقل من دور، ومهام، ومسار. يُحمّل الإنسان مسؤوليَّة كبرى تجاه أهمّ نِعَم الخالق عليه. إطلاق سراح العقل من سجنه هدف راقٍ يدعونا الكندي للعمل عليه. لم يحدّد أيَّاً من الأمور علينا أن نرجع فيها إلى العقل لكي يرشدنا نحو المسار الصحيح. بتعبير آخر، جعل الكندي من العقل المرجع الأساس للبتّ في مختلف الأمور التي تواجه الإنسان في حياته.
يبدو من خلال نصّ ابن رشد أنَّه كان يواجه في زمانه نوعاً من تعظيم شأن شعبٍ ما أو حضارةٍ محدَّدة. لم يقبل بنفي التفلسف عن العرب. لم يحصر عشق الحق والبحث عنه بحضارة دون سواها. وكم نجد في كلامه هذا ما يجيب على كُثرٍ في زمننا الحاضر، إذ نسمع بعض الأصوات التي تتردَّد هنا وهناك حول عدم إمكانيَّة الحضارة العربيَّة من أن تنتج علماً عقلانيَّاً كالفلسفة، وإن وُجدت فلسفة ما فهي في أغلب الأحوال مأخوذة من اليونان أو الغرب. وكأنَّ في نصّ ابن رشد إظهاراً لقيمة التجربة العقلانيَّة التي خاضها مفكرو العصور الوسطى ومفكرو النهضة من بعدهم في الحضارة العربيَّة، وذلك من دون إنكار فضل اليونان والغرب، ولا قيمة ما أنتجوه على الصعيد الفلسفي. إنَّ هذا الموقف الرشدي يحثنا على مضاعفة البحث عن مزيد من التجارب العقلانيَّة، ليس فقط في التراث العربي الإسلامي الوسيط والنهضوي، إنَّما أيضاً في التجربة الحديثة والمعاصرة. فالفلسفة ليست حكراً على شعب واحد، ولا على حضارة معيَّنة، فبإمكان من يمسّه شغف الحكمة أن يخوض غمارها متسلحاً بالأدوات المنهجيَّة اللازمة والمفاهيم المتوفرة في عصره.
تركت كلاً من الكندي والرازي وابن رشد يعيدوننا إلى أجواء كانت تنضح بالعقلانيَّة، لكي ألقي الضوء من خلالهم على ما نعانيه من تهميش لمادة الفلسفة العربيَّة، طارحة على مختلف المهتمّين بالشأن التربوي النقاط الآتية:
- إنَّ ما تشهده المجتمعات العربيَّة الإسلاميَّة في زمننا الحاضر يرتّب علينا أن نبرز بوضوح مكامن العقلانيَّة في التراث والتي تشكّل نقاط القوَّة فيه، حيث تجلّت عبر التاريخ أبرز المقاربات والنظريات الفلسفيَّة، وذلك في مجال المعرفة والإلهيَّات والأخلاق والسياسة.
- إنَّ التراث العربي الإسلامي، نظراً إلى تعدُّد حقوله المعرفيَّة، ووسع الحقبة التاريخيَّة التي يغطّيها، يجب أن يتمَّ تقديمه إلى المتعلّم من منظور فلسفي موضوعي بعيد عن التعصُّب والحذف والتحوير، الأمر الذي يستدعي متابعة البحث والتدقيق وتسليط الضوء على ما يتمُّ تجاهله في الحقبة الراهنة.
- إنَّ ما يحصل من حولنا بخصوص تهميش مقرَّر الفلسفة العربيَّة، أو التقليل من شأنه، أو اعتباره عبئاً على المتعلّم لا يفيده الكثير في التحضير لمستقبله الأكاديمي، إنَّ هذا النهج يمهّد على الأرجح لعمليَّة تسطيح الأجيال، وعدم تحفيزها على البحث، أو مواجهة أيَّة صعوبة. كما أنَّه يعمل على اقتلاع المتعلّم من جذوره الفكريَّة والحضاريَّة، وجعله يعيش في غربة عنها. كذلك إنَّ تهميش مادة الفلسفة العربيَّة في المناهج التربويَّة، التي هي بمثابة نموذج ظهّرته الحضارة العربيَّة عن عقلانيتها، وعن كيفيَّة مقاربتها إشكاليات عصرها، إنَّ هذا التهميش من شأنه أن يجعل المتعلّم يحتفظ بصورة تقليديَّة متحجّرة عن تراث غارق في الصراعات الدينيَّة التي يطغى عليها طابع التذمُّت وإقصاء الرأي المغاير، والتسليم التلقائي لسلطة العقل الديني.
- إنَّ السير المتعمَّد في سبيل دمج مادة الفلسفة العربيَّة بالفلسفة العامَّة، يبقى في نظرنا مقدّمة لإلغائها، وهو ما يجوز لنا أن نصنّفه بالجريمة الكبرى في حق العقلانيَّة العربيَّة، كما في حق بناء فكر نقدي حر ومنفتح ومستقل. وهو أيضاً محاولة صريحة وواضحة للقضاء على نهج فكري من شأنه أن يتصدَّى للظلاميَّة المستفحلة. يتعلّق الأمر بخطوة غير مسؤولة تُسهم في ترسيخ صورة غير مستحبَّة عن الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، إن في الوعي العربي أو في الوعي الغربي. إنَّه خدمة لا سابق لها تُقدَّم على طبق من ذهب إلى كلّ أعداء الحضارة العربيَّة، ومحبّذي التسطيح ومروّجي الجهل المقنَّع بكثرة المعلومات الممكننة والمبرمجة، كما أنَّه خدمة لأولئك المنكبّين على سلخ الأجيال الطالعة عن لغتهم الأم وتراثهم ومنابعهم الفكريَّة المتوهّجة.
- من المؤسف أن يفاخر الغرب بأعلامه من أدباء وشعراء وفلاسفة، ويوفّيهم حقهم من خلال إدخالهم في منهاج التدريس، بينما نجد من يحاول عندنا التقليل من أهميَّة مفكرينا عن طريق اختصار إنجازاتهم، ودمجها بتاريخ فكر غني يزخر بالمبدعين، وفيه ما يكفي من نتاج راقٍ لا يحتاج إلى المزيد.
- من المؤسف أيضاً، أنَّه في حين يكرّس المستشرقون ومراكز الأبحاث والجامعات الغربية جهداً كبيراً من أجل دراسة التراث العربي الإسلامي، نجد أنَّه في لبنان يتمُّ بذل الجهد المضاعف لتقريب هذه المادة من الطالب، ولإقناعه بأهميتها، والأستاذ مضطر اليوم إلى إقناع المسؤولين التربويين بأهميَّة المحافظة على استقلاليَّة هذه المادة التي من شأنها أن تُسهم في فسح المجال أمام التلميذ والأستاذ للتفكّر في كيفية ترسيخ هذه المساحة المشتركة بين الحضارتين، والدينين، بعيداً عن أجواء الضغط واتباع وتيرة السرعة، من أجل إنجاز عدد كبير من الفصول، في سياق مادة واحدة تجمع كمَّاً كبيراً من الموضوعات والإشكاليَّات، وذلك قبل الموعد المحدَّد للامتحان.
- أخيراً نودُّ أن نشير إلى أنَّ هدف تعليم الفلسفة في النهاية هو بناء الإنسان، من خلال تمتين المقاربة العقلانيَّة لدى المتعلّم، وتوسيع أفق تفكيره، وتقعيد أسس الانفتاح الفكري على الآخر المختلف في جوٍّ من الحوار العقلاني والنقاش المرتكز على الحجج والبراهين وإعادة النظر الدائمة بالفرضيات الفكريَّة.
يبقى لنا أن نطرح هذه الأسئلة لتنخر في وعينا، لعلَّنا نبحث سوياً عن أفق جديد بشأنها:
ألم يحن الوقت بعدُ لكي يقف أهل الفلسفة في بلادنا مشمّرين عن سواعدهم ليكتبوا بأحرف من نور مناهج تعليميَّة، في المرحلة الثانويَّة وفي التعليم الجامعي، تبرز لطالب المعرفة أبهى وأرقى ما أنتجه الفكر العربي في مساره الحضاري، ولكي يعطوه ما يستحقّه من جهد ودراسة؟ ألم تدقّ بعد ساعة المصالحة مع الماضي والتعاطي معه في المجال التربوي بصفته مجالاً واسعاً للبحث والتدقيق والحفر والتحليق؟ ألم نقتنع بعدُ بأنَّ اعتماد الطريق السهلة في التربية هروبٌ جبانٌ إلى الخلف، وكسلٌ مشرعن وممدوح زوراً، لا يجلب لنا سوى المزيد من الجهل المسيَّس المؤدّي إلى نهايات قاتلة؟ ألم تأتِ الساعة بعدُ لتتوحَّد الجهود في سبيل تحرير الإنسان العربي عامَّة واللبناني خاصَّة، من تعاظم مخاوفه وتضخُّم أوهامه، عاملين نحن ـ التربويين ـ على كسر حواجز الاغتراب عن الذات وعن الآخر؟
[1]- نشر هذه المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 10، 2017
[2]- الكندي، رسالة إلى المعتصم بالله، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، بيروت، ص ص 85-86
[3]- أبو بكر الرازي، الطبُّ الروحاني، ضمن رسائل فلسفيَّة، نشره بول كراوس، القاهرة، 1939، ص 17-19
[4]- أبو الوليد بن رشد، الضروري في السياسة لأفلاطون، ترجمة أحمد شحلان، تقديم محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، ط1، 1998، ص 82