أزمة الثقافة الإسلامية وانحطاط طموحها الداخلي
فئة : مقالات
يواصل المفكر التونسي هشام جعيط حفرياته المعرفية في بنى الثقافة العربية والإسلامية، منقّباً عن أسس صياغة منظومة حياتية وفكرية جديدة للحاق بركب الحضارة الإنسانية التي قطعت أشواطاً واسعة في الحداثة واحترام الإنسان، وصيانة كرامته والدفاع عن حقه في العيش و الإبداع . وتأتي بحوث كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية) لتستأنف ما كان قد أثاره من أسئلة عميقة فيما يتصل بـ (الوحي والقرآن والنبوة)، وكذلك في جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر كما تجلت في كتابه (الفتنة)، مروراً بالبحث عن الظروف والكيفيات التي تحققت في غضونها نشأة المدينة العربية الإسلامية، واتخاذ (الكوفة) مثالاً على ذلك، فضلاً عن مناقشة ملامح (الشخصية العربية – الإسلامية و المصير العربي) و معاينة صدام الثقافة و الحداثة من خلال كتابه (أوروبا و الإسلام). في (أزمة الثقافة الإسلامية)، يستعيد جعيط الهواجس المركزية التي سيطرت على أعماله السابقة بوصفها جزءاً من مشاغله الحيوية، ويضعها في فلك الضرورة الملحة لتحقيق أية نهضة عربية – إسلامية محتملة، دافعاً عناصر الواقع وإحداثياته وهمومه في اتجاه المراجعة النقدية الشاملة، تمهيداً للتجاوز، و بالتالي حتمية التغيير - وكأنما الباحث كان يحدس بلحظة- انطلقت من موطنه تونس، وزلزلت السبات العربي، وهزّت، وما انفكت، أركان الطمأنينة المتوهمة فيه.
وجعيط في استقصاءاته العميقة للواقع الكوني، بعد انهيار العالم الشيوعي وتغيّر المعطيات و انقلابها، يرى أن من الضروري أن "يحصل وعي لدى العرب والمسلمين جملة بوجوب عدة متغيرات" في واقعهم لجهة "الدخول في تركيبة سلم داخلية وخارجية"، وكذلك "استبعاد الأوهام والدخول في تحولات هادئة من الوجهة السياسية والاقتصادية"، وبالتالي "تطبيق مفاهيم الديمقراطية في الواقع" ولا يتردد المؤلف في الإقرار بأن "الثقافة الإسلامية العليا قد ماتت حوالي العام 1500م، في رافديها الديني والدنيوي: لغة، نحو، فلسفة، تاريخ، علم مادي، … " ولم يكن هذا "من تلقاء الغرب، ولكن بمفعول انحطاط الطموح الداخلي لهذه الثقافة". على أن الثقافة العليا في الغرب أيضا تعاني هي الأخرى تقهقراً، ومع ذلك فما يزال "الإنتاج قائما على قدم وساق" ويحدد المشكلة التي يعاني منها العرب والمسلمون بأنها تكمن في تمسكهم بالقشور، إذ الحكم و السياسة تابعان، والاقتصاد ضعيف، ووسائل الإعلام محتكرة، و"المال مهدور بغباوة". وبالتالي، فإنه من الصعب الولوج إلى باب الحداثة في ظل هذه الأعباء المثبّطة. ويناقش جعيط المثال الياباني، متسائلاً عن سر تقدمه وتعثر العرب، فالدخل الخام لليابان أضخم من دخل فرنسا وألمانيا مجتمعتين، بيْد أن مدخول العالم العربي بأكمله لا يتجاوز ثلث دخل فرنسا وربع دخل ألمانيا، على الرغم من أن اليابان الذي "لم يدخل التاريخ إلا منذ ثلاثة عشر قرناً" شاد معجزته عبر قدرته الفائقة على الأخذ عن الآخرين بدون أي عقد، والمقصود بالآخرين هنا ليس أوروبا أو أمريكا، وإنما الصين على وجه التعيين، فاليابان "لم يكن إلا تلميذ الصين".
ويتساءل المؤلف "هل كان يمكن للعرب والمسلمين أن يقوموا بما يقرب " من المعجزة اليابانية؛ حيث "التقاليد القوية والشخصية المركزية" علاوة على " الوعي بالذات الذي جعل هذا البلد مستعداً، من قديم، للقيام بمراجعات مؤلمة بالضرورة"؟.
ويطرح جعيط أسئلة الإسلام والسياسة من خلال منظور العلاقات التاريخية و العامة، وعبر قراءة ثلاثة مفكرين إسلاميين: خير الدين، ابن خلدون، ابن تيمية، معتبراً أن الأول يمثّل فترة مفصلية في تاريخ الإسلام قائمة على "إسلام المجابهة الثقافية مع أوروبا"، في حين يمثّل الأخيران "إسلام المجابهة مع الذات"، ففكر ابن تيمية "كان وراء الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر، في حين كان المسار الفكري لابن خلدون "إعلاناً للعقلانية التاريخية الإصلاحية". أما خير الدين فـ "حالة ملتبسة"، كونه مسلما "لكنه متغربن عن طريق تبنيه للقومية التاريخية"، وفي هذا الصدد يتساءل المؤلف: هل كان خير الدين مستلباً للغرب، وهل كان يحضّر لاستسلام ثقافي من خلال "حقن السلطة في بناها العملية بذكاء العلم و مثالية الشريعة"؟ ويستدعي مثال خير الدين جدل الثقافة و السياسة في العالم العربي، وفرص الأخير لبلوغ الديمقراطية، والفكر الإسلامي والتنوير، كما يبحث في جدل التاريخ و الثقافة والدين في المغرب الإسلامي عبر مقالات وبحوث توزعت على زهاء عشرين سنة خلت، جرى ضمها لتخدم الخطاب العام للكتاب القائم على مساءلة التجربة التاريخية العربية والإسلامية واستشراف أفقها الحضاري في "عصر القرية العالمية والثورة التكنولوجية الثالثة، وهيمنة العامل الاقتصادي على مصير الإنسان وانتشار المجتمع" وفي غمرة تساؤلاته، يبحث المؤلف في المصير الذي سيؤول إليه العالم الإسلامي، مستعيداً الحداثات الكبرى التي عصفت بالعالم، "فبلادنا منذ خمسين عاماً صحراء ثقافية في كل المجالات" فقد "قتل جهاز الدولة المجتمع المدني" الذي "أعطى رقبته للذبح والتذّ بموته" وعلى الرغم من استبعاده "كل شعور باليأس والقنوط" لدى معاينته أفق التحولات المرتقبة أو المنشودة في المجتمع العربي، إلا أن المؤلف يتجاسر، مضطراً، على تشاؤمه بإعلانه شروط التحوّل الكثيرة الضرورية لتحقيق الديمقراطية، وصياغة تركيبة سلم داخلية وخارجية تحقق التضامن بين الأفراد والشعوب، و تقترح تصوراً أفضل وأرقى لمعنى الحياة عند الجماعة و الفرد على حد سواء. أما الحديث عن "مشروع حضاري عربي" فهو "الغلط التام"، وهو ليس أكثر من "وهم وكلام فضفاض"، مع أن مواقف جعيط من "ثورات الربيع العربي" تكشف أن الباحث يعيد النظر في أطروحاته النظرية، بما يمكّن من صيرورة "النهوض العربي الحضاري" أمراً واقعاً، ولو بعد حين.