ألسنة الحال: مُخبِّئات جيل دولوز وفليكس غواتري
فئة : قراءات في كتب
ولد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في فرنسا سنة 1925 وتوفي فيها سنة 1995، وعاش عمراً ثرياً، سواء في حياته كإنسان أو في فكره التنويري، وامتطى صهوة التنوّع في مجالات الفكر والفلسفة، ونظرة أولية على عناوين مؤلفاته تكشف هذه الحقيقة، نتوقّف اليوم عند واحد من مؤلّفاته التي أحسبها مُهمّة، ذلك هو كتاب ألسنة الحال 1972 - 1990. وعنوان الكتاب باللغة الفرنسية هو (Pourparlers)، واليوم حظي بترجمة رائقة من جانب حسين عجّة - عراقي يعيش في باريس - عجّة الذي يحظى القارئ العربي بترجماته عن الفرنسية منذ عقود، ولا يزال وافر العطاء، وكتاب دولوز هذا كان صدر بلغته الفرنسية في باريس سنة 1990، وهو اليوم يصدر بلُغة الضاد عن دار سطور في بغداد 2019.
يستعيد كتاب ألسنة الحال تأريخ الفكر الدولوزي وزميله فليكس غواتري - إلى حدِّ ما - في بعض من صفحات ذلك التاريخ في أقل تقدير من سنة 1972 حتى سنة 1990 بحسب ما يقولهُ عنوان الكتاب نفسه، وكان فريدريش نتشه قد قرأ دولوز خطابه الفلسفي عبر أحد مؤلفاته، ولكن ليس بطريقة الحوارات مع الصحافة، وفعل غيره الأمر ذاته، ولعمري أن هذا المنحى يبدو لي جديراً بالاهتمام، ولا سيما أن صاحِبي الخطاب كانا على قيد الحياة، عندما همّا يلِّخصان في ألسنة الحال ما أنتجاه فكراً.
وأعتقد أن هذا الكتاب يكتسب بالنسبة إلى القارئ العربي أكثر من أهمية، خصوصاً أن كتابيهما ضد أوديب، ومن ثم ألف طبق - على سبيل المثال - غير مُترجمين إلى لغة الضاد بعدُ، وهو أمر استغربهُ كثيراً على الدولوزيين العرب! ولذلك، سيجد القارئ العربي نفسه بإزاء فرصة طيبة لمعرفة ما في هذين الكتابين - في أقل تقدير - بلسان مؤلفيهما معاً تلك التي أدلقاها في حوارات ولقاءات، وما بينهما من سُبل التواصل لتنوير الإنسان - القارئ، وهي فرصة نادرة له بأن يكون قريباً من خطابَي أصحاب الشأن على نحو مباشر.
ولما كان صدور الترجمة العربية لكتاب ثمين مثل ألسنة الحال صدرت في العراق، وفي وقت يتعثر الكتاب العربي في توصيله إلى القارئ في عموم الوطن العربي، وجدتُ من المناسب عرض مفاصل هذا الكتاب للفائدة العملية، بانتظار ترجمة كتاب ضد أوديب، ومن ثم كتاب ألف طبق، إلى اللغة العربية، وما بينهما مما ضمّه كتاب ألسنة الحال حول الفلسفة، والسينما، والسياسة، بوصف ما ضمّه هو تعبير عن لسان الحال.
الناقد القاسي ورسالة سوقيّة
يبدأ الكتاب بملاحظة كتبها دولوز، ومفادها "أن الفلسفة لا تشكِّل قوة" أو سيادة، وهي "تشن حرباً بلا معركة"، وبذلك هي "لا تقدِّم سوى ناطقي حال"، كما أن "كل واحد منا يجد نفسه دائماً كلسان حال"، وهذه الملحوظة تمثل مدخلاً مركزاً لعنوان الكتاب برمته. ويتبع ذلك "رسالة إلى ناقد قاس" مؤرخة في سنة 1973، ويبدو أن دولوز هو من كتبها ردّاً على شخص ما كتب كتاباً عن دولوز، وقد كتب إلى هذا الأخير رسالة لم يستحسنها دولوز، حتى إنه يرى فيها "نوعاً من البغضاء"؛ بل و"قليل من سوء الطوية"؛ حتى يقول له: "تزدحم رسالتك بمشاعر التعاطف المزيفة والشهيّة الكبيرة في الانتقام". في هذه الرسالة، توضيحات نادرة لرحلة دولوز مع مؤلّفاته؛ إذ يعتقد دولوز بأنه عمل طويلاً على تأريخ الفلسفة، وقدّم العديد من التعويضات؛ فهو أحب مؤلِّفين يتعارضون مع التقاليد العقلانية، ويعترف بأنه كان يمقت الهيغلية والديالكتيك. أما عن كتابه حول كانط، فيعترف بأنه "أحبّه"، وقام "بكتابته بوصفه كتاباً عن عدو"، وحاول "تبيان الطريقة التي يشتغل فيها". أما عن كتابه برغسون، والذي كان بعض القراء يسخرون منه، فإن دولوز يقول: إن هذا الكتاب يعد "أنموذجا مثالياً" والساخرون منه هم "يجهلون التاريخ".
ولا يخفي دولوز إعجابه بالفيلسوف الألماني فريدريش نتشه، ويسترسل في حديثه له قائلاً: "إننا نتحدّث من عمق ما لا نعرفه؛ من العمق الخاص بالتطوّر التحتي للفرد ذاته، لقد تحوّلنا إلى مجموع تفرّدات منفلتة، فشرعت بوضع كتابين ضمن هذا الاتجاه التائه، الفرق والتكرار ومن ثم منطق المعنى، ولم أصنع لنفسي وهماً، كان هناك شيء حاولت خضه وجعله يتحرك فيِّ، أي: التعامل مع الكتابة بوصفها تياراً Flux وليس كمعجم رموز cods".
أما عن فليكس غواتري، فقد كان لقاء بينهما "والطريقة التي فهم أحدنا الآخر عبرها، وأصبحنا متفرّدين الواحد بفضل الآخر، وأحببنا بعضنا بعضاً، وقد أثمر ذلك ولادة ضد أوديب الذي نُشر في سنة 1972، كذلك "ترانا نحب العمل سويّة"، يقول دولوز، وبإزاء ذلك يضيف: "نحن نعرف بأن ضد أوديب ككتاب أول ما كان ينطوي على العديد من الملوثات، وعلى الكثير من الأشياء المعرفية التي تشبه المفاهيم"، لكننا "سنعثر دائماً على الحلفاء الذين نرغب فيهم أو الذين يرغبون هم فينا". ويعود دولوز إلى من كتب له رسالة، فيقول: "إنك ما تزال عند مستوى التحريض، في مستوى النشر، الاستفتاءات، والاعترافات العامة؛ اعترف.. اعترف.. انت تفكِّر بأني أقع في تناقض..، وأنا لا تمسني التناقضات..، وبدلاً من مساعدتي لكي لا أتحوّل إلى نجم، ها أنت هنا حتى تطالبني بتقديم حسابات، وتترك لي الاختيار ما بين العجز والتناقض، وفي النهاية ترغب في محاصرتي شخصياً، عائلياً، وهنا لا تحلِّق عالياً".
إفرازات أوديبية
يعود دولوز إلى كتابه ورفيقه غواتري ضد أوديب، فيقول: "إنه ليس دمية بل غدّة، ولم يناضل أي أحد ضد الإفرازات الأوديبية من دون أن يناضل ضد نفسه، دون أن يجرّب بشيء ضده هو، ومن دون أن يصبح قادراً على الحب والرغبة"، ويضيف: "إن النجاح النسبي لكتاب ضد أوديب لم يفسد فيلكس، ولم يفسدني"!
ويستأنف دولوز الحديث عن رسالة المكتوب إليه، فيقول: "سأمر إلى نقدك الثاني الأكثر قسوة وإنهاكاً بأني كنت أجرجر دائماً، وأقتصد في جهودي، مستغلاًّ تجارب الآخرين. أنت تقلب ضدي نصاً كتبته...، أنا لست مديناً لك بأيّ شيء، ولا أنت مدين لي بأي شيء أيضاً، لا علاقة لي البتة بسجنكَ ما دامت لي سُجوني الخاصّة، ....، وكل واحد منا يكتشف مناطقه كما يكتشف المجاميع، والشعوب والأجناس التي تقطنه". رسالتك، يقول دولوز: "سوقية متعجرفة ما يكفي.. أنت لست عربياً، أنت ثعلب.. أنا لا أطالبك بأيّ شيء، لكني أحبك كثيراً".
من جانب آخر، يستعيد كتاب ألسنة الحال حواراً سبق وأجرته كاترين باكس في سنة 1972 مع فيلكس غواتري وجيل دولوز حول كتابهما المشترك ضد أوديب. وهنا يقول دولوز بأنه لا يمتلك "مسؤوليات المحلل النفسي، ولا الشعور بالذنوب أو ظروف الشخص الذي يجري تحليله، ولم تكن لدي أيّة علاقة"، وحتى لقائه مع غواتري حدثه عما كان يسميه "المكائن الراغبة" بدلاً عن "اللاوعي - الماكنة" وكذلك عن "اللاوعي الشيزوفريني". ويضيف دولوز أنهما معاً "تخليا عن أفكار مثل: البنية، والرمزي، والدال، والسيئة تماما". ويسرد الطريقة التي تواصلا عبرها بالرسائل، ومن ثم حضورهما معاً في محاضرات كل منهما الآخر". لكن غواتري كان يتعامل "مع الكتابة، باعتبارها تياراً شيزوفرينياً يحرث أنواعاً مختلفة من الأشياء. أما أنا، فكانت تعجبني صفحة منفلتة من كل جانب، شريطة أن تكون محكمة على نفسها كبيضة، ومن ثم كانت هناك توقفات، أصداء، استعجال، وعدد كبير من التحوّلات في ذلك الكتاب. نعم، لقد كتبنا كاثنين ولم تكن لدينا أيّة مشكلة من هذا الجانب، عملنا نسخاً متعاقبة".
أما غواتري، فيتحدّث عن ظرفية ما كان يعيشه في تلك الفترة، يتحدّث عن نفسه، ويؤكِّد غواتري بأنه وصديقه دولوز لم يكونا يعرفان "أحدهما الآخر، لكن هذا الكتاب - ضد أوديب - هو بمثابة حصيلة لشهر أيار"، ويضيف: "ما كنت انتظره من عملي مع جيل دولوز كان على غرار الأشياء التالية: الجسم بلا أعضاء، التعدّدية، إمكانية العثور على منطق للتعدّدية للصقها بالجسم بلا أعضاء. في كتابنا ضد أوديب تكون العمليان المنطقية هي عمليات فيزيائية أيضاً، وما كنا نبحث عنه سوية هو إيجاد خطاب تحليل نفسي وسياسة في آن معاً، لكن من دون اختزال أحد البُعدين للآخر".
الرأسمالية والشيزوفرينيا
ومن جانب آخر، يعتقد دولوز بأن ما ينتقده هو وزميله فيلكس "بقوة لا يكمن في أيديولوجيا قد تتحوّل إلى أيديولوجيا للتحليل النفسي"، وتمَّ رفض كليّة التحليلي النفسي لدى فرويد وجاك لاكان؛ إذ "لا تختزل الاستثمارات الاجتماعية إلى الاستثمارات اللبيدية للعائلة وإسقاط الرغبة ثانية من فوق منسقات عائلية أوديبية ثانية، والتحليل النفسي لا يعمل سوى مضاعفة أوديب، أوديب التحوّل، أوديب لأوديب". ويضيف دولوز بأن أوديب يشكّل بالضرورة آلهة قمع للمكائن الراغبة"، كما أن "كل هذه الآليات القمعية تم زرعها في اللاوعي". ومن ناحية أخرى، يعتقد فليكس بأن ما يميزاه "يكمن في تشخيصهما لنوعين من الاستثمارات في الميدان الاجتماعي؛ الاستثمارات ما قبل الواعية؛ أي: استثمارات المصلحة والاستثمارات اللاواعية للرغبة"، وعلى نحو صارخ، يعتقد فليكس غواتري بأنهما "لا يؤمنان أبداً بمفاهيم كمفهوم الأيديولوجيا، ليس هناك من أيديولوجيات، فإن ما يهدّد الأدوات الثورية دائماً هو صنعها لنفسها تصوراً طُهرانياً للمصالح"، كما أنه "ليس هناك أي موقف للرغبة ضد القمع..، إن ما نقوم "بالتشهير به هو كل مواضيع التناقض ما بين الإنسان - الماكنة والإنسان المستلب بالماكنة"، وهذا ما يدعمه جيل دولوز، فيقول: إن كتابينا يتضمنان "جانبين؛ الأول: نقد أديب والتحليل النفسي، والثاني: دراسة للرأسمالية وعلاقتها بالشيزوفرينيا، لكن الجانب الأول يركز على الثاني، ونحن نهاجم التحليل النفسي، انطلاقاً من النقاط التالية التي تمسّه نظرياً وعملياً: عبادته لأوديب، اختزاله لليبيدو إلى مصاف الاستثمارات العائلية؛ نحن نقول: إن اللبيدو ينطلق من الاستثمارات اللاواعية والمميزة عن الاستثمارات ما قبل الواعية للمصلحة، والتي تتصل بالحقل الاجتماعي بقدر اتصالاتها باستثمارات المصلحة". ويضيف دولوز: "إن وحدة كتابنا تكمن في نواقص التحليل النفسي التي تبدو ناتجة عن انتمائه العميق للمجتمع الرأسمالي مثلما تنتمي إلى عدم معرفته بعمق الشيزوفرينيا؛ التحليل النفسي يشبه الرأسمالية؛ يقف عند الشيزوفرينيا كحدًّ له، لكنه لم يتوقّف عن دفع الحد ويحاول التخلّص منه".
إشكالية الدال!
يرفض دولوز وزميله غواتري قضية الدال، يقول الأخير: "ليس لدينا ما نفعله مع الدال ونحن لسنا الوحيدين في ذلك"، كما أن الدال "يشكِّل وحدة غامضة تسقط على ماكنة كتابة عتيقة. ويعتقد فليكس بقوله: "نحن وظيفيون بطريقة خالصة؛ وما يثير اهتمامنا هو: كيف يمشي شيء ما، كيف يشتغل، وأيّة ماكنة، بيد أن الدال ما زال ينتمي إلى ميدان السؤال: ما معنى هذا؟ وبالنسبة إلينا لا يعني اللاوعي شيئاً وكذلك اللغة؟". ومن جانبه، يصبّ رأي دولوز في هذا الاتجاه؛ فيقول: "هذا ما نعتقد في كتابنا؛ فالمقصود هو معرفة إذا ما كان يتحرّك، كيف، ولأجل منْ؛ إنه هو نفسه ماكنة، كما أن الأمر لا يتعلّق بإعادة قراءته، وإنما بكتابة شيء آخر غيره"، ولا "تتمثل مشكلتنا قطعاً بالعودة إلى فرويد ولا العودة إلى ماركس، كما أن كُتبنا ليست نظرية في القراءة، وما نبحث عنه في كتاب ما يكمنُ في طريقته بتمرير شيء ما يفلت من الترميزات". ولا يملّ دولوز وصاحبه غواتري، من القول بأن "خلف المعاني المقلوبة تجد ثمَّ سياسياً يقف من ورائها"، كما أنهما يميزان ما "بين الشيزوفرينيا كمسار Processus وإنتاج الشيزوفرينيا، باعتباره وحدة علاجية سريريّة صالحة للمستشفى".
أطباق وسطوح وهضاب
في سنة 1980، صدر في باريس كتاب Mille Plateaux، ويُترجم هذا العنوان بالعربية إلى ألف طبق أو ألف مسطح أو ألف هضبة، لكن المترجم حسين عجة يصطفي الترجمة الأولى، وهذا الكتاب الذي ألفه معاً كل من جيل دولوز وفليكس غواتري لم يجد ترجمة إلى لغة الضاد بعدُ كما هو الشأن مع كتاب ضد أوديب، لكن حواراً أجراه كرستيان دوكمب وديديه أربون وربورت مكاجوري مع دولوز في سنة 1989 ونُشر في Libération ضمّه كتاب ألسنة الحال يسلِّط الأضواء على كتاب Mille Plateaux. فيسأل كرستيان: كيف تنتظم سطوحكم؟ وملفوظ "سطوحكم" جعله حسين عجة مقابلاً ترجمياً لعنوان الكتاب بالفرنسية، ويستأنف كرستيان القول: تمتلئ سطوحكم بالمصادفات!
يقول دولوز بأن هذا الكتاب هو "كتاب مفاهيم"، ويستأنف القول: "لم تنشغل الفلسفة أبداً بالمفاهيم، إن يتفلسف المرء، فذلك يعني أنه يحاول إبداع أو خلق مفاهيم. وبالنسبة إلينا ينبغي أن يكون المفهوم هو الواقعة وليس الجوهر"، ويؤكّد بأن ما يهمهما معاً في تجربة هذا الكتاب هو "أنماط التفريد التي لم تعد أنماط الشيء؛ الشخص أو الذات"، ما يعني أن هذا الكتاب يحيل إلى "تلك التفرّدات التي هي لا بالأشخاص ولا بالأشياء". ومن ثم، يعرض - هذا الكتاب - "تأثيرات لها علاقة بالمعرفة"، وإنه الكتاب "الذي يتحرّك - وبقوة - لكي يكون رهاناً على عودة الفلسفة، باعتبارها معرفة فرحة".
ينعى دولوز عصره، عندما يقول: "إن الفلاسفة الشباب يواجهون خطر خنقهم من البداية، لأن منظومة كاملة من اللاثقافة تقف بوجه المرء، وهذا أسوأ من الرقابة؛ فالرقابة تحرّك غلياناً تحت - أرضي فيما ترغب الردّة جعل كل شيء مستحيلاً"! لذلك "أصبح إفلاس المنظومات اليوم سلعة رائجة، وصار من المستحيل وضع أيّة منظومة"؛ بل "وأسوأ من ذلك، يتم تحديد العمل الرحب من خلال رؤى بلا عمل". ويعود دولوز إلى فكرته الذهبية بأن "الفلسفة منشغلة بالمفاهيم، والمنظومة المنفتحة تكمن في إرجاع المفاهيم إلى الظروف وليس إلى الجواهر، لكن المفاهيم غير معطاة وجاهزة؛ إنها غير موجودة سلفاً، يجب إبداع، خلق المفاهيم، خلق مفاهيم جديدة له ضرورته، ذلك ما كان مَهمة الفلسفة دائماً"، ومن ثم إن "المفاهيم تفرُّدات هي Singularités تشتغل على تيار الفكر العادي، وما يكون هناك مفهوم إلا ويكون هناك حقّاً فلسفة".
من الأطباق والسطوح والهضاب إلى السينما وأحاديث عدّة منها لمجلة "دفاتر السينما" الذي أجرياه معاً كل من باسكال بونتسر وجان ناربوني، ونشر في العدد 352 شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1983 عن فيلم "6 في اثنين" ليغودار Godard، وكذلك حوار عن كتاب الصورة - الحركة الذي كان صدر في سنة. وحوار حول الصورة - الزمن الذي أجراه مع دولوز جلبرت كاباسو وفابرس ريفو آلون لمجلة "سينما"، ونشر في العدد 334 الذي صدر في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1985. وأسئلة مركّزة عن "شكوك من حول المُتخيل - أسئلة"، وما هو رائق أن كتاب ألسنة الحال يتضمّن كذلك رسالة إلى سيرجي داني تتحدّث عن "التفاؤل والتشاؤم والسفر"، وسبق أن كانت - هذه الرسالة - منشورة كمقدِّمة في كتاب دفاتر السينما.
فوكو فيلسوف القرن الشرين
يأخذ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 - 1984) أهمية لافتة في ألسنة الحال، فهذا الكتاب يتضمن حواراً مع دولوز لصحيفة Libération أجراه روبرت ماكجوري كان نُشر في شهر أيلول، سبتمبر 1986، وكذلك حواراً مع دولوز أجراه ديديه أربيون لصحيفة لانيوفيل أبزرفاتور، ونُشر في 23 آب، أغسطس سنة 1986. إلى جانب حوار أجرته كلير بارنت مع دولوز في سنة 1986 تحت عنوان بورتريت صور شخصية لفوكو. فكيف ينظر دولوز إلى مواطنه فوكو؟
تعرَّف دولوز بفوكو في سنة 1962، وبعد سنة 1968 التحق الأول بالثاني، وكان خطاب فوكو "ينطلق دائماً من أزمات وهزّات، باعتبارها شرطاً للخلق"، وشخصياً كنتُ "بحاجة إليه أكبر من حاجته إليَّ". وعن كتب وفكر دولوز يقول: "كان هذا الكتاب ضرورة بالنسبة إليَّ"، فالكثير من أفكار فوكو كان يحتاج إلى توضيحات، ولا يعتقد دولوز بأن كتابه عن فوكو كان حداداً أو رثاء؛ بل هو كان يسعد بفكر فوكو الذي رفض التأويل، ولم يكن لديه تجريدات، ولا أحاديث عن الشموليات؛ ففوكو قال: "إن المثقف لا بد أن يكف عن أن يكون شمولياً". وعموماً ما كان فوكو يمكن "استنفاذه، إنه نشط، فاعل، يشعر المرء بأثر فكره". ومن ثم، وفي حواره مع ديديه أربيون يعتقد دولوز أن "فوكو فيلسوف يبدع مع التاريخ علاقة مختلفة تماماً عن فلسفات التاريخ"، وهنا راح يوضِّح قائلاً: "يعتبر فوكو التاريخ يطوّقنا ويحدِّدنا، ولا يقول لنا: من نحن؟ وإنما ما نحن بصدد تأجيله؛ أي: إنه لا يثبت هويتنا، لكنه يلاشيها لصالح آخر هو أنفسنا". كما أن فوكو هو "أكثر الفلاسفة المعاصرين آنيّة، ذلك الذي قام بالقطيعة الأكبر مع القرن التاسع عشر"، لكنه، وبعد كتابه إرادة المعرفة، أخذ فوكو "يشعر بأنه حبس نفسه ضمن علائق السلطة"، والرائع أن فوكو كان في بحثه "يهم بالعثور على بُعد آخر". كذلك ينوّه دولوز إلى تمييز فوكو بين الأخلاق La morale والإتك éthique.
أما حوار كلير بارنت مع دولوز 1986، والذي جاء إلى عنوان بورتريت صور شخصية لفوكو، فقد تضمّن آراء دولوزية عن فوكو ربما ذكرها - دولوز - في الحوار السابق، لكنها تبقى تتكرّر بسياق آخر، فهو يعيد قوله بأنه "شعر بحاجة حقيقية لكتابة هذا الكتاب" عن مشيل فوكو، ويعترف بأن هذا الفيلسوف "يبقى المفكِّر الحالي الأكبر"، ويقول: إنني "كنتُ أرغب في وضع صورة شخصية لفلسفة فوكو"، وعن خطر فيلسوف الجنون يقول: "نعم، كان فوكو ينطوي على عنف متطرف لكنّه يسيطر عليه، يُخضعه له، ومن ثم يتحوّل إلى شجاعة"، كما أن فوكو هو "إنسان الانفعال"، ولا ننسى أن "بول فين رسم بورتريت لفوكو كمحارب"، فمع هذا الفيلسوف "يغدو فعل التفكير فعلاً خطراً"، ومن ثم "يخترق الجنون كل عمل فوكو"، ولا ننسى بأن "الكتّاب الكبار يعيشون مغامرة"، وحول واقعية الخطاب الفوكوي يعتقد دولوز بأن "فكر فوكو لم يتطوّر، لكنه شرع عبر الأزمات"! ولذلك يصف دولوز مواطنه الفرنسي بأنه يمثل "خلقاً جديداً"، وكذلك "خط قطيعة"، وأيضاً "ريادة جديدة"، تمكَّن - هذا الفيلسوف - بواسطتها بالخروج من الأزمات، وكانت حواراته في حياته "تشكِّل جزءا من عمله"، ففوكو هو "حقاً فيلسوف القرن العشرين"، في وقت كان "لا يحب الكلام إلا عن ما عاشه". أما الحديث عن الذات، ففوكو هو الفيلسوف الذي "يعتبر إنتاج الذات يشكِّل بديهية لديه".
الفلاسفة لا يكسرهم الموت!
القسم ما قبل الأخير في ألسنة الحال ينصرف إلى الفلسفة وفيه محاورة بين أنطوان دولور وكلير برانت لصالح صحيفة L’autre Journal، وفيه نفهم من دولوز أن "الفيلسوف خالق وليس تأملياً"، كما أن "مفهوم العلم الحقيقي هو خلق وظائف، وموضوع الفن الحقيقي هو خلق ركامات حسية، وموضوع الفلسفة خلق مفاهيم". وفي الشأن السياسي، يعتقد دولوز أن اليسار "بحاجة إلى وسائط"، ويؤكِّد بأن "الناس لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، لكنهم في الحقيقة، لا يكفُون عن التعبير عن أنفسهم"، كما أن "الأسلوب هو فكرة أدبية".
وفي حوار لصالح المجلة الأدبية Magazine littéraire، عدد 257 لسنة 1988، أجراه كل من رياموند بلور وفرانسوا إيوالد مع دولوز، راح الأخير يؤكِّد بأن "جميع المؤلّفين الذين اهتممتُ بهم يتمتّعون بشيء مُشترك، وكانوا كلهم يتوجّهون نحو سبينوزا - نتشه"، كما أن تاريخ الفلسفة ليس تعليماً تأملياً بطريقة خاصّة، إنه بالأحرى مثل فن البورتريت في الرسم"، ويؤكِّد، مرّة أخرى، بأن الفلسفة "تكمن دائماً في خلق مفاهيم"، وهي "ليست تواصلية ولا تأملية انعكاسية؛ إنها مُبدعة وثورية".
وإذا أردنا الحديث عن أسلوب الفلسفة، ففيها تكمن "حركة المفهوم"، ومن جهة أخرى "ينطوي فعل الكتابة على محاولة جعل الحياة شيئاً أكبر مما هو شخصي"، كما أن الفلاسفة لا يكسرهم الموت، إنما "ثراء الحياة التي رأوها"، وهم يكتبون "من أجل شعب قادم ولا لغة لديه بعد". ويعود إلى ميشيل فوكو مرّة أخرى، فيقول: "إن الكتاب الذي عملته ليس عن تاريخ الفلسفة، إنه كتاب كان بودي عمله معه" ويقصد فوكو. وعن كتابه الطيّة المكرَّس للفيلسوف الإنجليزي ليبنتز يقول إن أسلوب هذا الفيلسوف "ساحر لأنه ليس هناك من فيلسوف ربما أبدع أكثر منه"، وكل شيء لدى ليبنتز ينطوي على "طيّة، وينفتح، وينثني". ومن ثم، وعن الفيلسوف الألماني ليبنتز، نقرأ حواراً لروبرت ماغجيور مع دولوز لصالح In Libération منشور في 22 نوفمبر 1988، يعتقد دولوز فيه أن "الطيّات في كل مكان"، كما أن "الطيّة ليست شمولية"، وكان ليبنتز "أول فيلسوف يُحرر الطيّة" عبر "إحالتها إلى ما لا نهاية"، كما أنه "من دون ليبنتز لم يكن بإمكان الطيّة الحصول على استقلالها الذي خولها في ما بعد بخلق طرق جديدة"، وكان ليبنتز "قد مهّد للعصر الجديد؛ فلقد انهار العقل الثيولوجي وتحوّل ببساطة إلى عقل إنساني". والجميل في ألسنة الحال رسالة دولوز إلى "رضا بن سامية" عن باروخ سبينوزا منشورة في مجلة Lendemains في عددها رقم 53 لسنة 1989، قال فيها دولوز: بأنه في الفلسفة "يستهدف النحو الوصول إلى المفهوم، وهذا الأخير لا يتحرّك من وحده، لكنه يتحرّك أيضاً داخل الأشياء وفي دواخلنا"، كما أن "الفلسفة بحاجة إلى فهم لا فلسفي بالقدر ذاته الذي تحتاج فيه إلى فهم فلسفي"؛ ولذلك "تتمتع الفلسفة بعلاقة جوهرية بمن هم غير فلاسفة وتتوجّه نحوهم"، وفي هذا السياق، ما كان لدى باروخ سبينوزا أسلوب فلسفي، لكن دولوز ينبهنا بأنه "ينبغي الحذر من هؤلاء الذين يُقال عنهم: لا أسلوب لديهم"؛ إذ توجد لدى سبينوزا "تحت لاتينية هادئة ظاهرياً، إنه يجعل ثلاث لغات تصدح ضمن لغة نائمة كما يبدو، ثلاثة توترات"، كما أن "تناقض سبينوزا هو أن يكون فيلسوف الفلاسفة، فهو أكثرهم نقاء نوعاً ما"، إنه ذاك الذي "يتوجّه أكثر من غيره نحو من هم غير فلاسفة".
عن السياسة وحديث حول الرقابة والصيرورة، وهو خاتمة تواصلية في كتاب ألسنة الحال مع صحافيين متخصّصين بالفكر والفلسفة كما هو الشأن في حوار توني نغري لصالح مجلة "فتير أنتريير" في عددها ربيع سنة 1990، وفيه يؤكّد دولوز بأن "التاريخ هو ليس التجريب"، كما أن "كتاب ضد أوديب هو فلسفي سياسي برمته"، وتأكيده بأن "الحظ الوحيد للبشر يكمن في الصيرورة الثورية التي تستطيع وحدها غسل العار أو الرّد على ما لا يمكن غفرانه"، وهنا يؤكِّد أيضاً بأنه وفليكس غواتري بقيا ماركسيين بطريقتين مختلفتين ربما؛ فكلاهما لا يؤمن بفلسفة "سياسية لا تركِّز اهتمامها على تحليل الرأسمالية وتطوّراتها"؛ ولذلك يتحدّث دولوز عن "مكائن الحرب التي لا تتحدّد أبداً بالحرب، ولكن عبر طريقة خاصة بالاستحواذ".
وكان دولوز قد كتب تحت عنوان عن مجتمعات الرقابة منشور في مجلة لوتر جنرال في عددها رقم 1 لسنة أيار 1990، ليختم كتاب ألسنة الحال مشواره عبر عنوانات فرعية هي: التاريخي، ومنطق، وبرنامج. وفيه يستعيد ميشيل فوكو، ونظام التعليم، والسلطة، ولعلّ ما كتبهُ يبدو مهماً عندما يقول: بأن "إنسان النظم التعليمية يُحيل نحو الطاقة المتقطعة. أما إنسان الرقابة، فهو بالأحرى متموّج، موضوع في مدار، فوق حزمة مستمرة"، ويتحدّث، بحزن، عن نظام الهيمنة الجاري في العالم.
وبعد، كم أهنئ الصديق حسين عجة على صنيعه الترجمي هذا لكتاب، انتظرناه لأكثر من ربع قرن منذ صدوره، وكم أهنئ عجة على صبره الجميل، وهو يصنع ترجمة رشيقة لنص فلسفي مركّب الطيّات، سواء في مؤلفيه أو أسلوبهما معاً، وهما يقولان ما خبأته تجربتهما في الكتاب المشتركة وما أصعبها لكونها تتطلّب توافقاً على رؤية ومنهج، وهذا ما أدلقه كل من جيل دولوز وفليكس غواتري.