أحكام الردّة هل أضيفت إلى الدين؟
فئة : مقالات
تُعَدُّ الردّة المدخل الأساس، الذي تبرّر به الجماعات الدينية المتشدّدة وجودها ومشروعها، فالأمّة، في نظر مفكري وفقهاء هذه الجماعات، في حالة ردّة عن الدين؛ بل هي في جاهلية لا تختلف عن الجاهلية، التي كانت سائدة، عندما بُعثَ النبي محمد، وتستند الجماعات الدينية المتشدّدة في خروجها على الدول، والمجتمعات، والقوانين، على التراث المستمدّ من فقه وأحكام الردّة، وتحتجّ بقصص وأحكام القتل، والإعدام، والسجن، بحقِّ المخالفين، التي تملأ التاريخ الإسلامي. وهي، في ذلك، تحاججنا بالتراث الذي نؤمن به، وندعو إليه، وندفع بذلك ثمن التسلُّط والتحريف، الذي مارسناه (الدول والمجتمعات)، فيطبّق علينا الخوارج ما طبّقناه على الناس، وأنشأت، أيضاً، منظومة فكرية وفقهية واسعة وصلبة من الكتب، والدراسات، ورسائل (الماجستير)، و(الدكتوراه)، التي أُقرّت في جامعات الدول العربية والإسلامية (الجاهلية).
لقد أمكن، بفعل التطبيق السلطوي، والفكر الديني، والتركيز الإعلامي، والدعوى على مسألة الردّة، تحويلها إلى مقولة بديهية راسخة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، أو الردّ عليها؟ ويقول طه جابر العلواني، في مقدّمة كتابه (لا إكراه في الدين: إشكالية الردّة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم)، إنّ بحثه هذا، الذي نشر للمرة الأولى عام (2006م)، ثمّ أعيد في طبعة مزيدة ومعدلة في العام (2014م)، ونشرته مؤسسة (مؤمنون بلا حدود)، إنّه أعدّ البحث في عام (1992م)، ولكنّه أجّل نشره؛ لأنّه كان رئيساً للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، خشيةَ أن يتضرَّر المعهد بسبب الكتاب، ثمّ أجّل نشره خوفاً على الجامعة التي ترأسها!
وفي المقابل، يمكن الإشارة إلى عشرات الكتب والدراسات؛ التي تؤكّد ردّة الأمة وجاهليتها، وضرورة ردّها إلى الإسلام: (معالم في الطريق) لسيد قطب، و(جاهلية القرن العشرين) لمحمد قطب، و(جند الله ثقافة وأخلاقاً) لسعيد حوى. وأشرف محمد قطب على مجموعة من الرسائل، التي أصّلت للفكر التكفيري والتجهيلي، ومنها: (العلمانية: نشأتها، وتطوّرها، وآثارها، في الحياة الإسلامية المعاصرة) سفر عبد الرحمن الحوالي، و(ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي) سفر عبد الرحمن الحوالي، و(الولاء والبراء في الإسلام) محمد سعيد القحطاني، و(أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والردّ على الطوائف الضالّة فيه) علي بن نفيع العلياني، و(الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريّين وآثارها في حياة الأمة) علي بن بخيت بن عبد الله الزهراني، و(الوثنية الحديثة وموقف الإسلام منها) يوسف محمد صالح الأحمد، و(المجتمع الإسلامي المعاصر في صورته الواقعية وكيف ينبغي أن يكون) خضر مصطفى النيجيري، و(أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم في شبه القارة الهندية) للأستاذ د. خادم حسين إلهي بخش، و(منهج الدعوة النبوية في المرحلة المكيّة) علي بن علي الحربي، و(العقيدة أساساً للتربية والنظم الإسلامية) محمد حافظ الشريدة، و(فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام) صالح بن عبد الله العبود، و(جوانب من الغزو الفكري المعاصر) للأستاذ محمد أمين بن إدريس السماعيلي.
وهناك عشرات الكتب والدراسات، التي تحرّم المشاركة في الوزارات والبرلمانات في الدول العربية والإسلامية، باعتبارها حكومات كافرة، أو مرتدّة، أو جاهلية، وبعض هذه الكتب رسائل علمية نوقشت في كليات الشريعة التابعة للدول (الجاهلية)، وحتى الدراسات، التي أباحت المشاركة، مثل: دراسة الفقيه الإخواني السلفي عمر الأشقر؛ فإنّما أباحته مع الإقرار بجاهلية وردّة الدول والمجتمعات الإسلامية، ولكنّها مشاركة قد تكون ضروريّة لا تختلف عن المشاركة في الكنيست الإسرائيلي، أو مجلس العموم البريطاني!
يقول طه العلواني، في كتابه (لا إكراه في الدين)، إنّه في مقابل مئتي آية في القرآن تؤكّد حريّة الإنسان في الاعتقاد، والدين، وحقيقة أنّ الرسول لم يقتل مرتدّاً؛ لأنّه ترك الإسلام، على الرغم من كثرة هؤلاء في سيرة الرسول، وأنّه لم يحاسب منافقاً، وهو يعلم المنافقين بأسمائهم، فلا يُعقل أن تنهى الرسول الآية القرآنية عن الصلاة عليهم، إلا أن يكون يعرفهم، وذلك بعدما صلّى على عبد الله بن أبيّ، وهو يعلم نفاقه، يحتجّ منفذو ومؤيدو عمليات الصلب، والتسلُّط، والتعذيب، باسم الدين، والخروج عليه، بحديث رواه البخاري ".. ومن بدّل دينه فاقتلوه".
كانت أحكام القتل والعقوبات، بسبب الردّة، مُتّبعَة في اليهودية والمسيحية، وقد أدارت الدولة البيزنطية، ثمّ الدول الأوروبية المسيحية، حروباً، وعمليات قتل، ومحاكمات، وحرق، وصلب، بسبب المعتقدات والأفكار الدينية المسيحية المخالفة للفهم الرسمي المعتمَد في الفاتيكان، ويمكن أن نجد عشرات أحكام القتل بسبب تغيير الدين المؤكّدة والصريحة في التوراة، ومنها القصة المذكورة في (سفر الخروج)، ويؤيدها القرآن، عن قتل الذين عبدوا العجل، وفي (سفر التثنية)، مطالبة بقتل من يدعو إلى دين آخر رجماً بالحجارة، والأمثلة عن قتل المرتدّ ورجمه في التوراة كثيرة.
وطُبقّت أحكام الردّة (الهرطقة) في تاريخ المسيحية على نطاق واسع، ويُعرِّف القانون الكنسي المهرطق بأنّه مَن يُنكِر، بعد تلقي العماد، إحدى الحقائق، التي يجب اعتبارها تتعلّق بالإيمان الإلهي، ما يعني، بالضرورة، التمييز بين الكافر والمرتدّ (المهرطق)، ويُعاقَب المهرطق، اليوم، بالحرمان الكنسي، ويُحظَر دفنه في مقابر المسيحيين.
ولكن قبل ذلك كانت الكنيسة تدير سلطة دينية وتنفيذية هائلة، طالت بالحرق، والصلب، والقتل، أعداداً كبيرة ممن اعتُبِروا مرتدين، وتمثّل محاكم التفتيش، والحروب، والصراعات الدينية، أنموذجاً مروّعاً في معاقبة المخالفين، أو إلباس المخالفين السياسيين تهماً بالردّة الدينة.
ويبدو أنّ أنظمة معاقبة المرتدين، أو المخالفين دينياً، أو سياسياً، ورثها الحكام المسلمون من الإمبراطورية البيزنطية، وتكاد تكون النماذج الإسلامية التاريخية، في مقاتلة ومحاسبة المخالفين على أساس تُهم دينية، مطابقةً للتاريخ البيزنطي، والنصوص التوراتية، ولا سند إسلامياً لها سوى الحديث المُشار إليه!
ومن أشهر التطبيقات المروّعة للردّة، قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، قتله الخليفة العباسي الواثق بنفسه؛ لأنّه لا يقول بخلق القرآن، وعُلِّق رأسه في بغداد، وقد كُتِب بجانبه هذا رأس أحمد بن نصر، دعاه الإمام الواثق، أمير المؤمنين، إلى القول بخلق القرآن، ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجّل الله به إلى النار. ثمّ، وفي عهد المتوكّل، أدار الحنابلة، الذين أنشأوا، في ذلك الحين، تسمية أهل السنّة والجماعة، عملياتٍ انتقامية واسعة من المعتزلة، وقبل ذلك قتل خالد بن عبد الله القسري، والي هشام بن عبد الملك على الكوفة، قتل المعتزلي الجعد بن درهم ذبحاً في المسجد، في أوّل أيام عيد الأضحى، مُعتقِداً أنّه يقدّم قرباناً إلى الله (أضحية)، وقتل صلاح الدين الأيوبي الفيلسوف المتصوّف شهاب الدين عمر السهروردي (586هـ)، وقُتِل من المتصوّفة، أيضاً، الحلّاج، أبو عبد الله حسين بن منصور الحلّاج (922م). أمّا العلماء والفلاسفة الذين لحقهم السجن، والتعذيب، وتحريق كتبهم، فهم كثر، مثل: ابن رشد، وأبو حيان التوحيدي، والكندي...
لقد اتخذت الردّة، على مدى التاريخ الإسلامي والديني عامّة، ذريعة أساسية للصراع، والحروب، والقتل، والاضطهاد، لجأ إليها الحكام والسلاطين على الدوام لقتل، واضطهاد، وتهديد، وإسكات، المعارضين، ولجأت إليها المعارضات السياسية لأجل الثورة والتمرُّد.
ولكن لم يعد مقبولاً، اليوم، الاستمرار في التبرير، والتهرُّب من ضرورة رفض محاسبة أحد على معتقده، أو رأيه الديني، وحان الوقت لإعلان بطلان محاسبة، أو معاقبة، أو حرمان، أحد بسبب رأيه، أو موقفه الديني، ففي الأردن، وكثير من الدول العربية، والإسلامية، تنظم القوانين، على أساس فقه وأحكام الردّة، تطبيقات تتناقض مع المواطنة، وحقوق الإنسان، من غير سند ديني حقيقي أو كافٍ، مثل: الزواج، والطلاق، والميراث، والشهادة، والحضانة، والإشارة إلى الدين في الوثائق الشخصية. ولا يمكن فهم ذلك سوى أنه تسلُّط وتمييز يُنسب زوراً إلى الدين، فلا يمكن تصديق أنّ الرسول، الذي لم يقتل أحداً بسب تغيير دينه، يطلب من الناس أن يقتلوه، ولا يُعقَل، أبداً، أن يظل هذا النصّ، الذي لم يقله رسول الله، أقوى من عشرات الآيات، ومن المنطق؛ بل إنّه يمكن القول: إنّه فقهٌ وتطبيق ينطوي على الشرك بالله، فهو تألّه وادّعاء بشري بحقّ إلهي، لا يختلف في شيء عن الزعم بألوهية أحد من البشر، أو الدعوة إلى عبادةٍ وتقديسٍ لبشر لم يأذن بها الله، فالإيمان، والمحاسبة عليه، أمر متعلّق بضمير الإنسان، الذي لا سلطة لأحد عليه، ولا يُعقل أن يحاسب عليه أحد غير الله!
مراجع:
1- العلواني، طه جابر، لا إكراه في الدين، إشكالية الردّة من صدر الإسلام إلى اليوم، مؤمنون بلا حدود والمركز الثقافي العربي، 2014م.
2- موقع محمد قطب في شبكة الإنترنت: https://goo.gl/VVnwxp
3- ويتلر، ج، الهرطقة في المسيحية: تاريخ البدع الدينية المسيحية، ترجمة جمال سالم، التنوير، بيروت، 2007م.
4 التوراة – العهد القديم.