وهمُ الفحولة وشرعنةُ الاغتصاب
فئة : مقالات
حضر الجسد بقوة في معظم الأعمال النسوية بوصفه مكوّنًا جوهريًا في الكتابة النسوية، واحتفي به من منظور مغاير لمنظور الرجل، إذ تمّ التوقف عند أهوائه في ثلاثة محاور رئيسة، برزت في مختلف الأعمال النسوية، ويمكن حصرها في ثلاث ثنائيات هي: (اغتصاب الجسد، وصونه)، و(تقييد الجسد، وتحريره)، و(حجب الجسد، وكشفه). ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الثنائيات قد غذّتها، وتلاعبت بأشكالها وتجلياتها العوامل السياسية، والدينية، والاجتماعية، والاقتصادية بشكل واسع، ما أدى إلى اختلاف أشكالها وحدّتها باختلاف الدوافع التي تكمن وراءها.
تقدمت المرأة على الرجل في رفضها للاغتصاب أيًّا كان شكله، بينما ما يزال الرجل يتعرض للاغتصاب بدون أن يدري بسبب وقوعه تحت سيطرة وهم الفحولة
توقفت الكاتبات النسويات على قضية امتلاك جسد المرأة، وانتهاكه، وتوصلت معظم التحليلات النسوية للاغتصاب إلى فكرة مؤداها بأن الجنس ليس له علاقة بإمتاع المرأة، ولكن له علاقة وثيقة بسلطة الرجل[1]. فقد رأت "دايان جونسون" أنه لا يوجد تفسير كاف لأسباب الاغتصاب؛ فهو موجود بوجود المرأة منذ الأزمان الأولى، وأنه كان متصلًا بالسياسات العسكرية، وبأفكار الملكية والاستحواذ؛ فاغتصاب زوجة رجل يحدث بوصفه سرقة، والاعتداء ينبع من الصراع على السلطة والزعامة[2]. وعلى الرغم من معرفة الرجال أنه من الخطأ استخدام القوة البدنية ضد إنسان آخر، وأن قوانين الاغتصاب لا تطبّق بعدالة، فإنه عند نقطة معينة من الأرجح أن يقولوا: "ولكن ما الذي كانت تفعله هناك في تلك الساعة، إنها تتحمل جزءًا من الذنب"[3]، ذلك أن المرويات الشعبية، وحكايات الكتاب المقدس، والسوابق القانونية، والنظريات النفسية، كلها تشكل ترسانة تحمي مؤسسة الاغتصاب. كما أن الاعتقاد الذكوري بأن النساء يُردن أن يغتصبن، أو أنهن يستحققن الاغتصاب نتيجة الخروج على العادات التي تحكم طريقة ارتداء الملابس، أو السلوك المهذب. وفكرة العقاب الجنسي نتيجة عدم الطاعة. ومحاكمات الاغتصاب توقع اللوم على المرأة، وإذا استطاعت إقناع المحلفين أنها لم تكن مهملة، أو مثيرة لدرجة الإغواء، فقد يُحكم على من هاجمها بأنه مذنب وتُبرّأ من الذنب. ففي بنغلادش على سبيل المثال، تعاقب الآلاف من الزوجات المغتصبات بواسطة أزواجهن[4].
ولعله من الواضح أن الاغتصاب أمر يثير اهتمام النساء، بينما لا يثير اهتمام الرجل؛ بسبب الحدود التي رسمتها الثقافة العامة؛ فمنذ صباها المبكر تُحذّر المرأة من الأغراب، ومن الشوارع المظلمة، والأماكن المغلقة، وإن خالفت الوصية فستعاقب بالاغتصاب. ويعود عدم اهتمام الرجل بموضوع الاغتصاب إلى سببين: الأول هو أن المغتصب لا يجد في نصوص القانون رادعًا قويًا يمنعه من تكرار الجريمة وظهره للحائط[5]، والثاني له علاقة باعتقاد الرجل بأنه في منأى عن الاغتصاب لكونه رجلًا.
أثارت "هيرب جولدبريج" مسألة في غاية الأهمية في حديثها عن وقوع الرجل تحت ما يسمى بعبودية الذكر، ورأت أن الاهتمام المبالغ فيه بما يعتقده الآخرون عن الرجل أنه رجل، يجعله يهمل أحاسيسه واهتماماته، وفعل ما يرغب به، لا ما يتصوره عنه الآخرون. فمبدأ إثبات الفحولة على سبيل المثال لا يعني أن الشخص الذي يقيم علاقات كثيرة مع النساء أنه يستمتع بها، وأن هذه العلاقات كانت مشبعة. وأضافت أن الرجال يقيّمون بعضهم البعض، ويقيَّمون بواسطة النساء على أساس مدى اقترابهم من صورة الرجل المثالي. وقد حاربت النساء ضد اعتبارهن غاية جنسية، وكثيرات وصفن دورهن في الزواج بأنه شكل من الدعارة التي يعضدها المجتمع، حيث يبعن أنفسهن مقابل الأمن المفترض، في حين لم يصل الذكر إلى النظر إلى نفسه على أنه من الممكن أن يكون بغيًّا مثل بائعة الهوى داخل العلاقة الزوجية أو خارجها[6]. وهذا يعني أن المرأة تقدمت على الرجل في رفضها للاغتصاب أيًّا كان شكله، بينما ما يزال الرجل يتعرض للاغتصاب بدون أن يدري بسبب وقوعه تحت سيطرة وهم الفحولة، وعبودية الذكر.
عملت المركزية الذكورية على إبراز صورة المرأة التي ينتهك جسدها، والبغي، وبائعة الهوى، في مختلف الفنون والآداب، في المسرح والسينما والدراما والرسم، وفي الروايات والمسرحيات والقصص، وفي الدراسات الاجتماعية. ولكنها أغفلت، أو تعمدت تجاهل وجود مثل هذه الظاهرة بين الرجال، فسكتت الثقافة الذكورية عن التعرض للرجل الذي يقوم بدور البغي، أو بائعة الهوى، أو الذي يُنتهك جسده تحت تأثير ضغوطات متعددة سواء أكانت غريزية، أم اقتصادية، أم اجتماعية، أم سياسية. ونظرت إلى الموضوع من زاوية نظر التفوق الذكوري، معتقدة أن الرجل الذي يقوم بهذه الأشياء لا تؤثر عليه لأنه رجل، بل ربما تبرز تفوقه، وقوته، وذكورته وفحولته، معتقدًا أنه هو من يستغل النساء اللواتي يستمتعن به.
سكتت الثقافة الذكورية عن التعرض للرجل الذي يقوم بدور البغي، أو بائعة الهوى، أو الذي يُنتهك جسده تحت تأثير ضغوطات متعددة
ولعل تسمية بائعة الهوى بحد ذاتها تسمية متحيزة للذكر؛ لأنّها تفترض وجود أنثى تبيع جسدها مقابل المال لتعيش به، ما يعني أنها في موقع الضعف، وتحيل التسمية ذاتها على وجود مشتري هوى يقبع في موقع القوة؛ لأنه يمتلك المال، فهو يقايض جسد بائعة الهوى بماله، والبائعة هنا لا تتحكم في المشتري؛ لأن السلعة الوحيدة لديها هي جسدها الذي تعرضه علّ راغبا به يُقبل عليها، بينما المشتري الذي يملك المال هو من يتحكم في السلعة، فيتنقل بين بائعة هوى وأخرى إلى أن يجد السلعة المناسبة بالسعر المناسب له. وفي حين يكون لبائعة الهوى عمر افتراضي يمكنها خلاله أن تسوّق جسدها، وتكسب من ورائه، وما إن تنتهي فترة الصلاحية حتى تتحول إلى بائسة لا تجد من يشتريها، يظل الذكر، مشتري الهوى بعيدًا عن هذه المؤثرات العمرية، إذ طالما يملك المال فهو يشتري أصغر بائعات الهوى سنًّا حتى لو كان عجوزًا مقرفًا. ولعل هذا العقد الفاسد لا يتعلق ببائعة الهوى، ومشتريه، بل ينسحب على العلاقة بين المرأة والرجل عمومًا، حتى لو كان ذلك في إطار العلاقة الزوجية، فعقد الزواج نفسه يحيل بطريقة ما على امتلاك الرجل جسد المرأة مقابل مهر متفق عليه، وبمعنى آخر تبيع المرأة جسدها للرجل الذي يدفع ثمنه تحت غطاء شرعي، وحينما تنتهي صلاحيته، فإن بإمكان الرجل أن يبحث عن جسد آخر بتأييد شرعي واجتماعي، وتحت هذا التأييد يمكن لرجل في السبعين أن يتزوج فتاة في العشرين، فهي سلعة معروضة للبيع تحت غطاء شرعي، وإذا وجد من يشتريها بالثمن المرغوب به، فإن عمره لا يقف عائقًا. وربما حان الوقت ليعيد الرجل النظر في مثل هذه الأمور، ويتناولها من منظور صحيح يركز على الإنسان، لا على جنسه، بعيدًا عن المركزية الذكورية ونظرتها المتحيزة. وقد عرى التمثيل السردي لدى الكاتبات النسويات مثل هذه القضايا، فظهرت نماذج الفتيات الصغيرات اللواتي يتعرضن للاغتصاب تحت غطاء تعضده الثقافة والمجتمع، وتحت غطاء شرعي في بعض الأحيان، وبيّنت كيف يحدث ذلك من مبدأ القوة وسلطة الرجل. وظهر المنظور الأنثوي الرافض لما تتعرض له المرأة من انتهاكات صارخة في حقها. إن مدونة السرد النسوي غنية بنماذج تدلل على كل ذلك.
[1]- ينظر: جامبل، سارة: النسوية وما بعد النسوية، (دراسات ومعجم نقدي)، ترجمة: أحمد الشامي، مراجعة: هدى الصدة، القاهرة- 2002، ص 459
[2]- ينظر: مجموعة من المؤلفين: النوع "الذكر والأنثى بين التميز والاختلاف"، مقالات مختارة، ترجمة: محمد قدري عمارة، مراجعة: إلهامي جلال عمارة، تقديم: هالة كمال، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2005، ص 414
[3]- المرجع نفسه، ص 411
[4]- ينظر: المرجع نفسه، ص 416
[5]- ينظر: المرجع نفسه، ص ص 412-413
[6]- ينظر: المرجع السابق نفسه، ص 104، 106