آليات الحوار الديني ووظيفيته في كتابات المهتدين إلى الإسلام
فئة : قراءات في كتب
يعد كتاب "المنهج النقدي ووظيفيته في توجيه الحوار الديني" للباحث الدكتور مصطفى بوجمعة من الاجتهادات الفكرية التي تستحق الوقوف عندها والتبصر في طروحاتها وطرق معالجتها لموضوع شائك، وعلى قدر كبير من الأهمية في زمننا، وهو موضوع "الحوار الديني". إننا أمام كتاب لا يمكن إدراجه، بسهولة، في خانة ما يطلق عليه اسم "علم الأديان المقارن" أو "تاريخ الأديان"، أو يمكن إرجاعه إلى مباحث علم الكلام والرد على أهل الكتاب، بقدر ما أنه كتاب يسائل نصوص من اهتدى من أهل الكتاب إلى الإسلام كاشفا عن آلياتها النقدية التي ردت بها على قضايا يثيرها أهل الكتاب، كما تعكس أنماطا متنوعة من فهم هؤلاء المهتدين للإسلام وتفاعلهم مع الدين الجديد الذي اعتنقوه. ولا يقف مصطفى بوجمعة، عند هذا الحد، بل إنه يقترح اتخاذ رؤى هؤلاء المهتدين، وطرائق استدلالهم، وآليات نقدهم سبلا نحو تحقيق نوع من "الحوار الديني الجديد" الذي يقطع مع ما توارثناه من أشكال ذلك الحوار، بما له وما عليه.
وقد قسم الباحث كتابه إلى مقدمة وخاتمة وأربعة أبواب أساس، ضم كل باب منها فصلين، وعبر هذه الفصول أحاط بموضوعه، وقدم رؤيته للإشكال الذي يطرحه الكتاب. بدأ الباب الأول المعنون ب "منهج القرآن وأثره في إسلام أهل الكتاب" بإبراز خصوصية الخطاب القرآني لأهل الكتاب وأثره في إسلامهم، وفي هذا السياق بين الكاتب كيفية مخاطبة القرآن اليهود والنصارى مميزا بينهم وبين المشركين باعتبارهم أهل توحيد وكتب سماوية، على الرغم من تنكرهم لعقيدة التوحيد وتحريفهم لشريعة التوراة والإنجيل. وفي هذا الصدد يركز مصطفى بوجمعة على تحديد منهج القرآن الكريم في محاورة أهل الكتاب ودعوتهم إلى دين الإسلام، وترك معاداة الرسالة الجديدة والرسول محمد (ص)، وكيفية مجادلتهم قصد إقناعهم بعقيدة التوحيد وبالشريعة الإسلامية التي تؤكد ما جاء في كتبهم المقدسة. ومن بين الآليات التي خاطب بها القرآن هؤلاء: الرفع والخفض(تمجيد أهل الكتاب وذمهم)، الترغيب والترهيب، الشدة واللين، الجدل والبرهان، التصديق والتكذيب، التحبيب والتحذير... وهذه الآليات يستشفها القارئ من وقوف الكاتب طويلا عند طرائق مخاطبة القرآن الكريم اليهود والنصارى. ومن خلال هذه الآليات نتبين حقيقة الخطاب القرآني لأهل الكتاب في تركيزه على البعد التواصلي "إذ تمكن بمنهاجه الفريد من استمالة قلوب بعضهم منذ انطلاق الدعوة الإسلامية وانتشارها في الآفاق إلى اليوم"(ص. 23).
وعموما لقد عمل الخطاب القرآني على تبيان أوجه الاختلال التي طرأت على عقائد أهل الكتاب وبعدهم عن دين الفطرة وأسسه التوحيدية، وكان القصد من وراء ذلك الخطاب هو" تذكيرهم بالتوحيد الحق الذي كانوا عليه من أجل استمالتهم إلى اعتناق الإسلام باعتباره المجدد والمكمل للشرائع السماوية كلها".(ص. 35) وفي نفس الآن كان يدعوهم إلى الإيمان بنبوة محمد (ص) وضرورة اتباع ما جاءت به الشريعة الإسلامية المتممة للشرائع السابقة عليها. وقد كان لأسلوب القرآن، كما يؤكد الكاتب، وقع كبير في النفوس، وكان باعثا على الطمأنينة للمحتارين من أهل الكتاب، الذين استشفوا من النداء القرآني خصوصية مخاطبتهم وتمييزهم عن باقي المخاطبين لدنوهم من الحقيقة الدينية، فذكرهم بما أخذه أسلافهم عن الرسل والأنبياء، فأورثوه للأجيال المتعاقبة التي ابتعدت شيئا فشيئا عن دين الله وشرعه بالغفلة عنه وتجاهله تارة، وبالتحايل والتناسي تارة أخرى، فكانت دعوة القرآن تذكيرا لهم بوجوب الإيمان بالله تعالى الذي أخذ العهد على جميع المرسلين وأقوامهم بأن يؤمنوا وينصروا صاحب الرسالة الأخيرة محمدا عليه الصلاة والسلام. ويختم مصطفى بوجمعة هذا المبحث بتأكيد أصالة الطابع السلمي الذي قام عليه الخطاب القرآني في محاورة أهل الكتاب، وينفي ادعاءات الإكراه والإغراء التي تلصق بإسلام اليهود والنصارى المهتدين عبر تاريخ الإسلام الطويل وحتى زمننا الراهن، بل لقد عمل القرآن والمسلمون على إقناع السائلين وتحفيز المترددين على اعتناق الإسلام عن طواعية واختيار. وما يبين الأثر الفاعل لأسلوب القرآن ومنهاجه في الحوار أن نجد من بين المهتدين إلى الإسلام شخصيات بارزة من علماء وباحثين ومفكرين وأدباء وفنانين يشهد لهم رجال الدين والفكر والسياسة من أبناء جلدتهم، وقبل المسلمين، بالفضل والعلم والصلاح.
ووقف الكاتب بعد ذلك عند أوضاع أهل الكتاب في المجتمعات الإسلامية، وفي هذا الحيز يذكر حقائق تاريخية هامة تكشف أوجه التعايش والتواصل بين المسلمين ومن عاش بين ظهرانيهم من اليهود والنصارى. وفي هذا السياق كشف الباحث عن التطورات التي اقتضتها الأحداث والتفاعلات في ضبط العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب في شكل معاهدات ومواثيق تكفل حسن التعايش بينهما على مر الزمان. وهي المواثيق التي وضع بها الرسول محمد (ص) الحجر الأساس لطبيعة العلاقة التي تربط المسلم بالكتابي، التي تقوم على التسامح والمسالمة، فمختلف العهود التي عقدها أصبحت نموذجا لمثيلاتها في مختلف عصور الحكم الإسلامي، إذ إنها كانت كلها في صالح التسامح وفي صالح أهل الكتاب. ولقد كانت العناية بأمور أهل الكتاب والاهتمام بمظالمهم والعمل على إعادة حقوقهم إلى نصابها وحماية مصالحهم سببا في توليهم مناصب هامة في الدول المختلفة التي حكمت المشرق والمغرب على السواء، وكانت سببا في بروزهم الثقافي في جميع المجالات، وخاصة في الترجمة عن اللغات الأخرى. وكان دورهم في الحركة الثقافية العربية الإسلامية واضحا لا ينكر. ويؤكد الكاتب، استنادا إلى آراء باحثين غربيين، أن شبهة انتشار الإسلام بالإكراه والسيف لا أساس لها مستشهدا ببتلر وأرنولد وغيرهما. وقد كان القرآن هو المؤثر الأول في اهتداء عدد كبير من أهل الكتاب قديما وحديثا، وهو ما أثار فضول المهتمين بقضايا المسلمين الجدد حيث تبينوا تأثيره في اهتداء شخصيات بارزة، وهو الأمر الذي يشهد به عالم الرياضيات الأمريكي الدكتور (جيفري لانغ) الذي يقول في كتابه "الصراع من أجل الإيمان" مبينا قناعته بعد اعتناق الإسلام:
"إذا ما اتخذت القرآن بجدية، فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة، فإما أن تكون لتوك قد استسلمت له، أو أنك ستقاومه، فهو يحمل عليك وكأن له حقوقا عليك بشكل مباشر وشخصي، وهو يجادلك وينتقدك ويخجلك ويتحداك، ومن حيث الظاهر، يرسم خطوط المعركة. ولقد كنت على الطرف الآخر في المواجهة، ولم أكن في وضع أحسد عليه، إذ بدا واضحا أن مبدع هذا القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي... ولكن، أي مؤلف يستطيع أن يكتب كتابا مقدسا، يستطيع أن يتوقع حركاتك وسكناتك اليومية؟ لقد كان القرآن يسبقني دوما في تفكيري، ويزيل الحواجز التي كنت قد بنيتها منذ سنوات، وكان يخاطب تساؤلاتي"(لانغ، الصراع من أجل الإيمان، تر. منذر العبسي، 2000، دار الفكر، سوريا، ص. 34)، (المنهج النقدي، ص. 57)
ويرى مصطفى بوجمعة أنه يجب على المسلمين - في وقتنا الحاضر العصيب الذي ارتبط فيه الإسلام بظاهرة "الإسلاموفوبيا" الغربية، وأصبح يُنعت فيه بالإرهاب - أن يسارعوا إلى متابعة أخبار المهتدين من أهل الكتاب في بقاع العالم، للعمل على معرفة فكرهم والاستفادة من تجربتهم في البحث عن الحقيقة الدينية، حيث قطعوا أشواطا من التأملات، وأمعنوا النظر في معتقداتهم الباطلة وأعملوا العقل فيها فاختبروا مناهج للنقد الذاتي، وسلكوا طرقا للاستدلال على قناعاتهم إلى أن استجابوا لنداء الفطرة وأقروا بالتوحيد الخالص الذي أشعرهم بالعبودية الحقة لله وليست لأحد سواه. ومن ثم، يؤكد الكاتب أن تجربة هؤلاء المهتدين تستحق أن تصبح أعمالا ومشاريع دراسية تعود بالنفع على فكرنا الإسلامي المعاصر، وخاصة أن المسلمين في حاجة إلى وسائل جديدة في حوارهم الديني مع أهل الكتاب، ومع غيرهم من النحل والأمم التي يتفاعل معها المسلمون.
وانتقل في الفصل الثاني من الباب نفسه إلى تحديد مفهوم المنهج النقدي وأهدافه. فما هو مفهوم المنهج النقدي عند مصطفى بوجمعة؟ وما هي آليات هذا المنهج وأهدافه؟ وما تجلياته في كتابات المهتدين إلى الإسلام؟
يمهد الكاتب لتحديد مفهوم المنهج النقدي تمهيدا لغويا واصطلاحيا، مبرزا آلياته وأهدافه كما بلورها القرآن الكريم في نقده لليهودية والنصرانية. وفي هذا السياق يبين مصطفى بوجمعة عددا من الآليات النقدية القرآنية التي فندت مزاعم أهل الكتاب، ووقفت عند عقائدهم الفاسدة، وسلوكاتهم المخالفة لشرائع أنبيائهم.
إن مفهوم المنهج النقدي كما يحدده الباحث نجد أصوله في اللغة وفي مجالات العلوم الإنسانية والعلمية البحتة. وبما أن المنهج يرتبط بالبيان والوضوح وتحكيم العقل بشكل منظم، مع الترتيب الدقيق وكشف الحقائق والبرهنة عليها، ومع الاعتماد على أسس علمية وعقلية واضحة، قوامها الدلائل والبراهين المنطقية؛ فإن النقد بمفهومه العام كما نجده في علم الحديث والدراسات الأدبية والتاريخية ومباحث الفلسفة والمنطق يتصل بعرض الحقائق واختبار يقع على مبدإ أو حدث أو فكرة قبل إصدار أي حكم قيمة عليها، وهو إمكانية عقلية تمكن الباحث من التمييز بين الزائف والأصيل، والخاطئ والصائب. ومما لا شك فيه أن النقد وجد عند الأمم على اختلاف حضاراتها وديانتها منذ القديم، باعتباره عملية عقلية آلية تترتب عليها أحكام بخصوص موضوع ما، ويمكن تفسير هذا بكون الإنسان خلق نزاعا إلى الكمال ومن ثم منقادا بطبعه إلى إدراك ما في الأشياء من وجوه كمال يستريح إليها ووجوه نقص يسعى إلى كمالها. غير أن هذا النقد –خاصة في المجال الديني- لم يرق إلى مستوى منظم وممنهج إلا في ظل الحضارة الإسلامية، التي لا يمكن إغفال دور القرآن الكريم في وضع قواعد النقد وأسسه بشكل عام، ذلك النقد الموجه إلى التصحيح والبناء والإصلاح، ولنا في المنهج القرآني –كما يؤكد الكاتب- خير دليل على صحة ونجوع هذه الخصائص النقدية وهو يتوجه بالنقد إلى اليهود والنصارى من أجل إعادتهم إلى جادة الطريق.
بعد هذا التحديد يقف مصطفى بوجمعة عند ملامح عامة من تجليات المنهج النقدي في فكر المهتدين إلى الإسلام، واضعا الخطوط العريضة لهذا النقد الذي سيفصل في أسسه وطرقه وسبله المنهجية في البابين الثاني والثالث من الكتاب. وفي هذا الحيز ركز الكاتب على تصور مفاده أن الحديث عن المنهج النقدي انطلاقا من كتب علماء أهل الكتاب الذين اهتدوا إلى الإسلام، لن يكون ذا جدوى إذا لم يحدد هدفه بدقة متناهية، وإذا لم ترسم له خطته بمنتهى الوضوح والشفافية. ويتمثل هذا الهدف، وتبدو تلك الخطة في سعي هؤلاء المهتدين إلى إبراز هيمنة الإسلام على الرسالات السابقة ودفاعهم عن هذه القناعة بكل السبل، خاصة أن الإسلام يتميز بخصائص تجعل له أحقية الهيمنة، وهي:
- أن الإسلام هو آخر الأديان السماوية.
- أنه يصدق كل الشرائع الإلهية التي سبقته.
- أنه فرض الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين بما في ذلك موسي وعيسى.
- أنه ما زال يحافظ على ربانيته التي يجسدها القرآن الكريم.
- أن رسالة الإسلام موجهة إلى العالمين.
إن هذه الخصائص المبررة لهيمنة الإسلام على الرسالات السابقة تلقى إجماعا من جميع المسلمين في الأرض، كما تلقى اعترافا من أهل الكتاب وإن تحفظوا في اقتناعهم بها، وكلها تبريرات يؤكدها الواقع رغم تهجم البعض على الإسلام بمختلف الوسائل. وتكثر البراهين والأدلة التي تؤهل الدين الإسلامي ليكون قيما ورقيبا ومكملا لما سبقه من الأديان، وهذا ما سعى المهتدون إلى الإسلام إلى إبرازه بحيث جدوا في تصويب ما أصاب رسالة كل من موسى وعيسى عليهما السلام من ضلالات وترهات، وتقويم ما وقع في شريعتهما من تحريف واعوجاج، فذكروا أتباعهما من اليهود والنصارى بدعوتهما إلى توحيد الله وعبادته، وأماطوا اللثام عن البشارات المتناثرة بين سطور أسفار التوراة والإنجيل، وأقاموا الحجة على صحة نبوة محمد (ص) الصادق في دعوته. وقد كان الهدف الأساس من هذا النقد هو الحوار وتحقيق التواصل مع أبناء ملتهم واعين أن الرسالة الإسلامية بدأت وستظل رسالة جوهرها الحوار البناء والنقد المثمر، لأنها دعوة مستمرة باستمرار الوجود بأسره. ولكي يكون هذا النقد بناء يلزم ضبطه في منهج علمي، حتى يصبح فعالا في توجيه الحوار الديني. وفي هذا الصدد يقف الباحث مصطفى بوجمعة عند مفهوم النقد عند المهتدين إلى الإسلام مركزا على مظهرين من مظاهره:
- نقد ذاتي: ينطلق من تجربة المؤلفين مع ديانتهم السابقة إما اليهودية وإما النصرانية، التي تربوا في أحضانها فترعرعوا على كراهية الإسلام وبغضه ومعاداة أهله. وفي هذا الإطار يتفرس المهتدي إلى الإسلام عيوبه وثغراته ونواقصه ليصلح ما يمكن إصلاحه من قبل أن يفوته وقت المراجعة والمحاسبة، بحيث نجد المهتدي يقر بضرورة رجحان العقل في انتقاد ما ورثه من آبائه وأجداده والنظر فيه طلبا للحق، ويؤكد أن مراجعة النفس ونقد الذات والتزود بالإيمان الصحيح والعمل الصالح هو خير ما يمكن الاعتماد عليه بعد الموت.
واعتبر الكاتب أن هذا النقد بواسطة الاعتراف بالحق يعتبر من أقوى أنواع النقد تأثيرا، خاصة أن بعض هؤلاء المهتدين قد بينوا رغبتهم في طلب الحق متجردين عن العاطفة وعن الأحكام المسبقة التي تغذيها التربية في نفوسهم من بغض للإسلام وكراهية الدخول فيه، بحيث تحلوا بالموضوعية اللازمة والجرأة الكاملة، متجنبين العناد والتمسك بالباطل، في سبيل إثبات حق لا طاقة لأحد بنكرانه وجحده.
- نقد موضوعي: يهدف إلى إظهار الوضع الذي آلت إليه هذه الأديان على اعتبار أن الإسلام يمثل تلك المرآة السوية الصحيحة السليمة التي تصدق الشرائع السابقة وتكشف عن انحرافها بكل وضوح. فهو المسؤول عن تقديم الصورة الحقيقية للدين الإلهي بدون تحريف ولا زيادة ولا نقصان، فهو يصدق أهل الكتاب فيما بقي بين أيديهم من التشريعات ويذكرهم بربانيتها، ويفضح أباطيلهم وتلاعبهم. وإن المقدمات التي استهل بها المؤلفون –العينة التي اشتغل الكاتب بأعمالها- كتبهم تكشف بشكل دقيق عن الهدف الذي وضعوه لنقد اليهودية والنصرانية على السواء، وفي كل مرة يتم فيها استقراء تلك المقدمات –يؤكد مصطفى بوجمعة- نلمس الطابع الموضوعي للعملية النقدية الذي يتجلى في مناهجهم العلمية التي تقيدوا بها من أجل نقد بناء هادف.
ويتميز النقد في كتابات هؤلاء المؤلفين بكونه يهدف إلى القيام بدور حضاري تواصلي، إذ توجهوا برسائلهم إلى أبناء الملل التي كانوا عليها يدعونهم للحوار من أجل الإصلاح والبناء. ويبدو ذلك واضحا في مناهجهم التي صاغوها في شكل ردود توجهوا بها إلى سائليهم ومحاوريهم من أديانهم السابقة، وهؤلاء وإن كانوا ناقمين وغاضبين عليهم لأنهم ارتدوا عن دين الآباء والأجداد، إلا أنهم يعرفون وزنهم ويدركون ما هم عليه من العلم والفهم العميق لعقائد اليهود والنصارى وشرائعهم وكتبهم، فكلامهم عنها لن يأتي من فراغ أو عناد، وإنما سيستند إلى التجربة الطويلة وإلى العلم الراسخ معا، والجمع بين هذين الركنين كفيل ببناء منهج نقدي وطموح يهدف إلى أمرين هامين:
- تصحيح المفاهيم الدينية الضائعة من خلال عملية نقدية موضوعية وبناءة، بعيدا عن التعصب والإصرار على الباطل والضلال.
- توظيف هذه العملية النقدية بكل مقوماتها في توجيه الحوار الديني بجميع أشكاله الحضارية، وتبليغ الحقائق الدينية بكل موضوعية ومصداقية، واستثمار خاصيتي التجربة والمعرفة معا في الحوار.
وإذا كان الباب الأول من الكتاب يضع الخطوط العامة للمنهج النقدي ويوضح آلياته، فإن الباب الثاني من الكتاب يمضي إلى تجلية منهج المهتدين من اليهود في نقد اليهودية. وفي هذا الصدد يقف مصطفى بوجمعة عند طرق نقدهم لتحريف التوراة، ونقدهم للافتراءات على الإسلام، في العقيدة، والألوهية، والنبوة والأنبياء. ويقف عند نقدهم افتراءات اليهودية في مجال التشريع، ثم يركز على آليات إثباتهم لنسخ التوراة ووجوب ذلك، وإثبات نبوة محمد (ص). وأدرج بالترتيب تعريفا مركزا بمنهج الأعمال الثلاثة التي اتخذها منطلقا لتجلية منهج مهتدي اليهود في نقد دينهم القديم، مع ذكر سير موجزة لأصحابها، وأول من وقف عنده هو الحكيم السموأل بن يحيى المغربي الأندلسي، وكتابه "بذل المجهود في إفحام اليهود"، والمؤلف الثاني هو عبد الحق بن سعيد بن محمد المغربي المالكي الإسلامي، من خلال كتابه "الحسام الممدود في الرد على اليهود"، والكتاب الثالث بعنوان "الرسالة السبيعية بإبطال الديانة اليهودية" للحبر الأعظم إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي.
ثم تتبع مصطفى بوجمعة منهج كل مؤلف على حدة وحسب الترتيب الوارد أعلاه في نقد تحريف التوراة، فوقف عند مسلك الحكيم السموأل وهو مسلك اعتمد المنهج التاريخي لبناء ردوده على اليهود وإثبات تحريف التوراة، موردا أدلة عديدة، بعضها عقلي وأخرى نقلية. أما مسلك عبد الحق الإسلامي فعبارة عن إشارات كان يسوقها أثناء تناول قضايا أخرى أثبت بها كيفية ونوعية التحريف الطارئ على حكم من الأحكام أو اعتقاد من الاعتقادات، وهي إشارات عديدة يذكرها مصطفى بوجمعة ويوجزها بأسلوب دقيق، وبالنسبة إلى مسلك إسرائيل بن شموئيل فورد في سياق التنبيه إذ ركز المهتدي على ذكر السبب الرئيس الذي أدى بالأحبار إلى تحريف شريعة موسى (ع)، ذلك أن انصراف أغلب اليهود إلى ما جاء به كل من عيسى (ع) ومحمد (ص) واتباع شرائعهما، وبقاء القليل منهم على اليهودية، جعل الأحبار والحاخاميم يلجأون إلى تحريف مضامين الشهادة الواردة في التوراة بحقهما عن طريق التأويل والتفسير الباطل والكذب.
وفيما يتعلق بافتراءات اليهود في الألوهية يقف الكاتب عند آراء المؤلفين الثلاثة ومسالكهم في الرد على أبناء ملتهم السابقة، بالنهج نفسه الذي اتبعه في تناول إثباتهم تحريف التوراة، وهكذا بين كيف أن الحكيم السموأل ركز على ذكر جوانب من كفر اليهود الذين نطقوا بهذيانات وكفريات-حسب تعبير الحكيم نفسه- من شدة الضجر من الذل والعبودية والصغار، ويورد مصطفى بوجمعة أطرافا مما أورده الحكيم السموأل من تلك العقائد الفاسدة في فهم حقيقة الألوهية، وهي تصورات تنحو نحو التجسيم للذات الإلهية وتشخيصها مع تمثلها في صورة متدنية لا تليق بالخالق. وهو الجانب الذي وقف عنده، أيضا، عبد الحق الإسلامي في جرده الدقيق للاعتقادات الخرافية التي اشتملت عليها توراة اليهود المحرفة، إذ إن نصوصها المحرفة تشهد على وصف الله تعالى بما لا يليق بذاته سبحانه، وفي هذا السياق نجد عبد الحق الإسلامي يذكر نصوصا من التوراة المحرفة تثبت نقده وتكشف فساد عقيدة اليهود في الألوهية، وهو المنهج ذاته الذي سلكه الحبر الأعظم إسرائيل بن شموئيل الذي حذر اليهود من الكفر ومن نزوعهم الشديد وميلهم السريع إلى الارتداد عن التوحيد، وليس ذلك بغريب على عقول اليهود وأخلاقهم، فقد كانوا يكفرون بالله تعالى ويشركون معه آلهة أخرى وموسى وهارون (ع) بين أظهرهم. ويلح الحبر الأعظم على ضرورة عودة اليهود إلى العقيدة السليمة والإيمان الصحيح الذي مثلته دعوة عيسى (ع) ورسالة محمد (ص) خاتم المرسلين، فكلاهما بشر الناس وأنذرهم بترك الكفر وحثهم على الإيمان بالله. وقد عمل الحبر الأعظم على إبطال الديانة اليهودية بما أصبحت عليه في الواقع، حيث أثبت أن الركن الأساس في الدين –أي الإيمان الخالص بالله المتصف بالكمال الذي قامت عليه شريعة موسى (ع)- قد اختل، وأن هذا الخلل الذي أضر بعقيدة التوحيد لا يزول إلا باعتناق الإسلام. وبذلك يؤكد إسرائيل بن شموئيل أن اليهود يعيشون بغير شريعة التوراة ولا يعملون بأحكامها اللازمة. ومن ثم فإن مخالفة الأحكام والتجرؤ على تغييرها ضدا على إرادة الرب سبحانه، لا تكون إلا بفساد أهم دعامة قامت عليها كل الشرائع السماوية وهي الإيمان بالله تعالى، وما دعوة الحبر الأعظم اليهود إلى اعتناق الإسلام والنجاة من اللعنات إلا دليل آخر على ابتعادهم عن العقيدة الصحيحة.
وينتقل الكاتب بعد هذا المبحث إلى مبحث آخر هام في نقد المهتدين للإسلام، ويتعلق بنقد افتراءات اليهودية في النبوة والأنبياء. وفي هذا الصدد وقف مصطفى بوجمعة طويلا عند مسالك الحكيم السموأل وعبد الحق الإسلامي والحبر الأعظم بالترتيب وبالتدرج ذاته، مبينا كيف أن افتراءات اليهود على الأنبياء كان مخططا لها –كما يؤكد الحكيم السموأل- ومدبرة من طرف كتاب لفقوا قصصا كان الدافع من ورائها عداوة قديمة وأحقاد دفينة بين بني عمون ومؤاب وبين بني إسرائيل. ويتتبع الحكيم السموأل تلك التلفيقات ويقف عند آثارها والغايات التي كانت ترمي إليها، ويبين مخالفتها لشريعة التوراة المنزلة على موسى (ع) ومنافاتها للعقل وتناقضاتها وسفاهتها في نسبة أفعال مرذولة وسلوكات ممجوجة إلى الأنبياء. وهذا ما ركز عليه عبد الحق الإسلامي في الباب الرابع من كتابه "الحسام الممدود" الذي سرد أمثلة مفصلة من التوراة المحرفة تكشف عن سب الأنبياء ونسبة الفواحش إليهم. ويمكن إجمال نتائج نقد عبد الحق الإسلامي لافتراءت اليهود على الأنبياء فيما يلي:
-أن هذه الافتراءات بحق الأنبياء هي مأخوذة من التوراة الموجودة بأيدي اليهود التي يزعمون أنها منزلة على موسى (ع).
- أن ما نسبه اليهود من سوء إلى الأنبياء بلغ من القبح والشناعة ما لا يطاق.
- أن هذه الأقوال الشنيعة لا يمكن أن تصدر إلا من الكفرة.
- أن اليهود ينزهون أنفسهم عن الوقوع في مثل هذه المنكرات، في حين ينسبونها إلى الأنبياء.
- أنهم بافترائهم على الله وعلى رسله، ووقوعهم في نبيهم موسى (ع)، الذي يعتبر مرجعهم ومعتمدهم في كل شيء، يكونون قد خرجوا عن ملته وأصبحوا على لا شيء.
أما الحبر الأعظم فقد أشار إلى الفظاظة التي تعامل بها اليهود مع عيسى (ع) في تنبيهه الخامس من تنبيهاته السبعة، مبينا تزويرهم وبهتانهم وكذبهم. وقد بين الحبر الأعظم الموقف السلبي من النبوة وافتراءات اليهود على الأنبياء كما فعلوا مع عيسى (ع)، ويتجلى ذلك في:
- أن اليهود الذين عاصروا عيسى استكبروا ورفضوا دعوته، ونصبوا له العداء.
- أنهم تكلموا في حق نبي الله عيسى كلاما محرما غير جائز، وهو من قبيل القذف والتجريح في نسبه والطعن في شرف أمه الطاهرة.
- أنهم يلجأون إلى التزوير والبهتان والكذب، وذلك في سبيل تحقيق أهوائهم، الأمر الذي يقرر المؤلف من خلاله أن التوراة لم تسلم من التحريف، وهذا دليل آخر على إبطال الديانة اليهودية.
وركز المبحث الثالث على تبيان مسالك المهتدين الثلاثة في نقد افتراءات اليهود في مجال التشريع، وفي هذا السياق ينبه مصطفى بوجمعة إلى أن الجهة التي تتحمل مسؤولية هذه الافتراءات بحيث يذهب الفريسيون إلى أن الحاخامات معصومون عن الخطأ، فكل ما يقولونه حق وصدق، وعليه يُحرم تكذيبهم أو الاعتراض عليهم، ويرون أن أقوالهم عن الله تعالى، وأن احترامهم وتقديرهم والخوف منهم احترام لله تعالى وخوف منه، كما أن مخالفتهم مخالفة لله تعالى، ولذلك عد اليهود أقوال الحاخامات شريعة. ومنه هذا الاعتقاد الفاسد الذي يتحمل مسؤوليته هؤلاء الحاخامات انطلق المهتدون في نقدهم لما علق من افتراءات في التوراة وشريعة موسى (ع). ففي كتاب "بذل المجهود" للحكيم السموأل يجد القارئ نفسه، وهو ينتقل من فصل إلى آخر، أمام ألوان شتى من الافتراءات والتأويلات الباطلة التي أريد بها تحريف التشريعات وفق ما تقتضيه أهواء الحاخاميم، فمرة يختلقون تشريعا يخص اليهود فيما بينهم، ومرة يضعون تشريعا يتعلق بطريقة تعاملهم مع الأغيار. ويقف القارئ في كتاب الحكيم السموأل –ويقوم مصطفى بوجمعة بتلخيصها- على فضائح اليهود التي تتعلق بالأسرة (قصة البياما والحالوص) وعلم الذباحة وعلاقة اليهودي بغيره وما شابهها من افتراءات زعموا أنها من التوراة ومن التشريع الإلهي. أما عبد الحق الإسلامي فقد أورد، بدوره، في كتاب "الحسام الممدود" أكاذيب أخرى ينسبها أحبار اليهود إلى تشريعات التوراة، وركز بالأخص على تلك التي وردت في سياق الحديث عن علاقة اليهودي مع المسلم، إذ يزعم اليهود أن توراتهم أمرتهم بإيذاء المسلمين وغشهم وإدخال الربا فيهم، وأنهم أمروا أن لا يأكلوا الطريد وأن الحكم فيه عندهم رميه للكلاب، وقد اعتبر علماؤهم أن لفظ الكلب يشمل المسلمين ومن ليس من اليهود، ومن ثم أباحوا بيعه - أي لحم الطريد- للمسلمين، وإلا فليلقوه للكلاب. وقد نبه عبد الحق الإسلامي إلى هذا الضلال ودعا المسلمين إلى عدم التعاطي مع اليهود بهذا الشأن لما فيه من خبث واحتقار. ووقف إسرائيل بن شموئيل عند افتراء فريد من نوعه شرعه أحبار اليهود وحاخاماتهم لأتباعهم الذين استحقوا اللعنات المنصوص عليها في التوراة إذا هم لم يتبعوا وصايا موسى (ع) وشريعته. ومن يخالف تلك الوصايا ولا يعمل بها يلزمه التكفيرات والتطهيرات، وهي طقوس يتعذر القيام بها وفق مراسيمها المحددة لها في توراتهم، وإذن كيف السبيل إلى الخلاص من اللعنات؟
هنا ابتدع الأحبار خرافة التقميص، وقد عمل الحبر الأعظم على نفي أن يكون لهذا الافتراء سند في التوراة، فكيف للإنسان اليهودي الذي يموت وهو غير مكمل للوصايا، ومديون إلى الكثير، والذي وقع تحت اللعنات، أن يرجع إلى الدنيا عدة مرات إلى أن يكمل العمل بالوصايا، ويتخلص من جرثومة اللعنات رويدا رويدا؟
مما لا شك فيه أن هذا هراء، كما يؤكد الكاتب، لأنه يشتمل على اعتقاد فاسد وعبثي، ولأنه استخفاف بالشريعة الموسوية.
وبهذه الشاكلة يمضي مصطفى بوجمعة إلى مبحث آخر مبينا منهج المهتدين في إثبات نسخ التوراة ونقد موقف أهل الكتاب من النسخ، وخاصة اليهود، بحيث أدركوا أن الاعتراف بجوازه ووقوعه هو إقرار ببطلان شرائعهم، وهم ينكرون جواز النسخ عقلا ووقوعه فعلا. وهكذا يقف مصطفى بوجمعة عند مسالك كل من الحكيم السموأل وعبد الحق الإسلامي والحبر الأعظم في إثبات نسخ التوراة مبرزا منهجهم في الرد على أحبار اليهود وحاخاماتهم. وفي هذا السياق أورد حقائق هامة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن التوراة نسخت بشريعة القرآن الكريم وأحكامه كما يثبت هؤلاء المهتدون. ونظرا إلى أن الباحث استرسل في إثبات الأدلة والحجج، فإنه يصعب أن نقف عندها جميعا، ومن ثم نكتفي بالإشارة إلى بعضها، فحسب. فالحكيم السموأل جعل موضوع النسخ مدخلا أساسا في رده على اليهود، وبه بنى نقده. وقد التزم بالاستدلال على ثبوت النسخ بنصوص كتاب التوراة ذاته وما تقتضيه أصول اليهودية، وقد اتبع طريقة (فإن قالوا كذا، قلنا كذا)، واعتمد أسلوب الإلزام من أجل إثبات نسخ الإسلام للشرائع التي سبقته. ومن بين المحاور التي أقام عليها الحكيم السموأل أدلته، نذكر ما يلي:
- مقارنة شريعة التوراة بالشرائع التي سبقتها لإثبات الزيادات التي جاء بها موسى ولم يأت بها الرسل السابقون.
- بيان أن عند تعارض حكمين يقدم المتأخر زمنيا على المتقدم، لذلك يعمل بفريضة الصوم الأكبر إذا تزامنت مع يوم السبت إذ لا عبرة بفريضة السبت آنذاك.
- بيان أن اليهود لا يعملون اليوم بشريعة موسى لتعذر القيام بالفرائض الواجبة عليهم كالطهارة من النجاسات وفق ما نصت عليها التوراة.
- بيان التغيير والتعديل الذي حصل في صلوات وصيام اليهود خلافا لما جاء به موسى (ع).
- بيان أن الله تعالى اختار أبكار بني إسرائيل لخدمة الأقداس ثم استغنى عنهم فيما بعد، وعوضهم ببني لاوي لأجل ذلك الاختصاص.
وقد صاغ الحكيم هذه العناصر التي تثبت النسخ في شريعة موسى (ع) في شكل أسئلة تفيد التقرير مرة، أو عبر مجاراة الخصم وموافقته على مقدمة فاسدة لإثبات فساد نتيجتها واستحالتها، أو عن طريق مطالبة الخصم بتصحيح دعواه وإثبات كذبه في مدعاه.
أما عبد الحق الإسلامي فقد أفرد الباب الثاني من كتابه لإثبات نسخ الإسلام لجميع الأديان، وقد مزج فيه بين الاستدلال بنصوص التوراة وبين شرحها، وتأويلها بحساب الجمل، والتعليق عليها بالنقد المدعوم. وانطلاقا من كل ذلك استدل عبد الحق الإسلامي على اليهود الذين أنكروا أن تكون رسالة الإسلام ناسخة لشريعتهم ولباقي الشرائع السماوية. ويورد مصطفى بوجمعة هذه النصوص والأدلة ويعرضها في شكل نقط مفصلة مع تبيان أوجهها.
وبالنسبة إلى مسلك الحبر الأعظم، فقد اعتمد التجربة والواقع منهجا نقديا ليثبت أن الدين الإسلامي ناسخ لشريعة موسى بكل أنواع البراهين النقلية والعقلية، والواقعية والحدسية والبدهية. وقد أورد الكاتب الأدلة التسعة التي أفاض من خلالها الحبر الأعظم في إثبات نسخ شريعة التوراة مؤكدا أن تلك الشريعة زالت بزوال أركانها وأصولها التي اندثرت جميعها، ولم يعد لها وجود أو بقاء. وهذا ما دفع الباحث مصطفى بوجمعة إلى طرح سؤال هام: إذا كانت الفرائض والواجبات الدينية، والتعبدات الشرعية في شريعة موسى، يتوقف تطبيقها على توافر أركان وشروط.. من معبد محدد، ووقت معين، وكيفية دقيقة، على يد شخص بذاته، كما يبين الحبر الأعظم، وحدث أن اندثرت كل تلك الأركان وشروطها، فما الذي كان يتعبد به اليهود منذ قرون؟؟
وبعد هذا الجانب الشائك من مباحث الكتاب ينتقل الكاتب إلى تجلية منهج المؤلفين الثلاثة في إثبات نبوة محمد (ص). وقد أكد في البداية أن هذا المبحث من أكثر المباحث إثارة للجدل في تاريخ الأديان، إذ إنه يرتبط بقضية إثبات ربانية الإسلام، باعتباره دينا سماويا أكمل الأديان السماوية السابقة، وختم برسوله الأكرم محمد (ص) سلسلة الرسل والأنبياء. وعلى الرغم من تسليم الإنسان المسلم أن أهل الكتاب –كما يؤكد القرآن ويبين في منزل آياته- قد غيروا وبدلوا كلام الله، وأن أولى المواضع بالتغيير والتبديل تلك التي تتعلق بصدق رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، إلا أن هذه الحقيقة لا ينبغي أن تحول دون فحص كتب أهل الكتاب في حالتها الراهنة لعل وعسى أن يكون أولئك الذين غيروا وبدلوا في كلام الله قد فاتهم شيء لم يغيروه غفلة منهم أو إساءة فهم له أو خطأ تأويل لدلالته. ومن ثم كانت غاية كل علماء اليهود الذين اهتدوا إلى الإسلام هي إثبات نبوة محمد (ص)، وفي هذا السياق لا نغفل أن كتب أهل الكتاب رغم ما شابها من تحريف قادت العديد من علمائهم إلى الاهتداء إلى الإسلام، ودفعتهم إلى معرفة كنه النبي المعهود في آخر الزمان. وعلى الرغم من أن الأدلة التي استند إليها المؤلفون الثلاثة –العينة التي اشتغل الباحث بكتابتها- متشابهة ومتماثلة، نظرا إلى أن البشارات التي وردت في الكتب السابقة هي نفسها التي وقف عليها أسلافهم، إلا أن اختلافهم يكمن في طرق الاستدلال ومسالك النقد. فالحكيم السموأل بنى استدلاله على مقدمات منطقية وعلى دلالات ألفاظ نصوص التوراة وإشاراتها. وقد أورد مصطفى بوجمعة أدلة خمسة فصلها وبين منهج الحكيم السموأل في إثبات نبوة محمد (ص) من خلالها. ولعل أهمها تأكيد الحكيم أن العاقل لا يسعه أن يكذب نبيا ذا دعوة شائعة وكلمة صادقة، ويصدق غيره، لأنه لم ير أحدهما ولا شاهد معجزاته، فإذا خص أحدهما بالتصديق والآخر بالتكذيب، فقد تعين عليه الملام والإزراء عقلا. وإذا كان اليهود يستدلون على صدق نبوة موسى عن طريق تواتر الأخبار وشهادات الأمم بصحة ذلك، وهو نفس الطريق الذي يثبت صدق نبوة محمد وعيسى عليهما السلام، لزمهم من ذلك التصديق بهما. وعلى نفس النهج وقف على أدلة عبد الحق الإسلامي والحبر الأعظم. وتجنبا للإطالة نكتفي بما أوردناه من إشارات في هذا الجانب.
وآخر مبحث تناوله هذا الباب يرتبط بالرد على مزاعم اليهود ضد الإسلام والمسلمين، وفي هذا السياق يفرد لكل مؤلف ردوده على مزاعم اليهود وادعاءاتهم ومطاعنهم في الإسلام والمسلمين. وقد خلص مصطفى بوجمعة من خلال تقصي آراء المؤلفين الثلاثة إلى أن الدافع إلى عداء الإسلام والمسلمين تطور عن الجحود والحسد لرسول الإسلام، فأصبح الشغل الشاغل لليهود هو مواجهة الإسلام والمسلمين بالمكائد والحيل، وأساليب الكذب والتلفيق والدجل.
وفي الباب الثالث ينتقل الباحث إلى الإنتاج الفكري للمهتدين من النصارى، ويقف عند منهجهم في نقد النصرانية والرد على شبهاتها وما تثيره من قضايا في حوارها الديني، ومجادلتها للإسلام. وقد ركز مصطفى بوجمعة على منهجهم في نقد الأناجيل، وذلك بالوقوف عند كيفية كشف بعض هؤلاء المهتدين لتحريف الإنجيل واختلاف الأناجيل وتناقضها. كما بين طرق نقدهم لعقيدة النصارى في الألوهية، والنبوة، وإثبات نبوة محمد (ص). وفي الأخير يقف عند طرائق رد هؤلاء المهتدين على مزاعم النصارى ضد الإسلام والمسلمين، وهو المنهج نفسه الذي اتبعه في وقوفه عند منهج المهتدين من اليهود في نقد اليهودية. والمؤلفون الذين اتخذهم منطلقا لكشف طرائق نقد النصرانية وكشف سبل محاورتهم لأبناء ملتهم السابقة، هم: أبو الحسن علي بن سهل المعروف بابن ربن الطبري من خلال كتابه "الدين والدولة في إثبات نبوة النبي محمد (ص)". وعبد الله بن عبد الله الترجمان من خلال كتابه "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب". وأخيرا البروفيسور عبد الأحد داود من خلال كتابه "الإنجيل والصليب".
يبين مصطفى بوجمعة في بداية هذا الباب الهام من الكتاب كيف اهتم علماء المهتدين من النصرانية على تناول قضايا أساس مشتركة بينهم، وهي:
- قضية الأناجيل وما يتعلق بأسانيدها وكتبتها.
- قضية ألوهية عيسى (ع) وما يرتبط بها من اعتقادات.
- قضية نبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
- قضية الشكوك والطعون الموجهة ضد الإسلام والمسلمين.
فكيف عالج هؤلاء المهتدون هذه القضايا الشائكة؟ وما هي المناهج التي سلكوها في إثبات ما ينبغي إثباته ونفي ما ينبغي نفيه؟
المبحث الأول الذي يتناوله مصطفى بوجمعة يتعلق بمنهجهم في نقد الأناجيل، وفي هذا السياق سار على النهج الذي اتبعه في الإحاطة بالقضايا التي أثارها مهتدو اليهود، كما بينا سابقا، بحيث يفرد الحديث عن منهج كل مؤلف على حدة في القضية الواحدة على الترتيب ذاته وبنفس التدرج. وهكذا نجده، هنا، يبسط رأي علي بن ربن الطبري في تحريف الإنجيل، ونقده النصارى فيما أصاب الكتب المتداولة بينهم من تغيير وتأويل مذموم. وقد بادر ابن ربن الطبري إلى فضح ما أخفاه النصارى من حقائق حول نبوة محمد (ص)، فاعتمد على نصوص من أناجيل عديدة باعتبارها أدلة دامغة على نبوة محمد (ص)، لا طاقة لأحد على جحدها وإنكارها ما دامت الوقائع والأحداث تؤيدها. وقد تميز كلام الطبري بالإيجاز والاقتضاب في نقد كتب النصارى، إلا أنه كشف عن ثلاثة أنواع من التحريف مست الأناجيل: تحريف بالكتمان، وتحريف بالتبديل، وتحريف بالترجمة. وهذه الأساليب هي التي نقضت صحة الكتب المتداولة بين النصارى وأبطلت مصداقيتها وألغت حجيتها، إذ ليس بوسع الباحث عن الحقيقة الاعتماد عليها كليا لما شابها من الأساطير والتأويلات الخاطئة.
أما عبد الله الترجمان فقد نهج مسلكا متعدد الطرق متشعب المسارات في نقده الأناجيل التي يعتمدها النصارى في عقيدتهم، وقد اتبع طريقين هما:
1- طريق التجريح في كتبة الأناجيل ( التشكيك في مصداقية رواة الأناجيل والطعن في عدالتهم).
2- طريق نقد محتوى الأناجيل، وهو طريق شمل عدة مسارات، وهي:
- مسار التثبت من صحة نسبة الأقوال إلى قائليها.
- مسار التأكد من صحة الوقائع والأحداث ومطابقتها للواقع.
- مسار إثبات الاختلاف والتناقض بين الأناجيل.
- مسار نسبة الكذب إلى عيسى (ع).
ويفصل مصطفى بوجمعة ويستفيض في ذكر هذه الأدلة والطرق التي استند إليها عبد الله الترجمان في نقد الإنجيل وتأكيد تحريفه وتبديله. ثم ينتقل إلى مسلك البروفيسور عبد الأحد داود المتميز بتماشيه مع عصر المؤلف الذي استجدت فيه أحداث تاريخية ومعارف كان لها التأثير الواضح في بناء منهجه النقدي للنصرانية عموما، ولأناجيلها بشكل خاص. ذلك أنه ارتأى أن يبني اعتراضاته عليها انطلاقا من إبطال دعوى اعتبار الأناجيل الأربعة كتبا مقدسة، والبحث في ماهية الإنجيل الحقيقي ولغته الأصلية، والكلام في أوجه التحريف الذي لحق بالإنجيل، وذلك عبر تعقب المراحل التي أدت إلى ظهور نسخ متعددة من الأناجيل بألسنة مختلفة، تنسب إلى عدد من الكتبة، وما واكب ذلك من خلافات بين رجال الدين المسيحي وعلماء المذاهب النصرانية، فتوصل البروفيسور داود -من خلال بحوثه الدقيقة- إلى نتيجة مفادها أنه لا وجود لكتاب اسمه الإنجيل المنزل على عيسى (ع). ويورد مصطفى بوجمعة اعتراضات عبد الأحد داود مفصلة وافية حافلة بالشواهد والأدلة.
وبالنسبة إلى المبحث الثاني الذي وقف عنده الكاتب باستفاضة وتدقيق فهو منهج المهتدين الثلاثة في نقد عقيدة النصارى المرتبطة بألوهية عيسى (ع) ومزاعم التثليت وما لابسها من ادعاءات. وفي هذا الصدد بين موقف ابن ربن الطبري الذي يرى أن عقائد النصارى يناقض بعضها بعضا. فهم في شريعة دينهم يوحدون الله ويصفونه بالقدرة المطلقة على الخلق، ثم لا يلبثون أن يشركوا معه في صفة القدرة المسيح (ع)، مع أن الثابت في الأناجيل أن الله هو الخالق وما عداه من المخلوقين محدثين. وهذا تناقض جلي لم يأت به نبي مرسل، فجميع الأنبياء دعوا إلى عبادة الله وحده. وقد عمل ابن ربن الطبري على إشعار النصارى أن التوحيد كان دائما وأبدا هو أصل الرسالات السماوية جميعها من آدم (ع) إلى محمد (ص)، وكل من زاغ عن توحيد الواحد الأحد، لا بد وأن يلتبس عليه الأمر في دينه كما حدث لهم حينما حاولوا الجمع بين ألوهية الخالق وتأليه المخلوق ووصفهم المسيح (ع) بأوصاف الخالق المعبود.
وقد ركز عبد الله الترجمان في نقده النصارى على أصول عقيدتهم إذ جعل الأبواب الأربعة: من الثاني إلى الخامس من كتابه "تحفة الأريب" ردودا على عقائد النصرانية، بحيث تطرق إلى بطلانها أثناء كلامه عن افتراق النصارى وتعدد مذاهبهم، كما بين فسادها خلال نقضه لقواعد دينهم الخمس، أي التغطيس والتثليت والالتحام والقربان والإقرار بالذنوب للقسيس، وكذلك لما تعرض لعقيدة شريعتهم ولقانون الإيمان بالشرح والرد، أتبعها بنفي ألوهية عيسى (ع). وقد جمع مصطفى بوجمعة كل ادعاءات النصارى في حق الألوهية ومقابلتها بمعارضات عبد الله الترجمان وأجوبته وحججه، وأتبعها بالأدلة النقلية والعقلية التي أثبت بها بشرية عيسى (ع) ونبوته.
أما البروفيسور عبد الأحد داود فقد حدد في البداية الأساس الذي أقامت عليه الكنيسة أركانها وأصولها، وبنت عليه مقومات الإيمان المسيحي، ونبه إلى العوامل التي ساهمت في انحراف النصارى عن التوحيد، لينتهي في الأخير إلى إبطال عقيدة التثليت من أساسها مستعملا الحجج والبراهين من نصوص الكتب المقدسة، ومن أصول المنطق والفلسفة، دون أن يغفل ذكر العوامل المسببة في الانحراف عن التوحيد لدى النصارى. ويتتبع مصطفى بوجمعة أدلة عبد الأحد داود ويعرضها باستفاضة وموضوعية كشفت منهج المهتدي الفريد واطلاعه الواسع على الأناجيل في لغاتها المختلفة بحيث تمكن من الوقوف على الخلل في عقيدة أبناء ملته السابقة.
والمبحث الثالث الذي نال الحظ الأوفر من الفصل الثاني من الباب الثالث هو إثبات نبوة محمد (ص)، وهو مبحث هام أولاه المهتدون الثلاثة عناية فائقة في أعمالهم نظرا إلى أن الإنجيل كان بشارة برسالة محمد (ص) ودعوة إلى اتباعه في الأساس. استند ابن ربن الطبري على ما أسماه "شهادات الحق ومقاييس العبر" لبناء أدلته التي جمعها في عشرة معان تؤيد نبوة محمد (ص)، إذ إن كل معنى من هذه المعاني العشرة يشتمل على العديد من الحجج والبراهين في حق نبوة سيدنا محمد (ص) المبعوث رحمة للعالمين. ومن بين بعض تلك الحجج نقف عند محاولة الطبري إبراز ربانية القرآن الكريم الذي يعتبره آية لنبوة الرسول محمد (ص)، إذ أجرى مقارنة بينه وبين باقي الكتب المنزلة على مستوى ما اشتملت عليه من أخبار أو على مستوى ما ورد فيها من أحكام وسنن. ويفصل مصطفى بوجمعة في إيراد عناصر تلك المقارنة ونتائجها التي تثبت نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين. وقد أكد ابن ربن الطبري العلاقة الوطيدة التي تربط دعوات الأنبياء السابقين وبشاراتهم، وبين دعوة نبي آخر الزمان، حيث "إن التصديق بنبوة محمد (ص)، يعد شرطا لتصديق كل الأنبياء والرسل عليهم السلام. فلو لم يظهر النبي (ص) لبطلت نبوات الأنبياء في إسماعيل (ع) وفي النبي محمد (ص) خاتم الأنبياء بالضرورة، لأن الله عز وجل لا يخلف وعده، ولا يكذب خبره، ولا يخيب راجيه"(الدين والدولة، ص. 130) (المنهج النقدي، ص.262)
كما وقف ابن ربن الطبري طويلا عند بشارات الأنبياء بالنبي الخاتم، مؤكدا أن هذه البشارات لم تتحقق إلا بظهور الإسلام، ذلك أن تلك القوة والغلبة والعظمة المشار إليها في النبوءات التي حفلت بها الكتب السابقة، لم تتجسد إلا في أمة الإسلام. وأورد ابن ربن الطبري نبوءات اثني عشر نبيا بشروا بمحمد (ص) وبانتصاره ودعوا أتباعهم –متى ظهر- إلى الإيمان به، وهم: موسى وداود وأشعياء وهوشاع وحبقوق وصفنيا وزكرياء وإرميا وحزقيال ودانيال وعيسى عليهم السلام.
أما عبد الله الترجمان فقد استند، بدوره، إلى نصوص من التوراة والإنجيل والزبور تبشر بنبوة محمد (ص) وبعثته ورسالته وبقاء ملته إلى آخر الزمان، وقد أغناها بتعليقات دقيقة وضحت ما التبس من دلالات معاني تلك النصوص. وقد أورد مصطفى بوجمعة النصوص التي وظفها عبد الله الترجمان وانطلق منها لإثبات نبوة الرسول (ص) مع تعليقاته جميعا، ولمن أراد التوسع فيها يمكن العودة إلى الكتاب.
ثم انتقل الباحث بعد ذلك إلى تحديد مسلك البروفيسور عبد الأحد داود في كتاب "الإنجيل والصليب" الذي تحدث عن نبوة محمد (ص) بين مختلف سطوره وفصوله، لكنه أفرد الفصل الثالث "أيادوكيا/أحمد" لهذا الموضوع. وفي هذا المبحث وظف البروفيسور إمكانياته اللغوية، ودرايته الراسخة بلغات الكتب المقدسة، إلى جانب تبحره في علم اللاهوت في هذا الباب بوجه خاص، حيث انصرف إلى تمحيص الألفاظ في دقة ومهارة، بادئا بالبحث عن أصول الكلمات وجذورها في اللغات الأصلية للكتب المقدسة عند أهل الكتاب كالعبرية والآرامية، مشيرا أثناء ذلك إلى التحول الذي طرأ عليها -رسما ونطقا- لما ترجمت إلى اللسان اليوناني أو غيره، وقد أبان المؤلف عن عزمه أن تكون طريقته ناجعة للوصول إلى المعاني الحقيقية التي اشتملت عليها النصوص، لا كما شوهها النساخ والمترجمون والمتأولون. وإن اختيار المؤلف للنقد اللغوي لم يحل دون عرضه لأدلة أخرى في موضوع نبوة محمد (ص)، مما يوحي بغنى معرفته الدينية وثرائها. ونظرا إلى تعدد الأدلة التي أوردها مصطفى بوجمعة انطلاقا من مسلك عبد الأحد داود ودقتها وتشعبها، ونظرا إلى صعوبة ذكرها جميعا نكتفي، هنا، بالوقوف عند بعضها. فقد استرعت كلمة (الدين) التي وردت في الكتب المقدسة انتباه البروفيسور، وبعد التقصي والتمحيص لدلالتها في السياقات الواردة فيها، أيقن أن المقصود بها دين الإسلام الذي اختص بالألفاظ الجامعة دون الأديان السماوية السابقة. وهكذا يرى داود أن هناك حكمة إلهية في تكرار لفظ الدين في الكتب السابقة وفي القرآن، لأن الله عز وجل خصص الألفاظ الجامعة للمعاني العديدة للإسلام وحده. ومن المعلوم -كما يبين البروفيسور- أن الرسول محمد (ص) لم يقتبس كلمة الدين هذه من اليهودية أو النصرانية أو من غيرهما، لأنهم لم يستعملوا الكلمة المذكورة بهذا المعنى، والقرآن الشريف ليس كلام النبي الأكرم نفسه، ولا هو الكتاب الذي هو أوجده، بل لما كان الكتاب المذكور هو كلام الله عز وجل، كان الله هو الذي أنعم بكلمة (دين) خصيصا للإسلامية (أي الإسلام). (الإنجيل والصليب، ص.179) (المنهج النقدي، ص. 280)
ويبين عبد الأحد داود انطلاقا من رؤيا النبي دانيال أن ابن الإنسان المقصود في الرؤيا ليس هو عيسى المسيح الذي يشبهه النصارى ب"الحمل المذبوح"، وإنما ابن الإنسان هو محمد (ص)، وأن الرؤيا تبشر بدين الإسلام، لأن كل المعاني الواردة في الرؤيا تتوافق مع خصائص الشريعة الإسلامية التي وحدت تحت أحكامها العادلة كل شعوب العالم، دون تفريق بين عرق أو جنس، وهو تخريج نير وعجيب من تخريجات البروفيسور.
بعد هذا الجانب ينتقل مصطفى بوجمعة إلى المبحث الرابع في هذا الفصل، ويتعلق برد المهتدين على مزاعم النصارى ضد الإسلام والمسلمين، وطرائق كشفهم الشبهات وتفنيدها. وقد أكد في بداية هذا المبحث أن موجات الاهتداء إلى الإسلام تولد لدى أحبار اليهود وقساوسة النصارى رغبة في الدفاع عن عقائدهم، فبدأوا الجدل، أو الحرب عن طريق التجريح والافتراء وإثارة الشبهات حول نبوة محمد (ص) والقرآن الكريم والإسلام والمسلمين. والمشكلة الكبرى هي أن النصرانية تبشر بالمسيحية وتعاليمها عن طريق الإساءة للإسلام والمسلمين والتلفيق ضدهما. وقد تتبع المهتدون الثلاثة: ابن ربن الطبري وعبد الله الترجمان وعبد الأحد داود تلك التلفيقات وعملوا على نقدها وإبطالها مبرئين الإسلام منها. وهكذا نجد ابن ربن الطبري يقف عند أربعة تلفيقات يرد عليها بالبراهين والحجج الدامغة ليبين بطلانها، وهي:
- أن المهاجرين والأنصار دخلوا في دين الإسلام دون آية (معجزة).
- أن في الشريعة الإسلامية وسننها عيوبا ونقائص.
- أن النبي (ص) خالف موسى وعيسى (ع) عن طريق تغيير سنن التوراة والإنجيل.
- أن النبي (ص) نسب الشر إلى الله تعالى.
أما عبد الله الترجمان فقد وقف عند خمسة عيوب مزعومة عابها النصارى على المسلمين وعمل على الرد عليها وتبيان صوابها وجذورها في الكتب المقدسة، وعمل النصارى بها، وهي:
- أن الصالحين من المسلمين يتزوجون بخلاف أهل الرهبانية من النصارى.
- أن المسلمين يختنون.
- أن المسلمين يقولون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون.
- أن المسلمين يقولون إن في الجنة قصورا ويواقيت وغير ذلك.
- أن المسلمين يتسمون بأسماء الأنبياء عليهم السلام.
ويورد الترجمان نصوصا هامة تثبت أن ما عابه النصارى على المسلمين وارد في كتبهم المقدسة، وأن مزاعمهم تلك مجرد ادعاءات يراد بها الباطل وتغييب الحقيقة وطمسها.
وقد أكد البروفيسور عبد الأحد داود أن تلك المزاعم والتلفيقات ناجمة عن التعصب الذي يمنع صاحبه من التعقل والتفكر في ما ورثه من المعتقدات من أسلافه، إذ يجعله يسلم بكل صغيرة وكبيرة في دينه دون بذل أي جهد في البحث والتأمل والتقصي والتمحيص، فيعيقه ذلك عن بلوغ الحق واليقين. ويبين كيف أن الكنيسة تقف حصنا منيعا أمام أتباعها من أجل مراعاة الذات وإعمال العقل والبحث عن البراهين من أجل ترسيخ الإيمان كما هو عليه منهج الإسلام. وقد وقف البروفيسور داود عند أربعة ادعاءات نذكرها فيما يلي:
- أن رسالة عيسى (ع) عالمية موجهة إلى جميع الأمم.
- أن تعاليم المسيحية هي استمرار لرسالة عيسى (ع) الأصلية.
- أكذوبة الشفاعة وغفران الذنوب والخطايا عن طريق وساطة القساوسة والرهبان.
- أن النصرانية هي ملكوت الله وليس الإسلام.
وعمل عبد الأحد داود على تفنيد كل ادعاء على حدة موظفا أدلة عقلية ونقلية، وبراهين وحجج متنوعة للرد على تلك التفيقات وإبراز أوجه الحق والصواب، وقد اجتهد الباحث مصطفى بوجمعة على إيردها في سلاسة ووضوح وإشراق لغوي فذ.
أما الباب الأخير، وهو الذي حمل عنوان "وظيفية المنهج النقدي في توجيه الحوار الديني -تصورات وتطلعات"، فهو من أهم أبواب الكتاب، أيضا، وهو العصارة والشهد الذي يخرج به الباحث من سياحته الطويلة في كتب المهتدين إلى الإسلام، وهو الباب الذي يقف فيه عند وظيفية المنهج في توجيه الحوار الديني من خلال آليات تربوية وتعليمية هامة، وهي آليات يدعمها الكاتب باقتراحات عملية تبين أن دراسة فكر المهتدين إلى الإسلام والاستناد إليه في فهم الآخر ينبغي أن يصبح تخصصا جديدا في معاهدنا الإسلامية وفي جامعاتنا وسائر مؤسساتنا الدينية حتى نتمكن من تحقيق حوار بناء مع المختلف عنا عقديا. والاقتراح الثاني يتمثل في دعوة الكاتب إلى ضرورة إشراك هؤلاء المهتدين في الحوار الديني، وجعلهم أساس حوار المسلمين مع أهل الكتاب. ويدعو الكاتب في اقتراحه الأخير إلى ضرورة العناية بترجمة أعمال هؤلاء المهتدين والتعريف بهم على نطاق واسع والاستفادة من تجربتهم.
وقد قسم الباحث هذا الباب، بدوره، إلى فصلين تماما كما كان الأمر عليه في الأبواب الثلاثة السابقة، بحيث ركز في الفصل الأول على تحديد مفهوم الحوار الديني وتاريخه مستهلا حديثه بتحديد معنى المصطلح في اللغة وفي التداول الفكري والتواصلي، كما وقف عند معناه القرآني وفي سنة النبي (ص) ولدى علماء المسلمين، كما حدد مفهوم الحوار الديني في الفكر والتاريخ المعاصرين، ولدى الغرب خاصة. وفي هذا السياق بين غاية "الحوار الديني" في الفهم الكنسي وحدد أهدافه ومراميه، وهي أهداف ومرامي لا يراد منها الوصول إلى الحقيقة والتسليم بها، بقدر ما يراد بها لي عنق الحقيقة وترسيخ منطق المراوغة والدجل الفكري. وقد فصل مصطفى بوجمعة في هذا الجانب مستندا إلى تقارير كنسية ومخططات بابوية. وختم الباحث عرضه المستفيض عن تلك التقارير والمخططات بأسئلة نقدية هامة، نذكرها فيما يلي:
- لماذا يكون الطرفان "المسيحي صاحب المبادرة دائما" والطرف "الإسلامي الذي دائما هو المحور الذي تدور حوله هذه المؤتمرات" هما العضوين الحاضرين في الحوار بين الأديان مع العلم أن الإسلام يعترف بكل الرسالات السماوية، والمسيحيون يعلمون ذلك؟
- لماذا يستدعى العلماء المسلمون للحوار في الوقت الذي لا يعترف الطرف الآخر بالإسلام دينا سماويا، وبمحمد (ص) نبيا، وبالقرآن وحيا؟
- لماذا لا يتحاور الطرف المسيحي مع أصحاب الديانة البوذية والهندوسية وغيرهما لانتزاع الاعتراف بالمسيحية ورسالة المسيح؟
- لماذا لا يتحاور المسيحيون مع اليهود لإثبات مصداقية عقائدهم ولمطالبتهم برد الاعتبار للمسيح (ع).
- وبجرأة أكبر، يقول مصطفى بوجمعة، ما أساس العداء القائم الآن بين المسلمين وأهل الكتاب؟
ويورد مصطفى بوجمعة آراء عدد من علماء الأزهر وبعض شيوخه وعدد من الباحثين منها:
1- ما يؤيد الحوار الديني الحالي، كما تفرضه أجهزة الكنيسة، على علاته لأن الحوار "مرحب به وما أجمل الحوار عندما يكون بين العقلاء فيأتي بالخير الكثير وينتج السعادة والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.."، كما صرح شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي.
2- ما يعارضه ويرفضه لأن الحوارات التي تجري بين أتباع الأديان المختلفة إنما هي تظاهرات إعلامية من أجل المجاملة فقط. ويرى أحد شيوخ الأزهر، وهو محمود عاشور "أنه لا جدوى من حوار الأديان لأنه أشبه بحوار الطرشان"، ويضيف الشيخ عاشور:" كيف ندعو أو ندعى لحوار فقد مصداقيته أصلا في ظل الهجوم الشرس على الإسلام".
وبعد وقوف مصطفى بوجمعة على هذه الآراء يطرح وجهة نظره التي ترى أنه على الرغم من نزعة الفوقية التي تهيمن على أجواء الحوار، إلا أن الحوار قام –على الرغم من ذلك- من قبل، ويقوم الآن، وسيقوم مستقبلا، مما يؤكد أن الحوار أسلوب مهم جدا من أساليب المواجهة، لا سيما مع توافر اليقين بأن البديل الإسلامي هو الذي مع الحق، وأن معظم الناس ينشدون الحق.
ويؤكد الباحث أن التتبع الدقيق لأسباب دخول أهل الكتاب إلى الإسلام سيساهم بحظ وافر في بناء حوار متكامل، تتناغم فيه الموضوعات والمناهج والوسائل التي تتكيف مع العصر ومع حاجات أطراف الحوار، وما عدا ذلك فإن الحوار الديني دون قيامه على رؤية إسلامية باعتبارها صاحبة المبادرة، يظل حوارا غير متكافئ، ويزيد من هذا اللاتكافؤ الحواري طريقة تحديد موضوعات الحوار واختيارها، فنرى مثلا كيف كانت تنطلق حملات اتهام الإسلام بعدم احترام حقوق الإنسان عموما، وحقوق المرأة خصوصا، ثم كيف كانت تنظم المؤتمرات والندوات لبحث تلك الموضوعات من وجهة نظر الإسلام والمسيحية، فتعقد هذه اللقاءات الحوارية انطلاقا من اتهام مسبق للإسلام الأمر الذي يضع المحاور المسيحي في موضع الهجوم أو الناقد، والمحاور المسلم في موضع الدفاع عن النفس.. لكن منهج المهتدين إلى الإسلام يعلمنا، أول ما يعلمنا، كيف ينبغي أن نكون في موقع الناقد القوي المتحكم من أدوات حواره ومنهجه.
ولهذه الغاية الاستراتيجية في الحوار خصص مصطفى بوجمعة فصله الثاني من الباب الرابع، وهو الفصل الذي حمل عنوان "وظيفية المنهج النقدي في توجيه الحوار الديني: تصورات وتطلعات". وفي هذا الفصل يرى أنه من باب الإنصاف والموضوعية أن يحظى فكر العلماء والمفكرين المهتدين إلى الإسلام بالاهتمام اللائق، واختبار قيمته العلمية وأحقيته في توجيه الحوار الديني، وذلك من خلال استثمار محتواه العلمي والمعرفي، من جهة، وعن طريق توظيف منهجه النقدي. وفي هذا الصدد -يؤكد الباحث- يلزم البحث عن وظيفية للمنهج النقدي الذي سلكه المهتدون في كتاباتهم، وهذا يتطلب تضافر جهود الباحثين والمهتمين بالفكر الديني عموما وبالحوار الديني خصوصا، حتى تتكامل رؤاهم عند وضع الأسس التي يتم بها حسن استثمار هذا الإنتاج العلمي وتطويره، ليصبح بذلك مكونا معرفيا قابلا للاندماج ضمن مكونات الفكر الإسلامي المعاصر.
ويأخذ مصطفى بوجمعة مبادرة وضع سيناريوهات وخطاطات محتملة لاستثمار جهد المهتدين إلى الإسلام، أسماها اقتراحات ومشاريع نتجت عن انعكاس لمجموعة من التصورات التي ارتأى أنها تؤدي الدور الوظيفي لإنتاج هؤلاء العلماء المهتدون. وقد قدم مصطفى بوجمعة تلك المشاريع في شكل مقترحات تربوية وتعليمية وثقافية وأكاديمية وإعلامية وفنية. ففي إطار مقترحاته التربوية والتعليمية دعا المؤسسات التعليمية والثانوية إلى أن تبادر في إطار عملية تنوير الطلبة بقضايا الأديان إلى القيام بما يلي:
الاقتراح الأول:
1- التعريف ببعض أعلام أهل الكتاب المهتدين إلى الإسلام ومؤلفاتهم، والتركيز على إظهار التحديات والتضحيات التي بذلوها في سبيل الإسلام، ليس باعتناقه فحسب، وإنما بالدفاع عنه والرد على المزاعم والشبهات.
2- دراسة تحليلية لنصوص من كتبهم بما تثيره من قضايا تتعلق بالألوهية والنبوة...
3- دراسة مقارنة انطلاقا من نصوص منتقاة من كتب المهتدين بين مكانة الأنبياء في الكتاب المقدس، وبين مكانتهم في القرآن الكريم.
الاقتراح الثاني:
- إعداد شبكات لأهم القضايا التي تناولها المهتدون، وهذه الشبكات يمكن استثمارها وإغناؤها بمؤلفات أخرى، ويمكن إعادة تصنيف موضوعاتها إما بحسب المؤلف وإما بحسب أنواع الاستدلال وإما بغيرهما، ويستحسن تطويرها بكيفية تتناسب مع وسائل التواصل الحديثة والمتطورة: الإنترنت وغيرها. وفي هذا الصدد وضع الباحث شبكات مفصلة انطلاقا من موضوعات الكتب الستة التي تناولها مع إريد الأدلة والصفحات الواردة فيها، وهي شبكات على قدر هام من الدقة والفاعلية.
أما اقتراحات الباحث الثقافية والأكاديمية، فقد أجملها في ثلاثة اقتراحات واسعة:
1- الدعوة إلى تأسيس تخصص أكاديمي جديد يندرج ضمن علم تاريخ الأديان يصطلح عليه: فكر المهتدين إلى الإسلام. ويقترح إعداد برنامج دراسي لفكر المهتدين، يتم إقراره لشعب الدراسات الإسلامية بالجامعات والمعاهد العليا، تمكن الطلبة والباحثين من الاطلاع الدقيق على مؤلفاتهم ورسائلهم ونصوصهم، واستكشاف المناهج والمسالك التي انتهجوها في تقصي الحقائق وعرض الأدلة والشواهد. ويقترح مصطفى بوجمعة تتبع فكر المهتدين إلى الإسلام من العصر النبوي حتى الآن.
2- إعطاء دور فعال للمهتدين إلى الإسلام في الحوار الديني حاليا، وخصوصا في أشكاله المعهودة: المناظرات، والمؤتمرات، والندوات، والمحاضرات..
3- التعريف بالعلماء المهتدين وترجمة أعمالهم، عن طريق إعداد معجم للأعلام من المهتدين إلى الإسلام، وجرد مؤلفاتهم ورسائلهم ومخطوطاتهم والعمل على تحقيقها ودراستها، ونشر فكرهم بين صفوف المسلمين الجدد في الغرب وفي غيرها من بقاع الأرض التي تشهد اعتناق الإسلام، وتخصيص دوريات، ومواقع إلكترونية تعرف بهذه الفئة من المسلمين ومساهمتهم العلمية ومناهجهم في الحوار الديني.
وبالنسبة إلى الاقتراحات الإعلامية والفنية التي يقترحها مصطفى بوجمعة، فتتمثل في اقتراح تحويل مقتطف أو موقف من كتاب مهتد من المهتدين إلى شريط مرسوم، واقتراح تحويل مقتطف أو موقف إلى قصة أدبية مكتوبة أو مشاهد مسرحية، وفي هذا الصدد قدم مصطفى بوجمعة نموذجا على قدر من المتعة والفائدة يتمثل في قصة أنسلم تورميدا الباحث عن الحقيقة. واقتراح إنتاج أعمال سينمائية وتلفزيونية للتعريف بفكر المهتدين وتجاربهم الشخصية ومعاناتهم من أجل الدفاع عن الحقيقة، واقتراح تخصيص محطات إذاعية وتلفزية وقنوات فضائية تكون المادة الإعلامية فيها مشتقة من إنتاج هؤلاء المهتدين.
بعد هذه الرحلة الطويلة مع محتويات هذا السفر الفكري والاجتهاد العلمي الرصين لا يسعنا سوى أن نقول: إننا أمام باحث من طراز فريد استطاع أن يقدم منهج المهتدين إلى الإسلام ووظيفيته في دقة وإحاطة وشمولية. وأن جهده واقتراحاته تقتضي منا الاهتمام بها والوقوف عندها لأنها تنير لنا الطريق للتعامل والتفاعل مع الآخر في عصر شائك يتطلب منا إعادة النظر في وسائل فهمنا لفكرنا الإسلامي، وفهمنا للآخر الذي نعيش معه ونشاركه الحياة. وبهذا وجب الإعلام والسلام.
مصطفى بوجمعة، المنهج النقدي ووظيفيته في توجيه الحوار الديني، 2012، دار الانتشار العربي، بيروت. (400 ص).