آثار التشيّع في المستوى الثقافي
فئة : مقالات
آثار التشيّع في المستوى الثقافي
إنّ ما نعنيه بالمستوى الثقافي في هذا السّياق، هو النّصوص التي احتوت إشارات واضحة أو مضمّنة، عن قصد أو بغير قصد، تحيل على الشيعة والتشيّع في تونس. وسنعتمد أساساً المصادر التاريخيّة مثل كتاب الإتحاف لابن أبي الضّياف (ت. 1874م) وكتاب صفحات من تاريخ تونس لمحمد بن الخوجة (ت. 1942م) باعتبار صلتهما بالمرحلة المدروسة سياسياً وزمنيّاً، واستناداً إلى موقعهما من الذاكرة الشيعيّة في تونس. فصاحب الإتحاف برّر تشيّع التونسيين في تعريفه للشيعة، ومحمد بن الخوجة يعتزّ بنسبه العلوي كما سنبيّن. وينضاف إلى ذلك إحاطة الرجلين بما كُتب حول تاريخ تونس في المراحل السابقة عنهما، وقربهما من السلطة السياسية التي حافظت على أغلب ملامحها منذ العهد الحفصي. ونعني بالمستوى الثقافي أيضاً، مكانة الشيعة الموصولة بالنسب النبوي لدى العامّة والخاصّة ومظاهر تمييزهم مادّياً ومعنويّاً. وقد أقرّ التونسيون هذا التبجيل إراديّاً، وجعلوا له عنوان الشّرف والأشراف بما تعنيه كلمة شرف في سياقها العربي ثم الإسلامي من دلالات.
1- الشّرف والأشراف في تونس
قبل الشّروع في البحث حول هذا المفهوم وخصوصياته في المرحلة الممتدّة ما بين الدولتين الحفصيّة والحسينيّة، نشير إلى أنّ مصطلح الأشراف هو التحوّل الدلالي لمفهوم «الشيعة» الذي ساد مشرقاً ثم مغرباً في المرحلة الفاطميّة، ولكنّ الانتساب إلى البيت العلوي ارتبط في هذا السياق بالمجال الاجتماعي البحت، ولا علاقة له بالمذهبيّة التي ميّزت الجماعات في القرون الهجريّة الأولى. ولا يعني هذا الاستئناف الدلالي أنّ المصطلح وليد المرحلة، ولا أنّ التونسيين أو المغاربة هم من اخترعه، بل يعود ظهوره إلى القرن الهجري الأول/السابع الميلادي مع الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب (ت. 23هــــ/644م). فقد أسهم عُمر في تحوّل المفهوم من سياقه القبلي الاجتماعي إلى سياق ديني إسلامي حوالي 21هــــ/641م.
استند عمر بن الخطّاب في التصنيف الجديد الذي يوزّع في ضوئه العطاء على المقاتلة، إلى معايير محدثة مثل السابقيّة في الإسلام ودرجة المساهمة في الغزوات ونصرة الدعوة، وأسهم أيضاً في بداية تخصيص مفهوم «الشرف» بالبيت الهاشمي حين ميّز العبّاس بن عبد المطلب وزوجات الرسول في العطاء. وقد فرض للعباس مثلاً 12 ألف درهم وفرض لزوجات النبي 10 آلاف درهم[1]. وسجّل الجاحظ (ت. 255هــــ869م) التحوّل الذي أحدثه عمر في مفهوم الشرف بتحويله من السياق الاجتماعي إلى السياق الديني، فذكر أنّ وجوهَ قريش كانوا ينتظرون عمر في بعض المسائل لكنّه كان يتغاضى عنهم ويقبل على أصحاب الشرف الإسلامي في حركة واعية تهدف إلى التغيير والتأسيس[2]. وقد عرف المصطلح حركة مدّ وجزر مع الأمويين في مستوى الممارسة إلى أن تمّ إقراره نهائيّاً مع العباسيين. وبعد أن كانت هذه المرتبة تعني الانتماء إلى البيتين النبوي والعباسي، انحصر الشّرف في ذريّة الحسن والحسين ابنيْ علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء[3].
انتشرت هذه المكانة وهذا التبجيل أينما وُجد العلويون وتنوّعت ألقابهم. ففي العراق ولبنان وإيران واليمن وماليزيا وإندونيسيا يطلق على العلوي لقب «السيّد»، وفي مصر وتونس والجزائر والمغرب «الشريف»، وفي بعض أنحاء الهند وتركيا وأذربيجان «المير»، وفي إفريقيا الشرقيّة والجنوبيّة «مولى»، ويُطلق في الحجاز على الحَسَنِي «الشريف» وعلى الحُسَيْنِي «السيّد»[4]. ويُبرَّرٌ هذا التبجيل، فيما نرى، بعدم مشاركة بعض أهل هذه البلدان في المعارك الحاسمة بين المسلمين، انطلاقاً من السقيفة مروراً بكربلاء، ووصولاً إلى مدينتيْ فخّ الحجازية ومشهد الإيرانيّة. وقد جعلهم هذا الحياد غير المبرمج بمنأى عن الحسم في أمر العلويين، سواء بالجرأة عليهم أو الاصطفاف وراءهم، وبقيت صورتهم ناصعة تستمدّ بريقها من الصّورة النبويّة المثاليّة والنقيّة في أذهانهم. ولا شك في أنّ لهذه الخصوصيّة تأثيراً في صياغة موقف هذه الجماعات من العلويين. وتمثل هذه الخصوصية عاملاً أساسيّاً في التمييز بين التشيّع باعتباره مذهباً وآل البيت باعتبارهم عترة طاهرة وبقية باقية من الزمن البدئي للمقدس الإسلامي. وأورد القلقشندي (ت. 821هــــ/1418م) نصوصاً من التوصية السلطانيّة بتكوين النقابة وحسن التوليّة عليها. وممّا جاء فيها «ولمّا كانت العترة الطّاهرة النّبوية وُرّاث الوحي الذين آل إليهم ميزاته، وآل البيت الذين حصل لهم من السؤدد آياته، وقد سأل الله وهو المسؤول لهم القربى [...] وكان لا بدّ لهم من رئيس ينضّد سلكهم وينظّمه ويعظّم فخرهم ويفخّمه، ويحفظ أنسابهم، ويصقل بمكارمه أحسابهم...»[5].
تسهر النقابة على تنظيم الأشراف وقضاء حوائجهم حفظا لهم وتكريماً لنسبهم. وعدّها محمد بن الخوجة من الخطط الإسلاميّة ذات الشأن التي ميّزت التنظّيم الاجتماعي في الإسلام. وذكر الماوردي (ت. 450هــــ/1058م) في أحكامه أنّ دور النقابة هو صيانة ذوي الأنساب الشّريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النّسب ولا يساويهم في الشّرف، وجعلها على ضربين: نقابة خاصّة ولا يشترط في القائم عليها المعرفة العلميّة؛ لأنّه لا يجوز له تجاوزها في الحكم وإقامة الحدّ. وينحصر دوره في اثني عشر حقّاً أهمّها حفظ النسب من الاختلاط وضبط سلوك المجموعة الشريفة. ونقابة عامّة ويجوز لصاحبها القيام بواجبات النقابة الخاصة مع خمسة حقوق أخرى أهمها الحكم في نزاعاتهم والولاية على أيتامهم[6]، وله مجموعة من الشروط المميّزة عن سلفه ذكرها الماوردي وابن الخوجة وغيرهما.
أ- ظهور خطّة النقابة
لئن أصّل الماوردي لظهور مرتبة الشّرف والأشراف دينيّاً بالاستناد إلى الحديث النبوي[7]، فإنّ ابن الخوجة يقبل طرحه ويضيف إليه تأثير العامل السياسي. ورجّح أن يكون ظهورها في القرن الرّابع بإرادة من العباسيين لاسترضاء العلويين الذين خاب ظنّهم بعد أن جعلهم أبناء العمومة واجهة للثورة على الأمويين ثمّ جمّدوهم. ولكنّ هذا الرأي يحتاج، على وجاهته، إلى تعديل باعتبار أنّ آل البيت كانوا يتمتّعون بمكانة خاصّة منذ زمن الخلافة الراشدة مثلما بيّنّا سابقاً. وحتى حين عاقبهم الأمويون وقطعوا عنهم العطايا الخاصّة بهم، أعادها إليهم الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت. 101هــــ/719م)، وقد لاقى قراره استحساناً بين الشيعة إلى اليوم. ويحصل العلويون على ميزات ماديّة من بيت مال المسلمين دون غيرهم تخصيصاً وتكريماً، وهي خمس الخمس الواردة في الآية السابعة من سورة الحشر، والذي يؤخذ من الفيء والغنيمة[8]. وعنه تولّد مفهوم الخمس للإمام في الفكر الاثني عشري. وروي عن الصادق قوله فيه: «الخمس من خمسة أشياء، من الغنائم والغوص (صيد اللؤلؤ) ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة، يؤخذ من كلّ هذه الصنوف الخمس، فيُجعل لمن جعله الله تعالى له»[9].
حتى لو افترضنا أنّ مرجعيّة النقابة دينيّة على رأي الماوردي ولا علاقة لها بالسلّم الاجتماعي العربي قبل الإسلام مثلاً، وأنّ العباسيين أقرّوها على هذا الأساس، فإنّ اختصاص الخليفة بتكوين هذه النقابات وبتكليف القائمين عليها بنفسه يدعم قراءة محمد بن الخوجة التي ربط فيها بين إقرار هذه المرتبة الخاصّة بآل البيت والمصلحة السياسيّة للعبّاسيين الذين وجدوا في بعض النقباء خير عون على إخماد ثورات تزعّمها العلويون أو قامت بأسمائهم. وفي هذا السياق، ننزّل قرار الخليفة المأمون (ت. 218هــــ/833م) تعيين الإمام الثامن عند الشيعة الإماميّة علي بن موسى الرّضا (ت. 203هــــ/818م) وليّاً للعهد. ونستند في هذا الافتراض إلى ما أكّدته المصادر القديمة والمعاصرة حول انفتاح المأمون على أغلب مكوّنات المشهد الفكري وعدم انتصاره لفرقة بعينها[10]. وتجدر الإشارة إلى أنّ ناجية الوريمي تتجاوز هذا الحدّ في العلاقة بين المأمون والتشيّع، وتعتبرها أعمق وأعقد من أن تفسّر بالجانب السياسي[11]. وأشار القلقشندي في السياق الحديث عن نقابة الأشراف في مصر إلى أنّ السلطان المصري أعطى صبغةً رسميّةً لهذه المؤسسة، فجعلها جزءاً من التنظيم الإداري لبلاد الكنانة[12].
ذكر ابن الخوجة أنّ جميع الخطط الموكولة في النقابتين العامّة والخاصّة لم يعد لها وجود في العصر الحديث عدا الخطّة السابعة من النقابة الخاصّة، وهي حفظ أعراض الأشراف والنّظر في كفاءة أزواج نسائهم، ولا سيما في تونس والمغرب ومصر. وأورد ابن الخوجة حادثتين تؤّكدان المكانة الرفيعة للأشراف بين العرب من غير المشارقة. وتتمثّل الأولى في الضجّة التي أحدثها زواج الشيخ علي باشا أحد رجال السياسة، وصاحب جريدة المؤيّد من إحدى بنات السّادات المشهورين بالنسب الشّريف بين المصريين. وتتمثّل الثانيّة في إنكار التونسيين لزواج أحد الوزراء من الموالي بسيّدة من آل البيت[13].
من المؤكّد أنّ منطلق ردّة الفعل هذه ترتبط أساساً بالجانب الوجداني الاجتماعي وليس المذهبي العقدي. ومع ذلك، لا يمكن عزل هاتين الحادثتين عن تأثيرات المرحلة الفاطميّة في تونس ومصر. صحيح أنّ الفاطميين دخلوا البلدين بالقوّة العسكريّة وبالتسلط والتشدّد، ولكنّ التحافهم بلحاف آل البيت والتركيز على مظلوميتهم ورفع الصوت بفضائلهم خلق حالةً وجدانيّةً استفاد منها العبيديون سياسيّاً والعلويون اجتماعيّاً. ونجد صدى هذا التمازج في تأكيد ابن أبي الضّياف أكثر من مرّة في تاريخه صحّة نسب العبيديين إلى علي وفاطمة الزهراء[14]، وهو موقف وجداني أيضاً باعتبار أنّ الاختلاف في نسب العبيديين لازال قائماً إلى اليوم، ويصعب حسمه علميّاً إذا أردنا الجزم نهائيّاً في المسألة.
حول ظهور مرتبة الشّرف والأشراف في إفريقيّة، أكّد محمد بن الخوجة أنّه لا يوجد يقين يمكن القطع به في تاريخ المسألة، رغم بذله جهوداً وفيرة في البحث حولها حسب شهادته. ورجّح أن يكون ظهورها في الحقبة الحفصيّة، خاصّة في المائة التاسعة إبّان حكم السلطان أبي عمر عثمان وبدأت خلافته 839هــــ/1435م. واستند في ترجيحه إلى ما أورده ابن أبي دينار في المؤنس حول إكرام «آل البيت» وتخصيصهم بالتبجيل والإحسان في هذه المرحلة. وقال في سياق حديثه عن احتفال السلطان الحفصي بالمولد النبوي: «إنّ لنقيب الأشراف عادة يأخذها من السلطنة من زيت وشمع وما يحتاج إليه، وهذه العادة جاريّة من زمن بني أبي حفص، ودامت هذه الدولة (المرادية) عليها»[15].
نجد مبرّر هذا التقليد الطقسي في حديث ابن أبي الضياف حول أصل الحفصيين المنحدر من دولة الموحّدين. وقد قام بها المهدي بن تومرت (ت. 524هــــ/1130م). وذكر ابن أبي الضياف أنّ جدّهم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى كان من أوائل القائمين بدعوة المهدي، وكان ضمن خاصّته العشرة وتوفي سنة 694هــــ/11295م ودفن في سلا بالمغرب[16]. وعاد الزركشي (ت. 894هــــ/1489م) في تاريخه بنسب ابن تومرت إلى البيت العلوي من أبناء الحسن بن أبي طالب[17]. وأكّد هذا النسب أكثر من مؤرّخ من القدامى والمعاصرين؛ ومنهم البيذق (ت. ق. 6هــــ/ق12م) في كتابه المقتبس[18] وابن خلدون في العبر[19] وعبد المجيد النجّار في كتابه المهدي بن تومرت[20].
يبدو أنّ ابن تومرت قد استغلّ فرضيّة[21] انتمائه إلى البيت العلوي ودعّمها بزيارته إلى المشرق، واستند إلى الإرث الشيعي الذي خلفته الإمارة البُجَليّة والدولتان الإدريسيّة والعبيديّة، ليعلن عصمته وإمامته في حاضنة وجدانيّة يمكن حشدها بسهولة. وتتأكّد معالم هذه الخطّة المدروسة بإتقان في اختياره بلاد السوس مسقط رأسه التي احتضنت ظهور أول إمارة شيعيّة في بلاد المغرب بعقيدة إماميّة اثني عشريّة. وانطلقت جهود ابن تومرت في هذه المنطقة بتأسيس مسجد يجتمع فيه مع أتباعه[22]. وتركّزت دعوته على مقولة العصمة التي تأسّس عليها الفكري الشيعي بفروعه. وقد قطع الرجل الشكّ باليقين حين قال بوجوب الإمامة، وأعلن نفسه المهدي المنتظر، وحوّل أفكاره إلى نظريّة متكاملة في العقيدة الإسلاميّة قدّمها في كتاب بعنوان أعزّ ما يُطلب.
جاء في باب العلم من الكتاب أنّ «العلم هو وجوب اعتقاد الإمامة على الكافّة، وهي ركن من أركان الدّين وعمدة من عمد الشريعة، ولا يصحّ قيام الحقّ في الدّنيا إلّا بوجوب اعتقاد الإمامة في كلّ زمان وإلّا وفيه إمام لله قائم بالحقّ في أرضه من آدم إلى نوح، ومن بعده إلى إبراهيم، قال الله تبارك وتعالى له: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} [البَقَرَة: 124]»[23]. وطابق موقفه موقف الشيعة في صورة الإمام، فقال: «ولا يكون الإمام إلّا معصوماً من الباطل ليهدم الباطل، [...] لا بدّ أن يكون الإمام معصوماً من هذه الفتن، وأن يكون معصوماً من الجَوْر لأنّ الجائر لا يهدم الجور، بل يُثبته، وأن يكون معصوما من البدع لأنّ المبتدع لا يهدم البدع بل يثبّتها، [...] لابدّ من العمود الذي قامت به السّماء والأرض في سائر الأزمان في الدّنيا، وهو الإمام، متى زال العمود خرّ السقف من فوق [...] ومتى ضُيّع أمر الإمام أو عُصي أو نوُزع أو خُولف أو أُهمل أو عُطّل ولم يُرجع إليه [...] اختلّت أموره من أعلاها إلى أدناها [...]»[24].
يتضح جليّاً من هذا الخطاب أنّ ابن تومرت متشبّع بالعقيدة الشيعيّة الجامعة لكل الفرق المتفرّعة عنها. وعمادها جعل الإمامة ركناً من أركان الإسلام، وتأكيد عصمة الإمام وجعله محور الوجود الذي لا يستقيم في غيابه أو عند تغييبه. ويتطابق قوله مع قول الطبرسي (ت. 548هــــ/1153م) أحد أعلام الاثني عشريّة «قد ثبت وجوب الإمامة في كل زمان من جهة العقل، وأن الإمام لابدّ أن يكون معصوماً منصوصاً عليه، وعلمنا أن الحق لا يخرج عن أمّة محمّد. وقد اشتهر في الناس وصية أمير المؤمنين علي لولديْه وأهل بيته، والوصيّة من الإمام توجب الاستحقاق للموصى إليه على ما جرت به عادة الأنبياء والأئمّة في أوصيائهم، لاسيما والوصيّة علم عند آل محمّد»[25].
إنّ التماثل بين عقيدته وعقائد الجماعات الشيعيّة لم يخف التمايز إلى حدّ التقابل والتضارب أحياناً. فمن المعلوم أنّ مقولة الإمامة عند الشيعة تقوم أساساً على وصيّة غدير خم التي يتمسّكون بها ويحتفلون بذكراها، ويجعلونها منطلقاً للتشكيك في خلافة من جاؤوا قبل علي بن أبي طالب واتهام إيمانهم. ويبدو أنّ ابن تومرت لا يقيم وزناً لهذه الثابتة الشيعيّة ولا يبني أطروحته عليها، رغم تشيّع خطابه. ويظهر هذا التمايز في ثنائه على إيمان الشيخين، وتبنّيه الطرح السنيّ في شرعنة خلافتهما بحرفيته. وعبّر عن هذا التبنّي بقوله: «ولزموه بحسن الصحبة، حتى فارقوه بالأمر المحتوم، فتوُفّي وهو عنهم راضٍ، ثمّ كان أبو بكر إماماً بعده، خليفة على عباد الله، وأميناً في دينه، [...] واختاره لهم الرّسول للصلاة ورضيه لهم إماماً في دينهم»[26].
من الأسئلة البديهية التي تُطرح حول هذا الخطاب: ما حقيقة ابن تومرت؟ وما هي عقيدته؟ وما مفهوم الإمام عنده؟ وما هي أهدافه؟ طبعاً لن نجيب عنها في هذا الإطار، ولكن يمكن أن نستنتج منها معطيين مهميّن: الأوّل هو البراغمتيّة السياسيّة لدعوته العقديّة، والتي تقترب في مقاربتها من التمثّل الزيدي للإمامة، وتلتقي معه في شرعيّة خلافة أبي بكر وعمر، رغم أفضليّة علي. ومن اليسير أن نربط بين هذه التركيبة المفهوميّة والطموحات السياسيّة لابن تومرت، وقد تحقّقت أهدافه عند تأسيس نواة الدولة الموحّديّة لاحقاً. ويبدو أنّ ابن تومرت درس جيّداً مراحل نشأة الدولة العبيديّة في تونس، واستفاد على أحسن وجه من سيرة أبي عبد الله الشيعي وأساليبه.
الثاني هو تعبير خطاب ابن تومرت المركّب عن مفهوم المغاربة عامّة خاصّة للصراع المذهبي المستعر في المشرق منذ السقيفة. إنّهم يجمعون بين تقدير الخلفاء الثلاثة الأوائل وحفظ مكانتهم، وبين التعاطف مع العلويين وربط مكانتهم بالمنزلة النبويّة التي يختزلها مصطلح «آل البيت» المشحون بالقداسة. وقد عبّر ابن أبي الضّياف عن هذا التمثّل المخصوص للتشيّع بدقّة حين تحدّث عن الشعور الدّيني للتونسيين فقال: «وقُصارى أمرهم تفضيل علي على الشّيخين، مع اعتقاد صحّة إمامتهما لصحّتها عند جدّهم سيّدنا علي»[27]. ويجد هذا المفهوم الخاص للشيعة والتشيّع إثباته في مميّزات عدد من رجل الفكر التونسيين. فالشيخ إبراهيم الرياحي كبير فقهاء تونس علوي النسل مالكي المذهب. والشيخ إسماعيل التميمي ابن دخلة المعاوين من مدينة منزل تميم وأصلهم من أشراف أزمور بالمغرب، ويعدّ من أعمدة المالكيّة، فقد مدحه تلميذه إبراهيم الرياحي بفضله على المالكيّة[28]. وينحدر المؤرخ محمد بن الخوجة من البيت الفاطمي، وعبّر عن فخره بهذه الصفة، وعدّها نعمة تُحمد رغم كونه قاضيا حنفيّا متمسّكا بتمذهبه[29].
يمكن أن نفسّر ثبات مكانة العلويين في وجدان التونسيين من العامّة والخاصّة بالمعنى الوجداني الأخلاقي من خلال مجموعة من المعطيات السلوكيّة والطقسيّة. فالمعلوم أنّ السلط السياسيّة المتعاقبة بعد الدولة الفاطميّة حرصت على استئصال الجذور الشيعيّة التي صبغت الشعور الديني لأهل إفريقيّة، ولكن محبّة العلويين لم تخفت جذوتها. فالسلطتان الحفصيّة والحسينيّة تتبنّيان رسميّاً المذهب السنّي المالكي، ويتم السماح للأحناف بالوجود على الساحة الثقافية الدينية، ولكنّهما تواصلان ما بدأه المعزّ بن باديس منذ القرن الخامس الهجري في استئصال الشيعة بالمعنى المذهبي[30]. وضمن هذا السياق، ندرج خبر إشراف الولي محرز بن خلف شخصيّاً على إبادة الشيعة في منطقة البِرْكَة بجانب جامع الزيتونة في العاصمة تونس. ويقول بعض التونسيين الشيعة إنّ اسم البِرْكَة إحالة على برك الدم الناتجة عن ذبح الشيعة في ذلك المكان[31]. وقد كان سوقاً لبيع العبيد إلى حدّ سنة 1864م تاريخ صدور قانون منع هذه التجارة، وتحوّل إلى سوق لبيع المجوهرات إلى اليوم. ومثلها سمّيت إحدى مدن ولاية زغوان غربي العاصمة بـ«بئر المشارقة»، وقيل كان الشيعة يُقتلون ويُرمون في هذا البئر، وكان كل من تشيّع في إفريقيّة يُقال تشرّق؛ أي أصبح مثل المشارقة من العرب ومنهم.
ذكر محمد بن الخوجة أنّ أوّل من عثر على اسمه مذكوراً من نقباء الأشراف في بعض الرسوم، هو الشريف الشيخ حسن الهندي في سنة 1023هــــ/1614م، وهو الجدّ الجامع لآل بيتَي الشريف ومحسن الموجودين لهذا الزمان بتونس. ومن الأسماء التي ورد ذكرها ممّن تولّى النقابة في القرنين الحادي عشر/السادس عشر والثاني عشر/ السابع عشر، الشريف الشيخ الحاج أبو القاسم بن محمد القرشي، وكان نقيباً للأشراف في سنة 1027هــــ/1618م، ثم الشريف الشيخ محمد بن المختار في سنة 1100هــــ/1689م، ثم الشريف الشيخ أبو الفضل قاسم في سنة 1136هــــ/1723م.
وأمّا في القرن الثالث عشر/التاسع عشر، فكان جمع أسمائهم أيسر. ونقباء الأشراف منذ سنة 1206هــــ/1466م هم:
- الشيخ عبد الكبير الشريف (ت. 1206هــــ/1466م).
- الشيخ محمد بيرم الثاني (ت. 1247هــــ/1831م).
- الشيخ محمد بيرم الثالث (ت. 1259هــــ/1849م).
- الشيخ محمد بيرم الرابع (ت. 1278هــــ/1861م).
- الشيخ الطاهر ابن عاشور الأوّل (ت. 1284هــــ/1867م).
- الشيخ العربي البشيري (ت. 1304هــــ/1886م).
- الشيخ محمد الشريف (ت. 1307هــــ/1889م).
- الشيخ أحمد الشريف (ت. 1337هــــ/1918م).
- الشيخ محمود محسن (ت. 1952م)[32].
ب- العمامة الخضراء
ترتبط العمامة في الذاكرة العربيّة قبل الإسلام بمعنى الشّرف والسيادة، وإذا أهينت لحق الذلّ والانكسار بصاحبها. وإذا شعر الرجل بالاحتقار والمهانة ألقى بعمامته على الأرض وطالب بإنصافه. واتخذها العرب في حروبهم رمزاً لوحدة الصفّ والعزم على حماية الشرف والتضحية من أجله. وكان سيّد القوم ينزع عمامته ويعقدها لهم لواء[33]. وكانوا يلوذون بعمامة الرّجل إذا شعروا بالخطر والحاجة إلى الحماية. ومن ذلك قولهم: «سَيّدٌ معمّمٌ»؛ أيّ إنّ كلّ خطأ أو جريمة يقترفها أحد أبناء العشيرة تكون معصومة برأس سيّدها[34]. وعبّر عمرو بن امرئ القيس عن هذا المعنى فقال [من المنسرح]:
يَا مَالِ والسيِّدُ المُعمَّمُ قدْ
يُبْطِرُه بعد رأيِه السّرَفُ
نحنُ بمَا عنْدَنَا وأنْتَ بمَ عِنْــــ
ـــدكَ رَاضٍ والرّأيُ مختَلِفُ[35].
اقترن لباس العمامة عند العرب بمعنى السيادة، ويرد الربط بينهما في قول المغيرة بن جبناء [من الطويل]:
إذَا المَرءُ أثْرى ثمّ قال لقومِهِ
أنَا السيِّدُ المُفْضَى إليه المُعمّمُ
ولَمْ يُعْطِهِم شَيْئاً أبَوْا أن يَسُودَهم
وهَانَ عَليْهِم رغْمَهُ وهوَ ألْوَمُ[36]
لم تفقد العمامة مكانتها ورمزيتها بعد ظهور الإسلام؛ فقد أسلمتها الأخبار المروية عن المرحلة النبويّة، وربطتها بالرّسول ورفعتها إلى مرتبة المقدّس المميّز لهذه المرحلة التأسيسيّة. ومن بين المرويات قول عمر بن حريث: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى أطرافها بين كتفيه»[37]. وكانت للرسول عمامة اسمها السّحاب[38]، وكان ينادى بصاحب العمامة. وألحقتها النصوص المناقبيّة بعلامات النبوّة[39]. ومن أجل تثبيت هذا التحوّل الدلالي، صنفتها بعض الأخبار ضمن لباس الملائكة في قتالها إلى جانب المسلمين. وجاء في الدّعامة أنّ الملائكة يوم بدر كانت بعمائم متنوّعة الألوان مثل الأصفر والأبيض والأسود والأحمر[40]. وربطتها بعض المرويات بخطبة الغدير التي يعدّها الشيعة وصيّةً لعلي بالخلافة. ويروى أنّ الرّسول دعا عليّاً يوم الغدير، فعمّمه وأرخى عذبة العمامة من خلفه، ثم قال: هكذا فاعتمّوا فإنّ العمائم سيماء الإسلام، وهي الحاجز بين المشركين والمسلمين[41]. وتدخل العمامة بهذا المعنى ضمن سياق الجدل القائم حول الإمامة، باعتبار أنّ التعميم يساوي التكليف بالقيادة والسيادة في الذاكرة العربيّة. وإذا استندنا إلى مضمون الرواية السابقة وربطناها بيوم الغدير تكون العمامة تكليفاً صريحاً من النبي لعلي بإمارة المسلمين. ومن هذه الزاوية، يمكن أن نفهم تميّز الشيعة من الأشراف بالعمامة السوداء في إحالة على عمامة السحاب التي تعمّم بها الرّسول.
رافقت هذه العلامة العلويين أينما وجدوا، وإن ببعض التغييرات، وكانت علامة شرف تميّز بها ذوو النسب العلوي الفاطمي في تونس، ولكنّ لونها في هذه المرحلة كان أخضر استمراراً لقرار بني العباس. وكان الخلفاء العباسيون ميّزوا بني العباس باللون الأسود وبني هاشم باللّون الأخضر علامةً للشرف. وأكّد ابن الخوجة أنّ عمامة الأشراف ظهرت في مصر على عهد الملك الأشرف زين الدين شعبان بن حسين بن حمد بن قلاوون (ت. 778هــــ/1376م) باللّون الأخضر، وأنّ ظهور اللّون الأخضر المميز للأشراف ظهر في البداية في شكل علامة خضراء تضاف إلى عمائمهم. ونقل عن ابن إياس قوله في بدائع الزهور: «ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة وفيها رسم السلطان (شعبان بن حسين) بأنّ السادة الأشراف قاطبة يجعلون في عمائمهم شفطات خضر حتى يمتازوا بها عن غيرهم، وتعظيماً لقدرهم، فنودي لهم في القاهرة بذلك، فامتثلوا»[42].
يرجّح ابن الخوجة أن يكون أول ظهور العمامة الخضراء في تونس حوالي المائة العاشرة، وأنّه تدعّم بعد استقرار الترك في تونس. ويعيد جانباً من ظهورها في هذه المرحلة إلى مكانة آل البيت في وجدان الأمّة التركيّة[43]. ويبدو أنّ ما ذكرناه حول تعامل شعوب شمال إفريقيا والتونسيين خاصّة مع آل البيت، تكرّر مع الترك. فالمعلوم أنّ السلاجقة خاضوا حروباً طاحنة باسم المذهب السنّي ضدّ البويهيين والفاطميين الملتحفين بالتشيّع، ثم ضدّ الصفويين بالعنوان نفسه[44]. ولكنّ ضراوة الحروب وكثرة الدماء وتحريض السياسة لم يؤثروا في مكانة آل البيت لدى الترك، مثلما ورد في الخبر السابق. وكأنّهم يميّزون، مثل التونسيين بين المذهب الشيعي والعلويين. وذكر ابن الخوجة أنّ العمامة الخضراء كانت كثيرة الانتشار بتونس وأعمالها في القرن الثاني عشر/السابع عشر، ولا سيما بالمدن المعروفة بكثرة الأشراف مثل مساكن وصفاقس.
نقل هذا المؤرخ عن سائح سويسري زار تونس في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، أنّ العمامة الخضراء كانت من الأشياء اللافتة للنظر بكثرة انتشارها بين النّاس. لكن مع القرن الرّابع عشر تراجع ظهورها، وأصبحت نادرة[45]. وتحدّث ابن الخوجة في هذا السياق عن دخول الزي الأوروبي في العادات التونسيّة، وربط بدايته بلباس السلطان العثماني محمود خان الثاني الزيَّ الأوروبيَّ وإصدار أمر في هذا التغيير لولاة الممالك، ولأمراء البلدان الممتازة منها تونس سنة 1246هــــ/1860م. وكان حسين باي أوّل من خلع اللباس العربي ولبس الثوب الأوروبي اقتداء بالسلطان، ولكنّ هذه الدعوة بقيت محدودة بعد أن عارضتها أوساط رسميّة دينيّة. وأرسل مجهول إلى الباي قصيدة مطلعها:
برَبّكَ أيُّها المَلكُ المُطاعُ
أكفرٌ ذَا الصَّنيعُ أمْ ابتداعٌ
لكنّ كبار الفقهاء في تلك المرحلة لم يعيروا المسألة اهتماما، بل إنّ نقيب الأشراف الشيخ محمد بيرم الرابع (ت. 1278هــــ/1861م) هنّأ الباي بهذا الأمر في قصيدة مدحيّة[46]. ولا شكّ لدينا في أنّ موقف هذا الشريف يندرج ضمن فضاء تبادل المصالح ودعم النفوذ بين الفقيه والسلطان[47]. وأنّ هذه الطبقة من الفقهاء تعتبر حالها غير معنيّة بهذا الأمر السلطاني الذي يهم بقيّة شرائح المجتمع. والدّليل أنّ هذا القرار بقي محدوداً لا أثر له إلّا في الأوساط الرسميّة الضيّقة حسب ما أكّده ابن الخوجة[48].
في المقابل، نعتقد أنّ تراجع ظهور العمامة الخضراء يرتبط في جانب مهمٍّ منه ببوادر تحديث المجتمع التونسي التي بدأت مع فترة الاستعمار الفرنسي. فالحركة البشريّة المتبادلة بين تونس والبلدان الأوروبيّة أثّرت تدريجياً في ثقافة التونسيين وعاداتهم. ولم يكن التأثير في شكل مثاقفة متوازنة، بل حدث في اتجاه واحد، حاول التونسيون بموجبه تقليد الأوروبيين في نمط حياتهم. وقد كان هذا التحوّل حاسماً في خلخلة البنية الاجتماعيّة التقليديّة التي تستمدّ عمقها من الماضي. ونقل ابن الخوجة وقع هذا الإقبال على التشبّه بالأجانب والإعجاب بهم في أرجوزة ملحونة بالعاميّة التونسيّة:
يَا حْبِيبِي يَا مِزْيَانْ
لَابِسْ كِسْوِةْ الطَّلْياَنْ
مَا يِكْسِبْشْ حتَّى ريال
والسِّقَارو فــــــــي فمّو[49]
سجّل البشير خريّف (ت. 1983م) ابن نفطة (الكوفة الصغرى) رغبة شباب الجريد في التحرّر من موروث الآباء في روايته الدلة في عراجينها حين طرح مسألة الصراع بين الأجيال وتضارب الرغبات والأفكار بين انشداد إلى الماضي وتقديسه ورغبة في مواكبة العصر وتحوّلاته. وعبّر عن رؤية الشباب النقديّة لتمسّك آبائهم بالتقاليد القديمة فقال: «رأوا الشرف في تهريج الزّوايا والحَضْرَات وشَايِبْ عَاشُورَاء وعَترُوسْ البَنْقَةَ (موسيقى ونجيّة)»[50]. وتمثّل هذه العناصر الثقافيّة الفولكلوريّة صورة للذاكرة الدينيّة التونسيّة المشبعة بالطقوس الشيعيّة، والمنسجمة مع الخصوصيّة التونسيّة. ولم يكن الصراع بين الماضي والحاضر محصوراً بهذه المنطقة من البلاد التونسيّة، بل مثّل ظاهرة استشرت في البلاد وأثّرت في البنية التقليديّة وأجبرت التقاليد التونسيّة الموروثة على التجدّد ومواكبة الواقع رغم المقاومة.
ج- مكانة الأشراف في المجتمع التونسي
يرتبط الشرف في الذاكرة العربيّة بالنسب، بالمعنى الدموي البيولوجي، ويمثّل الاعتداد به تقليدا اجتماعياً قديماً. وتفرض الرابطة الدمويّة التي تجمع بين مجموعة من الأفراد واجبات محدّدة، ولكنّها لا تسمو فوق ذات الفرد مهما كانت ملزمة. وأمّا معنى الشرف في سياق بحثنا فيتجاوز هذا البعد المادّي، ليتحوّل إلى رابطة روحيّة ومثاليّة مقدّسة. هذه هي ميزة الأشراف العلويين في الذاكرة الجمعيّة التونسيّة. إنّ شرف أبناء علي وفاطمة يحيل الوجدان التونسي آليّاً على مكانة النبي محمد ودوره الرسالي، بمعزل عن أي حدث تاريخي أو مفهوم مذهبي. ويرسم لهم صورة موشّاة بمجموعة من الأحداث والقيم، وهي في أغلبها حكايات وأخبار لم يعرفوها أو يخبروها، ولكنّهم سمعوها فتمثّلوها وقنّنوها عرفاً روحيّاً واجتماعيّاً.
بناء على ما سبق، يمكن أن يتنازل التونسي عن كلّ علامة تميّزه إذا تعلّق الأمر بعلوي ثبتت صلته بالزمن القدسي الأوّل في الإسلام. ويستوي في ذلك الإنسان البسيط والسياسي والفقير والغني، وقد تجسّم هذا السلوك في أكثر من حالة وموضع. ونذكّر في هذا السياق بما أورده ابن أبي الضّياف حول ردّة فعل التونسيين تجاه الوزير الذي تزوّج علويّة شريفة[51]. لقد ثارت ثائرة العامّة والخاصّة؛ لأنّ الصّفاء والنقاء اللّذين ترمز إليهما هذه المرأة في أذهانهم أصبحا مهدّدين. فلم تعد هذه المرأة مجرّد إنسان من حقّه أن يفعل بنفسه ما يشاء شرط أن لا يلحق الأذى بغيره، بل تحوّلت إلى قيمة رمزيّة جامعة وتقليداً اجتماعيّاً.
عزّز الفقهاء مكانة المرأة الشريفة في تونس وميّزوها عن المرأة العاديّة بمنحها أحقيّة إثبات النسب الشريف لأبنائها، وهي ميزة اختص بها الرجل سابقاً. وجاء هذا التشريع في ردّ على سؤال: هل ثبوت الشّرف من جهة الأمّ صحيح أم لا؟ وكان الجواب: «نعم، ثبوت الشّرف من جهة الأمّ صحيح معتدٌّ به شرعاً، واجب قبوله شرعاً وعرفاً، فإن ثبت لامرأة أنّها شريفة صحيحة النّسب، كان لأولادها لبطنها ذكوراً وإناثا أشرافاً ثابتا شرفهم من قبلها مع قطع النّظر عن آبائهم وإن كانوا أرقّاء أو عتقاء لا يضرّهم من ثبوت سيادتهم [...] فمن كانت أمــــ[ه] شريفة ثبت الشّرف له ولأولاده ونسله وعقبه»[52].
إنّ ما أفتى به هذا الفقيه يعدّ سابقة في البلاد العربيّة والإسلاميّة. لقد منح الشّرف ما لم يمنحه الشّرع، رغم العبارة الواردة في الفتوى. وتساوت المرأة مع الرّجل في إثبات النّسب، فقط لأنّها علويّة من نسل علي وفاطمة الزهراء. وساعد هذا الانتماء الروحي على تجاوز موروث تراكم على تبرير التفاوت بين المرأة والرّجل. ولا يُقصر هذا التقليد الاجتماعي على البلاد العربيّة والإسلاميّة، بل هو تقليد شرقي مترسّب في ثقافات بلدان آسيويّة رائدة اليوم. وتجدر الإشارة إلى أنّ المرأة التونسيّة لم تنل هذا الحقّ دستوريّاً إلّا منذ بعض سنوات، رغم ما عُرف به النّظام السياسي بعد الاستقلال (1956م) من ميل إلى «علمنة» المجتمع، بمعنى تحديثه استناداً إلى النمط الأوروبي الذي نشأ في ضوء لائكيّة تفصل بين الدين والدولة.
ارتبط الحديث عن النسب الشّريف في أخبار التونسيين بالمرأة ممثلة في فاطمة الزهراء. وهذا تكريم آخر ينضاف إلى التكريم التشريعي السّابق. فأشراف تونس يتلذّذون انحدارهم من الأمّ الأولى فاطمة الزهراء. لقد استطاعت هذه المرأة بنسبها النبوي الذي يحفظه لها التونسيون أن تقلب المعادلة، وتصبح مُقَدَّمة في وجدان الأشراف على الرجل، وهو زوجها علي بن أبي طالب بما يحمله من رأس مال رمزي. وعبّر الشّريف إبراهيم عن هذه المكانة في الردّ على سؤال ابنه: يا أبت لماذا لم تشهر نسبك الشّريف بين النّاس كما فعل فلان وفلان؟، فيقول: «يا بنيّ لأنّ فاطمة البتول ستعرف وحدها أبناءها يوم القيامة»[53]. لا شكّ لدينا في أنّ هذا الردّ يعكس استبطاناً لعاطفة شيعيّة خفتت جذوتها ولم تنطفئ. وتقديم فاطمة على زوجها علي مقولة إماميّة شرقيّة من صلب الخطاب الشيعي بالمعنى المذهبي النّسقي، وحتى في مستوى الممارسة. ولكنّ قيام الشيخ إبراهيم الرياحي على رأس المذهب المالكي يجعلنا نؤكّد أنّ تشيّعه وجداني تونسي ذو أبعاد اجتماعيّة لا عقديّة ولا تقيّة فيه.
[1] - أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت. 182هــــ/798م)، كتاب الخراج، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، 1399هــــ/1979م، ص44
[2] - أبو عثمان عمر بن بحر (الجاحظ)، العثمانيّة، تحقيق عبد السلام هارون، مصر، دار الكتاب العربي، 1374هــــ/1955م، ص217
[3] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص150 و152 أبو العباس أحمد القلقشندي، صبح الأعشى، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1320هــــ/1922م، ج11، ص162
[4] - علي الوردي، لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق (قصّة الأشراف وابن سعود)، بغداد، 1952م، ملحق الجزء السادس، ص6
[5] - القلقشندي، صبح الأعشى، ج11، ص ص163-164
[6] - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة، تحقيق أحمد مبارك البغدادي، الكويت، مكتبة ابن قتيبة، 1409هــــ/1989م، ص 126-129
[7] - الحديث: «اعرفوا أنسابكم تصلوا به أرحامكم، فإنّه لا قريب بالرّحم إذا قُطعت، وإذا كانت قريبة ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة»، الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة، ص126
[8] - ينظر في المسألة: الماوردي، الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة، ص161 (الفيء والغنيمة).
[9] - محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، شرح محمد صالح المزندراني، طهران، المكتبة الإسلاميّة، د.ت، ص539
[10] - أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور، كتاب بغداد، مصر، مكتبة نشر الثقافة الإسلاميّة، د.ت، ص54 يُنظر أيضاً ناجية الوريمي بوعجيلة، الاختلاف وسياسة التسامح: بحث في الإشكاليات الثقافيّة والسياسيّة في سياسات الرشيد والبرامكة والمأمون، بيروت- الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي- مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2015م، ط1، ص208
[11] - ناجية الوريمي بوعجيلة، الاختلاف وسياسة التسامح ص219
[12] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص152
[13] - م.ن، ص149
[14] - ابن أبي الضياف، الإتحاف، ج3، ص50
[15] - ابن أبي دينار، المؤنس في أخبار إفريقيّة وتونس، ص307
[16] - ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج1، ص193
[17] - محمد بن إبراهيم بن الؤلؤ الزركشي، تاريخ الدولتين الموحديّة والحفصيّة، تحقيق محمد ماضور، تونس، المكتبة العتيقة، 1966م، ط2، ص3
[18] - أبو بكر بن علي الصنهاجي (البيذق)، المقتبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرياض، دار المنصور للطباعة، 1971م، ص12
[19] - ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج6، ص226
[20] - عبد المجيد النجّار، المهدي بن تومرت، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1403هــــ/1982م، ط1، ص ص27-28
[21] - اعتمدنا عبارة فرضيّة؛ لأنه يوجد من يشكّك في النسب العلوي لابن تومرت، ويؤكّد أنّه بربري الأصل من قبيلة صنهاجة. ولكنّ هذا الأمر لا يمكن نفيه أو إثباته، باعتبار أنّ التشكيك حدث سابقاً مع نسب العبيديين. يُنظر في مسألة التشكيك في نسب ابن تومرت:. أبو العباس أحمد محمد بن محمد المراكشي (المعروف بابن عذارى)، البيان المُغرب في أخبار المغرب، تحقيق أميروس هويس مراندة وآخرين، تطوان- المغرب، دار كاريما دينيس للطباعة، 1965م، ج4، ص68
[22] - ابن عذارى، البيان المُغرب في أخبار المغرب، ج4، ص254
[23] - محمد بن تومرت (المهدي)، أعزّ ما يُطلب، تحقيق وتقديم عبد الغني أبو العزم، الرباط- المغرب، مؤسسة الغني للنشر، د.ت، ص297
[24] - محمد بن تومرت (المهدي)، أعزّ ما يُطلب، تحقيق وتقديم عبد الغني أبو العزم، الرباط- المغرب، مؤسسة الغني للنشر، د.ت، ص ص297-298
[25] - أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ص208 يقول الداعية الإسماعيلي ابن حوشب (ت. 380هــــ/990م)، «السبيل الواضح هو أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وهو الصراط المستقيم، فمن كفر بولايته ولقي الله بذلك أحبط الله عمله وأظلّ سعيه، وجعله هباء منثورا، وأكبّهم على وجوههم في النار، وإنّه لا يوافي الرجل منهم ولو أنّ له أعمالا كالجبال الرّواسي ولا يلقى الله بولاية أمير المؤمنين فلا ينفعه عمله»، كتاب الكشف، تحقيق وتقديم مصطفى غالب، بيروت، دار الأندلس، 1404هــــ/1984م، ط1، ص ص37-38
[26] - محمد بن تومرت، أعزّ ما يُطلب، ص299
[27] - أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج1، ص154
[28] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص413
[29] - م.ن، ص234
[30] - يُنظر حول جهود استئصال الشيعة: علي محمد الصلّابي، الدولة الفاطميّة، القاهرة، مؤسسة إقرأ للنشر والتوزيع، 1427هــــ/2006م، ط1، ص95
[31] - يقول ابن أبي الضياف في ترجمة محرز بن خلف: «ذُكر أن أهل تونس لمّا قتلوا الروافض (الشيعة) القَتْلَة المعروفة - وحدّثوا أنّ شيخهم محرز بن خلف حملهم على ذلك- ورُفعت القصّة إلى باديس بن زيري أمير إفريقيّة، حنق على التونسيين وعزم على القصد إليهم وقال: تكون الأرض ولا تكون تونس. فجزع أهل تونس وفزعوا إلى شيخهم محرز، وحدّثوه بما بلغهم، فآنسهم وقال لهم: بلى تكون الأرض ولا باديس»، إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج1، ص169
[32] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص150-153
[33] - الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، مصر، طبعة الخانجي، 1975م، ج3، ص105
[34] - م.ن، ج3، ص99
[35] - الجاحظ: البيان والتبيين، ج3، ص100
[36] - م.ن، ج3، ص103
[37] - ابن قيّم الجوزيّة، زاد المعاد في هدي خير العباد، بيروت، 1979م، ج1، 135 (فصل في ملابسه).
[38] - جاء في زاد المعاد، راية سوداء بدل عمامة سوداء، طبعة مؤسسة الرسالة، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، 1418هــــ/1998م، ج1، ص127. وذكرت العمامة السوداء في الصفحة 130 من الجزء الأول.
[39] - محمد بن جعفر الكناني، الدّعامة في أحكام سنّة العمامة، دمشق، طبعة الفيحاء، 1342هــــ/1929م، ص84
[40] - محمد بن جعفر الكناني، الدّعامة في أحكام سنّة العمامة، ص67
[41] - محمود بن أحمد البدر العيني (ت. 855هــــ/1451م)، عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، بيروت، دار الفكر العربي، د.ت، ج21، ص308
[42] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص ص228-229
[43] - م. ن، ص230
[44] - علي محمد محمد الصلّابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصّليبي، القاهرة، مؤسسة إقرأ للنشر، 1428هــــ/2006م، ط1، ص48 يُنظر أيضاً أحمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني، بيروت- القاهرة، دار الشروق، 1972م، ط1، ص78
[45] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص230
[46] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص275-277
[47] - يمكن التوسّع حول هذه العلاقة لدى وجيه كوثراني، الفقيه والسلطان جدليّة الدّين والسياسة في إيران الصفويّة- القاجاريّة والدولة العثمانيّة، بيروت، دار الطليعة، 2001م، ط2
[48] - محمد بن الخوجة : صفحات من تاريخ تونس، ص277
[49] - م.ن، ص279
[50] - البشير خريّف، الدلة في عراجينها، تونس، الدار التونسية للنشر، 1959م، ص136
[51] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص149
[52] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص233
[53] - محمد بن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، ص23