وهم البراءة

فئة :  قراءات في كتب

وهم البراءة

وهم البراءة

حفر الكاتب والفيلسوف والمفكر الفرنسي، من أصول تشيكية، ميلان كونديرا، في روايته "كائن لا تحتمل خفته"*، في قضايا فلسفية شائكة، في محاولة لكشف سلوك بني البشر، والآلية التي يشتغل عليها الفكر في تسويغ ما يقوم به من أفعال، وأعمال تصل إلى درجة التوحش، مثيرا أسئلة إشكالية عن معنى البراءة والعدالة، وحقيقة ما يرتكبه البشر من جرائم بحق الإنسانية، لم يسلم منها عصر من العصور، وما زالت تتوالد في فعل تكراري إلى يومنا الحالي، غير مولية أي اهتمام لما جرى، ويجري، وكأنما الإنسان يسبح في بحر من ظلمات، ولا أمل في خروجه منه! فغالبا ما تحدث الأخطاء الفردية والجماعية، وربما حدثت بعض الأخطاء الفادحة نتيجة جهل، وكثيرا ما سمعنا تسويغات لأفعال شائنة، من منطلق أن من فعلها لم يكن عارفا، ومن ثم تبرئته، ولعل معظم الحروب التي قامت عبر التاريخ، تبيّن بعد أن خمدت، ما ارتكبته من أفعال شائنة، فهل كان من شنّوها مجرمو حروب، أو كانوا جاهلين بما فعلوا، وهل جهلهم يعفيهم من الجرائم التي ارتكبوها؟!

انطلق كونديرا في نقده للأنظمة المجرمة، من نقض الفكرة السائدة عن تلك الأنظمة؛ بوصفها صنيعة المجرمين، متخذا مما حدث في بلاده التشيك نموذجا، ليوضح أن مثل هذا الافتراض ينفي حقيقة أساسية مفادها أن الأنظمة المجرمة، لم ينشئها أناس مجرمون؛ بل أناس متحمسون، ومقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد إلى الجنة! فمضوا في الدفاع المستميت من أجل الوصول، وقاموا بإعدام الكثيرين في سبيل ذلك، ثم تبيّن لهم أن ما سعوا إليه غير موجود، وأن المتحمسين كانوا مجرد سفاحين، فانهالت الاتهامات على الشيوعيين محمّلة لهم مسؤولية ما آل إليه حال البلاد، ودافع المتهمون عن أنفسهم بحجة أنهم تعرضوا للخديعة، ولم يكونوا عارفين، ومن ثم فهم أبرياء. وكان الجدل الدائر في ذلك الحين، يتمحور حول السؤال عن حقيقة كونهم عارفين، أو أنهم يتظاهرون بأنهم غير عارفين؟!

أعاد كونديرا صياغة السؤال السابق على لسان بطله توماس في الرواية، مشيرا إلى أن السؤال الأساسي ليس هل كانوا عارفين؟ بل: هل هم أبرياء لأنهم غير عارفين؟! إن السؤال الذي يثيره كونديرا في غاية الأهمية، فارتكاب الإنسان للخطأ نتيجة الجهل، وعدم المعرفة، لا يعفيه من المسؤولية، ولا يجعل منه بريئا، ولو أن الأمر كذلك فسيكون الخطأ مسوغا، من الصحيح أن الأديان السماوية وغيرها، دعت إلى التسامح والعفو، لكنها أيضا أكدت على مسؤولية الإنسان عن أعماله وأفعاله وسلوكه، وأنه سيحاسب على كل كبيرة وصغيرة، ودعت الإنسان إلى التفكّر والتدبّر والمعرفة، ولم تغفر له جهله، وعلى ذلك نصت القوانين والتشريعات قديمها وحديثا، متخذة من فكرة الثواب والعقاب قانونا لتحقيق العدالة، ولذا فلا يمكن الركون إلى فكرة تبرئة المجرم من جرائمه، حتى وإن كان غير عارف، أو تعرّض للخداع والتضليل في أثناء اقترافه لجرائمه، فقد توعّد إبليس، على سبيل المثال، بإضلال البشر وخداعهم، لكن الله لم يقف في صف المخدوعين، والمُضلَّلين من قبل إبليس، وإذن فهم ليسوا أبرياء؛ لأن الشيطان خدعهم، وزين لهم أعمالهم، طالما أن الله منحهم العقل، ليبحثوا عن الحقيقة، وليسلكوا الطريق القويمة، ولا ينحرفون إلى طريق الضلالة.

لم يقتنع توماس في الرواية ببراءة الشيوعيين مما اقترفوه بحق بلاده؛ فبسبب جهلهم فقد البلد حريته لقرون عديدة، واستدل على عدم براءتهم بحكاية أوديب، فأوديب أيضا لم يكن عارفا بأنه قتل أباه، وضاجع أمه، وحينما علم بالأمر لم يجد نفسه بريئا، ولم يستطع تحمّل مشهد الشقاء الذي تسبب به جهله، ففقأ عينيه، وغادر ثيّبا، وهو أعمى. يرى توماس ومن خلفه كونديرا أن الشيوعيين كان عليهم بدلا من أن يزعقوا بأنهم أبرياء، أن يخجلوا من النظر حولهم، ويصابون بالهلع مما تسببوا به لبلادهم.

كتب توماس خواطره عن أوديب، وأرسلها إلى مجلة أسبوعية، تابعة لاتحاد الكتّاب التشيكيين، وكان يتمتع باستقلالية ذاتية في ظل تولي دوبتشيك السلطة، تلقى توماس بعد شهر خطابا من مسؤولي المجلة، يطلبون فيه أن يمرّ بهم، ولدى مراجعته المجلة، استقبله صحفي، وطلب منه تعديل تركيب جملة في مقاله، ثم ظهر المقال في الصفحة ما قبل الأخيرة من المجلة، في زاوية رسائل القراء، بيد أن توماس صدم بمقاله الذي اقتُطِع منه جزء كبير؛ أدى إلى مسخه واختزاله، فصارت خواطره تقتصر على فكرة مبسّطة وتعسفية، ولم تعد تعجبه إطلاقا! إلا أن عدم إعجابه بما آل إليه حال مقاله، لم يكن كافيا، فكان لزاما عليه أن يدفع ثمن خواطره باهظا.

انقسم الشيوعيون في ربيع 1968 في عهد ألكسندر دوبتشك إلى قسمين؛ الأول تحلق حول دوبتشك، وكان يشعر بأنه مذنب، ومستعد لفعل أي شيء لإصلاح خطئه، والثاني يصدح ببراءته، مضمرا خوفا من أن يحيله الشعب الغاضب إلى المحاكمة، وكان يستغيث بالسفير الروسي ويشكو أمره له كل يوم، طالبا دعمه. حينما ظهرت مقالة توماس في المجلة، أطلق أصحاب هذا الفريق صرخة استنكروا فيها أن يصل الأمر إلى هذا الحد، والتجرؤ على المطالبة علنيا بفقء عيونهم! لم يتأخر رد الروس كثيرا، فبعد شهرين أو ثلاثة، كانوا قد قرروا التدخل، واحتل جيشهم بلد توماس في غضون ليلة واحدة! ولم يكن مصير توماس لينتهي عند هذا الحد.

ما أن عاد توماس من زوريخ إلى وظيفته في مستشفى في براغ، وكان أهم طبيب جراح في المستشفى، حتى استدعاه رئيس قسمه؛ ليعرض عليه التراجع عن ما جاء في مقالته عن أوديب، كي لا يفقد عمله في المستشفى، وجد توماس نفسه عالقا بين خيارين: بين شرفه الذي يقتضي أن لا يتراجع عن كلامه، وبين أن يخسر عمله، والأمر الذي عده هدف حياته، بوصفه طبيبا ورجل علم. بعد مهلة أسبوع عاد ليبلغ رئيس القسم بأنه لن يوقّع، وبعد وقت قصير ترك توماس عمله في المستشفى.

انتهى الحال بتوماس إلى العمل في عيادة ريفية نائية بوصفه طبيبا عاما بعد أن كان جرّاحا، واقتصر عمله على كتابة الوصفات للمرضى، والشهادات الطبية لتقديمها إلى أرباب عملهم، وتحويل بعض المرضى إلى المختصين، وبمرور الوقت ألفى نفسه موظفا في مكتب، ولم يعد يرى في نفسه طبيبا، ولم يكن ما وصل إليه نهاية المأساة، فقد وصل إليه رجل قدّم نفسه على أنه رئيس مجلس الإدارة في وزارة الداخلية، ودعاه إلى مقهى لتجاذب أطراف الحديث، فيما بعد اكتشف توماس أنه وقع تحت سطوة شرطي راح يستجوبه، حينما زاره في المرة الثانية، ودعاه مجددا، رفض دعوته إلى المقهى، وجلسا للحديث في العيادة، كشف رجل الوزارة عن وجهه الحقيقي، فعرض على توماس العودة إلى عمله بوصفه جرّاحا، مقابل التوقيع على ورقة دفع بها إليه، حينما قرأ توماس ما كتب فيها؛ أصابه الذهول، كان ما ورد فيها أسوأ بكثير مما عرضه عليه رئيس قسمه قبل سنتين؛ إذ لم يكن الأمر تراجعا بسيطا عن مقال أوديب فحسب، بل ضمنت الإفادة حبّه للاتحاد السوفيتي، ووفاءه للحزب الشيوعي، واتهامه للمثقفين الذين كانوا يودون جرّ البلاد إلى حرب أهلية، وإلى ذلك هجوما وتشهيرا بمحرري المجلة الأسبوعية الخاصة بالكتّاب!

لم يوقّع توماس على الورقة، وكتب رسالة استقالته في اليوم التالي، مفترضا أنه إذا هبط عن عمد إلى أدنى درجة في السلم الاجتماعي، فإن الشرطة لن يتبقى لديها أي وسيلة للضغط عليه، ولن يتمكنوا من نشر إفادة مزورة بتوقيعه؛ ذلك أن الإفادات الدنيئة المعلنة، تترافق مع ترفيعات موقّعيها، لا مع تدنّيهم. وهكذا انتهى الحال بتوماس إلى منظف زجاج! من الجدير بالذكر أن شخصية توماس تتقاطع مع شخصية كونديرا في كثير من ملامحها؛ إذ فقد كونديرا وظيفته بعد دخول الاتحاد السوفيتي إلى تشيكوسلوفاكيا، بعد انخراطه فيما سمي بربيع براغ عام 1968، واضطر إلى الهجرة إلى فرنسا بعد منع كتبه من التداول عام 1975، ثم حصل على الجنسية الفرنسية إثر إسقاط الجنسية التشيكوسلوفاكية عنه عام 1978 بسبب كتابه "الضحك والنسيان"، وفي ظلّ هذه الظروف، والمستجدات في حياته، كتب روايته الفلسفية "كائن لا تحتمل خفته".

إن الحفر في واقع المجتمعات، وما آلت إليه الأحوال في العالم كلّه؛ تكشف عن تطابق شبه تام مع ما تحدّث عنه كونديرا، قبل حوالي نصف قرن من الزمان، لم يتغير شيء، ما زالت المعارك محتدمة بين المجرمين الأبرياء، وبين الأبرياء المجرمين، ولا أحد يرغب في الاعتراف بأخطائه، أو التراجع عنها، بل الكل يبحث عن مسوغات؛ لشرعنة ما قام ويقوم به، ولذا فإن حال العالم يسير من سيّئ إلى أسوأ، ولو وجد من يعتبر بما جرى في الماضي؛ لربما كان الحاضر أقل قتامة مما هو عليه الآن!

* كونديرا، ميلان: كائن لا تحتمل خفته، تر: ماري طوق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1998