أصفاد الدين؛ قضيّة الإصلاح الديني ومعضلة الثوابت
فئة : مقالات
تمهيد:
في رواية "الإخوة كارمازوف" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي كان أحد أبطال القصة، إيفان كارمازوف يعاني من الهذيان. جلس إيفان في إحدى نوباته يحاور الشيطان وقد تهيّأه إيفان في شكل رجل روسي متوسط العمر كثير الكلام.[1] أخذ هذا الحوار فصلا كاملا من الرواية بث فيه دوستويفسكي الكثير من الأفكار حول الدين وفلسفة الوجود، كان لها أثر على عدد من الفلاسفة أشهرهم نتشه. من ضمن ما قال شيطان إيفان كان التنبؤ بأن البشرية بكاملها ستنكر وجود الله في المستقبل، حيث يتحول الإنسان إلى إله نفسه، وهي الأفكار التي صاغها نتشه فيما بعد في فكرة (موت الإله) و(الإنسان الخارق).[2]
كثير من دعاة الإلحاد الآن "يبشرون" بذات نبوة الشيطان: الوعي الإنساني في ازدياد مستمر يلازمه انحسار في التدين، النتيجة الطبيعية هي سيادة الإلحاد وتحول الدين إلى تاريخ. والإله الإبراهيمي سيلقى ذات مصير آلهة الإغريق القدامى؛ أي إنه سيتحول إلى أسطورة. هذه الأفكار لم تكن قناعات عند دوستويفسكي الذي كان مسيحيا مخلصا، ولعله لهذا السبب وضعها على لسان الشيطان، وجعل إيفان يصرخ فيه بأنه غبي لا يُخرج منه إلا أفكاره الغبية التي تخلّى إيفان عنها منذ زمن، بل إن دوستويفسكي برّأ الشيطان نفسه من الإلحاد، حيث أقسم لإيفان أنه لا علم له إن كان هناك إله أم لا! وأنه إنما يتشيطن أداءً لواجبه فقط! (حتى الشيطان لم يخل من ظُرف!)
قضية الإصلاح الديني التي نحن بصددها، هدفها إصلاح أثر الدين في المجتمع، وليس إثبات صحة المقولات الدينية أو خطأ فكرة الإلحاد
على كل حال، فإن المراقب الأمين لا يملك إلا الإقرار أن الحجج التي يسوقها الملحدون لها في الواقع أساس، وأن الإجابة الموضوعية عليها لا يمكن أن تكون من داخل إطار المسلَّمات الدينية كونها موضع خلاف. فإذا استبعدنا الإيمان من تأسيس أية حجة دينية لكونه إحساسا ذاتيا وليس أمرا موضوعيا، ثم وضعنا المقولات الدينية على طاولة التشريح والنقد بأدوات المعرفة الإنسانية كمناهج البحث العلمي والتحليل والمنطق وحتى الحس السليم أحيانا، فإننا نجد أن الكثير من المقولات، بل والمسلّمات الدينية تقف بحجج واهية أو بلا حجج إطلاقا؛ بمعنى أنها كانت تعتمد على الإيمان فقط، والذي كثيرا ما يأخذ شكل اتباع العادة في المجتمع، والتي اكتسبت اسما شرعيا هو الإجماع. ولأن هذا النهج هو في حقيقة الأمر عماد الدين كله كما ذكر إمام الحرمين الجويني، [3] منحه الأصوليون صفة العصمة والقداسة. هنا تكمن ثقة البعض في حتمية الإلحاد. فالمعرفة الإنسانية تقدمت بشكل مذهل في المعلومات كما في المناهج والأدوات. والمسلّمات الدينية التي تحصّنت في السابق بسذاجة العوام أو جهلهم بجدالات الفلاسفة لعسر التواصل، باتت الآن، وبعد ارتفاع معدل الوعي العام وسهولة نشر المعرفة، تحت امتحان عسير لم تشهده من قبل. وزاد الأمر عسرا كون التبشير الإلحادي صار عملا مجزيا يجلب المال والصيت، فاتجه إليه الحذّاق من العلماء والمثقفين الذين انكبوا على مقولات الدين، فدرسوها وعرفوا مواطن الضعف فيها ثم أخرجوها بعد أن فندوها، وبسّطوا مادتها وأحسنوا تأليفها للدرجة التي تجعل الإنسان الذي لا يهتم بأمور الفلسفة والدين يجد فيها مادة شيقة كما يجد في الرياضة أو السينما. هناك زلزال بات يضرب قواعد الدين السائدة الآن، والمؤسف أنه على هذا النحو سيهدم كل البناء دون تمييز لصالح من فاسد. وكل إصلاح يجريه أهل الدين عَلى سطوحه سيكون بلا جدوى كونه أخطأ موضع الخلل. والمعضلة هي أنهم كلما ازدادوا تمسكا بما جعلوه ثوابتا للدين كلما تخلخل الدين وشارف الانهيار. فلا سبيل إذن سوى فتح كل المغلقات فيما يخص أي عمل فكري أمام النقد والتمحيص، وهذا سيشمل الكثير مما وُضِع في مجال الثوابت لا تطاله يد التغيير.
هنالك أمران ينبغي بيانهما قبل الغوص في دقائق موضوع ثوابت الدين. الأمر الأول، وحيث إن هذا المقال معني ببحث إشكالات المسلّمات الدينية وكيفية التعامل معها في إطار الإصلاح الديني، سيبدو أن فساد فكرة الإلحاد أصبح فرضية مثبَتة، فعلى أي أساس قبِلناها؟ بتعبير آخر، لو صحّت فكرة الإلحاد، فقدنا المبرر لعلاج إشكالات فكرة الدين، فكيف استبعدنا هذا المسار؟ والجواب عن هذا هو أن المقال، وإضافة إلى أنه ليس فيه سعة لعلاج إشكال الدين والإلحاد، فهو يبحث الإشكالات المحيطة بالمسلمات الدينية، ليبين أن التسليم بهذه المقولات مشكل ابتداء. علاج هذه الإشكالات لا يعني بالضرورة صحة فكرة الدين، لأن البعد الغيبي يظل حاضرا في ذلك ومعزولا عن إشكالات المنطق والتاريخ في كثير من الأحيان، بينما وجود هذه الإشكالات يمنع القول بصحة الفكرة الدينية التي تتبناها. هذا يجعل علاج إشكالات الفكرة الدينية شرطا ضروريا لصحتها، ولكنه ليس كافيا.
الأمر الثاني هو أن قضية الإصلاح الديني التي نحن بصددها هنا، هدفها إصلاح أثر الدين في المجتمع، وليس إثبات صحة المقولات الدينية أو خطأ فكرة الإلحاد. السؤال المنطقي الذي سيواجه كل متدين يُؤْمِن بإله مطلق القدرة هو: لماذا يخاف من ضياع الدين بانتشار الإلحاد أو أديان أخرى يراها فاسدة؟ إن كان الإله نفسه لا يهتم فلم يهتم الناس؟ وإن كان يهمه أمر الدين، فمن سيغلبه عليه؟ الإشارة هنا ليست إلى الدعوة التي يرجو منها العبد ثوابا؛ أي العمل على نشر الدين رغبة في الثواب، باعتباره عملا صالحا، بل الإشارة إلى فَزعة المؤمنين إلى نجدة الدين وتلك الخشية الحقيقية عليه من الضياع، وهم يؤمنون أن الله غني عن العالمين. ما هي القيمة التي تدفع إلى الحشد والتكاثر الديني؟ ولماذا تجزع المجتمعات من تبدل الدين عند أفرادها، حتى باتوا يعاقبونهم بالموت، يفضلونه ميتا على كافر؟! هذه الفكرة لا يمكن تفسيرها تفسيرا معقولا داخل الإطار الديني، حيث الاعتقاد في إلهٍ مستغن عن العباد وقادر على كل شيء. التفسير المعقول يظهر في الإطار الثقافي الاجتماعي، حيث العصبية القبائلية تقسم العالم إلى "نحن" و"هم". ترك الدين هو بمثابة التمرد على أعراف القبيلة، واعتناق دين آخر هو خيانة لتلك الأعراف تُلحِق بصاحبها العار والعزل الاجتماعي.
لكل ذلك، فإن الإصلاح الديني الذي نحن بصدده لا يهدف إلى إرشاد الناس إلى العقيدة الصحيحة؛ فذلك أمر لا سبيل إليه. ولا هو يهدف إلى تسويق الدين وحشد الناس إليه كما تفعل العقائد القومية والسياسية، بل الهدف هو إصلاح أثر الدين في المجتمع، حيث ظل الدين هو وعاء الأخلاق في المجتمعات الإنسانية على امتداد التاريخ، فوجبت بذلك نجدته. وعلى هذا الأساس، فإن مواطن الإصلاح تتمدد داخل الإطار الديني بقدر أثر تلك المواطن على حياة الناس ولو استدعى ذلك نبش ثوابت دينية راسخة وإخراجها للفحص والمراجعة. لن يلزمنا ملاحقة كل عقيدة للناس ووزنها بميزان العقل ما لم تكن ذات أثر في المجتمع. من شاء أن يُؤْمِن أن يأجوج ومأجوج سيخرجون آخر الزمان فشأنه، ولكن إن قام ينبش الأرض بحثا عنهم وجب إرشاده. التحدي أمام هذا المنهج هو أن أشد آثار الدين على المجتمع تعود في كثير من الأحيان إلى أشد مقولات الدين ثبوتا. لذلك، فإن أمر الإصلاح الديني لن يبارح عجزه الحالي طالما مَنح حصانة لفكرة ما وإن عزّت.
سأسعى في هذا المقال، إلى بيان مواطن الإشكال فيما يخص قضية الإصلاح الديني. المقال عبارة عن تمهيد لكتاب سينشر قريبا إن شاء الله عن ذات الموضوع. لذلك، ولضيق المساحة هنا، سأثير أسئلة دون أن أقدم لها إجابات، كما سأذكر آراء على قضايا دون بيان تفصيلي للبراهين التي تقوم عليها هذه الآراء. باختصار، هدف المقال هو لفت الانتباه للمشكلة وليس علاجها.
1. الإقرار بالمشكلة
أ. كيف يثبت ما لا اتفاق عليه؟
إذا اختلفت فرقتان على قضية ما، فإن هذه القضية لا يمكن أن تشكّل ثابتا لمجموع الفرقتين بطبيعة الحال. وباعتبار أن الموقف من هذه القضية هو من الثوابت عند الفرقتين، فإن الانتماء إلى إحداهما يعني بالضرورة نفي الانتماء إلى الأخرى. ولكن ماذا عن الانتماء إلى الكل الجامع: الإسلام مثلا؟ سيسهل على الأشعري أن يحكم على المعتزلي بأنه ليس أشعريا، ولكن سيصعب عليه أن يحكم عليه بأنه ليس مسلما، رغم مخالفته لأحد ثوابت الدين عند الأشاعرة. فإما أن الشخص يميز بين ثوابت الفرقة وثوابت الدين، وهذا غير منطقي، وإما أنه يتخلى عن منهجه عندما يتعلق الأمر بالتكفير، وهذا إقرار بضعف العقيدة. أما الذي يلتزم بالمنهج والعقيدة، فهو الذي يحكم بالكفر على كل من خالفه في الثوابت، والدين عند هذا ينحصر في فرقة صغيرة، وما سواها حطب جهنم.
القول بنسبية الثوابت يضعف مكانتها العقائدية والقول باطلاقها يعيدنا الى مشكلة التكفير المتبادل بين الفِرَق
بناء على ما سبق، فإن الثوابت في الدين تنتفي إلا فيما فيه اتفاق تام، أو بلغة الأصوليين، إجماع (حفظا للوقت والمساحة، سأغض النظر هنا عن الرأي الذي يميز بين الاتفاق والإجماع)، ولعل هذا يتفق مع المفهوم العام أن الثوابت في الدين هي محل اتفاق، ولكن هل هذا صحيح؟ لعل من المفارقات الأبرز في الفكر الإسلامي أنه لا يوجد إجماع في قضايا الإجماع! وعليه، فإنه لا يمكن القطع بأن هناك قضية محل إجماع كون مفهوم الإجماع نفسه، وبالتالي انعقاده على أية قضية، محل خلاف. فعلى أي أساس ثُبِّتت ثوابت الدين؟ القول بنسبية الثوابت يضعف مكانتها العقائدية والقول بإطلاقها يعيدنا إلى مشكلة التكفير المتبادل بين الفِرَق. صحيح أن بعض المقولات الدينية عليها اتفاق كبير، حيث تنحصر المخالفة في جماعة صغيرة أو أفراد قليلين، هنا سيسهل على الجماعة الغالبة تكفير الشاذ، ولكن هذا يعزز من حقيقة أن الأساس الذي تنبني عليه صحة المقولة أو ثبوتها لا يعدو أن يكون الكثرة العددية ما يصرف عنها البعد الديني، ويحيلها إلى شأن اجتماعي.
لا يوجد في الإسلام ثابت لم يختلف المسلمون حوله بدرجة ما. ومسلم هنا صفة نطلقها على من وصف بها نفسه تجنبا لإشكال المرجعية. حتى المقولات العامة الجامعة كالقول بأن المسلمين ربهم الله ونبيهم محمد وكتابهم القرآن، ستبقى بلا معنى ما لم تتحدد مكونات كل مقولة: ما المقصود بـ (الله) أو مفهوم الألوهية؟ ما هو مفهوم النبوة؟ وما هو مفهوم الوحي؟ هذه المفاهيم هي التي تحدد ماهيات المقولات الجامعة في الدين، وهي مفاهيم فيها كثير من الاختلاف. فإذا كان المسلمون مختلفين حول ذات الله وصفاته وأسمائه وأفعاله ومكانه وغير ذلك، ويختلفون أكثر فيما يتعلق بالنبوة وكذلك في القرآن، فما معنى الكلام، حينئذ، عن ثوابت الدين أو مسلماته أو المعلوم منه بالضرورة؟ لا سبيل إلى إيجاد ثوابت مطلقة لأي فكر بشري، ولن تخرج المقولات الدينية عن نطاق الفكر البشري حتى لو طابقت حقيقة غيبية، فهذه المطابقة تظل أمرا ظنيا لنا كبشر. والثوابت المنسوبة للأكثرية تظل مقيدة بكثرتها، والكثرة غير ثابتة. ذات الأمر ينطبق على الثوابت المقيدة بقيود أخرى كنصرة السلطان أو غيرها من الظروف المتغيرة، فثباتها المقيَّد بمتغير يعني أنها في إطار أوسع تكون متغيرة أيضا.
ب. ضعف الحجج الساندة للثوابت
مفهوم الثبوت يقوم على فكرة جوهرية هي أن القضية ذات الشأن – أي الأمر الثابت – هي تعبير حقيقي عن الدين؛ بمعنى أنها تُعتبَر الدين "الصحيح" في الأمر المعني، لذلك لا يجوز الاختلاف عليها ولا تغييرها. هذا الثبوت يقوم على ركيزة أساسية هي اليقين المعرفي. والمقصود هو أننا إذا علمنا يقينا صحة قضية ما صارت القضية ثابتة. هذا اليقين وضع له الأصوليون وسائل متعددة منها الحس والتجريب والمنطق وغيرها، مما لا يسعنا تفصيله هنا، ولكن أهم وأشهر هذه الوسائل هما التواتر الذي تقوم عليه صحة النص القرآني والإجماع الذي تقوم عليه، عمليا، كل ثوابت الدين. وربما يعجب المسلم غير المختص إذا علم قلة الحجج المقدمة في موضوع التواتر إذا ما قورنت مثلا بموضوع الأسانيد الصحيحة والجرح والتعديل التي استخدمت في علم الحديث. بل إن الكلام عن التواتر في كتب الأصوليين نجده في فصول الأخبار، والتي تعنى بالحديث. لا وجود لموضوع صحة النص القرآني في علم الأصول. ولا هو كذلك في علم الكلام الذي يبحث في ماهية الوحي لا صحة النص. وحتى لو قلنا إن النص القرآني يقوم على الحفظ الكتابي لا النقلي، وهذا يخالف الرأي الغالب، فالمكتوب عن كتابة القرآن وجمعه محدود جدا بالنسبة إلى مكانة القرآن في الدين. فعلام صارت صحة النص القرآني بلفظه ورسمه وقراءاته من الثوابت في الإسلام؟ ولعل شدة استنكار السؤال عند القارى هي ذاتها ما دفع العلماء لتجاوز هذا الأمر. لعلهم رأوْا أن اليقين الناشئ عن إيمان المسلمين بصحة النص القرآني أقوى من أي علم يمكن كسبه بالخوض في وضع الحجج لإثبات القضية، شأنهم في ذلك شأنهم في قضية الإيمان بالله نفسها، حيث الإيمان المحض أقوى من العلم القائم على البرهان. ولكن المشكلة أن الإيمان هو حالة وجدانية خاصة لا تقوم عليها ديانة جماعية. الذي فعله علماء المسلمين هو أنهم، سواء بقصد أو دونه، نسبوا يقين الإيمان زورا إلى البرهان، وبهذا انتقل اليقين من الذات إلى الجماعة متجلّيا في هيئة قضايا ثابتة ومسلّمات. ومع دوام الالتزام الجماعي بهذه الثوابت يتعزز ثبوتها للأجيال اللاحقة في متوالية هندسية. عليه، وللمفارقة، فإن الثوابت تكون أشد رسوخًا كلما ابتعدت عن مصادرها الأولى: المسلمون الْيَوْمَ أشد ثقة في صحة مصحف عثمان من عثمان نفسه!
أما التواتر، والذي ليس بدعة إسلامية، فهو من مباحث فلسفة المعرفة، والتي تنظر إلى النقل أو الشهادة، باعتبارها أحد مصادر المعرفة الإنسانية. وصحيح أن التواتر بمعنى الشهادة متعددة المصادر المستقلة يعتبر من أقوى الشهادات، والتي تمنح علما موثوقا بصحة الخبر، لكن الوصول عبرها إلى اليقين عسير. وليس العسر حصرا على التواتر فقط، بل إن إمكان حصول اليقين عند الإنسان هو محل خلاف بين الفلاسفة من حيث المبدأ، والأصوليون من المسلمين يعلمون ذلك ولكنهم لما في ذلك من إشكال داروا حوله بحثا عن مخارج. ولو افترضنا جدلا يقينية الخبر المتواتر، فإثبات التواتر لأي خبر هو عمل أشد عسرا. وذات الإشكالات نجدها بزيادة في مفهوم الإجماع، والجدال في هذا مبسوط في مواضعه.
ما هي الغاية هنا؟ ليست الغاية الطعن في الدين في بعده الغيبي، فهذا طعن يضر ولا ينفع. ولكن ينبغي أن لا تختلط علينا الأمور، فنمنح قداسة غير مستحَقة لما هو عمل بشري في الدين مهما سُمّي بأسماء القداسة أو أُلبِس لَبوسها. ولكي يسهل علينا التمييز، فمتى اجتمع شخصان أو أكثر على أمر ما فهو اجتماع إنساني لا يحُوز قداسة دينية، وإن كان اجتماعا في أمر الدين. فالإيمان، الذي هو عماد القداسة، لا يتعدى الذات. والاتفاق على قضية إيمانية لا يعني جماعية الإيمان. لذلك، فكل مقولة دينية تهدف إلى الزام المؤمنين بأمر ما ليست مقدسة، وبالتالي ليس لها ثبات مطلق، وتظل عرضة للبحث والنقد مهما كثر اتفاق المؤمنين عليها أو طال زمانه. هل يخسر الدين شيئا بتعريضه للتغيير؟ السؤال الأجدى هو: ماذا كسب بمنعه؟!
2. سطحية محاولات الإصلاح/ التجديد حتى الآن
أ. نقد السنة
المفارقة هنا أن حجّية السنة كانت، ولا زالت في كثير من الأحيان، من الثوابت التي لا ينبغي أن تتغير في الإسلام، ولكنها الآن صارت الهدف الأساسي لدعاة الإصلاح أو التجديد، وهذا يمكن فهمه من وجهين؛ الوجه الأول هو الامتحان العسير الذي تخوضه المقولات الدينية التي تعتمد على السنة في مواجهة الحداثة، حيث يبدو الكثير منها غير مناسب ولا منطقي في إطار الحياة المعاصرة. الوجه الثاني هو وجود القرآن كثابت أخير تُلقَى عليه حمولة ثبوت الدين وقداسته. المشكلة هي أن فكرة الثبوت نفسها تظل ثابتة، رغم تغير مواضعه. كأنما هنالك قدرا ثابتا من اليقين الديني لا يجوز تغييره ولكن تجوز اعادة توزيعه، وكل ما قام به الإصلاحيون نُقَّاد السنة هو أنهم نزعوا اليقين عنها ثم أضافوه إلى القرآن. لذلك، تجد أن النص القرآني أشد جمودا وتحجرا عند نُقَّاد السنة مما هو عليه عند أهل الحديث، فهم لا يقبلون روايات جمع القرآن لما تظهره من إشكالات ولا يقبلون النسخ ولا الكلام عن نقص القرآن. المشكلة الثانية هي أن المقولات الدينية بعد أن فقدت الحديث النبوي كمصدر لها لم تستطع أن تعوِّض بالقرآن، لأنه أقل شمولا وتفصيلا في تناول القضايا، فانحصر أثر ترك الحديث في الغالب على ما بدا معارضا للقرآن، وهو قليل كما أن التعارض مفسَّر ومخرَّج عادة. ليس غريبا اذن، أن يكون نقد السنة ضعيف الأثر في إطار الإصلاح الديني كون الإشكال لم يكن في ضعف المصدر، وإنما في قبول التغيير.
ب. مقاصد الشريعة
ذات الأمر ينطبق على فكرة مقاصد الشريعة، حيث وُسِّع إطار أصول الفقه بوضع مقاصد كلية عامة يراعيها الأصوليون عند وضع التشريعات. نظريا، هذا منهج حكيم، لأنه يُخرج عملية استخراج الأحكام من ربقة النص المصوَّب نحو المسألة إلى عمومية المقصد المُستَقرأ من مجموع النصوص المعنية بعموم المسألة. ولكن الواقع أن الإصلاحيين عجزوا عن الالتزام بهذا المنهج حتى نهاياته، لأنهم اصطدموا بـ "ثوابت" لم يجرؤوا على تغييرها، ولَم تزل تلك المعضلة الفقهية قائمة، حيث يدور الحكم مع العلة عوضا عن المقصد أو الحكمة. مثال الربا هنا واضح. كل الآيات القرآنية التي تكلمت عن الربا تكلمت عنه في سياق مخالفته كمعاملة مالية للصدقات والزكاة. الذي يستقرئ نصوص الربا في القرآن، حسب منهج المقاصد، يجد أن المقصد من تحريمه هو منع الظلم بين الناس واستغلال صاحب الحاجة في ساعة عسرته. ولكن تحريم فوائد البنوك الْيَوْمَ لا يقوم على هذا المقصد، بل على العلة التي هي الزيادة على رأس المال، بغض النظر عن أحوال المتعاملين أو احتمال حصول الظلم. والسبب ببساطة هو أن العلل تؤخذ مباشرة من النصوص، والنصوص ثابتة، بينما المقاصد مُستَقرأة؛ أي إن الجهد الفكري فيها أوضح، وهذا محتمل التغيير. هذا الأمر فيه إشارة مهمة. هناك ميل تلقائي، وكأنه فطري، عند المؤمنين نحو الثبات في أمور الدين، ونفور من التغيير. ولا أدري إن كانت علة ذلك هي إلحاح الأصوليين القدامى على مسألة الثوابت حتى ألِفَها الناس وصارت طبيعة في التدين، أم إنها ارتباط الدين بالغيب، والله الذي هو في عقيدة المؤمنين ثابت لا يتغير، ولعل الأمرين سواء.
ج. إشكال الحداثة
الحداثة التي أشير إليها هنا هي عصر ما بعد الثورة الصناعية؛ لا شك أن النقلة التي حصلت في المجتمع الإنساني في هذا العصر ضخمة بالقدر الذي ربما لا توازيها أية نقلة أخرى في محطات الاجتماع الإنساني سوى مبتدأ الحضارة باكتشاف الزراعة. فمنذ بداية الحضارة ظل الإنسان يستخدم، على سبيل المثال لا الحصر، الدواب في النقل والسيوف في الحرب والورق أو الرواية في الاتصال والنشر، سبعة آلاف سنة لم تتطور هذه الوسائل إلا بالقدر اليسير، ثم، وبعد الصناعة، قفزت قفزات هائلة في مائتي عام فقط! هذا التغيير الهائل في مقومات المجتمع الإنساني لا يمكن أن يمر على الدين بلا تأثير، وجدير بالتأثير أن يناسب قدر التغيير. تأثير الحداثة له مناح عديدة في الدين ولكن المقصود في سياق موضوعنا هو ذلك التأثير الذي يمهد للإجابة عن السؤال الذي يواجه كل من نادى أو عمل لتغيير معهود الدين: كيف عرفت من الدين ما لم يعرفه كل علماء المسلمين في أربعة عشر قرنا، وهم أقرب إلى زمن النبوة، وفي الغالب أكثر صلاحا وعلما؟ الإشارة هنا ليست فقط إلى نسبية التشريعات أو المفاهيم، كأن نقول إن الحداثة تستدعي تغيير بعض التشريعات أو المناهج التي صحت في الماضي لتناسب زمنا مختلفا. بل الإشارة أقوى هنا إلى أن الحداثة ساعدت في الكشف عن أخطاء في التشريعات أو المناهج ظلت قائمة طوال أربعة عشر قرنا دون أن ينتبه إليها أحد. ولا غرابة في ذلك، فالأمر لا يقتصر على الدين حيث تصححت بعد الحداثة مفاهيم شتى في علوم مختلفة ظلت سائدة منذ بدء الحضارة. كثير من المقولات التي أنتجها الفكر الإنساني ظلت في حصن من الامتحان لصدقها لآلاف السنين، ثم انهارت دفعة واحدة مع غزارة الأدوات التي صارت في يد الإنسانية بعد الصناعة. والأمر لا ينحصر في الماديات والكشوفات العلمية. فالتغيير الذي حصل في أدوات الإنتاج والمعرفة غيّر مناحي الاجتماع الإنساني في كل شيء، في الاقتصاد والسياسة والقانون، بل وحتى الأخلاق. لا ينبغي أن يستنكف المؤمنون أن يعرضوا ما ظنوه لزمن طويل من ثوابت الدين للامتحان والنقد بما صار في أيديهم من أدوات؛ فمعرفة الحق أولى من حفظ المعهود. مفهومٌ أن قيام هذا الانتقال الإنساني الكبير في محضن غريب سينفِّر الناس عن إخضاع مقدساتهم له باعتبار أن في ذلك انهزاما ثقافيا. ولكن واقع الحال هو أن تقلبات الحضارة، والحداثة إحداها، هي في مجموعها إرث مشترك للإنسانية، ورغم أن قيام الصناعة وما تبعها من تغيير في المجتمعات الإنسانية كان وظل في الغالب غربي الموطن، إلا أن لكل الثقافات الإنسانية فيها نصيب. وفوق ذلك، وإن اعتبرنا أنها غريبة خالصة، فالحق أحق أن يُتبع. وإنكاره لغُربته كِبْر لا يليق بصادق في طلب الحق. صحيح أن الصراع بين الثقافات يجعل الآخر، الغرب مثالا، في خصومة مع غيره، المسلمون مثالا، دافعها قبائلي فقط، إنكار ذلك سذاجة. وصحيح أيضا أن مواجهة مثل هذه العداوات واجب، التخاذل عنه لا يجوز. ولكن لا بد من التمييز بين الصراع القائم على عصبية الهوية تجاه الآخر، والاختلافات الطبيعية بين الثقافات والتباينات اللازمة بين الحضارات في كل زمن. فالحضارة لها دولة بين الأمم تعلو لنا حينا، ثم تهبط حين تعلو لغيرنا، وليس التنكر لها حين تغترب سوى كِبْر وحماقة.
3. سابقة اليهود والمسيحيين في الإصلاح الديني الجاد
أ. نقد النصوص الدينية
المسلمون ينظرون إلى الإصلاح اليهودي/المسيحي باستنكار وتعال غير مبرر؛ فالحق أن حال الأوروبيين في شأن الإصلاح الديني يعكس حالهم الحضاري المتفوّق، ولكن الفرق هو أننا كمسلمين نرى تفوقهم الحضاري المادي ونقرّ به غالبا، ولكننا نغفل عن تفوقهم علينا في أمر الإصلاح الديني، ونظن أن ما صنعوه في هذا المجال لا يعدو أن يكون جزءً من حالة النفور العام من الدين عندهم. ينبغي علينا أن نميز بين التدين الذي يعكس قدر التزام الناس بالدِّين قوة أو ضعفا، وبين الإصلاح الديني كعمل فكري فيه كثير من البحث العلمي الرصين. تفوق الغربيين في البحث العلمي ينطبق على الدين كما ينطبق على العلوم التطبيقية وغيرها، وهذا ليس في ما يخص الدراسات اليهودية/المسيحية فقط، بل هم الآن يتفوقون على المسلمين حتى في دراسة الإسلام. وفهم هذا ليس عسيرا؛ فالغربيون لا قيود عليهم في دراسة الدين دراسة موضوعية أكاديمية لا تأخذ بالمسلمات العقائدية كمسلمات بحثية، بل تعتبرها مادة للدراسة والبحث. قد يختلف الناس حول جدوى دراسة المسائل ذات الطبيعة الغيبية المحضة كوجود الله أو البعث والحساب دراسة أكاديمية صارمة، ولكن لا شك أن كثيرا من المسائل التأسيسية في الدين تقع داخل مجال الدراسات الأكاديمية في التاريخ واللغة والقانون والاجتماع وغير ذلك، وتفوق الغربيين في هذا المجال غير خاف. والحق أن سلوكنا تجاه دراسات المستشرقين في الدين يفتقر إلى الموضوعية في كثير من الأحيان. فالنقد الشديد الذي مارسه الغربيون على اليهودية والمسيحية نجده مبررا لأننا نرى هذه الديانات محرّفة ويغلب على مقولاتها الفساد. بينما نرى نقدهم للإسلام تعديا على ما لا اختصاص لهم فيه ومؤامرة لطمس الحق. وهذا ما كان ليُستنكَر لو أنه قيل بأدلته، ولكن الغالب هو أن مبدأ النقد نفسه مستنكَر. فالمقولات الدينية عندنا ليست مجالا للنقد والبحث الموضوعي، لأنها ليست مقولات وضعية، بل وحيانية منزَلة. والاستبشاع الذي يقابَل به أي كلام عن دراسة نقدية للقران مردّه إلى الظن أن النقد موجه لكلام الله، بينما الحقيقة هي أن المقصود هو المصحف الذي يحتوي على نص لغوي منسوب إلى محمد بن عبد الله الذي عاش في القرن السابع الميلادي، والذي نُسب إليه أنه قال إن هذا الكلام وحي من الله تعالى. وحتى المؤمن بنبوة محمد وتلقيه الوحي من الله تعالى يظل بإمكانه أن يكون موضوعيا وناقدا في دراسته لصحة نسبة المصحف الحالي إلى النبي؛ فهذا الأمر لا يعدو أن يكون مجموعة من المقولات والحجج لعلماء الإسلام تحكي عن سلامة عملية كتابة القرآن ثم جمعه في أكثر من مناسبة تاريخية، إضافة إلى تواتر النقل الشفهي له مع التأكيد أن ما تواتر نقله قُطِع بصحته. وهذه المقولات بدورها موجودة في مخطوطات عمرها مئات السنين والحكم بصحة ما فيها ينبغي أن يكون أيضا موضوعا للدراسة والنقد؛ وهكذا نتتبع مصادر المقولات الدينية بالبحث والتنقيب الجاد، حتى يصل بِنَا الأثر إلى فم النبي الكريم أو ينقطع دون ذلك. والمؤسف هو أن هذه الممارسة العلمية الرشيدة كانت هي نهج العلماء الأوائل (وإلا فكيف اختلفوا حول الرسم والقراءات بل والنص نفسه؟!)، ولكن لم يلبث أن بدأ الدين يتحجر، حتى وصلَنا صخورا صماء اتخذتها فِرَق المسلمين معابد أو معبودات.
للإسلام ميزة على المسيحية في شأن الإصلاح الديني وهي أنه لا توجد فيه قيادة دينية مركزية تنطق باسم الله كما تفعل الكنيسة
ب. الإصلاحات الفلسفية والعقائدية في المسيحية
هذه الإصلاحات شملت بعض التأسيسات الفلسفية مثل فكرة الإبستمولوجيا المحسَّنة Reformed Epistemology التي تقول إن الإيمان بالله يمكن أن يكون من البديهيات التي لا تقوم على الدليل.[4] والفكرة مطروحة كنظرية فلسفية لا فكرة صوفية وهذا تمييز مهم. وهناك أيضا نظرية التوحيد اللايقيني Sceptical Theism التي تحاول تفنيد قول من يطعن في وجود إله بسبب وجود الشر في العالم.[5] هذه النظريات وغيرها لا تزال جدلية جدا وربما كثيرة القصور، ولكن فيها إشارة إلى أن العقل المسيحي قد بدأ يفكر في الدين بحرية جديدة لم تكن متاحة من قبل. ولكن الإصلاحات الأبرز تظهر في إصلاحات الكنيسة الكاثوليكية وتخليها عن كثير من المفاهيم القديمة التي كانت راسخة لألفي عام. ومن ذلك فكرة حصرية الخلاص على الكاثوليك، الكنيسة الآن تقول إن الخلاص يمكن أن يشمل اليهودية والإسلام، [6] بل هناك تيار عند المسيحيين الآن، يدعو إلى فكرة الخلاص لكل البشرية. كذلك، فإن فكرتهم عن النار تغيرت من شكلها القديم كنار مادية حارقة تعذب المذنبين والكافرين ببشاعة كتلك التي صورها دانتي في الكوميديا الإلهية، إلى مفهوم رمزي كالإحساس بالخزي أو البعد عن رضوان الله. هذه المراجعات مهمة جدا، رغم أنها تبدو مفتقرة للعمق والصدق، وهي في الغالب مدفوعة بضغط المجتمع الحديث الذي لا يقبل الدين في شكله الأسطوري القديم، ولكنه لا يستغني عنه في بعده الروحاني الأخلاقي. الكنيسة رأت الناس يتركون الدين بسرعة لم يتخيلها شيطان إيفان المذكور في بداية المقال (قدّر للأمر ألف سنة وعزا ذلك لغباء البشر!)، لذلك سارعت بمراجعة مقولات كانت في السابق من الثوابت. الفارق الرئيس للإسلام عما حصل في المسيحية هو التأخر الحضاري ولكن المسار هو ذات المسار، رغم الاختلافات الطفيفة بين الحالين. يجب أن لا يغيب عنا التشابه الشديد بين الإسلام والمسيحية من جهة، والمسلمين والمسيحيين في مسارهم الحضاري من جهة أخرى، بل إن المسلمين يسيرون في درب الحضارة الحديثة مقلّدين لا صانعين وهذا يعقّد مهمتهم كونهم يعانون إشكالات الحضارة ولا يَحكمون مسارها. ولكن للإسلام ميزة على المسيحية في شأن الإصلاح الديني، وهي أنه لا توجد فيه قيادة دينية مركزية تنطق باسم الله كما تفعل الكنيسة في المسيحية، بل فضاء الاجتهاد مفتوح في الإسلام لكل الناس. حتى القيود التي توضع أحيانا على مؤهلات المجتهد أو مناهج الاجتهاد تظل أمورا اجتهادية في نفسها لا تمنع الاجتهاد العام، وإن ضيّقت عليه. الدوغما في الإسلام منبعها الإجماع في الأساس، السلطة الدينية متوسّلة إلى الجمهور في سلطتها، حتى وإن ادّعت غير ذلك. صحيح أن إنتاج الأفكار في الإسلام يكون عند النخب، ولكن ما يميز الإسلام أن هذه النخب متعددة المراكز ومتنوعة المذاهب لا تنتهي رأسيا إلى سلطة فوقية واحدة كالكنيسة. لذلك، فإن "تأليه" أية فكرة، بمعنى اعتبارها أمر الله أو مراده، يكون قاعديا في الإسلام. ورغم أن هذه الخاصية تعني أن تكسير المسلمات قد يكون أعسر مما هو الحال في السلطة المركزية، إلا أن المسلّمات في المقابل تتعدد بما ينشئ حالة من القبول الفطري للتنوع، وتنوع الأفكار حول موضوع معين ينفي عنه الثبات المطلق، وفي هذا ميزة تستحق الانتباه. صحيح أن الكنيسة تستطيع أن تنسف ثابتا ما بقرار بابوي كما تستطيع أن تقيم غيره، وقد فعلت ذلك في الواقع كما ذكرت، لكنها وبسبب سلطتها المطلقة في أمر الدين لا تجد اضطرارا إلى ذلك إلا نادرا. لذلك، فإنها قليلة الحساسية تجاه الاختلافات الفكرية في الإطار المسيحي، شديدة البطء في تغيير أي ثابت ديني. عليه، فعندما تُجري التغيير، فإنه عادة ما يبدو خضوعا لضغط التيار المتحرر في المجتمع ومحاولة لتدارك النفور العام من الدين، وليس مراجعة صادقة هدفها إدراك الحق. الإسلام ليس بمعزل عن الضغوط الاجتماعية هذه، ولكنه يمتاز بأن فضاء التفكير فيه مفتوح لكل باحث عن الحق، والبحث عن المعنى الديني أو مراد الله ليس حكرا على شخص أو مؤسسة معينة، بل هو شأن كل المسلمين. ولعل الإسلام بسبب ضعف المسلمين الحضاري الْيَوْم ليس أقرب الأديان إلى المراجعات العميقة الجادة، ولكنه في المقابل، وبسبب الحرية الفطرية فيه، هو أقربها إلى المراجعة الصادقة، وهذه غاية الآمال.
ختاما، فقد درج الناس على التمثيل لحالة الكشف الروحي أو الهداية الدينية، إذا حصلت فجأة بأنها رؤية النور، يقولون فلان رأى النور. ولكن الرهبة الشديدة من المؤمنين تجاه موضوع الثوابت الدينية هي أقرب لحالة تسليط الضوء مباشرة على العينين، فتغدو مادة الهداية سببا في العماية. لكي نرى، نحتاج أن نحفظ مسافة بيننا ومصدر الضوء؛ فالعبرة أن يضيء ما حولنا، فنمشي لا أن يتسلط علينا فنكمُن. ومفتاح الذهن المغلق هو أن يرى أصفاده.
[1] Fyodor Dostoyevsky, The Brothers Karamazov, Book XI, chapter 9 "The Devil. Ivan’s nightmare"
[2] هذه الأفكار ذكرها نتشه في عدد من كتبه ولكن يمكن مراجعة كتابه "هكذا تكلم زرادشت" الذي يناقش فيه كلا الفكرتين أعلاه.
[3] إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني، البرهان في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، 1997، ص. 262
[4] Forrest, Peter, "The Epistemology of Religion", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2017/entries/religion-epistemology/>.
[5] Dougherty, Trent, "Skeptical Theism", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2016/entries/skeptical-theism/>.
[6] https://www.nytimes.com/1996/08/22/us/christian-split-can-nonbelievers-be-saved.html