أفضلُ المؤمنين؟


فئة :  مقالات

أفضلُ المؤمنين؟

أفضلُ المؤمنين؟

لعل من المهم الإشارة إلى أنّ مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" تنبهتْ باكراً إلى أهمية تقديم قراءة ناضجة وعميقة لمسألة الإيمان، الذي تسمّتْ به وجعلته عنواناً لها، من خلال الإصرار على فكرة أن يكون هذا الإيمان سنداً أساسياً لصون كرامة الإنسان واحترامه وتأكيد مكانته المركزية، التي لا تتحقق إنْ هو فقدَ حريته وإرادته المستقلة. كان ذلك من خلال تأكيد المؤسسة أن من أهم مبادئها الإقرار بأن "الإنسان أوسع من أن تُختصر خيريته في دين أو مذهب أو طائفة أو عرق"، وبأن "كرامة الإنسان وسعادته تكمن في احترام حريته، وأن الرؤى الشمولية أياً كان مصدرها لا تنسجم مع اختلاف الشعوب والأمم وتنوع الثقافات وتعددها". وبالتالي، فإن "الإيمان اللامحدود وضمير الإنسان الأخلاقي كفيلان بمساندة رشده العقلي وحراكه المعرفي من أجل بناء حضارته الإنسانية والنهوض بمجتمعه والارتقاء به".

حين نقارب مسألة ضمير الإنسان الأخلافي، فإننا نتجاوز المعنى العامي الشائع وغير المنضبط لمعنى الأخلاق؛ فلا نتحدث عن معنىً عمومي غير منضبط للشيم الكريمة ومكارم الأخلاق والخصال الحميدة، بل نتحدث عن مجموعة قيم ناظمة للسلوك الإنساني ضمن إطار من المعايير والقواعد العامة التي تقيِّم السلوك الحسن أو السيء، وتمنح للخيرية والصلاح معنىً يتجاوز الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والدينية، وذلك من أجل التوافق على قيم تتسم بالاتساق الذاتي والعمومية والكونية الإنسانية، ويتبناها الناس وفقاً لإرادتهم الحرة وقرارهم المستقل؛ وذلك بالنظر إلى أن أي مدنية أو حضارة أو نهضة واجتماع إنساني محتكم للقانون والنظم المؤسسية لا يتم من دون الارتكاز إلى هذه الأخلاقية والاستناد إلى أسسها ومبادئها وروحها. هنا تصبح الأخلاقية وثيقة الصلة ببلورة اختيارات عامة للناس، تتعلق بالمجال العام والحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وليس مجرد مواعظ وعِبر وحِكم ووصايا مشتتة، ومتناقضة فيما بينها أحياناً، تتجه إلى جذب الأفراد إلى "الفضيلة" بالارتكاز إلى منطق الثواب والعقاب والأوامر والنواهي الدينية، بغض النظر عن مدى تبني العقل لها أو التزامها من قبل الأفراد بناءً على إرادة حرة مستقلة واقتناع ذاتي، بعيداً عن الإكراهات المتعددة. ووفق هذا المعنى ننظر إلى الأخلاق بوصفها ركيزة أساسية للاستقرار الاجتماعي، والتوافقات العامة، ورافداً رئيساً للنظم والقوانين التي تتمثل الأخلاق ومبادئها ومعاييرها حين صدورها (القوانين والأنظمة) وإقرارها. من هنا تأتي، وفق بعض الباحثين، ضرورات «مأسسة الأخلاق العامة في مؤسسات ودولة وتربية وتعليم ومفهوم الصالح العام في القانون المدني والجنائي وغير ذلك من الأمور».

هذه المعاني والأفكار تستجلب التطرق إلى مسألة العلاقة بين الأوامر والنواهي الدينية، وبين الأخلاق، ومقاربة موضوع الطقوس والشعائر الدينية والأخلاق، ونقد هذه العلاقة وتعريضها لقراءة فلسفية تستجلي أبعادها وتسبر أغوارها باتجاه تفكيك مقولات رائجة في هذا المضمار تكاد تقيم علاقة تماهٍ بين الطقوسية والتديُّن، وبينهما وبين الأخلاق.

نُقدِّر ابتداءً أن الطقوس الدينية تصبح من غير وظيفة أو معنى حين تُؤدَّى بعيداً عن اعتبارين اثنين: أولاً، التجربة الذاتية العاطفية، التي تحيل الطقس إلى فسحة للارتقاء بالروح. وثانياً، الأخلاق؛ إذ إن المقولة الأساسية للطقوس والعبادات تقوم على المراهنة والقول: إن من المفترض أو المحتمل أن تمنح تلك العبادات والطقوس من يؤدونها طاقة أخلاقية وشحناً إنسانياً يجعلهم يتفوقون نسبياً، أو في تلك الأوقات على الأقل، على من لم تُتَح لهم الفرصة لتأديتها. بمعنى آخر، يمكن لنا أن نؤطِّر التديُّن الناضج والمفتوح على رحاب الإنسانية والخير والصلاح بالقول: إنه مشروط بدعم الأخلاق والارتقاء بالروح والعاطفة وتنمية الحس الإنساني، وإلا جاز لنا أن نؤكد، في المقابل، أن كثرة الطقوسية والمبالغة فيها إنما تنمان، في الغالب الأعم، عن تدين أقل، وأخلاقية منكمشة، وروحانية ذاوية. ولعله مهم الاستدراك بالقول، وفق عزمي بشارة: إن «الدين والقانون والأخلاق هي مرجعيات ثلاث، قد تتطابق وقد تختلف، لكنها بالتأكيد تتقاطع في ثقافة المجتمع وبيئته المعطاة في مرحلة تاريخية محددة؛ لأنها تشكِّل مرجعية أو مرجعيات متقاطعة متفاوتة الوزن في هذه المعادلة المركبة. هذا ينطبق على مقاربة الفلسفة لموضوع الدين والأخلاق. فقد هدف سقراط مثلاً إلى وضع الإنسان في مركز فلسفته، وكانت هذه خطوة تنويرية أدَّتْ إلى تفكير في الدين يُسخِّف العبادة القائمة على الشعائر والطقوس والقرابين، ويؤكد البُعد الضميري والوازع الأخلاقي في الدين».

إذا صحَّ هذا الكلام، فإنه - حتى يُفهَم في سياقه الصحيح - لابُدَّ من الانطلاق منه لتأكيد أنه لا يعني أنْ لا وجود لأخلاقية خارج سياق الدين، كما إنه يرمي إلى القول: إن قيمة أي دين هي في دعوته إلى الخير والصلاح، وهما لا يكتسبان معناهما إنْ لم يكونا عامَّين وشامليْن: أي يشملان الإنسان أيَّ إنسان. ولعل هذا ما تحاول إشاعته دراسات في الأديان المقارنة، عبر الدعوة إلى أخلاق كونية لثقافات متعددة. وقد ذهب سبينوزا (1632- 1677) إلى أن «أفضل المؤمنين ليس بالضرورة من يعرض أفضل الحجج، بل هو ذاك الذي يقدِّم أفضل أعمال العدل والإحسان».

وإذ تذهب الدراسات الاجتماعية والإنثربولوجية والفلسفية إلى أن ثمة حضارات ربما تكون قد قامت من دون ارتكاز ديني، فإن هذه الدراسات ترى أنْ لا حضارة قامت من دون أساس أخلاقي أو قانوني ناظم للاجتماع، يتيح تبادل المصالح بين الناس وقضاءها، وتحسين شروط عيشهم.

مثل هذا الحديث يقود إلى ضرورة فتح النقاش مجدداً حول الدين والأخلاق؛ فالطقوس والعبادات تؤدَّى بدافع الطاعة والامتثال الكامل، غير أنّ المعضلة هنا، وفق بشارة أيضا «هي أن الطاعة الناجمة عن الإيمان المطلق من جهة، أو عن الخوف من العقوبة من جهة ثانية، لا تؤسس للأخلاق. الأولى تؤسس للتقوى في أفضل الحالات، وقد تؤسس للتعصب. والتعصب قد يدفع لأعمال غير أخلاقية. والثانية تؤسس لنفعية ذاتية وليس لأخلاق».

ومن شأن الاشتغال على هذا الحقل التأسيس لمعنى تجديدي وتنويري للتدين متصالح مع العقل والأخلاق، ومن ثم إعادة صوغ المُثُل الدينية عبر ارتكازها على المشترك الإنساني العام، والوعي الإنساني العام الذي بقدر ما يُدرك، كما يوضح محمد الحداد، أن «الواقع يخون المُثُل دائماً، (فإنه يبقى عارفاً) بأن المُثُل تظل دافع الإنسانية الخيِّرة في نضالها المستمر ضد الأنانية والظلم والتسلُّط. والإصلاح الديني الحقيقي ليس الذي يُواجه المُثُل الحديثة بالمُثُل الدينية، بل هو الذي يعيد صياغة المثل الدينية لتُشارك آلاف البشر من كل التقاليد الدينية في ذلك النضال».