أديانُ العـربِ قبل الإسـلامِ؛ السياقان الاجتماعي والنفسي قبل اللّاهوت
فئة : مقالات
مقدِّمة
يبقى مبحث أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام كمفازة مترامية الأطراف، فيها قليل من كلأ وعشب وظلال، فيما هي في معظمها جبال وعِرَة يتيه السائح في جنبَاتها، إذ من العسير استخلاص الحقائق من السرديات التاريخية الكلاسيكية Classic historical narratives الكثيرة الممزوجة بالأساطير، وعلى الرّغم من أن القرآن قد أشار في أكثر من آية إلى أديان العرب قبل الإسلام؛ إلا أن الغموض وقلة المعلومات يكتنفان أية دراسة لتأريخ الأديان والمعتقدات لدى العرب الأقدمين؛ لأنَّ معارفنا بتلك الأديان وظروف نشأتها وطقوسها وعباداتها ومعبوداتها، قد أخذناها من كتابات الأخباريين العرب التي دُوِّنت في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، وهم بدورهم قد استبعدوا كثيرا مما قد يتعارض، من وجهة نظرهم المحافِظة، مع الدين الإسلامي وعقائده وشعائره، فباتت كتاباتُهم، وإن تضمّنت شتيتًا من أديان العرب ومعتقداتهم وطقوسهم، قاصرة عن الإحاطة بتلك الأديان والتأصيل لها، والكشف عن جذورها وعوامل التأثير والتأثُّر بالدين الإسلامي بعد ذلك.
إلا أنّ هذا لا ينفي أنّ مفرداتٍ شتّى من التراث الجاهلي وقِيَمه وعاداته ومعتقداته قد وجدت طريقها إلى المجتمع العربي قبل الإسلام، وهي مفردات كانت وليدة حضارات داخلية في تلك المنطقة، كشفت عنها النصوص الحفرية في اليمن وجنوب الجزيرة وشمالها، ما يُثبت خطأ التصوُّر الذي يشيعه كثيرون بأن العرب لم يدخلوا التاريخ إلا بعد ظهور الإسلام؛ فالعرب كانوا جزءًا رئيسًا من تاريخ الشرق الأدنى القديم.
مفردات شتّى من التراث الجاهلي وقِيَمه وعاداته ومعتقداته قد وجدت طريقها إلى المجتمع العربي قبل الإسلام، وهي مفردات كانت وليدة حضارات داخلية في تلك المنطقة
الشعر الجاهلي لم يغفل تصوير الحياة الدينية للعرب قبل الإسلام
لم يكن الشّعر الجاهلي، الذي وصلنا، غُفلا، كلّه، عن تصوير بعض مظاهر ودلالات الحياة الدينية عند الجاهليين، وهو ما يثبت خطأ بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن رواة الشعر في الإسلام، قد أغفلوا أمر الشعر الجاهلي الذي مجَّد الأصنام والوثنية، وأهملوه، فلم يرووه، فطواه النسيان إلى الأبَد، وأن بعضًا منهم قد هذّب ذلك الشعر وشذّبه، فحذف منه كل ما له علاقة بالأصنام والوثنية، فرفع منه أسماء الأصنام، وأحلَّ محلّها اسم الله، حيث يرد اسم الصنم، فما فيه اسم الله في الشعر الجاهلي، كان اسم صنم في الأصل، كما نقل عنهم الدكتور جواد علي في (المفصَّل)[1]، ولعلّ حُجّتهم أنَّ الشعر الجاهلي قد أمدّنا بأمور دون أمور، ومعارف دون معارف، وأخبارا دون أخبار، فيما أغفل كثيرا من النواحي الدينية التي كان يعتقدها الجاهليون، وقد ذهب إلى هذا الرأي الدكتور طه حسين، في كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"، الصادر في العام 1926، إذ يقول: «فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين، فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية، وإلا فأين نجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة؟! أو ليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؟!»[2]، لكن هذا لا يمنعنا من الشكّ في أنَّ كمية كبيرة من الشعر الذي نقرؤه الآن، ونطلق عليه شعرًا جاهليًّا، هـو ليس من الجاهلية في شيء، بل هو منحول مكذوب، اختلقه الرواة والشعراء في صدر الإسلام وما بعده، وادّعوا كذبا نسبته إلى شعراء الجاهلية.
كمية كبيرة من الشعر الذي نقرؤه الآن، ونطلق عليه شعرًا جاهليًّا، هـو ليس من الجاهلية في شيء، بل هو منحول مكذوب، اختلقه الرواة والشعراء في صدر الإسلام وما بعده، وادّعوا كذبا نسبته إلى شعراء الجاهلية.
ولولا أنَّ الإسلام قد اعتمد كثيرًا من شعائر وطقوس الجاهليين الدينية والاجتماعية، كشعائر الحج، وبعض الطقوس والعادات والأخلاق، وذلك بالطبع بعد أن حرّرها من مظاهر الوثنية والشرك والجنوح بها نحو التوحيد الخالص والتجريد، لولا ذلك كله لما عرفنا جانبا كبيرًا من طقوسهم الدينية ومعارفهم الاجتماعية، بما يجعل الباحث في حيرة من أمره إزاء نتف الأخبار والمعلومات الشحيحة، التي تصل إليه من كتابات الأخباريين الإسلاميين وغيرهم من المستشرقين؛ لذلك فمن الصعوبة بمكان تكوين فكرة كاملة ومنهجية عن مفهوم الدين عند العرب قبل الإسلام، وطرائق عباداتهم، وتصوّرهم عن الإله. لذلك، سنحاول الاهتداء ببعض المعلومات التي وصلتنا، وكذا بعض الأخبار التي استطعنا الإلمام بها في سبيل استكناه تصور الدين عند الجاهليين، ومفهوم الإله عندهم.
فمن الصعوبة بمكان تكوين فكرة كاملة ومنهجية عن مفهوم الدين عند العرب قبل الإسلام، وطرائق عباداتهم، وتصوّرهم عن الإله
أهمية السياقيْن الاجتماعي والنفسي في فهم نشأة الدين وتطوره
ولعل علم الاجتماع يساعد في ذلك؛ ذلك أننا لا نتصور أن فكرة الإله تكون واحدة عند جميع البشر، على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وثقافاتهم الموروثة، فتختلف تلك الفكرة من بيئة إلى أخرى، ومن زمان إلى زمان آخر تبعا لمؤثرات شتَّى، وقد كان العربي القديم أسيرًا لبيئة قاسية ساذَجة، تتعدد فيها مظاهر الكون من سماء وأرض وجبال وصخور ودواب، وما يكتنف ذلك كله من تصورات طبيعية عن عوالم خفية غير مرئية تحيط به، وتعيش معه في بيئته تلك، وهو ما يقودنا إلى تصور العربي القديم عن الجن والأرواح والشياطين، ومدى تأثير ونفوذ تلك العوالم والقوى وتدخّلها في حياته، وهذا أمر نفسي بحت، يُعدُّ أحد الأسباب التي شكّلت توجُّه التدين الجاهلي القديم؛ فشعور الجاهلي بالضعف إزاء الكون وقواه جعله يبحث عن قوة تحميه، ما دفعه إلى الاعتقاد بالخضوع والمذلّة لتلك القوى التي تجسّدت على يديه إلى آلهة شتى، على هيئة أصنام وأوثان، وبات يؤمن بأنها هي التي تتحكم في مصيره.
كما نظر الجاهلي إلى مظاهر الطبيعة، فقام بإسباغ الألوهية عليها، ليأمن شرها وتقلباتها، كما عرف العرب الجاهليون عبادة الأسلاف والرؤساء والزعماء، وتقديس أرواحهم التي تحلّ بقبورهم، فيتضرعون إليها ويتوسلون بها خوفا ورهبة، أو تقديسا واحتراما.
وأما عن عبادة الكواكب؛ فقد كانت من عبادات الجاهلية الأصيلة، فهو يرى الشمس والقمر وتأثيراتهما في حياته بالنهار وبالليل، فيحسّ بعظمتهما وقصوره وعجزه عن الوصول إليهما، ليتخذهما بعد ذلك، معبوديْن عظيمين، يتضرع إليهما ويرجو منافعهما وخيرهما، ومن المعبودات التي عرفها العرب الأقدمون كذلك، عبادة الشجر، فكانت لبعضهم أشجار معينة يعبدونها، ولا يستطيعون قطعها أو قطع بعض فروعها، ولربما ارتبطت تلك الشجرة المعبودة بحادثة ما في حياة العربي الجاهلي، أو ربما تفاءل بها، فاتخذها محلا للعبادة والتقديس، وقد يكون عابدا لها في نفس الوقت الذي يعبد فيه إلها آخر قد يكون صنما أو وثنا أو قمرا أو غير ذلك.
فشعور الجاهلي بالضعف إزاء الكون وقواه جعله يبحث عن قوة تحميه، ما دفعه إلى الاعتقاد بالخضوع والمذلّة لتلك القوى التي تجسّدت على يديه إلى آلهة شتى، على هيئة أصنام وأوثان، وبات يؤمن بأنها هي التي تتحكم في مصيره.
وبصرف النظر عن فكرة "السّامية"، التي اختلقها اليهود لأسباب دينية وسياسية لا محل للحديث عنها ها هنا، وهي فكرة توراتية بالأساس، فقد ذهب الفرنسي إرنست رينان (1823-1892) إلى أن العرب كانوا مثل سائر الساميين الموحّدين، ممن تعبّدوا لإله واحد هو "إيل"، الذي تحرَّف اسمه بين هذه اللهجات، فدُعي بأسماء أبعدته عن الأصل، غير أن أصلها كلها هو إله واحد، هو الإله "إيل"[3]، وهي تتشابه مع النظرية العربية الكلاسيكية التي تقول بأن العرب جميعهم كانوا موحّدين، ثم حادوا بعد ذلك عن التوحيد وعبدوا الأصنام والأوثان، وهي نظرية تحمل قدرا كبيرا من اللامعقولية والسذاجة في آن، كما تغضُّ الطرْف عن تأثيرات البيئة التي لا يمكن فصلها عن المكونات الاعتقادية لدى أية جماعة إنسانية، خصوصا العرب الذين كان للبيئة خاصتهم تأثيرا كبيرا ما بعده تأثير، فتعدُّد الظواهر الطبيعية والبيئية، وغموضها، وسذاجة تفسيراتها آنذاك، جعلت العربي القديم يقف عاجزا عن تفسير منشئها وبارئها، فطفق يتعبد تلك المظاهر كلها، ليأمنَ جانبها وسطوتها، حسبما كان يعتقد، وكانت عبادة الأحجار والصخور والأجرام السماوية هي أظهر ما في تلك البيئة، خصوصا الأحجار النيازكية الهاوية من السماء على الأرض (الحجر الأسود أنموذجًا)، فقد أضفى الجاهلي عليه قدسية خاصة، وطفق يتحسّسها ويتمسّح بها، بل يقبّلها ويلثمها كحبيب يلثم حبيبته، مستعرا بنار الشوق والحب، وليس معنى هذا أن فكرة التوحيد وإفراد الله بالعبادة من اختراع الأديان الإبراهيمية؛ فالتوحيد نتاج تراكمات وتأثيرات أديان سابق، فقد تطوّرت الأديان من الشرك إلى التوحيد عبر الزمن، ولا سيما في معتقدات الحضارات البابليّة والسومريّة والآشوريّة والمصريّة، حتى إنّ العبرانيين قد "اعتمدوا إلى حد كبير في أساطيرهم وقوانينهم على الحضارة السومرية والبابلية. أما في الأدب والأخلاق والدين والتفكير الاجتماعي بوجه عام، فقد اعتمدوا فيه - إلى حد كبير - على الحضارة المصرية؛ فهم منذ بدء تاريخهم - كما تصوَّره توراتهم - وحتى السبي البابلي وكتابة التوراة إبانه، لم يبتعدوا أبدًا عن التأثير المصري في كل المجالات الفكرية والمادية، ومن هنا كان التأثير المصري في التوراة وفي العبادات ومجالات الحياة الأخرى الإسرائيلية".[4]
تعدُّد الظواهر الطبيعية والبيئية، وغموضها، وسذاجة تفسيراتها آنذاك، جعلت العربي القديم يقف عاجزا عن تفسير منشئها وبارئها، فطفق يتعبد تلك المظاهر كلها، ليأمنَ جانبها وسطوتها
نظرية تطور الدين لدى أوجست كونت
وللفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (توفي 1857) نظرية في تطور الدين، تتلخص في أن الإنسان بدأ بالفيتيشية في صورتها البُدائية أو التلقائية؛ فالفيتيشية هي أصل كل الأشكال الدينية واللاهوتية، إذ يرفض كونت أن تكون بداية الديانات مع ديانات التوحيد، التي تعتقد في وجود إله مفارق للموجودات الطبيعية والمادية، تخضع له سائر الموجودات، بما يعني أن الفيتيشية كانت هي أظهر أنماط الدين لدى العرب الأقدمين، الذين قاموا بتقديس الأحجار اعتقادا منهم أن بها أرواحا، وحياة خاصة بها تجعلها بمثابة الإله الذي يستحق العبادة، فلم يعبد الجاهليون تلك الحجارة باعتبارها مقدّسة في حد ذاتها، بل لاعتبار أن أرواح الآلهة قد حلّت بها وسكنت، وأن تلك الآلهة ليست سوى "شفعاء" و"وسطاء" عند كبيرهم وهو (الله)، الإله الأعلى، الذي لم يعرف الجاهلي عنه إلا كونه بعيدا، حيث لا يتم التقرب إليه مباشرة دون شفيع ووسيط، "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى" [الزمر: 3]، فقد كانت لفظة (الله) معروفة بين العرب قبل الإسلام أكثر من لفظة (الرب)، وكان مؤنثها (اللات) كما يذكر الطبري.[5]
الفيتيشية كانت هي أظهر أنماط الدين لدى العرب الأقدمين، الذين قاموا بتقديس الأحجار اعتقادا منهم أن بها أرواحا
فلم يكن العرب أمة واحدة في الدين، كما يعتقد جمهرة من العلماء، عربا ومستشرقين، ثم ضلوا فعبدوا جملة آلهة وصاروا مشركين، وهم إنما قرروا ذلك دون أن يضعوا في اعتبارهم أن دراسة علم الأديان بمعزل عن علم النفس والاجتماع والتاريخ القديم، لا تعطي نتائج سليمة أغلب الوقت، ولو أنهم حكّموا قواعد تلك العلوم، لاكتشفوا أن عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالنسبة إلى ظهور الوثنية والشرك، ولعل جمهور المفسرين حين تعرضوا إلى تفسير الآية: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" [البقرة: 213]، اعتقدوا أن المقصود بها أن الناس جميعا كانوا على التوحيد الخالص لله رب العالمين حتى تفرقوا وأشركوا فبعث الله إليهم النبيين لهدايتهم وإرشادهم إلى عبادة الله، فقد حمل جمهور المفسرين لفظ (الأمة) في هذه الآية على (الملّة)، لكن الأستاذ الإمام محمد عبده (توفي 1905) قدّم تفسيرا جديدا لم تعرفه المدوَّنات التفسيرية، ويبدو أنه قد اعتمد فيه على نظرية كونت الذي يرى أن دراسة الحالة البدائية للممارسة الدينية، وما اعتراها من تطورات لاحقة ينبغي أن تكون موضوعا للدراسة السوسيولوجية؛ فالمجتمع هو مصدر كل تدين، وما التدين إلا إفرازٌ من المجتمع لا من اللاهوت، يقول محمد عبده في تفسير المنار: "خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ أُمَّةً وَاحِدَةً؛ أَي: مُرْتَبِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْمَعَاشِ لَا يَسْهُلُ عَلَى أَفْرَادِهِ أَنْ يَعِيشُوا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمْ إِلَّا مُجْتَمِعِينِ يُعَاوِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعِيشُ وَيَحْيَا بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، لَكِنَّ قُوَاهُ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ تَوْفِيَتِهِ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ قُوَى الْآخَرِينَ إِلَى قُوَّتِهِ فَيَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي بَعْضِ شَأْنِهِ، كَمَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي بَعْضِ شَأْنِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: (الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ)"[6] والإمام محمد عبده يتفق كذلك مع إميل دوكهايم (توفي 1917)، الذي ذهب في مقاربته الاجتماعية إلى أن المجتمع مصدر كل تدين، فهو يظهر أكثر في السياق الاجتماعي لا اللاهوتي؛ لأن الدين وليد المجتمع، وبذلك فهو متطور، والطقوس الدينية "كيفيات للفعل لا تنشأ إلا وسط فِرَق مجتمعة"[7]، من ثمّ عرّف مارسيل موس (توفي 1950) الدين بأنه "ظاهرة اجتماعية قائمة على أساطير ومعتقدات نُقلت جيلا بعد جيل"[8]، وبذلك يظهر تهافت أقوال المفسرين التقليديين الذين يعتقدون أن الله خلق الناس كلهم على التوحيد، ثم اختلفوا بعد ذلك وأشركوا، ويؤيد نظرتنا التي ترى أن الإنسان القديم ارتقى من التعدد إلى الوحدانية والتجرد، فلم يكن التوحيد أقدم من الوثنية.
فالمجتمع هو مصدر كل تدين، وما التدين إلا إفرازٌ من المجتمع لا من اللاهوت
الدين عند العرب قبل الإسلام جزء من تراث الإنسانية
أما عبادة الأصنام، فقد كانت أشهر عبادة لدى الجاهليين؛ فمنهم من اتخذ بيتًا، ومنهم من اتخذ صنمًا، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء البيت، نصب حجرًا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلًا، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًّا، وجعل ثلاث أثافي لقدره، فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلًا آخر فعل مثل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها[9]، وأمثال تلك المرويات المنثورة في كتب أهل الأخبار عن منشأ عبادة الأصنام عند العرب، مجرد سرديات لا سند علميا لها، وجلّها متأثر بالتوراة اليهودية وقصصها وشجرة نسبها (سـام - حام - يافث - شيت - صابي)، التي لا سند ولا دليل عليها، بالرغم من اغترار بعض الباحثين بها، فذكروها في كتبهم على أنها حقائق علمية، ومن تلك السرديات قصة تزعم أن الأوثان التي كانت في قوم نوح كانت في الأصل أشخاصًا صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابًا، وسمّوها بأسمائها، ففعلوا، فلم تُعبَد، حتى إذا هلك أولئك وتنوسخ العلم بها عُبدت.. وقصص أخرى تجعل "عمـرو بن لُحي، وهو ربيعة بن حارثة الخزاعي، هـو منشئ عبادة الأصنام في جزيرة العرب، فكان أول من غيّر دين إسماعيل، وقالوا: كان كاهنًا، وكان قد غلب على مكة، وأخرج منها جرهمًا، وتولى سدانتها، وكان له رِئي من الجن، فكان أول رجل يصل إلينا خبره من الرجال الذين كان لهم أثر في تكوين مكة وفي إنشاء معبدها وتوسيع عبادته بين القبائل المجاورة لمكة، حتى صير لهذه المدينة شأن عند القبائل المجاورة، وذلك بإتيانه بأصنام نحتت نحتًا جيدًا بأيدٍ فنية قديرة، وعلى رأسها الصنم "هـبل" ووضعها في البيت، فجلب بذلك أنظار أهل مكة وأنظار القبائل المجاورة نحوها، فصارت تقبل عليها، وبذلك كوّن للبيت شهرة بين الأعراب، فصاروا يقدمون عليه للتقرب إلى "هبل" وإلى سائر الأصنام التي جاء بها من خارج الجزيرة فوضعها حوله وفي جوف الكعبة".[10]
المرويات التي تجعل من شخص واحد بمفرده يمتلك تلك القدرة الكبيرة على توجيه الجاهليين إلى عبادة الأصنام بعد إذ كانوا يعبدون الله، لا تبدو منطقية
وتلك المرويات التي تجعل من شخص واحد بمفرده يمتلك تلك القدرة الكبيرة على توجيه الجاهليين إلى عبادة الأصنام بعد إذ كانوا يعبدون الله، لا تبدو منطقية، وقد يكون لتلك الشخصية أصل، لا ننكر ذلك بالطبع، لكننا لا نتفق مع مَن منحها مقومات تكاد تكون أسطورية، خصوصا أن المصادر التي نقلت إلينا تلك السرديات قد دُوّنت بعد تلك الحوادث بقرون، الأمر الذي يجعلنا ننظر بشمولية وجدلية واقعية أكثر بعيدا عن النظرة الضيقة السكونية لتلك السرديات القديمة، فقد كان التراث الديني للعرب قبل الإسلام فضلا عن كونه جزء من تراث الإنسانية، وخاضعا لقانون التطور العقلي والنفسي والاجتماعي للإنسان، فهو تراث إنساني ابتدعته مخيلة العرب الأقدمين، فجاء خليطا من روافد شتى: بابلية وسريانية ومصرية وعبرانية.
المصادر
[1] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي، بيروت، ط الرابعة، 2001، مجلد 11 ص 12
[2] طه حسين، في الشعر الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، ط الثانية، 2019، ص 78
[3] علي سامي النشار، نشأة الدين: النظريات التطورية والمؤلهة، دار السلام، القاهرة، ص 181
[4]محمد بيومي مهران، تاريخ الشرق الأدنى القديم - تاريخ اليهود، ط الإسكندرية، 1988، ص 306
[5] فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، الكتاب الثاني، دار علاء الدين، سوريا، ص 291
[6] محمد عبده، تفسير المنار، دار الكتب العلمية، بيروت، 2/ 227
[7] Cours de philosophie generale, Auguste Comte, pp. 26-27
[8]E.Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, P: 13وراجع: الساسي بن محمد
الضيفاوي، ميثولوجيا آلهة العرب قبل الإسلام، الفصل الثاني، طبع مؤمنون بلا حدود
[9] Mircea Eliade, la nostalgie des origines méthodologie
[10] ابن الكلبي، الأصنام، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط الثانية، 1925، ص 33