أبحاث "مجلّة العلوم والفلسفة العربيّةّ" العدد الأوّل من المجلد الرابع والعشرين (مارس 2014)
فئة : قراءات في كتب
أبحاث "مجلّة العلوم والفلسفة العربيّةّ"
العدد الأوّل من المجلد الرابع والعشرين (مارس 2014)
صدر العدد الأوّل (مارس 2014) من المجلد الرابع والعشرين من مجلة العلوم والفلسفة العربيّةّ Arabic Sciences and Philosophyعن جامعة كامبريدج بمساهمة المركز الوطنيّ للبحث العلمي بفرنسا. وهي، كما لا يخفى، مجلة علميّة عالميّة رائدة تعنى بتاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميّة، تصدرها الجمعيّة الدوليّة للبحث في تاريخ العلوم العربيّة والفلسفة الإسلاميّة (SIHSPAI) مرّتين في السنة (العدد الأوّل في مارس والثاني في شتنبر). وقد اشتمل العدد الحالي على ستّة أبحاث جديدة في فروع علميّة متنوّعة من علم الرياضيات وعلم الطبّ وعلم المنطق وعلم الحياة وعلم الفلاحة وغيرها من حقول المعرفة العلميّة في المجال الإسلاميّ في العصر الوسيط، وهي كما يلي: (1) رشدي راشد وأثاناس بابادوبولوس، "في كتاب مانالاوس في الكريات ((III. 5 في الرياضيات العربيّة، الجزء الأوّل: ابن عراق"؛ و(2) غلين م. كوبر، "الطبّ العقليّ والتجريبيّ ببغداد في القرن التاسع: مسائل قسطا بن لوقا في أيام البحران في الأمراض الحادّة"؛ و(3) ميكيل فورسادا، "ابن باجة في التصوّر والتصديق: العلم ومبحث النفس"؛ و(4) أكيهيرو تاوارا، "رفض ابن اسينا أن يكون للنبات حياة"؛ و(5) أنّا م. كابو-كونزاليس، "دراسة تطوّر تقنيات حفظ الفواكه في الجزيرة الإبيريّة من خلال الأعمال الفلاحيّةالأندلسيّة، وسوابقها الرومانيّة وآثارها اللاحقة في النهضة"؛ وأخيرا، (6) فيليب بروفنسال، "التقرير البحريّ البيولوجيّ في نخبة الدهر في عجائب البرّ والبحر".
في مستهلّ أعمال هذا العدد الغنيّ والمتنوّع، نقرأ بحثا جديدا في تاريخ الرياضيات من إنجاز رشدي راشد (من جامعة السوربون والمركز الوطني للبحث العلميّ بفرنسا)، وأثاناس بابادوبولوسAthanase Papadopoulos (من مركز البحث الرياضيّ المتقدّم بجامعة ستراسبورغ والمركز الوطني للبحث العلميّ بفرنسا)، بعنوان "في كتاب مانالاوس في الكريات ((III. 5 في الرياضيات العربيّة، القسم الأوّل: ابن عراق"[1]. وهذا البحث هو بالأساس عبارة عن تحقيق نصّين من تأليف الرياضي أبي نصر منصور بن عراق، الذي عاش في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي: النصّ الأوّل بعنوان مقالة أبي نصر منصور بن علي بن عراق مولى أمير المؤمنين في إصلاح شكل من كتاب مانالاوس في الكريات عدل فيه مصلحو هذا الكتاب عن مشكله؛ والثاني بعنوان الشكل الخامس "من كتاب مانالاوس في الأشكال الكريّة، إصلاح الأمير أبي نصر منصور بن عراق". وبالإضافة إلى عمل التحقيق، قدّم الباحثان ترجمة للنصّين إلى الإنجليزيّة، علاوة على تعليقات وإيضاحات مفيدة تضيء مختلف جوانب النصّ ومضامينه وسياقاته. يدرس هذا النصّ الرياضيّ العربيّ الفريد أدلّة القضيّة الخامسة من الكتاب الثالث من كتاب الكريات لمانالاوس، وبالأخصّ في إصلاح شكل من كتاب مانالاوس في الكريات، وهو الشكل الخامس تحديدا، ومفاده "إذا كان شكلان ذوَي أضلاع وكانت زاويتان من زواياهما التي على قاعدتين متساويتين حادّتين، وكانت زاويتان من الزوايا الباقية منهما قائمتين وكان كلّ واحدة من ضلعهما اللذين يوتّران زاويتيهما الباقيتين أقلّ من ربع دائرة، فإنّ نسبة نظير القوسين المحيطين بالزاوية الحادّة من أحد الشكلين مجموعتين إلى نظير فضل ما بينهما كنسبة نظير القوسين المحيطين بالزاوية الحادّة من الشكل الآخر مجموعتين إلى نظير فضل ما بينهما؛ ونعني بنظير القوس وتر ضعفها" (ص ص. 50-51). وهذه القضية مهمّة، في نظر الباحثَين، لأسباب عدّة: أوّلها، أنّها تتضمّن، من وجهة نظر رياضيّة خالصة، خاصيّة نادرة في الهندسة اللاأقليديّة؛ وثانيها، أنّ دليلها رفيع المستوى ويقتضي أبنية فرعيّة كثيرة: "لقد استعملت القضيّة أيضا في علم الفلك كما تمّت الإشارة إلى ذلك في النصّ الأوّل لابن عراق كما في نصّ نصير الدين الطوسي" (ص. 3)؛ ويبقى أهمّ سبب يضفي أهمّية قصوى على هذه القضيّة هي كونها "أدّت إلى تطوّرات مهمّة جدّا في حقل الهندسة الكرويّة. وفي الواقع، لم يقدّم مانالاوس دليل هذه القضية، بل قدّم فقط خطوطا عريضة للدليل، فصار كتابة دليل كامل تحدّيا كبيرا رفعه كثير من كبار الرياضيّين، في بغداد وغيرها، بين القرنين التاسع والثالث عشر. ونتيجة لذلك، كانت هذه القضية دافعا وعاملا كبيرا في إعادة تشكيل حقل الهندسة الكريّة بكامله، وقادت إلى نتائج أساسيّة جديدة ومتنوّعة في هذا الحقل" (ص. 3). نقرأ في صدر المقالة ما يلي: "قال أبو نصر: إنّي كنت أظنّ أنّ الماهاني اخترم قبل إتمام ما ابتدأه من إصلاح كتاب مانالاوس في الكريات، وأنّ سببا عرض له لم يتمكّن معه من إكمال الغرض، إلى أن نظرت فيما عمله أبو الفضل الهروي من إصلاح هذا الكتاب؛ فوجدته يقول في صدره: إنّ جماعة من المهندسين راموا تصحيح هذا الكتاب، فلمّا لم يقدروا عليه استعانوا بالماهاني، فأصلح المقالة الأولى وبعض الثانية، ووقف عند شكل؛ ذكروا أنّه صعب المرام عسير البيان. ثمّ بيّن أبو الفضل الهروي ذلك الشكل، إلاّ أنّه سلك فيه غير مسلك مانالاوس. وأنا، وإن كنت أنوي إصلاح هذا الكتاب، فإنّي عندما وقفت على ما ذكره أبو الفضل، رأيت أن أبيّن هذا الشكل أوّلا على ما يليق بمسلك مانالاوس في كتابه" (ص. 50؛ انظر النصّ الكامل في صفحات 50-68). ومن المفيد الإشارة، في الأخير، إلى أنّ الباحثين يخبراننا بأنّ هذا النصّ المقدّم هنا هو الأوّل في سلسلة تضمّ أربعة نصوص كتبت بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر؛ نشرا هنا نصي ابن عراق في القرن العاشر، وفي العدد المقبل سينشران تحقيقا للنصّين الآخرين في الموضوع نفسه من تأليف نصير الدين الطوسي وابن أبي جرّادة على التوالي في القرن الثالث عشر مع ترجمة وتعاليق تاريخيّة ورياضيّة.
وفي البحث الثاني يدرس غلين م. كوبر Glen M. Cooper، (من قسم التاريخ، جامعة بريغهام ياونغ الأميريكيّة)، "الطبّ العقليّ والتجريبيّ ببغداد في القرن التاسع: مسائل قسطا بن لوقا في أيام البحران في الأمراض الحادّة"[2]. يقدّم فيه عرضا لعمل طبّي على طريقة جالينوس، في أيام البحران، من تأليف المترجم والمفكّر قسطا ابن لوقا الذي عاش في القرن التاسع، احتفظ به في مخطوط إيراني من أربع ورقات بعنوان مسائل في أيام البحران في الأمراض الحادّة. في البداية، يبيّن الدارس أنّ هذا العمل ألّف اعتمادا على رسالة جالينوس في أيام البحران، وإن كان لا يحيل على جالينوس أبدا. ولعلّ أهمّ ما يثبت ذلك أمران: الأوّل أنّ المفاهيم الطبّيّة واحدة، رغم اختلاف معجم المسائل عن ترجمة حنين لكتاب جالينوس؛ والثاني أنّ أيام البحران المعدودة في المسائل هي نفسها عند جالينوس. ويقدّم مقارنات مهمّة بين النصّين؛ وبعد ذلك يناقشه مقطعا مقطعا ويعلّق عليه مبرزا ما قدّمه قسطا من نظريات طبّية. ويقدّم أخيرا مقارنات أخرى مفيدة مع عمل سابق أنجزه معاصره الكندي في وصف أيّام البحران بعنوان رسالة في علّة البحارين للأمراض الحادّة، اعتمد فيها الكندي مقاربة رياضيّة جديدة ومختلفة تماما عن مقاربة قسطا. والباحث في كلّ ذلك يناقش مختلف النظريات التي تؤطّر من الخلف هذه الرسالة من قبيل المقاربات المختلفة للمنهج العلميّ، ويخلص إلى وضع تقابل بين المنهج العلميّ الرياضيّ والقبليّ الذي نجده لدى الكندي مع المنهج التجريبيّ والبعديّ الذي يعتمده جالينوس وقسطا. ويستحضر أيضا أبا معشر الذي جعل علم التنجيم أوّل العلوم، منه تستقي المعرفة الطبّية أولياتها، مبرزا أنّ موقف أبي معشر أقرب إلى جالينوس منه إلى الكندي؛ فهو يرى أنّ العقل والتجربة يجب أن يتكاملا ويعملا معا من أجل إنتاج المعرفة الطبيعيّة. وأكثر من ذلك، يقدّم الدارس اقتراحات في شأن تاريخ وكرونولوجيا هذه النظريات والنصوص العربيّة. وعلاوة على الترجمة الإنجليزيّة والتعليق عليها، فقد ذيّل دراسته بملحق ضمّنه تحقيق النصّ العربيّ بعنوان مسائل جمعها قسطا بن لوقا في أيام البحران في الأمراض الحادّة. يتكوّن النصّ من 15 مسألة وهي: (1) على كم جهة يجري الخروج من الأمراض؟ (2) كم أصناف الأمراض التي تنقضي ببحران؟ (3) ما الأمراض الحادة وما الأمراض المنتقلة عن الحادّة؟ (4) أيّ الأمراض يكون انقضاؤها بتحليل يعرض رويدا رويدا بغير بحران؟ (5) على كم جهة يكون الخروج من الأمراض ببحران وانحلال بغير بحران؟ (6) كيف يجري الأمر في الخروج من الأمراض ببحران وبغير بحران على النظام؟ (7) كيف يجري الأمر في الخروج من الأمراض على غير نظام؟ (8) هل تجري أيام البحران كلّها في الإحماد والذمّ مجرى واحدا ومتفاضلا في ذلك؟ (9) كيف تجري الأمر في الأيام المحمودة على مراتبها في الإحماد؟ (10) كيف يجري الأمر في الأيام المذمومة على مراتبها في الذمّ؟ (11) كيف يجري الأمر في أيام البحارين المحمودة على ترتيب العدد لا على ترتيبها في الإحماد؟ (12) كيف يجري الأمر في أيام البحران المذمومة على ترتيب العدد لا على مراتبها في الذمّ؟ (13) كيف يكون انقضاء الأمراض الحادّة وكيف يكون انقضاء الأمراض المنتقلة عن الحادّة؟ (14) أيّ الأيام بعد العشرين من الأيام التي ينقضي فيها محمودة وأيّها مذمومة وكيف يجري الأمر في ترتيبها؟ (15) لماذا صار الأسبوع الثالث ينتهي في عشرين يوما لا في واحد وعشرين؟ (انظر النصّ الكامل في صفحات 98-102). وفي الأخير، وقف على ثلاث نتائج تبرز أهمّية هذا النصّ: أوّلها، وجود ترجمتين لنصّ جالينوس؛ الأولى وضعها قسطا بن لوقا والثانية معاصره حنين بن إسحاق. وهذان المترجمان كانا يشتغلان بشكل مستقلّ أحدهما عن الآخر؛ وهو أمر يبرز أنّ حركة الترجمة لم تكن مشروعا كبيرا للتعاون كما يشاع ببعض المبالغة. ثانيا، تجاور طريقتي جالينوس والكندي، أي الطريقة التجريبيّة والرياضيّة العقليّة في القرن التاسع. وأخيرا، أدخل قسطا مفاهيم طبّية لم توظّف بما يكفي من قبل الدارسين العرب للطب اليونانيّ.
أمّا البحث الثالث بعنوان "ابن باجة في التصوّر والتصديق: العلم ومبحث النفس"[3]، فيدرس فيه ميكيل فورسادا Miquel Forcada (من جامعة برشلونة)، مفهومين أساسيّين في المنطق والإبتسمولوجيا في الفلسفة الإسلاميّة، وهما مفهوما التصوّر والتصديق. ويكشف عن كيفيّة تناول الفيلسوف السرقسطيّ ابن باجة هذين المفهومين في أعماله المنطقيّة بالخصوص، وخاصّة منها تعاليقه على الفارابي وتلخيص أورغانون أرسطو ومدخل فورفوريوس. وللإشارة فقد ربط وُلفسن Wolfson المفردتين بالفلسفة الرواقيّة مفترضا أنّ أصل لفظ التصوّر هو فانطاسيا لوغيكي αντασια λογικη وأصل لفظ التصديق هو أكسيوما αξιομα. وقد أتت بعده دراسات كثيرة أكّدت أهمّيتها في تقديم الأساس المعرفيّ لفهم الحدّ والقياس، وخاصّة لفهم تأويل الفارابي لنظرية العلم الأرسطيّة. وقد استعمل ابن باجة هذين المفهومين في أعمال كثيرة منطلقا في ذلك دائما من الفارابي. لذلك، نفهم لماذا يشرع الباحث بتقديم ملخّص عن كيفيّة حضور مفهومي التصوّر والتصديق عند المعلّم الثاني. ويبدأ تحديدا بتعريف الفارابي للتصوّر، كما يقدّمه لامير Lameer، لمكان حضوره أيضا عند ابن باجة: التصوّر يعني "تصوّر الشيء بما يلخّص ذاته بنحو ما يخصّه، وذلك أن يتصوّر الشيء بما يدل عليه حدّه"؛ والتصديق، كما يعرّفه الفارابي في كتاب البرهان، هو اعتقاد عبر نوع من الاستدلال، بأنّ شيئا هو بالفعل كما تصوّرناه (انظر الفارابي، كتاب البرهان، تح. ماجد فخري، بيروت: دار المشرق، 1987، ص. 20). وابن باجة يقدّم تركيبا لأقوال الفارابي عن التصوّر والتصديق في تعاليقه على كتاب البرهان. ثمّ يقدّم تصوّر ابن باجة في مقاربتين؛ إذ ينقل نصّا طويلا من إيساغوجي ملاحظا أنّ ابن باجة لا يقصد اختصار قول الفارابي، بقدر ما يهدف إلى إتمامه بإحالات متقاطعة على أعمال منطقيّة أخرى للفارابي. وأنّه أولى، في تعاليقه على كتاب البرهان للفارابي، عناية كبيرة للتصوّر والتصديق، وقدّم عروضا مهمّة ومتناسقة عنهما، لمكان أهمّيتهما أوّلا في فهم المنهج العلميّ الأرسطيّ، وأيضا "لأنّ كتاب البرهان هو ربّما آخر رسالة منطقيّة للفارابي يناقشها المعلّم السرقسطي" (ص. 110). وفي خضمّ ذلك، يقف عند مقطعين عن التصوّر؛ يقول ابن باجة في الأوّل إنّ التصوّر الذي يساوي الشيء هو أكمل من التصوّرات التي هي أعمّ أو أخصّ، ويشرح الفرق بين التصوّر المجمل والتصوّر المفصّل. والمقطع الثاني عبارة عن تعليق طويل على جملة من كتاب البرهان للفارابي يتناول فيها التصديق إلى جانب التصوّر؛ ويقدّم فيها أنواع التصوّر المختلفة (العامّ وغير التامّ، المفصّل وغير تامّ، مفصّل وتامّ، ومفصّل وأتمّ). وفي موضوع التصديق والجدل، يرصد تعليقين لابن باجة يمكن أن تقرأ على نحو تكامليّ. وإن كان يذكر أنواعا كثيرة من التصديقات، فإنّه يركّز على التصديق التامّ "متأثّرا بثلاث رسائل للفارابي على الأقلّ"، وهي كتاب التحليل، كتاب القياس وكتابا الجدل (وللإشارة، فإنّ الباحث يقدّم أيضا ترجمة كلّ هذه المقاطع، وبعضها طويل، إلى الإنجليزية). ثمّ يتناول التصوّر والتصديق في إطار علم النفس مبرزا أنّ ابن باجة، على غرار الفارابي، يدرك جيّدا أهمّية هذين المفهومين بوصفهما الخيط الناظم لفهم نظرية العلم الأرسطيّة. ولذلك، نجده يسجّل تعليقات عديدة عليهما وذات طابع سيكولوجيّ في الغالب. وقد استحضرهما بعد ذلك في أعمال أخرى عديدة، وخاصّة أثناء مناقشته قضايا المنهج في علاقته بالمقدّمات بالخصوص. ويختم الدارس بالتذكير بالمكانة التي يحتلّها هذان المفهومان في كتابات ابن باجة المنطقيّة والسيكولوجيّة والنيوطيقيّة. بالفعل، لقد أدرك ابن باجة أنّ غاية العلم هو تحصيل التصوّر التامّ والتصديق التامّ نظرا وتطبيقا؛ أدرك مركزيّتهما في المنهج العلميّ الأرسطيّ من خلال منطق الفارابي فكتب تعليقات عليها في مرحلة الشباب ووظّفها بقوّة في كتاباته في مرحلة النضج سواء في شروحاته على كتاب السماع الطبيعيّ، والفلك، والطبّ، وقد تغيّا في كلّ هذه العلوم تحصيل التصوّر والتصديق الأكمل. فوضع بذلك لبنات أولى لمقاربة أرسطيّة في العلم ومهّد الطريق لظهور رسائل غير عاديّة وعلى قدر كبير من الأهميّة مثل كتاب الكلّيات في الطبّ لابن رشد وكتاب في الهيئة للبطروجي وغيرهما. ويخلص الباحث إلى أنّ هذين المفهومين الفارابيّين يحضران بقوّة في الموضوع الذي اهتمّ به أكثر؛ أي في أعماله في النيوطيقا وعلم النفس أثناء دراسته عمليات التفكير البشريّ. ويختم دراسته الدقيقة بتأكيد "أنّ قراءتنا للأعمال التي كتبها ابن باجة في مرحلة النضج ستكون ضعيفة دون وعي سابق بكتاباته في مرحلة الشباب عن التصديق والتصوّر" (ص. 126).
وفي البحث الرابع أعاد أكيهيرو تاوارا Akihiro Tawara (من جامعة كيو باليابان) إثارة مسألة في غاية الأهميّة وهي "رفض ابن سينا أن يكون للنبات حياة".[4] فبعد أن كان ابن سينا يتبنّى رأي أرسطو الذي مفاده أنّ النباتات حيّة ما دامت تملك نفسا، انتهى إلى نتيجة غير متوقّعة في رسالة النبات من الشفاء، وهي أنّ النبات لا حياة له. يبيّن الباحث أنّ ثمّة تطوّرا في فكر ابن سينا في هذه المسألة. وإن انطلق من الرأي الأرسطيّ الآنف، كما نرى في تعليقاته على كتاب النفس التي كتبها في وقت مبكّر، إلاّ أنّ ابن سينا أعاد النظر فيه لاحقا أثناء دراسته لملكات النفس في الجزء الأوّل من كتاب القانون في الطبّ بالخصوص. ولعلّ الجديد في هذا البحث أنّه يبيّن أهميّة اعتبار تأثير نتائج ابن سينا الطبّية في أدلّته الفلسفيّة أثناء فحص تطوّر فكره. يذكّرنا الباحث بدءا بسؤال كان موضع اهتمام الدارسين منذ القدم، وهو هل يملك النبات الحياة أم لا؟ فقد خصّص ألبير الأكبر، على سبيل المثال، قسما كاملا من كتابه في النباتات لدراسة هذه المسألة. وبعد فحصه لأعمال فلاسفة كثيرين خلص إلى أنّ النباتات تملك بالفعل الحياة. وإلى أرسطو يعود وضع أسس نظرية النفس الغاذية وحياة النباتات، خاصّة في كتابه في النفس حيث قدّم تعريفا واضحا للعلاقة بين الحياة والنفس: كلّ ما له نفس فله الحياة. وكان ابن سينا، بدوره، "مقتنعا بوجود الحياة في النباتات". ففي تعليقاته على كتاب النفس الذي كتبه في مرحلة مبكّرة من مساره، يتبنّى بوضوح رأي أرسطو. وقد غيّر رأيه بعد ذلك؛ فعلى نحو مفاجئ، يعلن في رسالته في النبات، الكتاب السابع من العلوم الطبيعية من الشفاء، أنّه "لا يجوز أن يجعل للنبات حياة بوجه من الوجوه" (ص. 132). إنّه يعتقد أنّها بلا حياة، رغم أنّه يقبل أنّها تملك نفسا. فكيف ولماذا تغيّر فكر ابن سينا بين تعليقاته على كتاب النفس ورسالته في النفس؟ يبدو أنّ السبب الظاهر لعدم امتلاك النبات الحياة، عند ابن سينا، هو كونها لا تملك الحركة الإراديّة، وإن كان هذا الأمر، على غرار أرسطو، لم تؤثر في اقتناعه بأنّ النباتات حيّة ما دامت تملك نفسا. إنّ معيار ابن سينا لتمييز الحيّ من غير الحيّ هو أعلى من معيار أرسطو، يقول الباحث؛ ففي كتاب النبات يجعل الحركة الإراديّة شرطا لتحديد ما إذا كان شيء ما حيّا أم لا. كيف ذلك؟ يقدّم هذا الدليل الفلسفيّ على كون النبات لا حياة لها في الفصل الأوّل من كتاب النبات من الشفاء (الذي يتكوّن من سبعة فصول)؛ حيث يحدّد الحيّ بأنّه هو ما له القدرة على الحركة الإراديّة. ويستدلّ بالقول إنّ الحيوانات عليها أن تتحرّك على نحو إراديّ من أجل البحث عن الغذاء في حين يبقى النبات ثابتا في مكان واحد ولا يملك الإرادة أو القدرة على الحركة. وهذا الرأي كان حاضرا بنحو ما منذ وقت مبكّر لدى ابن سينا؛ ففي تعليقاته على كتاب النفس يؤكّد على الحركة الإراديّة بوصفها ما يميّز الحيوانات عن النبات، رغم أنّ كليهما له نفس. وقد عمد الباحث أيضا إلى رصد بعض السوابق لهذا الرأي السينويّ؛ فابن سينا لم يكن أوّل من شكّك في وجود الحياة في النباتات في تاريخ علم النبات؛ فنيقولاوش الدمشقي في كتابه في النبات يجعل شرط الحياة هو الحسّ. يقول إنّ الحسّ هو ما يميّز الحياة عن الموت، كما يؤكّد أنّ مبدأ الحياة في الحيوانات هو الحسّ؛ وهو شرط لا يشترك فيه النبات. وإن كان الدارس لا يحدّد بدقّة إلى أيّ مدى تأثّر ابن سينا بنيقولاوش، إلا أنّه يؤكّد أنّ ابن سينا اطّلع على عمل نيقولاوش؛ إذ يرصد مقارنات مهمّة بين العملين. فيخلص إلى افتراض أنّ عمل نيقولاوش شكّل دافعا لابن سينا لإعادة النظر في رأيه السابق عن النبات. يفترض أنّ دليل ابن سينا يقتضي نظرية في الموجودات الطبيعيّة منبثقة من أعماله الطبّيّة. ففي كتاب القانون في الطبّ، يرى، في سياق تعريفه الحياة، أنّ النبات يفتقد القوّة الحيوانيّة. وهذه القوّة لا تعطي الحسّ والحركة فقط، بل تعطي الحياة أيضا في نظر ابن سينا. وهكذا، نجد عنده (ابن سينا) مفهوما آخر للحياة منظورا إليها في علاقتها بالحرارة في كتاب القانون في الطبّ. إنّ مصدر الحياة هو الحرارة والروح، وهو ينسب نوعا من الحرارة إلى النبات، لكن وظيفتها محصورة في الملكة الغاذيّة والنفس النباتيّة ولا تتجاوز ذلك. وما يؤكّد غياب الحياة عن النبات في نظر ابن سينا ربطه بين القوّة الحيوانية والحرارة ومفهوم الروح. في كتاب القانون في الطبّ يجعل الشيء الأكثر حرارة في الجسم هو الروح والقلب الذي هو مكان الروح، في حين لا يظهر لفظ الروح بتاتا في كتاب النبات. وإجمالاً، فإنّ النبات لا يملك الحياة ليس فحسب لأنّه لا يملك الحركة الإراديّة، كما يصرّح بذلك ابن سينا، بل لأنّه لا يملك القوّة الحيوانيّة (وهو أمر لا يصرّح به مباشرة). ونتيجة البحث هي أنّ ابن سينا، في وقت لاحق غيرّ رأيه الأصليّ الذي مفاده أنّ كلّ الأجسام التي تملك النفس، ومنها النباتات، تملك الحياة، فبرهن على أنّ النباتات لا حياة لها مستدلّا على ذلك بغياب الحركة الإراديّة عن النبات؛ غير أنّ الخلفية الحقيقيّة التي دعته إلى ذلك، في نظر الباحث، هي وقوفه على وظيفة القوّة الحيوانيّة التي لا يكون الجسم حيّا من دونها.
وفي البحث الخامس، عمدت أنّا م. كابو-كونزاليس Ana M. Cabo-González (من جامعة إشبيلية)، إلى "دراسة تطوّر تقنيات حفظ الفواكه في الجزيرة الإبيريّة من خلال الأعمال الفلاحيّة الأندلسيّة، وسوابقها الرومانيّة وآثارها اللاحقة في النهضة"[5]. وقد انطلقت من إلقاء نظرة تاريخيّة على طرق حفظ الغذاء لدى الأمم القديمة المصريّة واليونانيّة والرومانيّة، وأبرزت كيف أنّ الجميع استعمل تقنيات في الحفاظ على الغذاء باستعمال الملح أو من خلال تجفيفه أو تعريضه للنار وغير ذلك، وقد طوّر المسلمون تلك التقنيات ووسّعوا مجال استعمالها على الفواكه والخضر والحبوب (ص. 140). تذكّرنا الباحثة بأهمّ طرائق حفظ الغذاء التي استعملها الإنسان منذ القديم تبعا لنوعية الغذاء: فالفواكه والخضر، وغيرها من المواد الغذائيّة، يمكن حفظها على نحو طبيعيّ من خلال تعقيمها بالحرارة، كما يمكن حفظها في السكر أو العسل، أو عن طريق استعمال الملح؛ علاوة على طريقة تجفيف الغذاء، أو تعريضه للنار، أو حفظه في الكحول، أو تخثيره أو تجميده، تبعا لنوعية الغذاء، كما أنّ الحبوب تحفظ في أكيسة في باطن الأرض وفي أماكن مظلمة وجافّة إلى غير ذلك. وقد ركزّت اهتمامها على أعمال أنجزها أندلسيّون عن تقنيّات حفظ الغذاء لدى سكان الجزيرة الإبيريّة مند القرن الأوّل إلى حدود القرن السادس عشر؛ حيث عمدت إلى رصد التطوّرات التي خضعت لها هذه التقنيات، كما سلطت الضوء على الارتباط القائم بين التقنيات المستعملة عند الرومان واللاتين والعرب وفي عصر النهضة إلى حدّ ما، وذلك من خلال أعمال من القرنين الحادي عشر والثاني عشر بالخصوص من الأندلس الإسلاميّة، مع استحضار دراسة سابقة عليها جميعها كتبها كولوميلا في القرن الأولّ الميلادي وأخرى لاحقة عليها جميعها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي. وهذه الأعمال الفلاحيّة التي درستها هنا هي: كولوميلا في الكتب الاثني عشر في الفلاحة؛ وأبو الجير، كتاب الفلاحة؛ وابن البصّال، كتاب الفلاحة؛ وابن الأعوام، كتاب الفلاحة؛ وابن العيون، كتاب الفلاحة؛ وأخيرا، ألونسو دي هيريرا، الفلاحة العامّة. وقد قدّمت مقارنات دقيقة بين هذه النصوص متتبّعة بعض عناصر تطوّر تقنيات حفظ الفواكه بالخصوص، بدءا بأقدم نصّ وصولا إلى آخرها (انظر صفحات 147-167). وخلصت إلى أنّ الأندلسيّين تعرّفوا على مختلف التقنيات السابقة وحافظوا عليها، بل طوّروها وأبدعوا طرائق جديدة في حفظ المواد الغذائيّة؛ ومن ثمّ شكّلوا بحقّ واسطة بين العالم القديم وعالم النهضة. وفي خضمّ ذلك، كشفت كثيرا من التقنيات المشتركة لدى هؤلاء رغم اختلاف عصورهم؛ فالفاصل الزمني قد يصل إلى ستة عشر قرنا كما هو الحال بين عمل الأوّل، كولوميلا، والأخير، هيريرا ألونسو. وتلاحظ الباحثة أنّ التجربة قد طوّرت تقنيات الحفظ على مدار هذه القرون؛ وليس غريبا إن بلغت التقنيات البسيطة كمالها مع هيريرا بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر إيذانا ببداية عصر جديد، هو عصر النهضة. وتؤكّد، في الأخير، على استمرار استعمال جلّ هذه التقنيات إلى يومنا هذا، في الأندلس وغيرها، وأنّ جلّها يعود إلى أزمنة سحيقة من تاريخ البشرية(ص. 168).
وأخيرا، قدّم فيليب بروفنسال Philippe Provençal (من جامعة كوبنهاكن بالدانمارك)، دراسة بعنوان "التقرير البحريّ البيولوجيّ في نخبة الدهر في عجائب البرّ والبحر"[6]. وجعل غرضه في هذا البحث تقديم تقرير عربيّ من العصر الوسيط عن ستّة حيوانات بحريّة من خليج عدن، من أجل تقديم تحديد زولوجيّ (نسبة إلى علم الحيوان) لخمسة منها. وهو يعلّق على المعطيات البيولوجيّة التي يتضمّنها التقرير في ضوء معطيات المعرفة الزولوجيّة الحديثة والمعاصرة معا، ومن ثمّ الوقوف على القيمة العلميّة لهذا التقرير. وهذا التقرير نجده في كتاب نخبة الدهر في عجائب البرّ والبحر الذي يقدّموصفا دقيقا لستة حيوانات بحريّة من بحر اليمن (خليج عدن) لا نجد لها تحديدا زولوجيّا واضحا. ولا يفوته أن يسجّل أهمّية هذا العمل الجغرافيّ، الذي يتضمّن معلومات لا نجدها في غيره، من تأليف شمس الدين أبي عبد الله بن أبي غالب الأنصاريّ الصوفيّ الدمشقيّ (1256-1327م) الذي عرف باسم ابن شيخ حطين وكان شيخا وإماما في الربوة قرب دمشق وتوفي في صفد. يورد الدارس أنّه ألّف أعمالا أخرى؛ لعلّ أهمّها كتاب المقامات الفلسفيّة والترجمة الصوفيّة، وهو عبارة عن موسوعة فيزيائيّة ورياضيّة وكلاميّة. ولعلّ نخبة الدهر تشكّل إلى جانب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني أشهر المؤلّفات الجغرافيّة العربيّة. وهكذا، يورد تقرير الدمشقي من نخبة الدهر الذي يتضمّن وصفا مفصّلا لستّة أنواع من الحيوانات البحريّة، وخاصّة ما يتعلّق بحجمها، وشكلها وسلوكها. ويعلّق عليها تعليقا بيولوجيّا محاولا تحديد ما يقابل الأوصاف الخاصّة بكلّ نوع. وقد نجح بالفعل في تحديد جلّها (مثل القرش، والحوسك، واللحام وغيرها)، ويقول إنّها معروفة جدّا عند السكان الناطقين بالعربيّة في البحر الأحمر، وخليج عدن والخليج الفارسي ولها أسماء محليّة مختلفة. ويخلص إلى أنّ الدمشقي لم يسافر على ما يبدو إلى اليمن، وأنّه قضى معظم حياته في سوريا، ومن ثمّ فإنّه قد يكون اعتمد في تقريره، إمّا على مصادر شفويّة أو مكتوبة؛ وهي مصادر غير معروفة. غير أنّ هذا الوصف الدقيق للأنواع الخمسة، دعا الباحث إلى تصنيف هذا القسم من نخبة الدهر ضمن الكتابات الرفيعة في التراث الجغرافيّ العربيّ في العصر الوسيط، وهو يكشف أيضا عن مستوى عال من المعرفة بالمحيط الطبيعيّ لدى البدو والسكان القاطنين بسواحل البحر الأحمر. ولعلّه يجدر النظر إلى التقرير في سياقه الأعمّ للاهتمام بالبحر في الحضارة الإسلاميّة القديمة؛ حيث قدّم مؤلّفو الأعمال الجغرافيّة الموسوعية وصفا للبحر وحيواناته ونباتاته، علاوة على ما نجده في الأعمال العلميّة أو الأدبيّة من وصف للمخلوقات البحريّة. يذكر كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري، ثمّ نجد وصفا إلى حد ما لمخلوقات بحرية في كتاب الحيوان للجاحظ. ويبدو أنّ الدمشقي أحد المؤلفين الذين كتبوا أكثر عن المخلوقات البحريّة. وهذا الوصف البيولوجيّ نجده عند ياقوت الحموي (1179-1229) في معجم البلدان والقزويني (1203-1283) في كتاب عجائب المخلوقات وغيرهما. ويختم الدارس بتأكيد نتيجة مفادها أنّ عمل الدمشقي الجغرافيّ كتب في سياق تقليد قائم في وصف البحر والمخلوقات البحريّة.
[1]Roshdi Rashed & Athanase Papadopoulos (2014), “On Menelaus' Spherics III.5 in Arabic Mathematics, I: Ibn ʿirāq”, Arabic Sciences and Philosophy 24 (1), pp.1-68
[2]Glen M. Cooper (2014), “Rational and Empirical Medicine in Ninth-Century Baghdad: Qusṭā Ibn Lūqā's Questions on the Critical Days in Acute Illnesses”, Arabic Sciences and Philosophy 24 (1), pp. 9-102
[3]Miquel Forcada (2014), “Ibn Bājja on Taṣawwur and Taṣdīq: Science and Psychology”, Arabic Sciences and Philosophy 24 (1), pp. 103-126
[4]Akihiro Tawara (2014), “Avicenna's Denial of Life in Plants”, Arabic Sciences and Philosophy 24 (1) pp. 127-138
[5] Ana M. Cabo-González(2014),“The Study of the Evolution of Fruits Preservation Techniques in the Iberian Peninsula Through the Agronomic Andalusian Works, Their Roman Antecedents and Posterior Footprint in the Renaissance”,Arabic Sciences and Philosophy24 (1), pp. 139-168
[6] Philippe Provençal (2014), “Marine Biological Report in the Nuḫbat Al-Dahr Fī ʿaǧāʾib Al-Barr Wa-Al-Baḥr”, Arabic Sciences and Philosophy 24 (1), pp. 169-180