أزمة المثقف العربي والتحول الـديمقراطي
فئة : أبحاث محكمة
أزمة المثقف العربي والتحول الـديمقراطي
الملخص:
تدفعنا التحولات الطارئة في الحياة السياسية والثقافية التي تعرفها المجتمعات وأنظمة الحكم في بعض البلدان العربية، وما صاحبها من حراك اجتماعي وانتفاضات ومن تغيير كبير في نوعية الخطابات ومسارات النقاش التي صاحبتها، إلى إعادة طرح سؤال المثقف وما هي الأدوار التي يضطلع بها اليوم، بل إلى التساؤل إن كان هذا الكائن الذي طالما أزعج السلط وزعزع اليقينيات والأفكار والنماذج الجامدة، إن كان لا يزال على قيد الحياة أم إن خطاب النهايات والموت قد لحقه؟
إن المثقف العربي المعاصر يعيش في محنة حقيقية؛ فمنذ أن دخلت الدبابة خرج المثقف من صدارة المشهد العام والمشهد السياسي على وجه الخصوص، واحتل المثقفون مواقع متفاوتة في المشهد العام، فكانت لهم أدوار لم يقصدوها بالضرورة، ويتجلى ذلك في الحالة المصرية بعد أن تآكلت الطبقة الوسطى التي شكلت الوسيط أو «موجات الحمل» بين المثقف والجماهير بعد أن أخرج المثقف عنوة وبالقوة من صدارة المشهد العام.
إن مسؤولية المثقف لا تكون في مواجهة السلطة الغاشمة وحدها، بل أيضا في مواجهة مجتمعه، وشعبه أحيانا وبهذا المعنى يتأسس مجال ثقافي فريد هو ثقافة المداولات والحوار والجدل، مشيرا إلى وجود جبال من المرارة بسبب ما حدث وما يحدث لبلادنا من تخريب وتدمير فظيع واستثنائي وتدمير للنسيج الاجتماعي كله وتحطيم لإنسانية الإنسان وكرامته وإعمال آليات التعذيب والاعتقال وإلحاق العقاب البدني والمعنوي للجميع، مؤكدا أن أعظم ما يفعله المثقف هو إلقاء الضوء على حقل الاختيارات الممكنة تاريخيا بالتباساتها وإشكالياتها، في ظل أنظمة الحكم الشمولية في مجتمعاتنا العربية.
إن مهمة إنجاز التحول الديمقراطي لا تتعلق بالمثقف بوصفه منتجا للمعرفة، وإنما بصفته شخصا «يمارس الحياة ويتفاعل مع مجتمعه». وعليه، تتحد مهمة المثقف العربي في اللحظة العربية الحالية، في أنسنة الممارسة الاجتماعية والسياسية أو استعادة الحالة الإنسانية حتى في أبسط معانيها، وهي الشفقة الإنسانية وإخضاع الدولة لحكم القانون العقلاني المنتج العادل، ويكون ذلك بالدفاع عن حقوق الإنسان والشعب، بل والدفاع عن التطلعات المشتركة للإنسانية يندرج تحت هذا التعريف لدور المثقف بصفته «شخصا».
مقدمة
إن أسئلة المثقف العربي وقضاياه باتت اليوم أكثر تعبيرا عن أزمته، أزمة الوعي والوجود والموقف والمصير، وإذا كانت معطيات الواقع أكثر إثارة، فإن هذه الأسئلة ستكون مدعاة لتلمس ما يتساقط من هذه الإثارة، وباتجاه أن يتموضع هذا المثقف في خندقه أو معسكره أو حزبه أو مقهاه، ليصطنع فعالية استيهامية للمواجهة، مواجهة كل ما يجري من هموم وانكسارات وتشوهات لم يعد المثقف قادرا على التعاطي معها إلا في سياق الثورة عليها. لكن السؤال الأكثر حرقة يكمن في طبيعة هذه الثورة - أقصد ثورة الوجود والأسئلة- وهويتها وطبيعة القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية والتمويلية التي تقف وراءها وتعبّر عن سيرورتها.
إن المثقف العربي المعاصر يعيش هامشيه وعزله، أو حضورا تابعا للحاكميات السياسية والفقهية؛ إذ جعلته بعض الأدوار أكثر عرضة لمواجهة التهم التي طالما صممتها له سلطات الاستبداد بدءا من(التكفير) والزندقة والمروق وانتهاء بالخروج عن الملة والأمة، وصولا إلى المثقف المضاد للحزب والثورة. ولقد ذهب ضحية هذه التهم الباطلة والخارقة الكثير من المبدعين الكبار في تاريخ ثقافتنا العربية والإسلامية.
ولعل نموذج المثقف السياسي بمعناه الوظيفي، والمثقف الإيديولوجي بمعناه الدوغمائي، والمثقف الأصولي الفقهوي بصورته المسلحة، تحول في هذا السياق إلى حاضنة لأمثلة تبرير وظيفة البطل الافتراضي المتضخم لصورة المثقف؛ لأن هذه النماذج كانت أكثر أنواع المثقفين تعرضا لتوصيف دور (الضحية) في التاريخ الثقافي؛ إذ تعرض هذا المثقف إلى السجون والمصائر المجهولة والميتات المختلفة، وتعرض أيضاً للملاحقة والنفي، مثلما عاش هذا المثقف أوهام السحر الوطني، والحلم الثوري ومتاهة المنفى الثقافي، وأحسب أن المنفى الثقافي العربي كان أكثر المنافي تغييبا ورعبا وطردا لدور المثقف العضوي ولترسيم وظيفته في التاريخ.
ولعل المثقف العربي المعاصر وسط هذا الرعب، سيظل ولوقت غير منظور الكائن الجينالوجي المطرود، والذي تعوّد أن ينشأ ويعيش مع الأزمات، وأن يصطنع له دور المفسّر أو قارئ الأحلام أو المؤّول السري، مثلما كان هذا المثقف -في مرحلة سابقة- مثالا ونموذجا للكائن الأيديولوجي والعقائدي وحتى التهريجي، لذا فهذا المثقف هو الأكثر عرضة الآن لكل ما يتبدى من عاهات الثورة والمكان والكينونة والتاريخ والاستبداد والسلطة.
والجدير بالذكر أن التحولات الطارئة في الحياة السياسية والثقافية التي تعرفها المجتمعات وأنظمة الحكم في بعض البلدان العربية، وما صاحبها من حراك اجتماعي وانتفاضات ومن تغيير كبير في نوعية الخطابات ومسارات النقاش التي صاحبتها تدفعنا، إلى إعادة طرح سؤال المثقف وما هي الأدوار التي يضطلع بها اليوم، بل إلى التساؤل إن كان هذا الكائن الذي طالما أزعج السلط وزعزع اليقينيات والأفكار والنماذج الجامدة، إن كان لا يزال على قيد الحياة أم إن خطاب النهايات والموت قد لحقه؟
حالة الانكشاف العربي الراهنة واضحة، لكنها لم تتجل بكامل صورتها كتجليها في حالة المثقف العربي الذي ربما لم يكن يتوقع مطلقا ما حدث ويحدث من حوله وأمامه من مشاهد وأحداث دراماتيكية لم تكن في حسبانه وبالتالي لم تستطع نرجسيته تقبلها، باعتبارها خارج نطاق توقعاته المؤدلجة أو الذاتية، بيد أنه ليس من المنطق وضع حالة كهذه في إطار تعميمي شامل، فبالتأكيد ما زال هناك مثقفون عرب جسدوا حالة نضالية فارقه، قابضين على جمرة نار "برومثيوس" كمثقفين طليعيين، بهرتهم عبقرية هذا الجيل الذي حول عالمه الافتراضي إلى واقع، فيما ظلوا هم حبيسي جدران اليوتوبيا الافتراضية عقودا.
ولا يمكن لنا أن نفهم مغزى اللحظة الراهنة في التطور المجتمعات العربية إلا في سياق التطور السياسي الذي مرت به المنطقة في نصف القرن الأخير، وربما أكثر من ذلك بقليل، لما عرفته تلك الحقبة من انتقال من الحكم الاستعماري إلى الحكم الليبرالي المتعثر قصير الأمد، ثم الحكم العسكري تحت شعارات الثورة والتقدمية، والتي آلت بنا الآن إلى هذه الأوضاع التي نناضل في سياقها من أجل العودة بشكل جاد وحقيقي إلى الديمقراطية.
ومن هنا، ظهرت أهمية التحول الديمقراطي، باعتباره أحد الضمانات والدعامات التي يمكنها أن تساهم في نهضة العقل العربي والمثقف العربي وتسهم في بناء المجتمع العربي الواعد.
ومن أجل ذلك، قمنا بتقسيم البحث إلى ثلاثة محاور أساسية، تناولنا في المحور الأول: التعريفات الشهيرة حول المثقف باعتباره ظاهرة تاريخية. أما المحور الثاني، فجاء بعنوان: أزمة المثقف ورهان التحول الديمقراطي، وبعد ذلك كان المحور الثالث دراسة حالة أو بالأحرى تطبيقاً عمليا في درس المثقف وسؤال الديمقراطية؛ فجاء بعنوان: المثقف وتحولات النخبة السياسية.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا