أزمة التنوّع الثقافي في المجتمعات العربية: حروب الهويات تطيح بآمال التنمية المستدامة
فئة : مقالات
أزمة التنوّع الثقافي في المجتمعات العربية:
حروب الهويات تطيح بآمال التنمية المستدامة
همام طه
يعتبر بناء الدولة التحدي الوجودي الأكثر إلحاحاً الذي يواجه المجتمعات العربية اليوم، حيث يتعذر تحقيق تقدم على هذا الصعيد من دون تفكيك "أزمة الهوية" التي تعانيها هذه المجتمعات عبر مسارين: الأول هو تأسيس وتكريس "المواطنة الدستورية" على المستوى المحلي كمشترك يجمع الأفراد مع "الآخر الوطني" من مكونات المجتمع الإثنية والدينية والثقافية؛ والثاني هو بناء وتعزيز "المواطنة الكونية" على المستوى العالمي كمشترك مع "الآخر الإنساني" من أبناء شعوب العالم وثقافاته وحضاراته.
إن التماسك الاجتماعي هو رأس المال السياسي والحضاري الأثمن بالنسبة إلى الدولة والمجتمع، وهو أهم من كل الثروات الطبيعية والبشرية؛ لأن الانزلاق إلى الانقسام المجتمعي وتناحر الهويات من شأنه الإطاحة بكل الموارد الأخرى؛ لا بل من شأنه تقويض الدولة نفسها وأمنها القومي وسيادتها.
وليس أكثر دلالة على أزمة الهوية التي تعيشها المجتمعات العربية من تلك الانقسامات الداخلية الطاحنة التي تنعكس على بنية المجتمع والنظام السياسي ورفاه السكان وطبيعة السياسات التي تنتهجها حكومات دول عربية وعلى علاقاتها بالمحيطين الإقليمي والدولي، وباتت كل السياسات الخارجية تجاه المنطقة العربية تلعب على وتر تناقض الهويات الذي يتسبب في تضارب المصالح بين المكونات، أو بالعكس حين يتسبب تباين المصالح الاقتصادية والسياسية في تأجيج النعرات العنصرية.
وفي الوقت نفسه، نلاحظ أن خطاباتنا الفلسفية والسياسية والاجتماعية والثقافية الراهنة تحاول معالجة أزمة الهوية، ولكنها لا تغادر حيّز التشخيص الفكري والتنظير الأكاديمي في ظل غياب التوجهات العملية الحقيقية والإرادة السياسية العازمة نحو خلق الاندماج الاجتماعي البنّاء داخل هذه المجتمعات عبر مدخل التنمية المستدامة، والمشاركة المدنية الشاملة في مشروع نهضوي ينخرط فيه كل أفراد المجتمع بدون تمييز سياسي أو ديني أو إثني أو طبقي أو جغرافي أو ثقافي.
ولم تتهيّج الصراعات الأهلية والقومية والمذهبية في مجتمعاتنا العربية نتيجة لفشل نموذج الدولة الوطنية الحديثة في خلق الاندماج فحسب، وإنما أيضاً لسياسات هذه الدولة التي كرّست الانقسام بفعل غياب العقد الاجتماعي وتقادم مؤسساتها وتآكل تشريعاتها وعجزها عن التحديث المؤسسي، وإعادة توجيه بوصلة تفكيرها السياسي، فحاولت التغطية على الانقسام والتفكك الداخلي بأدوات سلطوية وقمعية فاقمت بدورها أزمة الثقة والتعايش في المجتمع.
ولا يبدو من الممكن تفكيك أزمة الهوية في مجتمع منقسم من خلال السعي النظري والشعاراتي لخلق "رواية تاريخية" افتراضية مشتركة مع الآخر؛ بل المدخل الأكثر جدوى هو العمل الجاد على تخيّل وتشكيل "مستقبل مشترك"؛ لأن التاريخ محلّ خلاف ونزاع، وهو حمّال أوجه وقابل للتأويل، ومحاولة إنتاج سرديات تاريخية مشتركة من خلال إعادة تأويل التاريخ ستتسبب في تعميق الخلافات والاختلافات؛ لأن الجدل حول التاريخ كان أحد العوامل التي أدت أساساً إلى نشوب الصراعات أو إحدى الوسائل التي تستخدم في الصراع لتعزيز الفرز الهوياتي الذي يصبّ في صالح نخب مستفيدة اقتصادياً وسياسياً من الانقسامات وتعميقها.
لماذا نكره بعضنا؟ لماذا نكره الآخر المختلف داخل مجتمعنا أو خارجه؟ ولماذا يكرهنا الآخر؟ هذه أسئلة علينا أن نطرحها على أنفسنا لتفكيك ثقافة الكراهية التي تعيشها مجتمعات عربية، وتنذر بتفجيرها من الداخل وزوالها من الوجود. وثمّة أسباب عديدة لهذا الواقع، منها العاطفة السياسية المشحونة تجاه الآخر وتراكمات التاريخ، والعجز عن المراجعة وإدانة الذات وتحمّل المسؤولية، وتعارض المصالح السياسية والحزبية للنخب، والبنى السياسية والاقتصادية التي تم تشكيلها على أساس التمييز العنصري والطائفية، وصار أفراد المجتمع مرتبطين بها وخاضعين لها وأسرى لإكراهاتها.
ويلعب تعميق المعرفة والتفكير النقدي والقدرة على محاكمة الماضي والتحرّر من الارتهان للتاريخ أو لنزاعات الحاضر دوراً جوهرياً في تطوير قراءتنا لصراع الهويات وفي فهم أنفسنا وفهم الآخرين بشكل أكثر شمولاً وتفهّماً وموضوعية بما يفضي إلى تعزيز قدرتنا على الإفلات من دوامة الصراع.
تزخر مجتمعات عربية عديدة، ولا سيّما في المشرق العربي بالتعددية الثقافية والدينية والإثنية واللغوية، وفي ظل التداخل الثقافي التاريخي الذي ساد في هذه المجتمعات، لم يعد ممكناً الحديث عن "نقاء ثقافي" لهذه المجموعة الإثنية أو تلك الثقافة، فهذه الأسطورة تراجعت إلى حد كبير في عصرنا، كما تراجعت نظرية النقاء العرقي؛ فالتمازج والتثاقف والاقتباس الثقافي المتبادل هو الذي شكّل ثقافاتنا جميعاً. كما أن النظر إلى التنوع الثقافي، باعتباره تحدّياً وأزمة هو أحد أسباب المشكلة العربية، ويبدو أننا بتنا اليوم في أمس الحاجة للانتقال إلى النظر لهذا التنوّع بوصفه ثروة وفرصة حضارية وقيمة مضافة للاقتصاد والازدهار.
لقد كان التداخل الثقافي هو السمة التي حكمت تاريخنا الثقافي والاجتماعي؛ بمعنى أن عاداتنا وتقاليدنا ومفاهيمنا ومعتقداتنا الثقافية والشعبية التي نؤمن بها في هذه المنطقة هي نتاج عملية الامتزاج الثقافي واللغوي والفلسفي التي حصلت عبر التاريخ الإنساني. وبالتالي، صار لزاماً علينا أن نؤمن بالمواطنة الثقافية؛ أي المفهوم الثقافي للمواطنة بوصفها الإدراك المعرفي للتنوّع الثقافي والوعي بالتداخل الثقافي وأهمية التثاقف والشعور بالانتماء للآخر بغض النظر عن هويته، وليس العزلة عنه أو التنزّه عن الاختلاط به؛ وذلك أخذاً في الاعتبار المشتركات الثقافية التي تجمعنا به، وهي مشتركات موجودة حتماً حتى مع الثقافات التي نعتقد أنها بعيدة عنا جغرافياً أو منعزلة عنا لغوياً، أو مخالفة لنا عقائدياً أو مناقضة لنا أخلاقياً.
وليس من المنطقي أن نعترض على الأصولية الدينية وتنظيماتها في وقت نعبّر فيه عن اعتزازنا بأصالة هوياتنا العشائرية والمناطقية والعصبوية والطبقية؛ فهذا النوع من الافتخار بالأصالة هو "أصولية ثقافية" لا تختلف عن الأصولية الدينية التي نشكو منها. إن الاعتداد بالهوية هو منزلق سياسي وثقافي خطير من شأنه أن يقود للتعصب ومن ثم للعنف، سواء مارست هذا العنف الجماعات المعتدّة بهوياتها، أو الجماعات المقابلة التي تشعر أنها متضررة من هذا الاعتداد بالذات الثقافية لدى الآخر.
لقد وقعت دول عربية مثل لبنان والعراق في فخّ الارتهان النكوصي للبنى القبلية والجهوية والقرابية، فأفضى هذا الخيار إلى تأصيل الطائفية في البنية المؤسسية للدولة وتفكيك المجتمع والتمهيد للانزلاق إلى اللادولة. وبالتالي، فإن الوثائق الدستورية التي تصرّ على الاحتفاء الضمني بهيمنة هوية دينية أو قومية أحادية للدولة، أو تتعامل مع المكونات من خلال منظور تمييزي وتقسيمي يعادي المواطنة، فإن النتيجة هي إضعاف الدولة عبر تهديد تماسك المجتمع.
واحدة من أزمات الدولة العربية أنها أهملت البعد الثقافي والحضاري التعددي في تشكيل هويتها الوطنية، فقد تم تأسيس الدولة الحديثة في العالم العربي وفق رؤى أيديولوجية أنتجتها النخب الحزبية والثورية والعسكرية، وبالتالي صار لهذه الدول الوليدة هويات سياسية مؤدلجة أطلق عليها وصف "هويات وطنية" تحاول المحافظة على تماسك مجتمعي هشّ أسميناه "وحدة وطنية"، لكن مجتمعات هذه الدول ظلت طوال العقود الماضية تفتقر للهوية الثقافية والاجتماعية والحضارية التعددية – الاندماجية؛ لأن صنّاع هوية الدولة والآباء المؤسسين لها لم يأخذوا بنظر الاعتبار المعطيات الاجتماعية والثقافية والتاريخية في تلك المجتمعات عند إقرارهم لأيديولوجيا الحكم وخطاب الدولة وفلسفتها السياسية وفكرها الدستوري.
وقد انبثقت دساتير الدول العربية من أيديولوجيات ثورية وقومية ودينية، ولم تنبثق عن رؤية إنسانية وحضارية للمجتمع العربي، فقد كانت دساتير تهدف إلى بناء سلطة قوية وليس خلق أمة وطنية. وعليه، فإن أزمة الدولة الوطنية في العالم العربي اليوم هي في أحد أوجهها وأبعادها أزمة الفكر السياسي والفلسفة الدستورية التي تشكّلت على أساسها هذه الدولة، والتي زهدت في رأس مال اجتماعي مهم للدولة، وهو التنوّع الثقافي.
وتعيش المجتمعات العربية اليوم، انتقالاً ثقافياً شاملة وبنيوياً وعميقاً، وصراع الهويات هو واحد من أبرز المخاضات التي تتفاعل في سياق هذا الانتقال. ويبدو تطوير وتعميم التعليم الأداة الأكثر كفاءة في مواجهة تناحر الهويات، إذ من شأنه إعادة تشكيل الطريقة التي ينظر بها الفرد إلى نفسه، ويتخيّل بها مجتمعه ويبلور على أساسها علاقته مع الآخر داخل مجتمعه وخارجه.
ومن خلال إعادة تشكيل قيم ومفاهيم الفرد، يمكن أن يتحرّر من الانتماءات البدائية القبلية والمناطقية والطائفية، ليأخذ موقعه عضواً في الأسرة الإنسانية. إن مآسي الدم والعذاب والقسوة التي عاشتها مجتمعات عربية على خلفية صراعات الهوية في لبنان والعراق وسوريا تبدو اليوم رصيداً من التجربة الإنسانية والسياسية أسهم في تطوير الوعي السياسي العربي تجاه مسائل الهوية والتنوّع والتعايش. كما تؤدي الأزمات الطاحنة التي تعيشها مجتمعات عربية اليوم، إلى تجريد النخب الطائفية من رصيدها الأخلاقي بشكل واضح.
إعادة تعريف وفهم التنوّع الثقافي في مجتمعاتنا، يحتاج قيادات تحويلية تنشر ثقافة النظر إلى الآخر بوصفه شريكاً وليس عدواً، وأن الربح المشترك للجميع ممكن، وليس حلماً رومانسياً، وأن التفكير الأخلاقي ليس ضعفاً أو مثالية مفرطة. نحتاج إلى خيال أخلاقي ثري قادر على إعادة إنتاج نظرتنا لأنفسنا والعالم من حولنا؛ لأن الاختلاف مع الآخر هو مجرد افتراض وليس حقيقة يقينية، وكما يمكن أن نفترض أن هذا الطرف خصمٌ لنا يمكن أن نفترض أنه شريك ونبني على هذه الفرضية مفهوما جديدا للعلاقة معه، فلا شيء يقيني في هذا العالم. لقد آن لنا أن نفهم الواقع الاجتماعي والسياسي من خلال مدخل الحاجات الإنسانية الأساسية المشتركة بين كل البشر على اختلاف هوياتهم الثقافية وعبر حقائق العصر التكنولوجي الذي نعيشه، والذي جعلنا قريبين من بعضنا أكثر من أي وقت مضى؛ وليس من خلال الأيديولوجيات الآفلة والأساطير السياسية.
أزمة التعايش والتنوّع لا يمكن التغطية عليها بالشعارات السياسية، ولا حتى بالمشاركة السياسية في السلطة فوصول رئيس من أصول أفريقية هو باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة، لم يفلح في تحقيق المساواة الحقيقية وتخفيف مشاعر الغبن لدى الأمريكيين السود، ولم يحُل دون انفجار الهويات الذي عاشه المجتمع الأمريكي بمقتل المواطن الأسود جورج فلويد على يد أفراد شرطة من البيض، ولذلك لم تنجح كل صفقات المحاصصة الطائفية في العراق ولبنان في معالجة أزمة الثقة والشراكة السياسية في هذين البلدين لسبب بسيط هو وجود أزمة هوية وتضارب بين مصالح المكونات، خلقته نخب القوى الممسكة بالسلطة، والتي عجزت عن تحقيق إدارة رشيدة للتنوّع الثقافي، بل عملت بالضد من هذا التنوّع.
وثمّة علاقة وثيقة بين ظاهرة العنف السياسي في العالم العربي وأزمة الهوية؛ بمعنى أن أزمة الاستقرار السياسي هي أزمة اقتصادية في حد ذاتها وصراع على الموارد والفرص، عمدت النخب المتنافسة إلى تأطيره بإطار الهويات الدينية والعرقية والمذهبية بهدف التحشيد السياسي واستلاب عقول السكان لأغراض انتخابية عبر توظيف الشعارات الشعبوية وإثارة النعرات العنصرية والطائفية.
ولا سبيل لتفكيك العنف الذي يسبّبه انفجار الهويات سوى الإقرار بأن الاعتداد بالهوية في حد ذاته هو عنف رمزي ضد الآخر. ولا يمكن حسم مسألة الهوية لأي فرد أو جماعة أو أمة؛ لأن الهوية مفهوم مركّب وديناميكي وفي حالة تحوّل وتغيّر مستمرين، بل إن فكرة حسم هوية دولة معينة من خلال الدستور، مثل إقرار مادة تحدد هوية دينية أو قومية أو لغوية أو أيديولوجية أحادية للدولة هو في حد ذاتها عمل عدواني ضد التنوّع الثقافي والأقليات والمكونات المختلفة في الدولة.
ويبدو العالم اليوم، وكأنه يدخل مرحلة مراجعة كونية لتاريخ التنوّع الثقافي، ولا ينبغي للعرب أن يعزلوا أنفسهم عن هذه الوقفة التاريخية أمام المرآة ومع الذات، فحتى الأمم الغربية التي كنا نتصوّر أنها ذات تجارب حضارية وديمقراطية ناضجة ومكتملة ومعيارية هي نفسها بدأت الأصوات تتعالى فيها لمراجعة تاريخها وتنقيّته من تمجيد العنصرية، وكل ما من شأنه تفجير صراع الهويات والتمييز بين أبناء المجتمع. إن العدالة الثقافية هي وجه من أوجه العدالة بمفهومها الشامل، فلم يعد مقبولاً هيمنة هوية أحادية على مجتمع ما، أو تصنيف السكان إلى أغلبية وأقليات، أو مكونات أساسية ومكونات ثانوية، أو ثقافة مركزية وثقافات هامشية، الأمر الذي يفرض على النظم السياسية المعاصرة تخليص الدساتير والقوانين المستمدة منها من كل أنواع العنصرية الضمنية ضد الهويات والفئات والطبقات والأعراق والأجناس والميول والاتجاهات أو الانطلاق في السياسة والخطاب والتشريع من فكرة تفوّق عرق على غيره أو ثقافة على ما سواها أو نوع اجتماعي على ما عداه.
لقد أدخلت العولمة المجتمع الإنساني في حالة سيولة هوياتية؛ فاليوم لا يستطيع أي فرد أن يحدد هويته الشخصية، ولا يستطيع أي مجتمع أن يحدد هويته الثقافية، ولا تستطيع أية دولة تحديد هويتها السياسية، فالجميع أصبح في حالة تفاعل مستمر مع الجميع عبر الفضاءات الرقمية المفتوحة، وبالتالي صارت هوياتنا الثقافية في حالة أخذ وعطاء وتأثير متبادل مع الهويات الآخر أكثر من أي وقت مضى. نحن لا نكتسب هوياتنا وإنما نصنعها، وحتى في صناعتنا لها لم يعد بالإمكان الوصول إلى قالب محدد لهوية دينية أو قومية أو طبقية؛ لأن مفهوم الهوية بحد ذاته مفهوم ذهني ونفسي وعاطفي؛ بمعنى أنه يتحدى القوالب النمطية الجامدة والأطر المادية، وفي كل تنوّع ثقافي هناك تنوّع كامن، وفي كل تعددية ثمة تعدديات داخلية عدة.
الهوية رأس مال اجتماعي وثقافي حين تتفاعل وتتكامل مع الهويات الأخرى لإنتاج هوية إنسانية مشتركة، ولكنها تتحوّل إلى عامل تأزيم سياسي واجتماعي وخطر أمني وقلق وجودي للجميع حين يتم تسييسها وتعريفها بوصفها خندقاً للانغلاق والتمترس ضد الآخر. ولسنا بحاجة اليوم لتعريف أنفسنا من خلال العودة إلى التاريخ والأصول والمنابت، ولا من خلال معاداة المختلفين عنا؛ ذلك أن هوية الإنسان القابلة للحياة في هذا العصر هي منجزه الذي يقدمه للعالم؛ أي ما يضيفه لهذا العالم من قيمة معرفية وتنموية، وهي قيمة عابرة للثقافات والهويات بطبيعتها؛ لأننا نعيش اليوم في عصر اقتصاد المعرفة الذي جعل القدرة على المشاركة الإبداعية في بناء الحضارة الإنسانية هي معيار الانتساب للعصر والتاريخ أو الخروج منهما.
مثل هذا الإدراك يفرض علينا اليوم التوقف عن التعامل مع الهوية، باعتبارها معطى وراثيا تاريخيا غير قابل للتغيّر أو التحوّل، بل بوصفها مفهوماً حضارياً ليس له وجوداً منفصلاً عن التنوّع الثقافي الذي ينتمي إليه. لم يعد ممكناً اختزال الفرد في هوية أحادية معزولة؛ فالإنسان المعاصر يحمل هويات مهنية ومؤسسية وقيمية وأخلاقية وفكرية تضاف إلى قائمة هوياته التقليدية المرتبطة بالعرق والدين والانتماء الجغرافي. وهذه الهويات المتعددة تتفاعل فيما بينها وتتناسل باستمرار كما تتفاعل مع هويات الآخرين المتعددة أيضاً، لتتوالد بصورة متواصلة متوالية لا نهاية لها من الهويات المتداخلة والمتشابكة للأفراد والجماعات والمجتمعات والأمم؛ لذلك يكون من المنطقي الإقرار بأن الهوية مفهوم تفاعلي وجدلي غير قابل للتحديد أو الحسم.