أخلاق السياسة لدى نيكولاس ميكيافيلي
فئة : مقالات
أخلاق السياسة لدى نيكولاس ميكيافيلي
الملخص:
إن نيكولاس مكيافلي (Nicolas machiavel) هو بحق مدشن الحداثة السياسية نظرا لإحداثه القطيعة الإبستمولوجية[1] بين التصور القديم للسياسة والتصور الحديث لها بعلاقتها مع الأخلاق والدين والميتافزيقا، وعليه سيرسي تصورا جديدا لمفهوم السلطة والدولة، وسيكون لهذا الإرساء امتدادات عبر التاريخ. فبعدما كانت الأخلاق في التصور القديم والوسيط هي المؤطرة لنظريات الفعل السياسي بغية بلوغ الكمال الأخلاقي المتمثل في السعادة والفضيلة، سيسيِّج مكيافلي السياسة بأخلاق ذاتية[2]، حيث سيصير المعيار في الفعل السياسي معيارا محايثا[3][4]، وليس معيارا خارجيا كما نظّرت له التصورات الفلسفية القديمة؛ بمعنى أن للسياسة أخلاقا تفرضها اللعبة السياسية من الداخل؛ أي إن الأخلاق هي أخلاق سياسية يؤكدها العمل السياسي بالضرورة؛ وذلك لتناقض وتقاطع المصالح المختلفة بين القوى المتفاعلة في الحقل السياسي، ومنه يمكن فهم أن هناك إرادات ثاوية من وراء الفعل السياسي تعمل جاهدة على تحقيق مصالحها. ولذلك يجب على الأمير أو الحاكم انطلاقا من الضرورة السياسية، أن يفهم هذا الأمر جيدا، ويستعمل كل الإمكانيات التي تتيح له قبض السلطة والحفاظ عليها، كأن يتظاهر مثلا بأنه متدين، محبّ للسلام، كريم، شجاع، قوي، مهاب... إلخ، وهذا من الفضائل التي ستمكنه من الحفاظ على السلطة، وكذلك الرذائل كأن يكون قاسيا، متوحشا، مقترا...؛ لأن التعامل مع السلطة بالنسبة لمكيافلي هي القدرة على التمسرح[5] السياسي؛ أي أن يعرف الحاكم إتقان دوره في المسرحية السياسية التي يشخص دورها الأساسي؛ وذلك بوضوح الغاية وهي السلطة، التي تتطلب حاكما يجيد قواعد الفعل السياسي؛ لأنه إذا كان المبدأ والغاية هو تملك والحفاظ على السلطة، فإنه يجب على الحاكم أن يجيد قوانين لعبتها.
تمهيد:
إن كتاب الأمير يطرح مجموعة من الإشكالات المرتبطة بالتاريخ والسياسة والعلاقة بينهما، إذ كيف يجعل السياسي من التاريخ الماضي عُدَّةٌ من العبر والدروس التي يستند إليها بالضرورة؟ ثم إلى أي مدى يكون التاريخ نبراسا ونموذجا للسياسي يمكِّنه من أَصْلَحِ النماذج التي يمكن أن يستفيد منها؟ وإلى جانب هذا الإشكال هناك إشكال آخر متعلق بالسياسة والميتافزيقا، والتي تطرح سؤالا مفاده كيف وصلت وفصلت النظرية السياسية المكيافلية بين السياسة والميتافيزيقا؟ أو بأي معنى تمفصلت العلاقة بين السياسة والميتافيزيقا؟ وكيف تفرض الضرورة السياسية التضحية بالمبادئ الأخلاقية على مذبح المصلحة العليا للدولة؟ ويمكن أن نطرح السؤال بعكس القيم بناء على فكرة أن للسياسة أخلاقها، وهو هل المصلحة هي المبدأ الأساسي لفعل السياسة؟ بالإضافة إلى هاته الإشكالات هناك إشكال آخر متعلق بصورة السلطة التي تفرض على الحاكم أن يبدو بأخلاق وإن لم يكن كذلك؟ ثم إشكالية العنف كممارسة واقعية تفرضها الضرورة السياسية، وفي النهاية سنتطرق إلى امتدادات الطرح المكيافلي.
قبل الإجابة عن هذه الإشكالات المطروحة، سنتطرق أولا إلى المنطلق أو المبدأ الإبستمولوجي للطرح المكيافلي في نظريته للفعل السياسي، (الواقعية السياسية القائمة على عملية التمسرح السياسي والمبنية على إيثيقا الضرورة السياسية) فمكيافلي يعتبر أن مهمة الأمير هي مهمة مزدوجة، - وفي هذا السياق سنستبدل الأمير بالفاعل السياسي انسجاما مع الوضع المعاصر لضرورة معرفية، خصوصا وأن المشترك هو حقل السياسة، ونربط الأمير بما هو موجود لدى مكيافلي - فلكي يكون الأمير أميرا، يجب أن يعرف جيدا طبيعة الشعب الذي يحكمه، ولمعرفة الأمراء جيدا يجب أن يكون من الشعب[6]؛ بمعنى أن يكون الأمير "الفاعل السياسي" جزءا لا ينفصل عن القاعدة الشعبية لكي يفهم الشعب، وفي الآن ذاته وبوصفه أميرا أن يكون متميزا عنه لكي يقدم نفسه أميرا؛ أي أن يتحكم في العلاقة التي تربط بين الأمير والشعب، تلك العلاقة التي تكون ما بين الأعلى والأسفل، ويشبهها مكيافللي بالرسام. فحينما يريد هذا الأخير النظر في الجبال والأماكن الشامخة يتموقع في الأسفل عند السفوح، وحينما يتموقع في الأعلى، فإنه ينظر للأماكن السفلى[7]، وتلك هي المهمة التي يجب أن يقوم بها الأمير بمعرفة جيدة تعبر عن حسن طالعه بالأماكن السفلى والأماكن العليا، بغية التحكم في كل التغيرات التي يمكن أن تقع في السلطة وتهدد كيان الأمير. ولكي يتمكن الأمير من تحصين دولته يجب عليه أن يتحلى بأخلاق تفرضها الضرورة السياسية، أي أن تكون لديه إيثيقا (أخلاق محايثة للفعل) يعبر عنها الموقع الذي يحتله في السلطة، ومنه فالأفعال التي ستنتج عن هذا الموقع هي التي ستحدد الأخلاق، وليس معيارا خارج نسق السياسة، وبالتالي فالقوانين التي ستوجد ستكون من صميم الضرورة السياسية وليس من أشياء متعالية بالضرورة؛ لأن الهاجس الأساسي هو الحفاظ على السلطة، ولكي يحافظ الحاكم على هذه الأخيرة يجب عليه أن يتحلى بما تفرضه الضرورة السياسية. وفي إطار هذه الإشكالية الأساسية المتعلقة بفن تدبير العمل السياسي في إطار عملية التمسرح السياسي؛ وذلك للإجابة عن الإشكال المركزي بعلاقته مع الإشكالات المطروحة، وسنقسمها على أربعة محاور وخاتمة، وهي كالتالي:
1. السياسة والتاريخ؛ الدروس المستفادة.
2. السياسة والميتافزيقا، إشكالية الفصل والوصل.
3. السياسة بين المبدئية والبراغماتية السياسية.
4. إشكالية السياسة والعنف.
5. الخاتمة.
1. السياسة والتاريخ؛ الدروس المستفادة
ينبغي أن يكون للتاريخ والزمن دور أساسي في السياسة بالنسبة لمكيافلي، حيث يتطلب من الفاعل السياسي أن يستلهم من تاريخ الماضي والتجربة السياسية سواء الماضية أو الحالية، الدروس والعبر التي ستمكنه من الحفاظ على حيازة السلطة. ويعتبر مكيافلي وعبر تجربته السياسية، أن الأمراء الذين قاموا بأعمال عظيمة استفادوا من التاريخ في السياسة وكان لهم الماضي مصدر مهم للاستلهام[8]، إذ أهمهم لم يفوا بأقوالهم وعهودهم إلا ما نذر، وذلك بفضل الخديعة والتحايل[9]؛ لأن التجربة تجعل من السياسي يقوم بعملية تحديث لفعله السياسي بشكل مستمر أمام كل درس ومحطة يقف أمامها، وبالرغم من التراكم الذي يتميز به الزمن من تشابه الأحداث والوقائع، فإن السياسي يجب عليه أن يستفيد من زبدة الخلاصات التي يستنتجها من تلك الأحداث وكذلك خيطها ناظم، لكي لا يكرر نفس الأخطاء ويتطور بشكل إيجابي في مسيرته السياسية. وفي هذا الصدد، يذكر مكيافلي أهم النماذج التي عرفها التاريخ سواء في سياقه الذي عاش فيه أم ما قبله مثل الإسكندر السادس[10]، هانيبال بينتيفوجليو[11] ماركوس أوريليوس (الفيلسوف) وابنه كومود، وبرتيناكس، يوليان، سيفر[12]...إلخ. فهؤلاء النماذج الشخصية منهم من أفلح في فعل السياسة والحفاظ على السلطة، ومنهم من أساء استخدام سلطته، لذلك يجب على (الفاعل السياسي) الاستفادة من الدروس بإمعان وتقليد[13] النماذج الناجحة للحفاظ الأمثل على السلطة، وألا يسيء استخدامها، وهذه الإساءة تتحدد بطبيعة الموقف الذي يوجد فيه السياسي، فإذ تطلب منه الأمر أن يفعل الشر؛ لأن أبعاده لها إيجابيات فلا يتردد في ذلك قيد أنملة، والعكس صحيح في الخير، ومن الضرورة السياسية أن لا يتعامل مع الشر والخير من حيث طبيعتهما لأنهما قد يؤديا به إلى الهلاك.
وبالرغم من عدم نسقية النص المكيافلي الذي يكرر الأشخاص والأحداث والنماذج، إلا أنه في هذا التكرار غاية بالنسبة لمكيافلي، إذ يريد أن يؤكد أهمية النموذج الذي يستعرضه؛ لأنه يجب أن يمثل نبراسا للفاعل السياسي في كل فعل وحركة يقوم بهما مثل نموذج قصير بورجيا الذي أولع به مكيافلي، خصوصا وأن ميدان السياسة يتميز بالمكر والخديعة والحيلة، لذلك يجب على الفاعل السياسي أن يكون في منتهى الواقعية السياسية. ومن بين النماذج التاريخية التي تميزت بالواقعية هو إسكندر السادس الذي لم يفعل أي شيء سوى خداع الناس، ودائما ما كان يجد الفرصة للقيام بذلك[14]. لذلك حافظ الإسكندر السادس على سلطته وممتلكاته، وبهذا المعنى يجب أن يمثل هذا الأخير نموذجا تاريخيا للسياسي (الأمير) وأن يقلده لكي يحافظ على السلطة. وهناك أيضا من الأمراء من أخفقوا في القيادة وخسروا إمبراطورياتهم وسلطتهم، ومن بينهم ماركوس أورليوس وأبنائه.
إن العلاقة بين السياسة والتاريخ هي علاقة تفاعل داخلي، حيث لا يمكن للسياسي أن يكون سياسيا دونما الرجوع للتاريخ ودون أن يستفيد من التجارب التي تحيط به، حيث يقلد النماذج الناجحة، ويتخطى النماذج الفاشلة، بغية الحفاظ على السلطة وعدم الإساءة إليها. وهذا معناه أن فعل السياسة الذي يكون ممتدا عبر التاريخ، ينبغي على الفاعل السياسي أن لا يغفله مطلقا، وإلا سيسحب من تاريخ برمته.
2. السياسة والميتافزيقا، إشكالية الفصل والوصل.
أحدث مكيافلي قطيعة إبستمولوجية بين السياسة والميتافزيقا القديمة التي كانت مؤطرة للتفكير الفلسفي منذ أرسطو مرورا بالفلاسفة المسلمين إلى توما الأكويني، لكن هذه القطيعة ليست فصلا مكانيكيا تضع كل طرف على حدة، بل هناك ما يمكن أن نعتبره تمييزا موضوعيا بين السياسة والميتافزيقا؛ بمعنى آخر أن فعل السياسة نضج من حيث تصوراته، حتى صار مستقلا عن كل ميتافزيقا تجعل موضوعاته أكثر إشكالية إذا انضبط إليها انضباطا تاما. ولذلك، صنعت السياسة لذاتها أخلاقا من فعلها السياسي. وإن هذا التمييز جعل من السياسة تتحرر من ثقل الميتافزيقا، ومن كل الاعتبارات الخارجية المفارقة، التي يمكن أن تعوق الفعل السياسي. ولهذا سيبني مكيافلي تصورا جديدا لتحديد السياسة بعلاقتها مع الميتافزيقا، وعلى الخصوص الدين أو الأخلاقية الدينية التي يجب أن يتميز بها الفاعل السياسي؛ بمعنى آخر أن انفصال السياسة بالميتافزيقا هو ليس انفصالا مع كل أشكال الميتافزيقا، وإنما مع الأشكال التي تكون في منتهى المثالية وحينما يبادر صاحبها إلى تنزيلها تعيقه على كافة المستويات، ولذلك صار ليس من الضروري أن تحقق السياسة السعادة، هذا ليس شأنها، وإنما تتفاعل بمنتهى الحنكة والواقعية السياسية مع الشأن العام. أما بالنسبة للدين، فذلك شأن آخر. لذلك يرى مكيافلي أنه يجب أن تكون أخلاق الفاعل السياسي سياسية، بما فيها الأفعال الدينية والأخلاقية، وليست أخلاقا يحكمها المنطلق الديني أو الأخلاقي الخارجي. ولهذا سينزع مكيافلي عن السياسة الغطاء الميتافزيقي، لكن هذا لا يعني التخلي المطلق عن الدين؛ لأن هذا الأخير بالنسبة لمكيافلي له دور مهم لكي يكون للأمير جاه وسلطة، ومنه فمن المفيد للأمير أن يبدو متدينا وأن يكون كذلك فعلا، خصوصا وأن صفة التدين أكثر أهمية للناس العامة؛ لأنهم يحكمون بما تراه عيونهم[15]. ويعطي مكيافلي مثالا بالملك الإسباني فردينان ملك أراغون، الذي كان ضعيفا في البداية، لكن تقوى بفضل بارونات الكنيسة وبمال الكنيسة والشعب[16] أيضا، وهذا الاستعمال للدين مكنه من الانتصار والقوة، وهذا يعني أن توظيف الدين للسياسة ليس له دائما طابعا سلبيا، خصوصا إن كان الأمر يقتضي مصلحة الدولة، ومن ثمة فهذا التوظيف السياسي للدين قد يمكن السياسي من السلطة.
إن العلاقة الإشكالية بين الدين والسياسة بالنسبة لمكيافلي، تتحدد من خلال عملية التمسرح السياسي، وعلى الأمير أن يجيد هذه العملية، فإذ لم يكن متدينا فعليه أن يبدو متدينا بدين من يسوسهم؛ أي أن يتجلى للرعايا بصفة التدين، حيث الأمير هو الراعي الرسمي لدينهم؛ لأن الدين عامل مهم في الوحدة السياسية والاجتماعية للمواطنين، ويتطلب من ناحية أخلاق السياسة أن يكون الفاعل السياسي حريصا على الحفاظ على دين المواطنين، وإن لم يكن هو كذلك بالفعل فعليه أن يظهر بمظهر التدين بمختلف أشكاله التي يعرفها مجتمعه، وهذا لا يعني أنه يمارس نفاقا أو رياء كما هو الأمر بين الناس، كلا؛ وإنما هو ضرورة سياسية تتطلب من الفاعل السياسي أن يدبر الأمر الديني لكي يحافظ على السلطة، بل عليه أن يكون الشأن الديني من اختصاص الدولة وتدبيرها حتى لا يقوم نزاع سياسي في هذا المستوى، ومن الضروري على الأمير أيضا أن تكون له بعض المهارات، وإن كانت هذه المهارات ضرورية، فليس من الضروري أن تكون طابعا شخصيا، ولكن من المفيد أن يبدو السياسي كذلك؛ لأن فعل السياسة يقتضي القدرة على الوقوف فوق الخشبة، وفي نفس الوقت عليه أن يعرف جمهوره.
ويمكن أن نعتبر علاقة الوصل والفصل بين الدين والسياسة هي ليست علاقة انفصال بشكل حدي، تضع الدين في مصب والسياسة في مصب آخر، وهي أيضا ليست علاقة اتصال بين الطرفين، وإنما هناك علاقة إجرائية[17] بينهما، حيث يستعمل الفاعل السياسي الدين لأغراض سياسية تمكنه الحفاظ على السلطة، أي أن يكون الدين كسيروة إجرائية تجعل السياسي يعرف مدى إفادة الدين لصالحه ولصالح الدولة والمجتمع، ومدى مضرته لهم جميعا، وبهذا المعنى يمكن أيضا أن نعتبر الدين هنا قانونا تستعمله الحكومات لقضاء مصالح سياسية، مثل زيارات الرؤساء والملوك لرجال الدين والعكس صحيح، فإذا تتبعنا الخيط الناظم من وراء هذه الزيارات سنعرف أن مصالح سياسية وراء هذه الزيارة، لذلك فعلى الفاعل أن يعرف كيف يوظف الدين لمصلحة الدولة؛ لأنها هي الغاية من وراء ذلك التوظيف.
3. السياسة بين المبدئية والبراغماتية السياسية.
من بين القطائع الكبرى التي قام بها مكيافلي، هي القطيعة ما بين الأخلاق القائمة على المبدئية والسياسية، على خلاف التصورات القديمة التي كانت تنظر إلى السياسة من زاوية أخلاقية معيارية؛ أي ما ينبغي أن يكون، وليس ما هو كائن، وتعتبر أن العلاقة بين السياسة والأخلاق تمثل شيئا واحدا، لذا يجب على السياسي أن يكون أخلاقيا بالضرورة، لكن مع مكيافلي ستقوم قطيعة مع هذا التصور، حيث سيدشن نظرية جديدة لتعريف الأخلاق، سواء في بعدها النظري ثم في بعدها العملي، وستصير الأخلاق العملية هي أساس الفعل السياسي، حيث تصير للسياسة أخلاقها تفرضها اللعبة السياسية من داخل الحقل السياسي، وبهذا المعنى ستسقط كل مبدئية أو معيارية أخلاقية في العمل السياسي، وتصبح الواقعية السياسية هي المتحكمة في اللعبة، وعلى هذا الأساس سيصير للمصلحة الوطنية العليا للدولة معنىً مغايرا؛ إذ يعتبر مكيافلي أن أساس الحكم يجب أن يبنى على طريقتين؛ هما القوانين والقوة معا وبشكل متفاوت، وهاتان الآليتان هما الشيآن اللذان يجب على الأمير أن يتحكم فيهما بهدف صنع صورته في الحقل السياسي؛ فالأولى تكون من صميم البشر، والثانية للمتوحشين، وإذا كانت الأولى لا تكفي لأداء المهمة، فعلى الأمير أن يعود دائما للثانية، وعلى هذا الأساس فمن الضروري أن يتقن ويجيد استعمال قوة التوحش والقوة البشرية[18]؛ لأن الثانية تعتمد أساسا على الأولى ولا يمكنها أن تدوم بدونها[19]، وعليه أيضا أن يتقيد بمعرفة إتقان استخدام التوحش، كأن يكون ثعلبا وأسدا في الآن ذاته؛ لأن الأسد لا يقدر أن يحمي نفسه من الفخاخ، والثعلب لا يستطيع أن يحمي نفسه من الذئاب، إذن يجب أن يكون ثعلبا لمعرفة الفخاخ المنصوبة، وأسد لمواجهة الذئاب، ومن يعتمد فقط على الأسد لا يفهم شيئا[20] في السياسة وسيخسر كل شيء.
إن المثال الذي يضعه مكيافلي يجعلنا ندرك أن حقل السياسة مليء بقوى متعددة، وكل قوة منها تحتاج إلى آلية معينة، فمنها من يكفيها قوة البشر، ومنها من يكفيها قوة الحيوان، ومنها من تحتاجهما معا. لذلك يوصي مكيافلي الأمير على أن يجمع بينهما معا بالضرورة، بل وأكثر من ذلك يؤكد على الجانب المتوحش والشرس للفاعل السياسي، إذ يرى أنه يلزم أن يكون شرسا ومتوحشا أكثر من كونه إنسانا؛ لأن البعد الإنساني لا يحفظ السلطة أكثر. وفي سياق الارتباط بالجانب الحيواني يرى أيضا أنه يجب عليه الجمع بين القوة والمكر والخداع؛ لأن ميدان السياسة يتطلب أن يكون الفاعل السياسي هكذا؛ أي أن يكون داهية يعرف أين تكمن الثغرات ونقاط الضعف لكي يتخطاها ويتجاوزها بالنسبة إليه، وإذا علم بضعف خصمه أو عدوه السياسي، عليه أن يستغل هذا الضعف لصالحه، وأن يكون أيضا قويا بما يمتلك من قوة عسكرية واقتصادية التي ستمكنه خشية الخصوم منه، لكن من يعتمد على الجانب الصلب في السياسة، فإنه لا يجيد فعلها، ولنا في التاريخ الماضي والحالي نماذج، مثل جمال عبد الناصر، صدام حسين، معمر القذافي، هؤلاء الزعماء السياسيون اعتمدوا فقط على الجانب الصلب لعملهم السياسي، فخسر عبد الناصر حرب أكتوبر 1973، وخسر صدام حرب الكويت التي أتبعت باحتلال أمريكا للعراق، وخسر القذافي ليبيا في مواجهته للشارع الليبي.
فامتلاك السياسي لهذه الصفات والخصائص، وفي إطار عملية التمسرح السياسي، تجعله قادرا على إنتاج صورة سياسية، تتحول بفعل الضرورة السياسية إلى طبيعة وإن كان لا يتمتع بهذه الصفات؛ لأن المظاهر هي التي تحكم العالم[21]، بمعنى آخر أنه يتطبع بهذه الصفات كصفات القوة والمكر، وأن يجيد حرفة هاتين العمليتين خصوصا صفة الثعلب، حيث يكون مداهنا عظيما، تجعل الآخرين ينخدعون له بسهولة، ولا تنطلي عليهم حيلته. وفي نفس السياق، فعلى الأمير أيضا ألا يفي بما يقوله ويتعهد به؛ لأن الوعد الذي أعطاه ظهرت عيوبه، ومنه انتهت أسباب هذا الوعد، فإذا كان كل الناس أخيارا، يصدق بوعده، لكن إذا كانوا أشرارا ولن يفوا بوعودهم مع الأمير، فهذا يتطلب ألا يفي هو أيضا بالوعد الذي يعطيه[22]. ولكن عدم الوفاء بالوعد لا يكون بالطريقة الفجة، بل من الضروري تجميله، ويستطيع التمويه والخداع؛ لأن الناس سذج لهم القابلية للانخداع[23]. فالتخلي عن الوعد لن يكون هكذا عبثا أو صدفة كما أشرنا، وإنما يخضع لموازين قوى هي التي تجعل الفاعل السياسي، يرى هل يتخلى عن وعده أم لا، بمعنى آخر أن الشيء الثاوي وراء فك عقد الوفاء بالوعد بين طرفين سياسيين هو المصلحة بالأساس التي تجعله حينها، إما أن يكون قويا أم لا في حقل السياسة، مثلما قام به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حينما انسحب من اتفاقية باريس للمناخ؛ لأن هذه الاتفاقية البيئية لها أضرار كثيرة على مصلحة بلاده الاقتصادية، ولذلك قرر الانسحاب من الاتفاقية ولو أن الأمر متعلق بتهديد كوكبي للبشرية، لكنه فضل مصلحة بلاده على الجميع، وبهذا المعنى يعتبر مكيافلي أن حقل السياسة هو ميدان الشر، لذلك فالوعود لا يمكن الوفاء بها حينما تتهدد مصلحة الدولة. وبالتالي، فمن الضروري على الأمير أن تكون له بعض المهارات والكفاءات، فليس من الضرورة الطبيعية أن تكون في الأمير هذه الخصال، خصوصا وأن فعل السياسة يقتضي القدرة على الوقوف فوق خشبة المسرح، وفي نفس الوقت عليه أن يعرف جمهوره.
وفي إطار الواقعية السياسية يرى مكيافلي أنه يجب على الأمير أن يتجنب الاحتقار والازدراء والكراهية[24]، لأنها ستشكل خطرا عليه، بل يلزم أن يحافظ على ظهور أعماله بشكل يعكس العظمة، والشجاعة، والمجد، وعندما يصدر حكما في الشؤون الخاصة لرعاياه، يجب أن تكون عقوبته لا رجعة فيها، ويتمسك بقراراته حتى لا يحلم أحد أن يخدعه، فعليه إذن يعطى فكرة العظمة عنه لدى الآخرين[25]. فإن الكراهية والازدراء بالنسبة لمكيافلي يصنعها السياسي تجاه نفسه، حيث يصنع صورة حول نفسه تجعله يبدو مكروها وحقيرا تجاه شعبه، وفي هذا الصدد يلزم أن نأخذ بالاعتبار عملية التمسرح السياسي، فعملية الظهور والاختفاء هي التي يركز عليها مكيافلي بالأساس، إذ يؤكد على ظهور السياسي في صورة تعكس عظمته؛ أي أن يصنع لنفسه هالة من القوة التي تتجلى من خلال عمله؛ بمعنى آخر أن السياسية هي صناعة الصورة أمام الجمهور. لذلك، فإن الاحتقار والازدراء الذي يكتسبه الأمير يكون نتيجة صناعتهما ضد نفسه من خلال أعمال، قد تبدو في الميدان الاجتماعي مسألة عادية لكن للسياسة شروطها وقواعدها، ومن بين هذه الشروط التي يلح عليها مكيافلي هو شرط الحزم والتمسك بالقرارات التي يأخذها الأمير، لكي يعطي لنفسه صورة الأمير الحازم والقوي، وإن لم يكن هو بطبيعته كذلك؛ لأنه حينما سيصنع هذه الصورة عن نفسه سيدفع الآخرين بالضرورة إلى احترامه واحترام المسافة بينه وبينهم، وبالتالي سيخلق هيبة لنفسه. وفي السياق نفسه، على السياسي أن يتخوف ويأخذ بعين الاعتبار شيئين؛ الأول متعلق بالتماسك الداخلي للدولة، والآخر متعلق بالقوى الخارجية؛ فالأمير يستطيع الدفاع عن نفسه من الثانية بالأسلحة القوية والجيدة، والأصدقاء المخلصين، فدائما إذا كانت أسلحة جيدة يكون أصدقاء جيدون. كما أن الأحوال الداخلية ستكون هادئة، عندما تكون الأطراف الخارجية لا تريد الاضطراب الداخلي وليس فيها اضطراب أيضا، وحينما تريد ذلك، فالأمير سينظم صفوفه، ولن يترك الأمر رهين للاضطراب وسيواجهه، كما يجب أن يواجه رعاياه إذا كانوا يعملون لصالح القوى الأجنبية في السر، وبالتالي فعلى الأمير أن يؤمن نفسه من هذه المخاطر، بأن لا يكون مكروها ولا محتقرا؛ وذلك ببقاء الشعب راضيا عنه[26]، بمعنى آخر أن يعمل دائما على الحفاظ على التماسك الداخلي للمجتمع، ويعمل على تمنيع الجبهة الداخلية لكي يستطيع مواجهة الخارج؛ لأنه كلما كانت الجبهة الداخلية السياسية والاجتماعية منيعة وقوية، بالرغم مما يمكن أن يعترضها من هزات، إلا أن الفاعل السياسي يستطيع أن يواجه الخارج، والعكس غير صحيح، ولو كان الفاعل السياسي معتمد على أقوى الحلفاء، فإنهم لن يتركوا له الفرصة لكي يقضوا عليه، لأنه منخور داخليا.
إن الاحتقار والازدراء هنا مرتبطان أساسا بتمكن الفاعل السياسي من فهم أمرين؛ وهما أولا فهم القوى الخارجية، أو ما يسمى في اللغة السياسية الحالية بالمحيط الإقليمي والدولي؛ فالعلاقة مع القوى الخارجية رهينة بقوة الدولة من الداخل، بمعنى آخر إن الفاعل السياسي حينما يكون قويا على المستوى الداخلي من خلال القوة العسكرية وولاء الأقربين له، وكذلك هدنة الخصوم له أو حتى اتفاقهم النسبي معه، يكون في حالة مريحة بعلاقته مع الآخرين، بيد أن ولاء الأقربين بدوره مرتبط بالقوة العسكرية؛ أي امتلاك الفاعل السياسي إلى جيش قوي، وهذا الجيش يكون هو الجاذبية للأقربين وولائهم له، فكلما كان الفاعل السياسي قويا على المستوى العسكري كانت له ولاءات متعددة وقريبة له، أو ما نصطلح عليه اليوم بالتحالفات بين الدول، لكن بما أن السياسة تتضمن شر لا بد منه بالنسبة للحاكم، فإن الركيزة التي يجب أن يعتمد عليها الحاكم، هي الشعب وولائه له؛ لأن القوى الأجنبية حينما ترى قلاقل على المستوى الداخلي، تحاول أن تعمل على اضطرابها والركوب عليها تحت عدة مسميات، ولذلك ينبغي أن يصنع السياسي لنفسه صورة تعكس عظمته في الداخل، لكيلا أن يكون محتقرا ومكروها، وذلك برضى الشعب عنه. ولهذا يعتبر مكيافلي أنه يجب على الأمير أن يكون قويا بعدم الأخذ في الحسبان بالمؤمرات[27]، لأن الشعب بجانبه. وإلى جانب هذا، يرى مكيافلي أنه من الضروري أن تكون الدولة ذات قوانين ومنظمة مثلما هو الأمر بالنسبة لفرنسا وقتئذ، والتي كانت تتمتع بمؤسسات قوية، وهو ما يعتمد عليه الأمير لأمنه وحريته، ومن بين هذه المؤسسات البرلمان بسلطاته القوية[28]؛ لأن من بين أهم الضمانات السياسية لأريحية الحاكم هي قوة المؤسسات، مثلا إذا كانت الهيئة التشريعية _ البرلمان _ قوية بممثليها من حيث خدمة مصالح الدولة والشعب، فإن هذا يرضي الشعب، وإذا رضي فبالضرورة أن يُرضوا عن الحاكم، ولذلك يوصي مكيافلي أنه من الضروري أن يعمل على ترضية الشعب عنه لكي ينال الشهرة، ولكن لا يجب أن يكون على حساب الشعب لكي لا يكرهه[29]. ومسألة مهمة يجب أن يعيها الأمير، وهي أن الكراهية قد تأتي من الأعمال الطيبة والخيرة، على خلاف أن تأتي من الأعمال الشريرة، ولذلك ولكي يحمي الأمير سلطته أن يقوم بأعمال ليست خيرة، فإذا فسدت أحد مراكز القوة الداخلية "الشعب، الجيش، علية البلاد" ويريد الأمير حماية سلطته، فيجب أن يتبع هوى أحد الأطراف، وهنا سيجد الأمير أعداء له بأعماله الصالحة[30]، ويبدو أن ممارسة الخير من أجل الخير قد ينعكس سلبا على السياسي في ميدان السياسة، وبالتالي يجب أن يكون الخير ليس غاية في ذاته، وإنما لمصلحة الدولة، مثلا قد يغدق الحاكم على أحد من علية البلاد بالمال والممتلكات، اعتقادا منه يقوم بعمل خيِّر لنفسه، لكن هذا الفعل قد تكون له عواقب سلبية عليه، بأن يجعل شخصا ما قويا دون أن يدري، وبالتالي فممارسة الخير بالنسبة لمكافلي يجب أن تكون بالمقدار الذي لا تتضرر فيه مصلحة الدولة، وإذا أحس الحاكم بأن سلطته مهددة يلزم أن يقوم بفعل الشر، وهنا يمكن أن نورد نموذجا من الحاضر بالمغرب، فالدولة أقرت ما سمي بإصلاح التقاعد، لكن هذا الإصلاح فيه مضرة للموظفين، إلا أنه إذا أرادت الدولة أن تحافظ على نفسها من ضغط الانفاق الاجتماعي، وأن تستفيد أيضا من قروض الهيئات الدولية المانحة، يلزم أن تقوم بهذا الإجراء السياسي، وبالتالي قد يكون الشر مهما للحفاظ على الدولة.
وفي الأخير، سنتحدث عن مفهوم طريف في ميدان السياسة يسميه مكيافلي بالفورتونا، أو ما يمكن أن نسميه بالصدفة أو الحظ كترجمة تقريبية، إذ يرى أن مفكرين كثر يعتبرون أن العالم محكوم من طرف الفورتونا والله، وأن القدرة البشرية (في التفكير والتصور) عاجزة عن التصحيح[31] والناس لا يستطيعوا التغيير، وإذن فإن الأمر لا يتطلب كثيرا من الجهد، لكن في نظره يرى أن هناك جانبا من الحرية باقي، يتصور أنه يمكن التحكم في الفورتونا لصالح أعمالنا، وأنه متروك لنا شيئا يمكن التحكم فيه[32]. ويشبه مكيافلي الفورتونا بنهر جارف غاضب، يفيض من السهول يقتلع الأشجار، ويهدم المباني، ويزيل الأتربة من مكان إلى آخر، والكل يهرب من أمامه، ولا يستطيعون القيام بشيء أمام هذه المعضلة[33]، لكن حينما تتخذ من أجله التدابير اللازمة في أوقات الهدوء، وتوضع له القنوات والسدود يمكن للناس أن تحد من جهده وقوته، وتجعله يخدم لصالحها.
أولا يعتبر مكيافلي أن الإنسان ليس خاضعا بالمطلق للفوروتونا ولكن هناك جانب من الحرية في التصرف والإرادة، إذا عرف وفهم المتغيرات التي تحيط به، واستطاع أن يوجهها قبل أن تلحق حينها، فلا يعرف ماذا يفعل، بمعنى آخر أن تكون للحاكم القدرة على قراءة كل المتغيرات التي تقع في الساحة السياسية الداخلية والخارجية، وأن يستبق النتائج المحتملة من وراء هذه المتغيرات، وأن يفهم أيضا موازين القوة أين توجد وأن تتجه، وبناء عليه يستشرف الآفاق المستقبلية في السياسة، وما مدى حظوته وموقع في تلك الآفاق، ويعطينا مكيافلي مثال النهر الجارف إذا ما تم التحكم وقت هدوئه، تكون النتائج مفيدة لصالح الناس وقت غضبه، بالقنوات التي ستمكنه من المرور، والسدود التي ستحبه لكي تمتلئ. وبهذا التشبيه كأن مكيافلي يريد أن يقول لنا أن للفورتونا قانونا، إذا ما تحكمنا فيه كان لصالحنا في ميدان السياسة، وإذا لم نتحكم فيه جرفنا في صيرورته كما تجرف الوديان ما تجده أمامها، ويقول إنه إذا تغيرت طبيعة الظروف، فإن الفورتونا لا تتغير أبدا[34] مثلا قد تتغير ظروف غليان الماء، سواء المكانية أو الزمانية، لكن قانون غليان الماء لا يتغير.
في الختام، يجب على الأمير أن يفرض موازين القوى؛ لأنه ليس هناك نظام جاهز، فقواعد اللعب تتغير مع الوقت، وفقا لمقتضيات كل وضعية، وعلى الفاعل السياسي أن يتفاعل مع الزمن والمعطيات، لأنه من النادر أن تتطابق المعطيات مع الفورتونا، لذلك يجب على الحاكم أن يستبق الحظ ويتحكم فيه، والمحور الأساسي لأطروحة مكيافلي في هذا الجانب هو كيفية انتهاز واستثمار الفورتونا، لأن هذا الانتهاز متعلق بالأساس، بخضوع الفعل السياسي للظروف والسياق والتقابلات الزمنية. فرجل السياسة عليه أن يتوقع الأحداث، وأن يستبق ويذهب إلى اتجاه الحدث، وأن يتحكم في التقابلات الزمنية، بمعنى آخر يجب ألا يكون الحاكم في النقطة السلبية، ولهذا يجد مكيافلي في مفهوم الحظ قانونا، يمكن التحكم فيه، وعلى الفاعل السياسي ألا يترك شيئا للصدفة، وأن هذه التقابلات فهي من الضرورات الخارجية، وعلى الأمير أن يتصرف إزاءها ولا أن تمارس عليه هي الضغط. وامتلاك السياسي لهذه القدرة والاستطاعة ليس نابعا من التفاعل السلبي مع المتغيرات، وإنما توظيف قانون الفورتونا، حيث يمتلك الحاكم كل الوسائل والآليات لكي يحول العوامل السلبية إلى عوامل إيجابية صالحة لسلطته. وقانون الفورتونا يفرض بعض القواعد: هو أنه لا يعترف بمن يخضع له، بل من يقاومه، ويرى مكيافللي أنه على رجل السياسة، من الأفضل أن يكون عجولا، متهورا، على أن يكون حذرا ومتريثا، لأن الفورتونا كامرأة، تخضع بالضرورة لمن يقاومها لكي ينتصر، ولهذا السبب دائما تكون المرأة (الفورتونا) صديقة الشباب؛ لأنهم أقل حذرا، وأكثر قوة وتحكما مع جرأة أكبر[35].
وهنا يبدو لنا أن أمر السياسة من حيث هي فعل لا تتطلب أن تعامل مع ما هو معياري، وإنما ما هو واقعي أساسا؛ لأن هناك ضرورة سياسية تدفع الفاعل السياسي أن يتسم أكثر بالواقعية السياسة؛ لأنه إذا تعامل مع السياسة بما ينبغي أن يكون، فإنه لا يستطيع أن يقوم بأي فعل في حقل السياسة، حيث تصير المثل عائقا له، بل قد تزيحه من ميدان السياسة، ولهذا يتطلب منه أن يكون قويا وحازما، ومن جهة أخرى أن تكون لديه مؤسسات قوية تتمتع بقوانين متينة تجعل الدولة أكثر حصانة من أي اهتزاز محتمل، كما يتطلب أن يبعد على نفسه الاحتقار والازدراء والكراهية، فهذه الصفات ستجعله منبوذا ولذلك يتطلب أن يتمتع بصورة سياسية يعمل على إدارتها جيدا وإشعاعها أيضا، وفي إطار الواقعية السياسية أيضا يتطلب من الفاعل السياسي أن يكون في مستوى الإلمام بكل الظروف التي تحيط به من بعيد أو قريب، حتى تكون له الإمكانية للتفاعل معها بكل حرية.
4. إشكالية السياسة والعنف
ارتبط كتاب الأمير بالعنف السياسي، كشيء يلزم على الحاكم أن يفعله في ممارسته السياسية، بل إن السياسة هي ممارسة العنف بالنسبة لمكيافلي. فإذا كانت النظريات القديمة التي كانت تنظر للسياسة من الزاوية الأخلاقية، تعتبر أن العنف في السياسة هو فعل مشين. لكن مع مكيافلي سيدخل العنف كجزء من السيرورة السياسية، بل وأصبحت السياسة مع مكيافلي محايثة لشيء اسمه العنف، سواء تعلق الأمر بالحرب التي يعتبرها مكيافلي الشيء الوحيد الذي يجب على السياسي أن يتقنه ولو في وقت السلم، وأيضا حينما يتعلق الأمر بالتعامل مع المعارضة الداخلية، خصوصا حينما يكون الحاكم جديدا في بعض الأحيان. ويعتبر مكيافلي، أنه لا ينبغي للأمير أن تكون له غاية، ولا تفكير في أولوية، غير الحرب، من حيث تنظيمها، ولأنها الوحيد المتعلق بمن هم في الحكم، وأنها السبب الأول في ضياع سلطتهم، بسبب إهمالهم وتخليهم على هذا الفن، وهذا الفن يكتسب من خلال إيجاده واتقانه[36].
إن الحرب كفعل عنيف في السياسة، يجب أن تكون أولى الأولويات عند الحاكم، من خلال تقوية دولته في الجانب العسكري؛ لأن ضمان بقاء الدولة مرتبط بقوة هذا الجانب، بل والتفكير الدائم في الحرب. فالتخلي عن فن الحرب يسبب ضياع الدولة، فأن تكون الدولة ضعيفة التسلح أو لا تهتم بهذا الجانب، تدخل في مشاكل، وتعود محتقرة على خلاف الدولة التي تكون جيدة التسلح، ولهذا وإن كان في الأمر تشخيص الدولة في الأمير، فإن مكيافلي يرى أن هناك فرقا بين أمير مسلح، وأمير غير مسلح[37]، فالأول قوي وله هيبة، والثاني محتقر، ولهذا يجب على الأمير ألا يتخلى عن التفكير في ممارسة الحرب، ويجب أن يمارسه في وقت السلم[38]؛ وهنا نلاحظ أن هناك مستويين في فعل الحرب، الأول له علاقة بالتفكير في الحرب، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك عدو محتمل لكي يتم التفكير في الحرب، وإنما يجب افتراض عدو محتمل من أجل التفكير في الحرب والاستعداد لها، والمستوى الثاني متعلق بممارسة الحرب في أوقات السلم، أو ما يسمى في الوقت الحالي بالمناورات العسكرية، حيث تقوم الدولة باختلاق الحرب بشكل تمثيلي، وتدخل في غمارها لكي تكون مستعدة لها، وتعرف الجغرافيا التي توجد بها، وتعرف العدو وكيف تتغلب عليه؛ وذلك استعدادا للفورتونا وأن تكون على أهبة مقاومتها[39].
هذا فيما يتعلق بالحرب، أما فيما يتعلق بسياسة الأمير الداخلية، فعلى الأمير أن يجمع ما بين سياسة العقل وقوة التوحش، كما تمت الإشارة سابقا، بيد أنه يجب الارتباط أساسا بالقوة الحيوانية، وهذا في إشارة إلى الارتباط بنزعة القوة العنيفة الغريزية؛ لأن القوة البشرية قد لا تفي بالغرض، وبذلك يلزم على الفاعل السياسي أن يكون متوحشا حتى يهابه الجميع، وإن لم يكن كذلك، فمن الواجب عليه أن يبدو متوحشا، أي أن يصنع صورة القوة والعنف عن نفسه، وفي هذا الإطار يقسم مكيافلي هذه القوة إلى مستويين، المستوى الأول المرتبط بالقوة الصلبة "مثال الأسد" والمستوى الثاني مرتبط بالقوة الناعمة "مثال الثعلب"، بيد أنه هناك وحدة في مفهوم القوة العنيفة التي تقاس بمقادير، على حسب الوضعيات، كأن يتصدى للأعداء بحزم، ولكن يكون على دراية تامة بفخاخهم المنصوبة.
إن العلاقة الإشكالية بين السياسة والعنف، كانت لها امتدادات على مستوى التنظير السياسي، إذ كان هناك مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين تبنوا العنف السياسي، صراحة، مثل هوبز[40]، الذي يعتبر أن العنف متأصل في الإنسان، وأن حالة الطبيعة يكون فيها الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، ولذلك وحين الانتقال إلى مرحلة الثقافة والدولة، فعلى الدولة أن تحوز العنف لذاتها، لكونها تعي أن الإنسان عنيف بطبعه، وهو الأمر الذي تبناه كارل ماركس[41] الذي يعتبر أنه يجب على الطبقة العاملة من الفلاحين والعمال أن يحوزا على العنف الثوري، بعدما كانت البورجوازية هي من تمتلكه سابقا عبر بنيتها الفوقية التي هي انعكاس للبنية التحتية، لذلك فعلى الجماهير الشعبية أن تكون العنف، تحت إسم ديكتاتورية البروليتاريا، وكذلك هناك نموذج آخر، وهو ماكس فيبر[42] الذي يعتبر أن للدولة المشروعية التامة لحيازة العنف لديها، وبالتالي فممارستها للعنف أثناء الخروج عن البنية والنظام يكون مشروعا وقانونيا.
5. التركيب والختام
جل الناس تنظر إلى مكيافلي، باعتباره شيطان السياسة؛ وذلك نظرا لما راج عنه من خلال كتاب الأمير، لكن في الحقيقة فمكيافلي كشف شيطان السياسة فلبسه هذا الأخير، خصوصا مع تلك القولة المنسوبة إليه التي تقول إن "الغاية تبرر الوسيلة[43]"، لكن هذه الحكم مبني على رؤية قاصرة لم تدرك فلسفة مكيافلي السياسي، التي مفادها أن للسياسية أخلاقها الذاتية وعبرها يتمم الحكم على الفعل هو فعل صحيح أم لا، لأن الغاية من السياسة بالنسبة لمكيافلي هو الحفاظ على السلطة وعلى الدولة، وهذه الغاية تتطلب مجهودا من قبل الفاعل السياسي، كأن يكون جزءا من الشعب، وفي نفس الوقت يحافظ على نفسه كأمير، وفي إطار هذا المجهود، فإن القوانين التي تقوم تشرعها الدولة يجب أن تحمي الدولة، انطلاقا من المبدأ الأساسي للدولة هو الواقعية السياسية، إذ ليس هناك مبادئ للدولة غير مبدأ الحفاظ على الدولة، وبالتالي فالقوانين يجب أن تتناسب وأن تتماهى مع هذه المبدئية والتي هي الواقعية السياسية.
وهذه الواقعية تتحدد من خلال عملية التمسرح السياسي، فأن تتظاهر الدولة بالمبدئية، لا يعني أنها كذلك، ولذلك فتشريع القوانين يجب أن يكون منسجما مع هذه العملية، لكن هذا لا يعني بالنسبة لمكيافلي أن تكون هذه القوانين بلا معنى، كلا فمكيافلي يرى أن قوة الدولة من قوة قوانينها التي تمكنها من الاستمرارية، لذلك فالبرغماتية التي يدعو إليها مكيافلي غايتها قوة الدولة ووحدتها، والصراع الذي يخوضه الفاعل السياسي هو من أجل هذه المهمة التي تتطلب الشقاء، وإن امتدادات الطرح المكيافلي لا زالت مؤثرة إلى اليوم، فالبرغم من كونه ركَّز الدولة في شخص الأمير، وأنزل المواطنين إلى مرتبة الرعايا، لكن ذلك كان في إطار شرطيته وسياقه التاريخي، إلا أنه استفاد منه مفكرون وفلاسفة سياسيون، وتميزه بالواقعية السياسية التي غابت عن أغلب المفكرين والفلاسفة، لكن كانت له الجرأة في أن يجعل النظريات السياسية تعمل في إطار الممكن وليس في إطار ما ينبغي أن يكون.
[1] Laurence Hansen-love, La philosophie de A à Z, Hatier, Paris, 2011, page 49.
[2] إن المعنى الذي يتخذه مفهوم "الأخلاق الذاتية" يقصد منه من الناحية الدلالية بأنه ليس هنا محددات وشروط وموجهات من خارج الأخلاق هي التي تحدد الفعل الأخلاقي، وتحكم عليه هل هو أخلاقي أما لا، وإنما يعني أن الفعل الأخلاقي من ذاته ينتج معايير داخلية هي التي يمكن من خلالها الحكم هل هذا الفعل أخلاقي أم لا.
[3] يعني المعيار المحايث « le critère immanent » أن المقياس الذي نقيس به الشيء يكون من طبيعة ذلك الشيء، وفهم طبيعة الأشياء ومحدداتها يمكن من فهم الأشياء التي تظهر بدون معنى، مثلا نحكم على الفصول الطبيعية بناء على المدة والتغيرات التي تقع في الفصول ذاتها، يمعنى آخر أن مقياس الحكم على انتهاء فصل معين ينطلق من فهم طبيعة الفصل.
[4] Laurence Hansen-love, La philosophie de A à Z, Hatier, Paris, 2011, page 224.
[5] معنى "التمسرح السياسي" « la dramatisation politique » أن السياسي يؤدي مواقف يتشخصن فيها حسب الأدوار التي يكون فيها، بمعنى أنه من جهة يخفي الوجه الحقيقي الذي يتمتع به، ويظهر بالوجه الذي يتطلب منه أن يظهر به أمام الجمهور، ولذلك عليه أن يعرف طبيعة الجمهور والخشبة التي يقف فيها حتى يؤدي الدور في أحسن الأحوال.
[6] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, lettre-dédicace à Laurent Magnifique, 2007 P, 8
[7] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 8
[8] Octave Larmaganc-Matheron, philosophie magazine, Machiavel, comment le pouvoir se prend, se garde ou se perde, Hors-série, page 17
[9] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVIII, 2007 P, 84
[10] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 85
[11] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 90
[12] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 92
[13] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 95
[14] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVIII, 2007 P. 86
[15] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVIII, 2007 P, 86
[16] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 106
[17] معنى علاقة إجرائية، أن الرابط بين الدين والسياسة لا ينبغي أن يكون في منتهى التماهي التام بحيث يصير كل فعل ديني سياسة أو كل فعل سياسي دين، مما قد يؤدي لإفقاد أدوار الدين التعبدية والشعائرية والقيمية التي تتطلب إدارة واعية بطبيعة الدين، ويصير كل فعل سياسي دين وهذا قد يدخل المجتمع إلى كهنوت، ومنه تتطلب أن تكون طبيعة العلاقة بينهما إجرائية بحيث يؤدي الدين وظائف سياسية معينة تتجلى مثل في توحيد الناس على المستوى العقائدي والمذهبي ولا تكون هناك تفرقة بين المواطنين، وتؤدي السياسة دورا دينيا بحيث تدبر الشأن الديني وترعاه حتى لا ينفلت من إدارة الدولة ويكون بيد ميليشيات تمزق الدولة داخليا.
[18] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVIII, 2007 P , 84
[19] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 85
[20] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVIII, 2007 P. 85
[21] Octave Larmaganc-Matheron, philosophie magazine, Machiavel, comment le pouvoir se prend, se garde ou se perde, Hors-série, page 19
[22] Nicolas Machiavel Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVIII, 2007 P. 85
[23] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVIII, 2007 P, 85
[24] Octave Larmaganc-Matheron, philosophie magazine, Machiavel, comment le pouvoir se prend, se garde ou se perde, Hors-série, page 21
[25] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XIX, 2007 P, 88
[26] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XIX, 2007 Pag, 89
[27] Nicolas Machiavel, , P, 91. op. cit., 2007
[28] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XXV, 2007 P. 91
[29] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 92
[30] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 94
[31] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 188
[32] Nicolas Machiavel Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XXV, 2007 P, 108
[33] Nicolas Machiavel op. cit., 2007, p. 118
[34] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 120.
[35] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XXV, 2007 P. 212
[36] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, Chapitre XVI, 2007 P, 72
[37] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 72
[38] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 73
[39] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, p. 74
[40] توماس هوبز، ازداد سنة 1588 وتوفي 1679، يعتبر من بين أهم فلاسفة العقد الاجتماعي، من أعماله، "في الطبيعة الإنسانية (1650)"، "الليفثان"، 1651
[41] كارل ماركس، اقتصادي وفيلسوف وصحافي وعالم اجتماع، ازداد سنة 1818 وتوفي سنة 1883، من أعماله "في القضية اليهودية (1842)"، "مساهمات في نقد فلسفة الحق لدى هيغل (1844)"، "الإيديولوجيا الألمانية (1846)"، "الرأسمال (1867)" هذا الكتاب أتمه فريديرك إنجلز، ويعتبر ماركس من المنظرين العلميين للاشتراكية في العالم.
[42] ماكس فيبر، عالم اجتماع واقتصادي، ازداد سنة 1864 وتوفي 1920، من أعماله، "العالم والسياسي (1919)"، "الأخلاقيات البروتستانتية والروح الرأسمالية (1920)"، "كتابات في منهج ونظرية المعرفة (1922)"، "الاقتصاد والمجتمع (1922)"، ويعد فيبر من المنظرين للعقلانية والبيروقراطية في العمل.
[43] Octave Larmaganc-Matheron, philosophie magazine, Machiavel, comment le pouvoir se prend, se garde ou se perde, Hors série, page 18