أزمـة الفكر العربي المعاصر: في مفهوم الأزمة (1)
فئة : مقالات
تطلق مفردة الأزمة في التداول العربي في الأغلب الأعم بصورة اعتباطية؛ أي بصورة لا تسهم في ضبط وتحديد المجال المأزوم والمتأزم، بل يُراد منها أن تكون مُرادفةً للكارثة؛ أي للوضعية غير المرغوب فيها. وفي هذه الحالة تختلط العناصر الذاتية في التحليل بالمعطيات الموضوعية، مما يؤدي إلى البلبلة الفكرية، ويُحوِّل الكلمات من أدوات للفهم والتواصل إلى أدوات للتشويش الفكري الذي لا يُسعف بتشخيص الظواهر واستيعاب المعطيات. ولتجاوز الاستعمالات المذكورة، نتجه في هذا العرض إلى التفكير في جوانب من تجليات الأزمة في الفكر العربي المعاصر، وذلك بهدف التفكير في كيفيات مغالبتها وتجاوزها. لكن قبل ذلك، لنتوقف قليلاً أمام الكلمة وسياقات تبلورها في الفكر المعاصر.
ارتبط مفهوم الأزمة في الفكر المعاصر بالتحولات والثورات الكبرى التي قادت العالم نحو المجتمع الصناعي، وقد كان المفهوم يشير إلى المرحلة الانتقالية داخل هذه التحولات، حيث كانت الأزمة تُعيِّن ملامح التوتر التي تلحق أنظمة المجتمع والاقتصاد والثقافة، حيث تحصل الملامح الأولى للتحولات التي تجعل الأنظمة المذكورة، تتجاوز الأنظمة القائمة في مجتمعاتها.
نستشف ذلك في مؤلف بول هازار أزمة الوعي الأوروبي 1680-1715، حيث يعمل المؤلف على تحديد المعالم الكبرى للأزمة، التي عصفت بأبرز مقومات المجتمع الكلاسيكي وأنظمته الفكرية. وقد بين بول هازار كيف أسهمت أفكار القرن الثامن العشر في التهيئة لميلاد مجتمع جديد، تحكمه مبادئ الحركة مقابل الثبات، وتحكمه القيم النسبية في التعامل مع الظواهر بدل المقاربات اليقينية والقطيعة، كما تحكم قيمه السياسية مقدمات العقل والحرية والمواطنة.
يعبر المحتوى الذي قدمنا أعلاه، عن معطيات تنتمي، كما أشرنا آنفاً، إلى تاريخ تشكل المجتمع الصناعي في الغرب ابتداءً من القرن الثامن عشر، إلا أن النقاش الذي دار في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، في موضوع "أزمة الحضارة الغربية" كان يفكر في الأزمة بالآلية الشمولية نفسها التي حددناها سابقًا، إذ تقتضي الأزمة العمل على إنجاز التجاوز والتخطي، إلا أن الاستعمالات الراهنة للمفهوم، خاصة في مجال الأبحاث التي استفادت من تطور آليات العمل الميداني، في مجال العلوم الإنسانية، أدت إلى التفكير في الأزمة وتجلياتها من زاوية نسقية ُمركَّبة.
ويترتب عن ذلك أن الأزمة تشير إلى الاختلالات في الأنظمة السائدة، وهي اختلالات مؤقتة عارضة، تتولد في سياق تطور الأنظمة القائمة، حيث تنشأ مُمْكناتٌ أخرى تعيد صياغة نظام العلاقات داخلها، ضمن زمانية مفتوحة على التحول المتواصل.
ينسجم مع روح المعطيات المسطرة في الفقرات أعلاه التصور الذي بلورته أعمال الباحث الفرنسي إدجار موران الذي يرى أن مفهوم الأزمة يشكل أداة من أدوات مقاربة الظواهر التاريخية بهدف تشخيص مختلف أبعادها. ولم تعد الأزمة في نظره مرضًا أو عرضًا مرضيًا، بقدر ما تحولت، انطلاقًا من ارتباطها بالنسق العام للمجتمع والفكر، إلى مسألة حيوية، بل مسألة موضوعية يلزمنا التعايش معها. وينتج عن ذلك أن المنهجية الجديدة في مقاربة مفهوم الأزمة تقتضي تشخيص معطياتها، وتحليل أبعادها للتمكن من الوصول إلى ما يمكن أن يُساعد على حسن إدارتها، وتدبير النتائج المترتبة عنها، أو المحتملة الوقوع من جراء استمرارها، واستمرار توالدها.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن المحتوى الجديد لمفهوم الأزمة ودلالتها يرتبط بتصور للمجتمع قائم على انفتاحه وقابليته للتغير والتطور، كما يرتبط بتصور نقدي للمعرفة، والتصوران معًا يعتمدان الأوليات الفلسفية الناظمة للحداثة.
هذا فيما يتعلق بالخلفية العامة، التي نفهم في إطارها دلالات مفهوم الأزمة كما استعملت في سياق تطور الفكر المعاصر. أما في مجال الفكر العربي، فنحن نعتقد بصعوبة ضبط عناصر نظرية عامة للاستعمالات المتعددة لهذا المفهوم، خاصة وأنه يرد في مجالات بحثية متعددة، وبصورة لا نستطيع حصرها. وربما لا نجازف إذا قلنا بندرة، إن لم يكن بانعدام، أي بحث إبستمولوجي، يتقصى دلالة المفهوم في الفكر العربي المعاصر.
ومقابل ذلك، نجد عملاً مهمًا للأستاذ عبد الله العروي، اهتم فيه بتشخيص أزمة الفكر العربي؛ فقد وضع مصنفًا مهمًا في سبعينيات القرن الماضي بعنوان "أزمة المثقفين العرب"(1974)،قارب فيه إشكالية النهضة العربية من خلال التفكير في أزمة الفكر العربي المعاصر، المتمثلة في عدم قدرة هذا الفكر على الفصل في مسألة الكونية؛ أي مسألة رفع التوتر القائم بين اختيار التقليد واختيار الحداثة. وقد صاغ هذا الإشكال أثناء دفاعه عن الحداثة ضد التقليد، والكونية ضد التهميش، والوضعية ضد النزعات الروحية.
إن ما يميز مساهمة العروي في هذا المجال، هو دفاعه المستميت عن أهمية الفكر التاريخي في نقد المرجعية السلفية، في الإديولوجيا العربية المعاصرة. وقد ترتب عن الدفاع المذكور أطروحة مهمة في الفكر العربي بلورها في حدوسه الكبرى في مصنف العرب والفكر التاريخي.
وفي السياق نفسه، أصدر الأستاذ هشام جعيط سنة 2000 مصنفًا مهمًا بعنوان أزمة الثقافة الإسلامية، اقترب فيه من بعض مآزق الفكر العربي المعاصر، واستحضر البعد المقارن في الأبحاث التي تناول فيها مفهوم التقدم والنهضة في الصين واليابان.
يتمثل الجامع الأكبر في تصور كل من عبد الله العروي وهشام جعيط في تشخيصهما لأزمة الفكر العربي في وقوفهما أمام عدم قدرة الفكر العربي على المواءمة بين التقليد وبنياته الراسخة والمتحكمة في أنظمة الفكر العربي، وبين مقدمات الحداثة والفكر العصري. وقد عملا معًا طيلة عقود من الزمن على بلورة جهود في الفكر تروم توطين الحداثة ومقدماتها، وذلك لتوسيع فضاء الحرية والعقل والإبداع في فكرنا المعاصر.
بناء على ما سبق، سنعالج أزمة الفكر العربي المعاصر، باعتبارها مسألة موضوعية؛ أي مسألة ترتبط بسياق معين في التاريخ وفي الفكر، تاريخ العرب المعاصر، وتاريخ الصراع الإيديولوجي الذي ما فتئ يتطور في مجال النظر العربي، معبرًا عن الإرادات المحكومة بصراع المصالح والمنافع والاستراتيجيات في التاريخ.