أخلاقيات الاقتصاد والمعايير الاجتماعية والسياسية عند المعتزلة
فئة : مقالات
مقدّمة:
إذا كانت مدرسة المعتزلة، أبرز المدارس الكلامية التي ظهرت في تاريخ الفكر الإسلامي في بداية القرن الثاني الهجري، قد عالجت، من خلال أصولها ومبادئها الخمسة: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتيْن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، قضايا العقيدة الإسلامية، وما يندرج تحتها من فروع ومشكلات ومسائل تتعلّق بعلم الكلام أو اللاهوت الإسلامي، إلى أن انتقلت به من هذا الحدّ إلى الفلسفة، فإن المسألة الأخلاقية The ethical question لم تغِب عن مؤسسي وعلماء تلك المدرسة؛ ذلك أنّ الأبعاد والتجليات الأخلاقية للفكر المعتزلي، التي لم يوفّها كثيرٌ من الباحثين والأساتذة حقّها، تنطلق من نظرية أو مبدأ «التحسين والتقبيح العقليَيْن»؛ فهو يُعدُّ الأساس الذي قامت عليه تلك المدرسة، يقول الشهرستاني: «أمّا السمع والعقل، فقال أهل السنّة: الواجبات كلّها بالسمع والمعارف كلّها بالعقل، فالعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب والسمع لا يعرف أي لا يوجد المعرفة بل يوجب، وقال أهل العدل: المعارف كلّها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل، وشكر المنعِم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبح»[1]، وقد أكّد القاضي عبد الجبار أنَّ أهم قيمة لدى المعتزلة هي العقل «لأنّه يميّز بين الحسن والقبيح، ولأنّ به يعرف أنّ الكتاب حجّة وكذلك السُنّة والإجماع»[2]، فالشيء عنده «يُعقل أولا ثم يُحدّ»[3]؛ لذلك كان العقل أساسا أصوليا ومعرفيا لديهم، كما كان محورًا رئيسًا في نظرتهم الكلية إلى الطبيعة والله والإنسان، بل نظرتهم الكلية الشاملة إلى الدين كله، فكما أن الدين علوي إلهي، فكذلك العقل، من هنا، حفر المعتزلة اسمهم على امتداد تاريخ الفكر الإسلامي، فقد توصّلوا إلى إبيستيمية جديدة لم تكن معروفة قبل تاريخ ظهورهم، وهي إبيستيمية جدلية وفلسفية وسياسية واجتماعية وأخلاقية، تقاوم الثبات والاتباع، فأضافت إلى حقل الفكر الإسلامي إضافات شتى بفعل النهج الديالكتيكي ذي الطابع المتطور الذي احتذته، رغم محاصرتها وإقصائها منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)!
تُعدّ إبيستيمية المعتزلة الأخلاقية حقلا ثريّا وخصبا يحمل من القيم والمعارف ما ليس موجودًا في إبيستيميات المدونات الكلامية الأخرى
وبفضل نظرية أو مبدأ «التحسين والتقبيح العقليَيْن»، ظهرت مفاهيمُ وأحكام فقهيةٌ تقدّميّة اختلفت عن المفاهيم والأحكام الفقهية الشائعة في المدوّنة الفقهية، كان أساسها الاهتمام بالمصالح العامة، وقِيَم العدالة والمساواة واحترام الآخر؛ فها هو ذا أبو بكر الأصمّ، وابن عليّة، يذهبان إلى أن دية المرأة مثل دية الرجل، وأن نكاح الصغيرة غير جائز، على خلاف ما هو موجود لدى سائر المدارس والمذاهب الفقهية الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، فيما ثمامة بن الأشرس كان لا يجيز السبي، مستدلا بالآية «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً» [محمد: 4]، وغير ذلك مما هو معروف ومدوّن باسمهم، ويُعدُّ دليلا على انفتاح المعتزلة على النصوص، وتحكيم العقل، حيث يكون الدليل العقلي مقدَّما على الدليل الشرعي، ليس من باب كون العقل مشرّعا، وليس من باب كونه متعارضا مع الشرع، بل من باب أن العقل والشرع، كليهما، مصدرهما واحد؛ إذ «ليس في القرآن إلا ما يوافق طريقة العقل»، يقول القاضي عبد الجبار الأسد أبادي[4].
وتُعدّ إبيستيمية المعتزلة الأخلاقية حقلا ثريّا وخصبا يحمل من القيم والمعارف ما ليس موجودًا في إبيستيميات المدونات الكلامية الأخرى، خصوصا المدوَّنة الأشعرية، التي انقلب مؤسسها أبو الحسن الأشعري (ت 324 هـ) معرفيا وأخلاقيا على مبادئ وأصول المعتزلة، بعد نحو أربعين سنة من اعتناقها، وقد أوْلَى المعتزلة للطبيعة الأخلاقية عنايتهم، وجعلوها تدخل في صميم كثير من المسائل الدنيوية المرتبطة بحياة وواقع الإنسان، الأمر الذي يجعل تيار المعتزلة أخلاقي النزعة Moralistic، وسوف نتناول في هذه الدراسة الموجزَة بعضَ القضايا الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية التي اهتم المعتزلة بربطها بالقيم الأخلاقية الرفيعة، وإن تداخلَت وتفاعلت مع الجانب الغيبي الذي هو أساس الإيمان والتقوى.
(أولا) القضايا الاقتصادية:
تأتي مسألتا الأرزاق والأسعار دليلًا على الروح الانتقادية التي تحلّى بها المعتزلة[5]، كما تأتي دليلًا على الشجاعة الفكرية التي لم يسبق لها مثيل بمفاهيم ذلك الزمان؛ ذلك أنها مسائل تتعلق بالجانب الغيبي والقضاء والقدر الذي هو ركن من أركان الإيمان، ففي قضية الرزق، وهي قضية اقتصادية في المقام الأول، جعل المعتزلة من الجانب الأخلاقي دستورا يحكم مسارها العقدي، فكان عندهم لتلك القضايا أخلاقيات Ethics حرصوا على ربطها بالعقيدة لبلورة قواعد قيمية وأخلاقية عالية يمتازون بها عن غيرهم من مدارس علم الكلام وتياراته.
وإذا ما نظرنا في المذهب الأشعري، وجدنا أبا الحسن الأشعري يقرر أن الأرزاق من قِبَل الله، يرزقها عباده حلالا كانت أو حراما[6]؛ فالمال الحرام رزقٌ كالمال الحلال سواء بسواء، وهذا الرأي، في حدّ ذاته، غير محكوم بنسَق خلقي؛ ذلك أنه يفتح بابا من التبرير والتهوين لاكتساب المال الحرام، بوجوهه وطُرقه المختلفة، اتباعا لعبارة «الرزق كله من عند الله»، وهو ما جعل المعتزلة تخالف هذا الرأي تماما، فترفض تسمية المال الحرام رزقا؛ لأنّ الرزق الحرامَ قبيحٌ، والله تعالى لا يفعل القبيح ولا يريده، من ثمَّ، فإن نظرة المعتزلة في تلك القضية جاءت أخلاقية مقابل نظرة الأشاعرة غير الأخلاقية؛ إذ يرفض الأشاعرة معيار المعتزلة عن الحسن والقبح العقليين، وأنّ الحسن والقبح ليسا صفات في ذاتها، فالشر أو القبح يأتي وَفق «حكمة لله خافية علينا، فوجب التسليم بها»[7].
لقد نظر المعتزلة إلى الأموال التي يكسبها الإنسان من وجهتيْن؛ الأولى، الجهة المشروعة الخالصة من الحرام أو شُبهة الحرام، فاصطلحوا على تسميتها رزقًا، وأما الجهة الأخرى، فهي جهة الحرام، فاصطلحوا على تسميتها باسم الطريقة التي تحصّل بها المال الحرام، سواء من السرقة أو الغصب أو الرشوة أو الاحتكار أو استغلال النفوذ أو ما شابه ذلك، ما يدل على حرص المعتزلة على تسمية كل شيء باسمه الصحيح، واجتناب المراوغات والمماحكات اللفظية، والاتكاء على عبارات تبرر لطغيان والاستبداد والجبر، ومعلوم ما في هذا كله من فاعلية في مواجهة طرق المال الحرام، وكذا مواجهة مظالم الحُكّام وسرقاتهم باسم الملك والحكم!
يقول القاضي عبد الجبار (ت 415 هـ): «الأرزاق كلها كأنها من جهة الله، فهو الذي خلقها وجعلها، حيث يمكن الانتفاع بها، فهو الرازق حقيقة، وإذا وصف الواحد منّا، فيقال: رزق الأمير جندَه، والسلطان رعيته، كان على نوع من التوسُّع والمجاز»[8]، ويقول المحسن الجُشَمي (ت 494هـ): «الرزق مال ينتفع به، وليس لأحد منعه، ولا يكون إلا حلال، والحرام لا يكون رزقا»[9]، ويقول القاسم الرّسِّي (ت 246هـ) متحدثا عن الأموال التي تتكون وتتكدّس في ظل الحكم الظالم المستبد، ومدى تلوث تلك الأموال بمنظومة ذلك الحُكم، ما يؤثر على حرية الإنسان في التمتع بتلك الأموال، إذ إن حقوق المستضعفين متعلقة بتلك الأموال، يقول: «إن التقلب بالأموال والتجارات والمكاسب في وقت ما تعطل فيه الأحكام، وينتهب ما جعل الله للأرامل والأيتام والمكافيف والزمناء، وسائر الضعفاء، ليس من الحل والإطلاق كمثله في وقت ولاة العدل والإحسان والقائمين بحدود الرحمن»[10].
ويبدو أن التشاغُل بتلك القضية - وقتذاك - لم يكن لهدف عقائدي محض، بل لهدف سياسي خفي؛ فمما لا شك فيه أنّ نظرة الأشاعرة تبرّر إلى الأوضاع القائمة، إذ استملكت الخلافة العباسية والعسكرتاريا إقطاعيات واسعة، وتعددت مصادر ثرواتهم بطرق غير مشروعة؛ كالنهب والغصب والرشوة والسرقة، وغير ذلك، ليأتي رأي الأشاعرة تبريرا لذلك كله، كونه رزقا من عند الله، ومعلوم أن عقيدة الجبر كانت طاغية هي الأخرى، منذ عصر بني أمية (41هـ - 132هـ)، لنصل في النهاية إلى أن ذلك كله مقدَّر ومكتوب، ولو أن الله لم يرده لأزاله؛ أي إن الأشاعرة ربطوا مسألة الرزق بالإيمان بالقدر، وتعلقوا في نقدهم المعتزلة بسفسطات مثل تقسيم الإرادة الإلهية إلى كونية وشرعية، لكنهم لم يلتفتوا إلى الأبعاد الأخلاقية التي تعصم الرزق ومشروعيته من الأفعال الإنسانية القبيحة.
ومن الجوانب الإيجابية لرأي المعتزلة الأخلاقي في قضية الرزق، أن الإنسان لا بد له من السعي والعمل لاجتلاب الرزق الحلال، دون الاتكاء على الخمول والكسل والتواكل والعبارات السلبية التي تفرزها عقيدة الجبر، مثل: «اجرِ يا ابن آدم جري الوحوش، غير رزقك لن تحوش!»، وقد أطلق القاضي عبد الجبار على أولئك المتكاسلين اسم (المتواكلة) أو (المتآكلة)[11]، من أجل ذلك ربط المعتزلة بين قضية الرزق وربط الأسباب بمسبباتها؛ فكل إنسان ينبغي أن يسعى لطلب رزقه كما يطلب «الولد بالوطء، والزرع بالبَذر، والعافية بالعلاج»[12]، فالرزق يزيد بالطلب والاجتهاد، وينقص بالتواني والتراخي.
وفي قضية الأسعار، فإن المعتزلة يرون، بناءً على التفرقة بين السعر والثمن[13]، أن الرخص والغلاء قد يُنسب إلى الله وقد يُنسَب إلى الإنسان/ الحاكم؛ فإذا قلّ الزرع أو الإنتاج لأسباب طبيعية مثلا، كالآفات أو سوء الأحوال الجوية وتغيرها، فتقلّ السلع والأطعمة فيزيد سعرها، فهو يكون من قِبل الله. أما إذا أجبر الحاكم المواطنين، مثلا، على ألا يبيعوا إلا بقدر معلوم، فهو ليس من قِبَل الله، وهو ما نطلق عليه (التسعير الجبري)، وهو أمر جائز ما دام في مصلحة الناس، وإلا فإنّ فيه ظلمًا، ليس من الله بل من الإنسان نفسه؛ لأن الله لا يرضى بالظلم أو القبيح.
(ثانيا) المعايير الاجتماعية:
يأتي مبدأ المساواة كأهم المبادئ التي أكدها المعتزلة؛ وهو أمر طبيعي لفت إليه القرآن، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [الحجرات: 13]، وقد انتقدت المعتزلة كل صنوف وألوان التفرقة والتمييز بين البشر؛ فاختلاف الناس إلى شعوب مختلفة، وقبائل شتى، وأجناس متباينة، لا يعطي مبررا للمفاضلة والتمييز بينهم، بل إن المعتزلة استغلّوا ذلك الاختلاف نفسه، كي يكون مدخلا للتعارف والالتقاء، كما هو مذكور في الآية السالفة، وخير من يمثل المعتزلة في تلك القضية هو أبو عثمان الجاحظ (ت 255هـ)؛ ففي رسالته الشهيرة (فخر السودان على البيضان)، ينفي أي تمايز للجنس الأبيض على الجنس الأسود[14]، كما لفت الجاحظ نظرنا في انتقاده المفاضلة على أساس الطبقة الاجتماعية أو الوظيفة[15]، سواء في رفعتهما أو وضاعتهما، فلا الوضع الاجتماعي الراقي ولا الوظيفة العالية من ضمن معايير المفاضَلة بين الناس، وفي لفتة تقدمية عظيمة يؤكد الجاحظ أن المفاضَلة على أساس جنس البشر لا دخلَ للإنسان بها، فله أن «يجعل من عباده من شاء عربيا ومن شاء عجميا، ومن شاء قرشيا ومن شاء زنجيا، كما له أن يجعل من شاء ذكرا ومن شاء أنثى ومن شاء خنثى ومن شاء أفرده من ذلك؛ فجعله لا ذكرا ولا أنثى ولا خُنثى»[16].
وبعد المساواة يأتي مبدأ العدل في الأهمية عند المعتزلة، فهو من أهم الدعائم الأخلاقية التي تحكم أية دولة، وعليه يتأسس نظامها في الحكم والاجتماع، ويُعرّف القاضي عبد الجبار العدلَ بأنه «يُذكر ويُراد به الفعل، ويذكر ويراد به الفاعل، فإذا وُصف به الفعل فالمراد به كل فعل حسَن يفعله الفاعل، لينفع به غيره أو ليضرّه... فهو توفير حق الغير واستيفاء الحق منه»[17].
أي إن المعتزلة يرون العدل من زاويتين لا من زاوية واحدة؛ فمصلحة الغير تأتي مساوية للمصلحة الشخصية، وهذا هو قمة النظر إلى مفهوم العدل، ما من شأنه إحداث ربط بين العدل الإلهي والعدل البشري، فالله عادل لا يفعل الظلم ولا يرضى بالقبيح، وهذا هو الفرق بين المعتزلة وسائر الفرق من المجبرة والأشاعرة، فمما لا شك فيه أن نظرتهم تلك إلى العدل نظرة اجتماعية وسياسية وأخلاقية قبل أن تكون نظرة دينية، لذلك امتاز مذهب المعتزلة بالارتباط بالواقع المتغير، فكان مذهبا ديالكتيكيا متطورا ذا أبعاد مرتبطة بالواقع المعيش.
انتقدت المعتزلة كل صنوف وألوان التفرقة والتمييز بين البشر؛ فاختلاف الناس، لا يعطي مبررا للمفاضلة والتمييز بينهم
(ثالثا) المعايير السياسية
إذا كانت الدولة تقوم على دعامتي المساواة والعدل، فلا بد أن يكون الاستبداد بعيدا عن منظومتها السياسية والاجتماعية، وما رفَضَ المعتزلة سلطة وسياسة الدولة الأموية إلا لاستبداد خلفائها، واستغلالهم مبدأ الجبر وجعله عقيدةً سائدة فاشية في الأوساط المجتمعية؛ فالإيمان بالجبر مدخلٌ للرضا بالظلم والعسف، وتبرير مظالم الحكام، إذ إن المستبدين ومن والاهم وداهنهم، يشيعون أن هذا الظلم إنما هو بقضاء الله وقدره، وأن الله لو لم يرده لهم لأزاله في الحال، وقد شبّه المعتزلة المستبد بأنه «فرعون من الفراعين»، كما التفتوا إلى أنّ سلطة الظالمين، إنما تقوم بأعوانهم الذين يعينونهم على ظلمهم، فإذا ما تفرّقوا منهم وأسلموهم لم تقم لهم دولة[18]، كما أن الزمخشري (ت 538هـ) ينصح كل من يواجه ظلما واستبدادا أن يرحل ويهاجر من بلد الاستبداد، حتى وإن كان يعيش حياة مترفة أو كريمة؛ لأن الله لا يرضى بالظلم والاستبداد وقد يهلك الله «اهلها بالزلازل والنيران»[19]، وعلى الرغم من أن نظرة الزمخشري ها هنا يغلب عليها الطابع الديني الوعظي، بيْد أنها تشير إلى رفض المعتزلة الظلم والاستبداد، بكل الصور والأشكال والوسائل المتاحة، وهو أمر يُحمَد لهم على كل حال.
وفي لفتة ذكية ومهمة، يتحدث الإمام يحيى بن الحسين (ت 298هـ)، في رسائل العدل والتوحيد[20] عن دور أصحاب رؤوس الأموال الراضين بالظلم والاستبداد، في بناء وتقوية نظام الحاكم المستبد، عن طريق مساعدته بالأموال ودعم نظامه بدفع الضرائب، فكل دعم مادي واقتصادي من شأنه أن يساعد المستبد على ممارسة الظلم والاستبداد والطغيان، يقول الإمام يحيى: «إذا كان الفقير على غير استواء، ثم دفع صاحب الزكاة إليه شيئا من المال فقد قوّاه على فسقه وفجوره وطغيانه، وكان شريكا له في عصيانه، كدأب الذين يعينون الظالمين ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم... لولا التجار والزارعون ما قامت للظالمين دولة، ولا ثبتت لهم راية، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) [هود: 113]، فعوام الناس الراضون بالظلم، المستكينون عن الاستبداد والمظالم، إنما هم شركاء في بقاء هذه السلطة وزيادة طغيانها، فما بالنا - والرأي للمعتزلة - إذا كان أغنياؤهم يدعمون تلك الدولة بالأموال والمساعدات؟!
[1] الشهرستاني، الملل والنحل، ص 53
[2] القاضي عبد الجبار بن أحمد، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 139
[3] القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 366
[4] القاضي عبد الجبار، المغني، 16/ 403
[5] عادل العوا، المعتزلة والفكر الحُرّ، ص 114
[6] أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، ص 23
[7] الأشعري، مقالات الإسلاميين، 1/ 321
[8] القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 786
[9] المحسِن الجُشَمي، تحكيم العقول في تصحيح الأصول، ص 125
[10] القاسم الرسي، رسالة الأصول الخمسة - ضمن رسائل العدل والتوحيد، ص 168- 169
[11] القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 786
[12] القاضي عبد الجبار، المغني، 11/ 43
[13] القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 788
[14] الجاحظ، الرسائل، 1/ 34
[15] الجاحظ، العثمانية، ص 186
[16] الجاحظ، الرسائل، 1/ 32
[17] القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 301
[18] يحيى بن الحسين، رسائل العدل والتوحيد، 2/ 78- 79
[19] الزمخشري، أطواق الذهب، ص 41
[20] يحيى بن الحسين، رسائل العدل والتوحيد، 2/ 99