أحداث "الربيع العربي" وأفول مسلسل "اختطاف الإسلام"
فئة : مقالات
هناك لائحة عريضة من الحسنات تحسب لهذا "الربيع العربي"، ولا تندرج في سياق تفكيك أنظمة وأنساق السلطوية في الساحة العربية، كما تروج لذلك أغلب القراءات المُسَيّسة، سواء كانت صادرة عن فكرانيات (إيديولوجيات) إسلامية حركية، أو فكرانيات منافسة، بقدر ما تندرج في ما هو أكبر من الهواجس السياسية، ومعها هواجس التحكم والرغبة الدفينة في الإمساك بزمام السلطات الزمنية الحاكمة، كما اتضح ذلك جليا بعيد اندلاع هذه الأحداث. نعتقد أن أهم حسنات "الربيع العربي" أنه يسهم عمليا (ونظريا لاحقا.. للمفارقة) في وضع حد لمسلسل "اختطاف الإسلام"، ونقصد بـ"اختطاف الإسلام"، "الظاهرة الدينية" التي عصفت بالمجال التداولي الإسلامي (العربي تحديدا) منذ قرن تقريبا؛ لنقل أن الدين يتعرض للاختطاف من طرف أهل التديّن، وأن عملية "الاختطاف" هذه، والأقرب إلى حالات الاشتباك في أنماط التديّن هنا وهناك، مَرّت من أربعة مراحل أساسية، تُميّز واقع "اختطاف الإسلام":
ـ جاءت المرحلة الأولى مع تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين"، على يد الإمام حسن البنا، أربع سنوات بعد الصدمة التي عصفت بالعقل الإسلامي الجمعي؛ أي صدمة سقوط "دولة الخلافة" (مع التردي الحضاري للإمبراطورية العثمانية) في غضون سنة 1924؛
وجاءت المحطة الثانية مع اندلاع "الثورة الإسلامية" في إيران في غضون سنة 1979 بكل التطلعات الميدانية المرتبطة بهذا الحدث، والذي غدا مشروع مُجمل أطياف التيار الإسلامي، في شقيه الدعوي والسياسي على الخصوص، بحكم أن الفصيل "الجهادي"، لم ينتظر كثيرا حتى يُترجم مشاريعه على أرض الواقع، من خلال تفاعله مع تبعات الغزو السوفياتي لأفغانستان، يوم 24 كانون الأول/ دجنبر 1979؛ والمفارق أننا سنعاين في نفس السنة، وتحديدا في 20 تشرين الثاني/ نونبر 1979 الموافق لفاتح من محرم من عام 1400 هجرية، واقعة اقتحام الحرم المكي في السعودية، التي قام بها جهيمان بن محمد سيف العتيبي الذي ادعى أنه "المهدي المنتظر"؛
ـ أما المحطة الثالثة، فتجسّدت بشكل جلّي مع صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، في 11 أيلول/ شتنبر 2001، وهي الصدمة/ المرحلة التي أوجزها آنذاك الباحث الباكستاني شيما خان، عندما حذّر بصراحة من مغبة "اختطاف الإسلام"، (The Language of Islam has been hijacked) في سياق زمني يتميز باستخلاص بعض دروس صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن؛ حيث انتقلنا من مرتبة نقد الحركات الإسلامية (الدعوية والسياسية) بتكريس خيار "اختطاف الإسلام"، نحو مرتبة أعلى في مسلسل الاختطاف، مع دخول الحركات الإسلامية "الجهادية" على الخط، تكريسا لواقع "الصراع على الإسلام"، إذا استعرنا عنوانا لافتا ودالا لأحد أعمال رضوان السيد؛
ـ اتضحت معالم المرحلة الرابعة من هذا المسلسل التاريخي مع أحداث "الربيع العربي" التي اندلعت ابتداء من 25 كانون الثاني/ يناير 2011، والتي جعلت بعض الحركات الإسلامية، تقترب أكثر من تحقيق الأحلام الأولى التي من أجلها بزغت المرحلة الأولى من المسلسل، ويكفي أن هذه المرحلة ستجعل المجال التداولي المصري يعُج بما لا يقل عن 16 حزبا إسلامية في غضون مطلع العام 2013، أو أن يعُج المجال التداولي السوري بما لا يقل عن سبع حركات إسلامية ترفع راية "الجهاد" هناك. التدافع السياسي السائد في الساحة المصرية حول أداء تدبير جماعة "الإخوان المسلمين" لنظام ما بعد حسني مبارك، تطور إلى تدافع عقائدي صرف، تغذيه تصريحات العديد من الرموز الإخوانية والسلفية، والتي لم تتردد في اتهام المخالفين سياسيا للجماعة بأنهم كفرة، يتوجب على الأتباع (الإخوان والسلفيين)، التحالف من أجل قتالهم، ولا تنقص الأمثلة الصادمة في هذا الصدد، ونتوقف هنا عند نموذجين اثنين:
ـ الداعية السلفي أشرف عبد المنعم مثلا، يرى أن من يقاتل المتظاهرين يوم 30 حزيران/ يونيو، فيُقتل سيكون مصيره الجنة، أما المتظاهرون [وأغلبهم لا ينتمي إلى الجماعة]، فسيكون مصيرهم النار"، والداعية عضو "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" في مصر، والتي تضم من بين المؤسسين، خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين؛
ـ الداعية السلفي وجدي غنيم، وَجّهَ تهديدا صريحا إلى مخالفي جماعة "الإخوان المسلمين"، والتهديد موجه إلى جميع المصريين الذين لا ينتمون إلى الجماعة، ولا ينتمون بالضرورة إلى تيار سياسي ينهل من مرجعية إسلامية حركية (إخوانية أو سلفية)، قائلا بالحرف: "رسالتي للكفرة، كذا اتلموا أحسن، التمرد على مرسي تمرد على الإسلام". وحدها هذه التصريحات كفيلة بأن تعيد الصواب (كما هو مأمول) لدى العامة والخاصة، بخصوص حقيقة مشاريع هذه التيارات التي ترفع شعار "الإسلام هو الحل"، ونقصد بالصواب هنا، الانخراط النظري في التفريق الضروري بين مقتضى الدين ومقتضيات التدين، بالصيغة التي اشتغل عليها على سبيل المثال لا الحصر، عبد الجواد ياسين في كتابه القيّم "الدين والتديّن"، والصادر في غضون العام 2012 عن دار التنوير. من سخرية الأقدار ـ أو بسبب "مكر التاريخ" ـ أن يكون البلد الذي انطلق منه مشروع/ مسلسل "اختطاف الإسلام"، هو نفس البلد الذي من المنتظر أن يعرف آخر محطات هذا الاختطاف، مادامت مشاريع "اختطاف الإسلام"، أكدت محدوديتها في الإصلاح، بسبب ثقل أعطاب بنيوية تعاني منها، وفي مقدمتها عطب النزعة التسييسية المتغلغلة في الجهاز المعرفي لهذه التيارات، والتي تجعلها تختزل الدفاع عن مشاريعها بأنه دفاع عن الإسلام، وكل مخالف سياسي مُصنف في خانة عدو للإسلام (عدو للدين ومخالف لنمط معين للتدين). لا تقل الأمور سوداوية في الحالة السورية؛ حيث بروز مخاوف حقيقية من تكرار مآسي "الفتنة الكبرى" التي تقف بشكل كبير وراء تأزم العمل السياسي في المجال التداولي الإسلامي بشكل عام، وخاصة بعد إصدار بعض علماء الساحة "فتوى الجهاد في سوريا"، موازاة مع إعلان الإدارة الأمريكية عن البدء في تسليح جزء من المعارضة السورية. على عهد الرئيس المصري السابق، كانت العامة والخاصة تعلم أنه الرئيس الرسمي والفعلي للدولة، وعلى عهد الرئيس الحالي، تعلم العامة والخاصة، أن الرئيس الحالي، هو الرئيس الرسمي، وليس الفعلي، مع حدوث انقسام في الآراء حول طبيعة الرئيس الفعلي: هل هو مرشد الجماعة أم نائبه خيرت الشاطر، الرجل القوي في الجماعة، وفي كلتا الحالتين، نعاين تكريسا عمليا لخيار تدبير جماعة إسلامية دواليب الدولة بما يخدم مشروع الجماعة قبل خدمة الدولة، وبالنتيجة، نعاين توظيف المرجعية الدينية (المقدسة) في لعبة سياسية مدنسة، ليس من باب المقاصد الأخلاقية الضابطة للعمل السياسي (أو اللعبة السياسية)، وإنما في سياق الانتقام من عقود مضت، واستغلال الوضع لخدمة مشروع فئوي جماعاتي يختزل الدين في نمط محدد من التدين لا يمثل إلا نفسه؛ فالأحرى أن يُمثل وطنا أو أمة أو إنسانية.
معلوم أن أحداث "الربيع العربي" جاءت احتجاجا على هيمنة أنظمة "الحزب الواحد"، أو باصطلاح قاموس ما بعد "الربيع"، ضد هيمنة "الجماعة الواحدة"، وواضح أن أداء كبرى وأم الحركات الإسلامية في الساحة العربية، لم يخرج عن هذا المأزق التنظيمي في التدبير، ما دام يُصر على تدبير شؤون دولة عريقة في التاريخ والإنسانية بعقلية الجماعة والمرشد والبيعة، لاعتبار بديهي مفاده أن الجماعة تبقى الحاضنة للرئاسة، وهي التي تدير الحملة الإعلامية المضادة لحركة "تمرد" التي في الظاهر يبدو أنها تناهض طريقة تدبير الجماعة لشؤون الدولة، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ولكنها في الباطن، تناهض "اختطاف الإسلام" في الساحة المصرية.
* منتصر حمادة باحث و كاتب مغربي