أبو القاسم الزياني، المؤرخ المغربي


فئة :  مقالات

أبو القاسم الزياني، المؤرخ المغربي

أبو القاسم الزياني، المؤرخ المغربي

الملخص:

من الوفاء للعظماء والعلماء - بل من حقهم على الأجيال - التأريخ لهم والتعريف بأفكارهم الإصلاحية، وما بذلوه من جهد من أجل التحرير والتغيير، حتى تبقى أفكارهم وتجاربهم حية تنير الطريق للأجيال اللاحقة، وتذكي فيهم أرواحا عالية الهمم وعزائم باسقة مسكونة برغبات النسج على مقاس خير الأمم، وقد جاء في الأثر "من أرخ لعالم فقد أحياه"، يحييه روحا خالدة، ونموذجا ناجحا يمشي بين الناس يحكي عبقرية تالدة.

وقد عرف تاريخ المغرب رجالا أفذاذا، ظل نتاجها وما خطته باقيا، يُضاف وينضاف إلى رصيد حسناتهم وصدقة جارية بعد رحيلهم هم علماؤنا الأكياس فرسان كل ميدان، من أمثال المؤرخ العلامة أبو القاسم الزياني.

إن الحديث عن العلماء مما يطرب له القلب، وينشرح له الصدر، وإن مطالعة سيرهم، وقراءة أخبارهم، وتتبع فضائلهم ومناقبهم، الكثير من الفوائد والعبر.

ومن المشايخ الذين جمعوا بين العلم والصلاح، وتزين الأطلس المتوسط بوجوده فينا، الشيخ العلامة المؤرخ والزاهد في حطام الدنيا، المنشغل بما ينفع في الأخرى، أبو القاسم الزياني.

يا من يُذكرني حديث أحبتي ** طاب الحديث بذكرهم ويطيبُ

أعِدِ الحديث عليّ من جنباته ** إن الحديث عن الحبيب حبيبُ

اسمه ونسبه:

هو أبو القاسم أحمد بن علي بن إبراهيم الزياني مؤرخ، من الوزراء[1].

والزياني بالزاي مفخمة أو بالصاد المشممة زايا، نسبة إلى قبيلة زيان من أهل الأطلس المتوسط.

مولده:

ولد أبو القاسم الزياني في فاس بالمغرب سنة 1147هـ، ونشأ في أسرة علمية، فجده علي كان إماما في عهد المولى إسماعيل العلوي.

تعلمه ودراسته وشيوخه:

نشأ مؤرخنا الزياني في حجر والده، حيث أدخله القرويين، واشتغل بطلب العلم على شيوخها، ومن المشايخ الذين تعلم عليهم القرآن والتفسير والنحو والمنطق، محمد بن الطيب القادري وعبد القادر لوخريص ومحمد بن إبراهيم التاودي بن سودة ومحمد بناني.

قال أبو القاسم في كتابه الترجمانة الكبرى: "ولما بلغت مبلغ الرجال، وحفظت كلام الله عز وجل على وجه الكلام، وطمحت نفسي القراءة والعلم الشريف، ونسخ ما أحتاج إليه من كل شرح لطيف، فأول من قرأت عليه الأجرومية والسنوسية وابن عاشر، شيخنا الفقيه سيدي أحمد ابن الطاهر الشرقي"[2].

أما التاريخ والنسب والجغرافية التي هي بضاعته المنتقاة لم تكن مما درسه في القرويين، ولا مما أخذه عن شيوخها المذكورين، وإنما سرت عدواها إليه من جده علي بن إبراهيم، وقد كان كما قال عنه آنفا عشريا نسابة إخباريا، لم يكن في وقته من يلحقه من النسب[3].

مؤلفاته:

خصص العلامة أبو القاسم الزياني قسما مهما من وقته للتأليف، فترك لنا ثروة علمية زاخرة، من هذه الكتب نذكر:

- فهرست الياقوت واللؤلؤ والمرجان في ذكر العلويين وأشياخ مولانا سليمان

- الدرة في كشف مذاهب أهل البدع

- رحلة الحدائق لمشاهدة الآفاق

- تحفة الحادي المطرب في ذكر شرفاء المغرب

- البستان الظريف في دولة أولاد مولاي علي الشريف

- الروضة السلمانية في الدولة الإسماعيلية

- درة السلوك فيما يجب على الملوك

- ألفية السلوك في وفيات الملوك

- الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب

- الترجمانة الكبرى[4].

رحلاته:

رحم الله الإمام الحافظ، الخطيب البغدادي الذي ألف في موضوع الرحلة كتابا مهما عنوانه: "الرحلة في طلب الحديث"، تحدث فيه عن فضل العلم والرحلة في طلبه، وذكر من رحل من الصحابة والتابعين لأجل سماع حديث واحد..

واستهل أبو القاسم الزياني مقدمة كتابه الترجمانة الكبرى قائلا: "إني لما رمت بي الأقدار، وجلت في الأقطار، وشاهدت كثيرا من الأمصار، في البرار، والعلماء النجباء الخيار، واستفدت منهم ما شاء الله من الأثار، وقيدت من أحوال هذا العالم ما في دواوين الأخيار، وعدت ممتلئ الحواصل، من خير الأواخر والأوائل، ولما ألقيت عصى التسيار، واستقرت بنا الدار، في ظل هذا الإمام العظيم المقدار، جمعت ما قيدته في رحلاتي الثلاث، وما شاهدته من الأمصار والبحار، وما لقيت من السادات، جعلته رحلة واحدة على قاعدة النحاة في جواز الجمع بين الأخوات وسميتها “الترجمانة الكبرى”، والتي جمعت أخبار العالم برًّا وبحرا".[5]

وكان للإمام أبو القاسم الزياني رحلات عدة لمدن ودول مختلفة، يقول رحمه الله: "هذه الترجمانة الكبرى التي جمعت أخبار العالم برًّا وبحرا... لم تقتصر على ما جمعه ابن عبد المنعم في الروض المعطار، وزادت على ما جلبه ابن الجوزي من أخبار البحار والقفار، وعلى ما في خريدة العجائب من الجزر والعيون والآبار والأنهار، وعلى ما في عجائب المقدور من نفائس الحِكم والأسرار، وأبرزت ما أغفلوه ولم يكن به شعور وإنذار، وحليتها بحوادث ونوادر وحكايات جلبها المؤرخون الكبار، كالإمام ابن قتيبة، والمسعودي، والطبري، وابن عساكر، والذهبي، والبكري، والبلاذري، وابن الخطيب، وقيدت من غرر كلامهم أوفر نصيب، وضمنتها ما في رحلة البكري من النّكت والأشعار، وما في رحلة البلوي من نفائس الأخبار، وما في السرخسي للأندلس والمغرب، من كل ما يعجب ويطرب، وما في رحلة العياشي ومحاضرات اليوسي وأدبيات الولالي وابن سعيد السوسي وما يناسب ذلك من البراهين القاطعة، من التفسير والفقه والحديث، ومن شواهد العرب قديمهم والحديث، في الرّدّ على المجوس واليهود وأهل التثليث، وأهل البدعة والاعتقاد الخبيث، وكِلْتُ لهم بالمكيال الأوفى، حسبما سطره من تصدّى لهم من الأيمة ووفّى ، صحبة في جانب المصطفى. وجعلتُها قربة لهذا الجناب الأعظم والسلطان العادل الأفخم الذي هو في أنواع العلوم المقدم، وعند ملوك الإسلام مسموع الكلمة محترم، عالم الملوك وملك العلماء، الإمام المكرم المولى سليمان."[6].

إن كتاب "الترجمانة الكبرى" هو كتاب في أدب الرحلات ألفه المؤرخ المغربي أبو القاسم الزياني نقل ووصف فيه مشاهداته لوقائع رحلات ثلاث قام بها ما بين سنة 1755م و1792م إلى كل من الحجاز ومصر والقسطنطينية، وهي سيرة تاريخية ذاتية، وسجل خاص لمواقف الكاتب ورؤاه ومشاهداته وملاحظاته وخبراته وتجاربه في الحياة. اتصفت الترجمانة بالشمولية أو الكتابة الموسوعية المتحررة، حيث تجاوزت موضوعاتها وتطرقت لحقول معرفية متعددة مثيرة للالتباس في الواقع، فاحتوت أطيافا وضروبا من المعارف التاريخية والاجتماعية، والسياسية والجغرافية والفقهية واللغوية والأدبية.

كان الزياني يخبرنا عمن لقي من السلاطين الأمراء والأعيان والأئمة الأعلام، كما نجد أن أبا القاسم كان يذكر تفاصيل عن البلدان التي مر بها، وكل ما يتعلق بعادات أهلها وتاريخها، وجغرافيتها وبحارها وعيونها وآبارها…. وكذا معالمها وعمرانها… وهو ما يجعلنا نلقب الرجل بابن بطوطة زمانه بدون منازع[7] دون أن ينسى النكبات السبع التي تعرض لها خلال حياته ورحلاته، والتي تتصل بلحظات الانكسار والسقوط والتلف على حد قوله.

ولم يقتصر الزياني في ترجمانته على أخبار رحلاته فقط، بل حرص على الجمع بين المتعة والمنفعة، دون الفصل بينهما. لذا، نجده يعطينا تفاصيل عن البلدان التي مر بها، من حيث تاريخها، وجغرافيتها، ومعالم عمرانها، وعادات أهلها. إضافة إلى أخبار مناطق أخرى لم يزرها، كاليمن والصين، وأوروبا وآسيا.. كما يعطينا صورة عن العالم - كما يتصوره- بما فيه من بحار وقفار، وجزر وجبال، وعيون وآبار، ومعادن وأحجار وحيوانات. مقسما إياه - على طريقة القدماء - إلى سبعة أقاليم. وكل ذلك بأسلوب يتراوح بين الرقي والبساطة، ويغلب عليه السرد والوصف.

وفاته:

وبعد حياة طافحة بالبذل والجهد والعطاء، توفي عليه الرحمة والرضوان بمدينة فاس سنة 1249هـ، وقد عاش حوالي 102 سنة، وقد دفن بالزاوية الناصرية بفاس، وفي مثله يقول الشاعر:

فالعين تبكي بالدما لفراقه ** والقلب مطوي على الأجمار

تبكي المجالس والمدارس فقده ** أسفا عليه بدمعها المدرار

تبكي المحابر والدفاتر واليرا ** ع وذو النباهة والنهى والقاري.

عموما كانت هذه مشاركة في التأريخ والتعريف بأفذاذ أمتنا وتاريخنا، والتعريف بمشروعهم الفذ، ونبش في هذا التراث الضخم الذي تحويه مكتباتنا بعدد لا يحصى، لعل القارئ الكريم يصيبه شيء من الفضول فيكون سببا في التعريف بأمثال سيدي أبو القاسم وغيره. وكما يقال: "من أرخ لعالم فكأنما أحياه".

[1] الأعلام، خير الدين الزركلي، الناشر: دار العلم للملايين، ط5، ج5، ص172

[2] الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا، أبو القاسم الزياني، تحقيق: عبد الكريم الفيلالي، دار المعرفة للنشر، طبعة 1991، ص57

[3] انظر: ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، عبد الله كنون، تحقيق: محمد بن عزوز، دار ابن حزم، ط1، ص622

[4] انظر: الأعلام للزركلي، ج5، ص172

[5] الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا، أبو القاسم الزياني ص52

[6] الترجمانة الكبرى، أبو القاسم الزياني، ص6

[7] وهذا تشبيه من حيث التأريخ للأحداث والوقائع التي حوتها الترجمانة لأبي قاسم، وإلا فالمقارنة لا تصلح في هذا المقام بين ابن بطوطة وأبو القاسم باعتبار "ابن بطوطة" أكبر رحالة عرفه التاريخ وجال أضعاف البلدان التي جالها سيدي أبو القاسم الزياني.