أن يصير الحديث خطاباً
فئة : مقالات
أن يصير الحديث خطاباً
محمَّد حمزة*
إذا كان الحديث النبويّ نصَّاً شغل العلماء قديماً وحديثاً، وأجرى من المجادلات ما لم يجره أيُّ نص في الثقافة الإسلاميَّة بفعل الإشكالات التي حفَّت به نصَّاً ومنزلة ووظيفة في الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة، فإنَّ التفكير في هذا النص، في ضوء مسالك البحث الجديدة، التي شرعت لها علوم الإنسان واللسان، يقتضي انفتاح الباحثين على زوايا نظر جديدة، والبحث في وجوه إجرائها على النصّ الحديثي ومناقشة نتائجها العمليَّة.
يتعيَّن بدءاً التذكير بعدد من المعطيات التاريخيَّة المتصلة بالحديث النبويّ بصفته نصَّاً، وهي ضروريَّة لفهم ما نحن بصدد تدبُّره في صلة الحديث بالنصّ، وإمكان تحويل الحديث النبويّ من نصٍّ تتصل به جملة من القضايا اشتغل عليها القدامى ضمن مدار أطلقوا عليه تسمية علوم الحديث، وواصلها المعاصرون ضمن مسالك متعدّدة، إلى خطاب يستدعي مقاربات جديدة، وأهمُّ هذه المعطيات:
أولاً: ضرورة التنبُّه إلى طبيعة العناصر التي تعاضدت معاً من أجل تشكيل موروثنا الديني، والتاريخ ينبّهنا إلى أنَّ هذا الموروث انبنى على نصٍّ محوري هو القرآن، وتشكّلت حوله على التدريج نصوص ثوانِ، ولم ينشأ مكتمل المعالم، وتبلورت عناصره التي قامت الذاكرة بنقلها في ظلّ ثقافة شفويَّة مهيمنة، ولم يخلُ هذا الجهد من عمليَّات الحذف والانتقاء والإضافة، قبل أن تنصهر هذه العناصر وتنهض علوماً بيّنة المعالم على نحو لم يخلُ من الاجتهاد ومن السعي إلى تلمُّس الحلول الملائمة لمقتضيات الأسئلة التي كان الواقع يطرحها على الجماعة المسلمة.
ثانياً: الاهتمام بالسيرورة التاريخيَّة التي حوَّلت الروايات الشفويَّة المنقولة عن النبي، التي وجد بعض الصحابة دوافع خاصَّة للاحتفاظ بها، سواء في ذاكرتهم أم بوساطة بعض التقييدات، إلى نصوص تتمتّع بمكانة متميزة لدى علماء الدّين وفي الضمير الجمعي لجموع المؤمنين ما يشبه الحصانة في كتب الصحاح، ولنا في مقدّمة ابن الصلاح ما يشبه قانون تحصين للحديث النبوي، وتكفلت نظريَّة تعديل كلّ الصحابة تعديلاً يرتقي عند البعض منهم إلى مرتبة العصمة، بإسناد هؤلاء حصانة مانعة من المساءلة والمراجعة.
ثالثاً: تاريخ الحديث النبويّ بصفته نصَّاً هو تاريخ مشترك ومتشابه ومترابط مع نصوص الفكر الإسلامي الأخرى، وإن تفاوتت منزلتها لدى الضمير الدّيني، أو تغيَّرت بعض مكوّناتها لدى الفرقة العقديَّة والمذهبيَّة. هذا يعني أنَّ عملية تدوين الحديث النبوي، وما حدث في نطاقها من تحويل الروايات الشفويَّة المنقولة عن النبي والتي وجد بعض الصحابة دوافع خاصَّة للاحتفاظ بها إلى نصوص تتمتّع بحصانة مطلقة في كتب الصحاح، لا تفهم فهماً سليماً إلا باستحضار عمليَّة تشكيل النصّ الإسلامي، وأساسه حدث جمع القرآن وما تمّ في نطاقه من تحويل القرآن إلى مصحف إمام.
إنَّ هذا المسار التاريخي القائم على مأسسة يندرج داخله أيضاً ظهور الفقه الإسلامي استجابة لأحوال المسلمين ولأقضيتهم الطارئة، وتحوُّله على التدريج إلى مدونة شاملة ستسيّج حياة الإنسان من لحظة ولادته إلى لحظة وفاته، ولنا في كتب الفقه عموماً، وفي كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي على وجه التخصيص، نماذج بيّنة على ذلك، وكذلك الشأن في أصول الفقه، خصوصاً إذا تفحَّصنا المسار التاريخي الذي انبثقت في ثناياه المنظومة الأصوليَّة التي أقامها الشافعي في أصول أربعة، ورتَّبها وفق تراتبيَّة جعلت السُّنَّة تلي القرآن منزلة، يليها الإجماع، ثم القياس.
رابعاً: انتهاء إلى ما حدث من تثبيت السُّنَة النبويَّة أصلاً ثانياً من أصول التشريع، ومن سعي المسلمين إلى نمذجة حياتهم وفق معيار كان سنده المرجعي جملة الأفعال والأقوال والإقرارات المنسوبة إلى النبي، تمَّ تحويل الحديث النبوي من نصٍّ مفتوح قابل للزيادة والاختلاق ساهم الفاعلون الاجتماعيون، بمختلف مواقعهم الاجتماعيَّة ومشاربهم السياسيَّة وروافدهم الثقافيَّة، في تشكيله وضبط قواعده، إلى مدوَّنة منغلقة أطلقت عليها تسمية «الصحاح»، وصارت تتمتَّع بقانون حصَّنها من طائلة النقد والمساءلة.
خامساً: إنَّ المجادلات الفكريَّة، التي عرفها الفكر الإسلامي في شأن الحديث النبوي[1]، والتي ظهرت بوادرها في بداية القرن العشرين، ومدارها مسألة حجّيَّة السُّنّة وصلتها بالقرآن ومدى التسليم بكفاءة الرواة وأمانتهم في النقل وعدالة الصحابة ليست أمراً مستحدثاً، فالحديث النبويّ كان ولا يزال نصَّاً خلافيَّاً منذ عهد أبي بكر إلى اليوم، والجدالات في شأن هذا النصّ لم تَخْبُ حدَّتها منذ الصراع الذي احتدم تاريخيَّاً بين أهل الرأي وأهل الحديث، بل على العكس من ذلك توسَّعت رقعة هذه المجادلات، وخرجت من دوائر المجدّدين المنبثقين من رحم المؤسَّسة الدينيَّة لتشمل قطاعاً واسعاً من المفكّرين والمثقفين ذوي المشارب الفكريَّة المتنوّعة.
سادساً: المجادلات التي طبعت القرن العشرين حول الحديث النبويّ مرَّت بمراحل في البداية سيطر فيها على المصلحين في بداية القرن العشرين هاجس قطع الصلة بين القرآن والحديث النبويّ، وهو مسعى له مشروعيَّته في نطاق الإصلاح الديني، وكان الدافع إليه محاولة تنزيه الإسلام ممَّا لحقه من تشويه التاريخ، بالدعوة إلى الاقتصار على القرآن وما صحَّ من أحاديث الرسول. وفي المرحلة الثانية تطوَّر هذا الموقف العاطفي إلى موقف نقدي من رواة الحديث وكتب الصحاح والأحاديث التي ضمَّتها بين دفتيها، غير أنَّ هذا الموقف النقدي كثيراً ما انزلق بأصحابه إلى أن يلبسوا جبَّة نقّاد الحديث القدامى حاكمين ببطلان أحاديث ومدافعين، في المقابل، عن أحاديث تناسب رؤيتهم الإصلاحيَّة أو التحديثيَّة، فكان ذلك بمثابة إعادة إنتاج جديدة لمنهج قديم عرفه الفكر الإسلامي قديماً في خضمّ الصراع بين أهل الرأي وأهل الحديث، وفيه كانت المرويَّات المنسوبة إلى الرسول يتصارع في شأن قبولها أو رفضها وفق الموقع العقدي والفكري.
سابعاً: إنَّ وضعيَّة الإرباك، التي بدأت بوادرها في الظهور مع تسرُّب الحداثة إلى فضاء الفكر العربي والإسلامي، نرى آثارها في كلِّ النصوص الدينيَّة دون استثناء، بعدما استقرَّت قداستها قروناً طويلة في الضمير والوجدان؛ بيد أنَّ السُّنَّة النبويَّة انصبَّ عليها نقد المعاصرين بسبب المعضلات التاريخيَّة والمنهجيَّة المانعة من التسليم بحجّيتها، كما نظّر لها وثبَّتها نقاد الحديث، وهو ما كان له آثاره السلبيَّة على حجيَّة الحديث وعلى مكانته في الفكر الإسلامي، وبعد أن كان الحديث النبويّ المرجعيَّة الأساسيَّة الموجَّهة لرؤية المفسّرين والفقهاء والأصوليّين ومنهج رواية هيمن إبستمولوجيَّاً على كلّ العلوم الإسلاميَّة دون استثناء، صار موضوعاً للمساءلة والنظر والمراجعة.
لا مناص إذاً من الإقرار بأنَّ كلَّ المتغيّرات، التي تطرأ على الأدوات المنهجيَّة والمفهوميَّة المتصلة بتاريخ النص وكيفيَّات فهمه، صارت تهدّد مواقف التسليم السائدة في الفكر الديني، وتهدّد استتباعاً مكانة الحديث النبويّ، ولاسيما أنه قد أصاب التصدُّع منهج الرواية التقليدي ومرتكزاته التي كانت في السابق ضامنة لصحة الخبر ولمعقوليَّته.
يلاحظ أنَّ هذا المنظور التقليدي المبجّل للنص والرواية، الذي بناه نقَّاد الحديث القدامى، ودافع عنه علماء الحديث، على الرغم من هشاشة مرتكزاته عند مواجهته بمناهج النقد التاريخي الحديثة، يظلّ مستمرَّاً ومتواصلاً لدى فئات عديدة من المسلمين، ولا يزال يشكّل إطاراً مرجعيَّاً للمسلمين الذين يرَون أنَّ ما يكتبه أمثال مصطفى السباعي أو ناصر الدين الألباني هو المنهجيَّة الدينيَّة السليمة عينها، كما أنَّ هذا المنظور لا يزال يتمتَّع بحماية المؤسَّسة الدينيَّة في العصر الحديث بفضل السُّلطة التي ظلَّ علماء الدين يسعَون إلى اليوم لاحتكارها، ولاسيما أنهم يرون سلفهم من نقَّاد الحديث القدامى قد كفوهم مؤونة تفحُّص الأحاديث وفرزها وتنقيتها وجمع الصحيح وتمييزه من الضعيف والمختلق والمنحول، مثلما هم يرون أنفسهم أكثر قدرة من غيرهم على المحافظة على الإرث النبويّ، وعلى جعل هذا الإرث فاعلاً وموجّهاً لمعاش المسلمين ولمعادهم.
لا علاقة للقارئ الحديث الباحث في نصوص الحديث النبويّ، والساعي إلى إعادة النظر في دلالاتها ووظائفها، بقرَّاء الحديث التقليديين الذين سُمُّوا الشرَّاح، ولنا نصوص معروفة في هذا المجال من قبيل ما كتبه ابن حجر العسقلاني[2](ت 852هـ)، ولا بمؤوّليه القدامى الذين انصبَّ همُّهم على محاولة رفع التناقض عن الأحاديث المتعارضة، رغبةً في إنقاذ أكبر عدد متاح من الأحاديث، كي لا تتهاوى صحَّتها على النحو الذي أنجزه ابن قتيبة الدينوري[3] (ت 276هــ) الذي ترك آثاره على العقل الإيماني في سعيه المضني والدؤوب إلى تحصين مدوَّنة الحديث المنقولة عن النبي. القارئ الحديث ينتمي إلى سياق معرفي مغاير قوامه سيادة الإنسان على العالم وعلى كلّ الموجودات الماديَّة والرمزيَّة، وهو سياق يدعوه إلى مغادرة المسلّات الإيمانيَّة القديمة وإعادة النظر في الموروث الديني الموصول بالنص الديني إجمالاً وبالحديث النبويّ تخصيصاً، وإلى تجاوز المقاربة التأويليَّة التي بنى صرحها أهل الحديث والتيَّار النقلي في الثقافة الإسلاميَّة، التي افتتحها محمَّد بن ادريس الشافعي (ت 204 هــ) حينما قرَّر أنَّ السُّنَّة هي الأصل الثاني الذي يلي القرآن صحَّة وحجيَّة[4]، وكيَّفها نقاد الحديث حين ضبطوا معايير قبول الحديث وردّه، ووصلوها بمبدأي العدالة والضبط، وأحكم مغاليق هذه المقاربة ابن الصلاح الشهرزوري[5](ت 643هــ) حين انتهى إلى تثبيت مسلّمة صحَّة الصحاح المطلقة. لقد أدَّت هذه المقاربة إلى إقامة بناء إيديولوجي متصل بصحة الحديث يتأسَّس على مسلمة قداسة الكلام النبويّ ومسلمة مطابقة الأحاديث التي نقلها الرواة لما يفترض أن يكون النبيّ قد تلفَّظ به.
والبيّن أنَّ المواقف النقديَّة، التي انخرطت في القراءة التاريخيَّة الجديدة، قد أتاحت كشف مكامن السلطة، التي تبثّها النصوص التراثيَّة المترابطة التي تتعاضد معاً لتثبيت فكرة متعالية عن النص بنزع كلّ تاريخيَّة عنه وعن السلف بتكثيف عناصر تقديس الرجال. صحيح أنَّ القراءة التاريخيَّة للحديث النبويّ مهمَّة ولا غنى عنها في مرحلة نقد الموروث الديني؛ ذلك أنَّها سبيل أولاً لنقد مسالك الرواية التي تجاوزت علوم الحديث، ومارست هيمنة إبستمولوجيَّة على سائر العلوم الإسلاميَّة من سيرة وتفسير وفقه وتاريخ، وثانياً للتنبيه إلى بشريَّة المنظومة الدينيَّة وتاريخيَّة الحلول التي تضمَّنتها، وصحيح أيضاً أنَّ النقد التاريخي مهمّ وضروري؛ لأنَّه يبيّن تاريخيَّة النصّ الديني ونسبيَّة المعايير التي تشكَّل في ضوئها، كما أنَّه يفيد في بناء تاريخ علمي للنصّ الإسلامي بمختلف مكوناته، ولكن هل يمكن أن نظلَّ أسيري هذه المنهجيَّة التاريخيَّة، رغم الإقرار بأهميَّة النتائج التي حققتها وإسهامها في تشكيل الوعي العلمي بالتراث؟
إنَّ ما يدفع إلى إعادة التفكير في الحديث النبوي خارج نطاق النصّ حضور معطيات جديدة لا بدَّ من أن يرصدها الباحث المهتمّ بالشأن الديني، وأن يجترح لها أدوات نظر جديدة تتجاوز النقد التاريخي الصرف، وهنا يتعيَّن إبداء ملاحظتين شكليَّتين تتَّصلان بوضع جديد طال النصَّ الديني عموماً، والحديث النبوي على وجه الخصوص.
تخصُّ الملاحظة الأولى تحوُّل الحديث النبوي اليوم إلى خطاب يتجاوز ما هو مثبت في كتب الحديث، بصرف النظر عن درجة صحَّة هذا النص ودرجة تحقّق نسبته إلى النبي. لقد صار الحديث النبوي مكوّناً من مكونات خطاب ديني جديد متشظٍّ، لبس في السنوات الأخيرة هيئات جديدة على شاشات الفضائيَّات فيما يُطلق عليه الآن تسمية الإسلام المرئي، ذلك أنَّه من عباءة رجل الدين التقليدي انبثق الدعاة الجُدُد الذين يعمدون إلى بثِّ خطاب ديني مرئي في القنوات الفضائيَّة، كما في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، يحتجُّون في هذا الخطاب بالنصّ القرآني وبنصوص الحديث النَّبوي وبمواقف السلف، ويصهرون داخله نصوصاً شتَّى تغلب عليها الغاية النفعيَّة المباشرة القائمة على توجيه المتقبل والتأثير فيه، وهو خطاب معولم وعنيف له من قوَّة الحجاج ومن القدرة على استمالة المتقبّل المسلم ما يجعله أشدَّ خطراً وأكثر انغلاقاً ونكوصاً من الخطاب الديني التقليدي المكتوب، ولاسيما أنه يتوسَّل بإغراء الصورة وتأثير الصوت وسائر المؤثّرات التكنولوجيَّة الحديثة.
أمَّا الملاحظة الثانية، فتتعلق بما صرنا نشهده مع الثورة الرقميَّة الحديثة من «رقمنة» كتب التراث في سائر العلوم الدينيَّة، بما في ذلك كتب الحديث، فصارت العودة إلى هذه المدوَّنات أمراً يسيراً ومتاحاً، سواء على الإنترنت أم في شكل أقراص مضغوطة، غير أنَّ هذه المعرفة الرقميَّة الحديثة لم تتح تطوير عقل علمي قادر على التعامل النقدي مع كتب التراث، بل على العكس من ذلك، يلاحظ الدارس المتخصص أنَّ العقل الإيماني يكتفي بتوظيف التقنيات الحديثة في مجال البحث دون أن يصحب ذلك وبشكل موازٍ عقل يهضم مستحدثات المعرفة الإنسانيَّة واللسانيَّة ويوظّفها بشكل مفيد في الجهود المعلوماتيَّة الحديثة في اتجاه تثوير المسلَّمات القائمة.
إنَّ هذه المتغيرات، التي تطرأ على المعرفة التقليديَّة في المستوى الخارجي، والتي تجعلها في الآن نفسه في مأمن من تغيير مرتكزاتها التقليديَّة، بل تتيح لها تكثيف طاقتها التوجيهيَّة والإلزاميَّة للمسلم في العصر الحديث، تدعو إلى البحث في وجوه حضور النصّ في الفكر الإسلامي الحديث وفي طرق الاستدلال به وعليه، والتي توظف اليوم بسبل وأدوات متنوعة غايتها ترسيخ الفكر الامتثالي وجعل الماضي بنصوصه ورجاله وتاريخه زمناً مرجعيَّاً، إليه تنشدُّ الأفئدة، ومنه تجترح كلّ سبل الإصلاح المقترحة لمعالجة عوائق الحاضر، مثلما أنَّ هذه المتغيّرات تفرض على الباحثين مقتضيات جديدة تتجاوز النظر في الحديث النبوي بصفته نصَّاً، إلى مستوى ثانٍ يصير فيه الحديث خطاباً.
إنَّ حجر الأساس في القراءة النقديَّة الحديثة للموروث الديني ضرورة تجاوز الفصل الاعتباري بين النصّ البشري والنصّ المقدَّس، ففي حين يظلُّ النصّ البشري نصَّاً مفتوحاً على مختلف إبداعات العقل البشري ومختلف أدوات التحليل الإنساني واللساني، التي طوَّرتها المعرفة الحديثة، يغلق النصُّ الديني في وجه القارئ غير المنتمي إلى المؤسسة الدينيَّة، بدعوى أنَّ هذا النص مفارق لسائر النصوص الأخرى، وأنَّ مناهج المعرفة البشريَّة المحدودة لا تملك غير تشويهه والتعسُّف في فهمه، ويتمُّ تحصين القراءة التي تنتجها المؤسَّسة الدينيَّة بسلطة السلف وبسلاح أهليَّة عالم الدين دون غيره على فهم النص الديني وتبليغه إلى عموم المكلّفين، وقد ولّد هذا الوضع عزوفاً وخوفاً من تطبيق نظريَّات تحليل الخطاب على النصّ الديني يصل إلى حدِّ الرفض الصريح لإمكان إجراء ما يسميّه ديكرو قوانين الخطاب[6] على النصّ الديني.
وعلى الرغم من أنّ ما يجري على النصّ عموماً من قوانين وضوابط سواء اتصلت بشروط إنتاجه أم بتلقّيه أو فهمه، ينسحب على النصوص المقدَّسة، وأنَّ النصوص جميعها تستدعي نصوصاً أخرى سابقة عليها، وهي عرضة لأن تتأثّر بالمحاضن التي نشأت فيها، وهي قابلة لأن تقرأ بكيفيَّات شتى، فإنَّ هذه القواعد التأويليَّة البديهيَّة تظلُّ عصيَّة على اختراق أسوار النص الديني، بسبب قوَّة الضغط الاجتماعي واستبسال المؤسسة الدينيَّة في الدفاع عن النصّ الديني، وفي اعتبار كلّ محاولة لتجديد زوايا النظر والمقاربة هي شُبه يتعيَّن دفعها والردُّ على أصحابها من المستشرقين ومن تلامذتهم المتغرّبين[7].
إنَّ قراءة نصوص الحديث النبويّ من جهة نظريات تحليل الخطاب، تقتضي الإقرار بأنَّ الحديث النبويَّ، على الرغم ممَّا ينهض عليه من بنية مخصوصة قوامها سند الحديث ومتنه، هو ككلّ خطاب ينهض على رسالة طرفاها منشئ الخطاب وهو الراوي/ الباث من جانب أوَّل، ومتقبِّل الحديث من جانب ثانٍ. والطرافة مأتاها في هذا المقام أنَّ راوي الحديث هو، في الآن نفسه، متقبِّل له عندما يسمع الحديث أو يقرأه قبل أن يكون باثّاً جديداً عندما يتولّى تبليغه، بيد أنَّ سلسلة الرواة القائمين في سند الحديث، وإن تعدَّدوا، هم في المنظور الإيماني مجرَّد نقلة لحديث النبي ولا دخل لهم في نشأة الحديث، ولا في صناعته أو إنتاجه. إنَّهم أداة أمينة وقناة نقل محايدة ووعاء سلبي لرواية تضمَّنت قولاً أو فعلاً أو إقراراً مُنشئه الأوَّل هو النبي محمَّد، رغم تباعد الزمن بين تلفُّظ القول المفترض وزمن روايته ونقله وحفظه انتهاء إلى لحظة تثبيته بين دفَّتي كتاب.
يبدو، وفق هذا المنظور، راوي الحديث الأوَّل، وسائر نقلته ورواته من بعده، بمثابة ناقل أمين أو «قارئ مقدَّس» (lecteur sacré) يَعدّ نفسه معنيَّاً بنقل وديعة النبي وحفظها دون زيادة أو نقصان، وهو مؤهَّل دون غيره لمثل هذه الشهادة، بفضل ما اختصَّ به من عدالة وضبط لم تُتَح لغيره بشهادة نصوص القرآن والحديث، وستُشحَذ أدوات نصيَّة ورمزيَّة في سبيل الإقناع باختصاصه بفضل القراءة وأهليّتها.
خطاب الحديث (وتلك طرافته ووجه تميُّزه) هو فضاء تتحاور داخله الذوات، ويجادل بعضها بعضاً، وينقل الواحد عن الآخر. إنَّه خطاب يتطوَّر في الزمان، ويتشكَّل وفق صيغ جديدة من وجوهها ما يُضاف إلى سلسلة الإسناد من رواة جدد، كلما تمَّ التلفظ بالحديث من جديد، ففي سنده يحضر عادة عدد من الرواة يفترض في منطق نقاد الحديث أنَّ دورهم جميعاً، وإن تعدَّدوا، لا يتعدَّى توثيق الحديث بل تمتينه، خصوصاً إذا تعاضدت الروايات، وأسند بعضها بعضاً. وتسلسلهم لا يعني في منطق نقَّاد الحديث غير نقل الحديث كما تلفَّظ به ناقل الحديث الأول دون زيادة أو نقصان، ولتثبيت مسلّمة أمانة الرواة وعدم تدخّلهم في صياغة الحديث وإنتاج معناه يتمُّ التقليل من كلِّ أثر للآفات التي يمكن أن تطرأ على ترابط حلقات نقل الحديث، مثل مسألة إرسال الحديث أو تدليسه.
خطاب الحديث يقوم دون ريب على صياغة مخصوصة للمعنى، وهنا يجدر القول إنَّ الحديث النبوي في الصيغ التي بلغتنا له، مصمّم، كما يقول المتخصصون في تحليل الخطاب، بحسب مرمى المتكلّم. ومن المفيد، في تقديرنا، قراءة الحديث النبوي في ضوء ما يقترحه باتريك شارودو من منوال ينهض على مستويين في بناء الخطاب: مستوى مقامي ومستوى خطابي يناسب صياغة الخطاب التلفظيَّة، ومن تصوُّر للذات المؤوّلة في علاقتها بالأدوار التواصليَّة التي يتعين عليها القيام بها في مقام تواصلي معيَّن[8].
يعمد خطاب الحديث أيضاً، إلى طرائق متفرّدة لإقناع المتقبّل وتوجيهه. وتأكيد البعد الحجاجي الموصول بنقل الحديث وروايته، في علاقته بمتقبّل الحديث، يدفعنا إلى تصويب النظر إلى الأدوات المخصوصة والطريفة التي استحدثتها ثقافة المشافهة التي هي المحضن الذي ترعرعت فيه الأحاديث المنسوبة إلى النبي وأثّرت بوضوح في صياغة مبناه ومعناه، آية ذلك ظاهرة رواية الحديث بالمعنى التي لم ينكرها القدامى، وإن سعوا بمختلف أدوات الحجاج إلى تبرير أسباب ظهورها والتقليل من أثرها وتأويل استتباعاتها ونتائجها على معنى الحديث المنقول.
إنَّ النظر إلى الحديث النبويّ في نطاق العقل الشفويّ، الذي كان قائماً، والذي استمرَّ حضوره في أشكاله النصيَّة المثبتة في مدوّنات الحديث، وخصوصاً تفحُّص الأسانيد التي حرص جامعو الحديث على الاحتفاظ بها، وعلى توثيق سلاسل رواتها الطويلة، يدعونا إلى التعامل مع خطاب الرواة ومع الروايات التي يروونها بصفتها شهادات فيها شيء من ذواتهم، وفيها مسعى ضمني لإدماج ذواتهم والبحث لها عن مواقع في جسد الحديث عبر عمليَّة الرواية.
وإذا كان سند الحديث شاهداً لدى الباحث على طبيعة العقل الشفوي، الذي تشكَّلت في نطاقه مكوّنات الخبر، وعلى القيمة التي أُسندت لذاكرة الراوي في حفظ الأخبار ونقلها، لا ضامناً بالضرورة لصحَّة الخبر المنقول، فإنَّه من الضروري استحضار ما يعنيه أن يكون الحديث في بدايته الأولى كلمة شفويَّة، قبل أن تصير هذه الكلمة مثبّتة بين دفتي كتاب.
تستدعي أسانيد الحديث القيام ببحوث معمَّقة في شأنها خارج نطاق الوظيفة التي أنيطت بعهدتها، وهي توثيق الحديث وتثبيت أسماء رواته، ذلك أنَّه من المهم والطريف تحليل الخطابات المؤثثة لهذه الأسانيد وتفحُّص آثارها في متقبّلي الحديث على تعاقب أجيال المتقبّلين له، بسبب ما لها من أثر في توجيه المعنى والتأثير العاطفي في المتقبل واستمالته وإثارة مشاعر التسليم والقبول بادّعاء السماع والتحمُّل، وأحياناً عبر رواية أحاديث النبي ادعاء صلة قريبة قد تتحوَّل إلى علاقة حميمة تصل منشئ القول الأوَّل وهو النبي ومنشئه الثاني وهو الراوي، حتى إذا استدعى ذلك اعتماد الإيهام والمغالطة. وهنا يتعيَّن استحضار ما تضيفه إلى معنى الحديث الحاصل في ذهن المتقبّل عبارات التحمُّل المختلفة من قبيل حدّثني/ أخبرني/ سمعت/ قال خليلي وغيرها، وهي عتبات مشحونة بالمعنى من جهة ما تلقيه من آثار المعنى المضاف إلى متن الحديث الذي تتم روايته؛ ذلك أنَّ هذه العبارات ترشح بذوات أصحابها وهي تختلف دون ريب عن عبارات أخرى لها آثار مختلفة لدى المتقبّل، من قبيل عبارات حدّثنا وأخبرنا وسمعنا.
إنَّ الضمائر، التي تتسرَّب من الأسانيد، أهمُّ من الأسانيد ذاتها؛ ذلك أنَّ المفردات التي تتضمَّنها الأسانيد التي ذكرنا بعضها آنفاً تؤدّي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو هي تزيد في درجة ذلك التسليم، وهي، في تقديرنا، خطابات تعكس لنا المحامل التي تمَّ عبرها وبوساطتها تمرير أو تثبيت «مقبوليَّة» الحديث، وهي محامل وثيقة الاتصال بذاتيَّة أصحابها. ونرى من المتاح، عبر تحليل المفردات المعتمدة في أسانيد الحديث لإثبات السماع، تحليل شخصيَّة الرواة المتلفّظين بالحديث، ولاسيما الصحابة الذين كانوا يعلنون قربهم من النبي وصلتهم الوثيقة به، وأشهرهم على الإطلاق الصحابي أبو هريرة، الذي سعى، عبر وظيفة التحديث والإخبار عن النبي، إلى تجاوز واقع التهميش الذي عرفه في مراحل حياته الأولى، بعد أن قدم على النبي في المدينة، وأقام مع أهل الصفة بجانب مسجد النبي، وكان تحديثه وادعاؤه السماع من النبي وسيلة أخرجته من وضعية الهوان التي كان يعيشها إلى منزلة معتبرة، يعود الفضل فيها إلى مادة الحديث التي نقلها عن النبي، وتفرّد في جانب كبير منها باختصاص فضل سماعها من النبي؛ أي بتحديث النبي له بها دون غيره من أقرانه في الصحبة.
إنَّ العبارات الأثيرة، التي كثيراً ما كان يضمّن بها أبو هريرة أحاديثه من قبيل: حدَّثني خليلي، أو قال خليلي، أو رأيت خليلي، كانت بمثابة جواز عبور لدى متقبّل الحديث؛ لأنَّها كانت تتضمَّن من جانب شهادة قوليَّة تخبر بما قاله النبي أو بما فعله أو أقرَّه، مثلما تتضمَّن من جانب ثانٍ مشاركة هذا الصحابي في حدث أو في شهود واقعة أو إفضاء من النبي لهذا الصحابي وحده دون غيره، ضمن سياق ومقام محدَّدين لا نعرف عنها غير ما أخبرنا به أبو هريرة في شأن حقيقتها، ولاسيما أنَّ أبا هريرة هو "الشاهد اليتيم" على ما تلفظ به النبي.
إنَّ مثل هذه العبارات المحقّقة في نظر قائلها للسماع ولشهود الواقعة يتعيَّن فهمها ومقارنتها بعبارات أخرى أنشأها متقبّلون آخرون ردَّاً على ما كان يخبر به أبو هريرة، من قبيل ما كانت عائشة وعلي بن أبي طالب يردَّان به على أبي هريرة بالقول: كذبت يا أبا هريرة، أو متى كان خليلك يا أبا هريرة؟ وتتعاضد هذه الاعتراضات مع ما كان بعض الصحابة يسوقونه من احتراز على روايات أبي هريرة بالقول: من سمع معك هذا؟[9]
ولا شكَّ في أنَّ تحويل زاوية نظر الباحث من الحديث النبوي بصفته نصَّاً، إلى الحديث النبوي بصفته خطاباً، سيسمح لنا بتجاوز «البرادايم» الذي حصرتنا داخله منهجيَّة البحث التاريخي التي ظلت تدور في فلك التحقق من صحَّة الأحاديث المنسوبة إلى النبي أو بطلانها، ونرى أنَّ مسألة صحَّة الحديث أو عدمها مسألة ثانويَّة قياساً إلى ما يحقّقه الاحتجاج بالحديث من أثر لدى جموع المتقبّلين، كأن يروي راوٍ حديثاً، أو أن يحتجّ به باث في سياق ما هو شكل من أشكال «الفعل». ونشير هنا إلى أهميَّة النظريَّة التداوليَّة، وما تتيحه فكرة «أعمال اللغة» من إمكانات كبيرة عند تطبيقها على نصوص الحديث النبوي ذلك، اعتباراً لأنَّ كلَّ ملفوظ هو عمل يهدف إلى تغيير وضعيَّة بوساطة القول.[10] ويكفي تطبيق هذا التعريف للأعمال اللغويَّة على أحاديث من قبيل حديث: «ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، وهو الحديث الذي كان السلاح النَّصي الذي صنعته الثقافة الإسلامَّية بعد حادثة خروج عائشة زوجة النبي على عليّ بن أبي طالب وجماعته في موقعة الجمل لإقصاء حضور المرأة من كلّ فعل سياسي، وهو السلاح نفسه الذي قُتِلت بوساطته رئيسة الوزراء الباكستانيَّة السابقة بينازير بوتو سنة 2007، بناء على فتوى استندت إلى هذا الحديث لتسويغ عدم جواز تولّي المرأة زعامة المسلمين السياسيَّة. ولم يشفع وهن هذا الحديث والعلاّت المانعة من التسليم بصحَّته من أن يتحوَّل إلى أداة إقصاء للمرأة وسلاح قاتل.[11]
إنَّ المنطق نفسه الموجّه لفاعليَّة الحديث في الجماعة المسلمة، بصرف النظر عن درجة صحته، يمكن الاستدلال عليه بحديث شهير لا يقلّ عن الأوَّل خطورة، وهو حديث: من بدَّل دينه فاقتلوه[12]، وهو حديث كان ولا يزال مرجعاً نصيَّاً مركزياً في التشريع لأحكام الردّة وفي تسويغ قتل المخالف. واضح إذاً أنَّه في كلّ عملية احتجاج بحديث، بصرف النظر عن درجة صحته، كما في كلّ فتوى تنبني على الاحتجاج بنص، ثمَّة تعويل على مرجع نصّي وعلى سلطة نبويَّة مفترضة لتحقيق شكل من أشكال الفرض أو التوجيه للمتقبل أو الهيمنة على إرادته.
أن يصير الحديث خطاباً يطرح، وبشكل متلازم أيضاً، مسألة صدقيَّة الخبر؛ ذلك أنَّ الخبر كأيّ قول يتمُّ التلفظ به، لا يمكن التسليم بصدقه المطلق، ولا بكذبه المطلق، بالنظر إلى كونه يعكس الحقيقة كما تمثّلها راوي الخبر لا الحقيقة في حدّ ذاتها، بما من شأنه أن يجعل كلَّ موقف جازم من صحَّة الخبر لصدق راويه وعدالته لا يعدو أن يكون وهماً تتهاوى صحَّته تحت وطأة الحقائق العلميَّة الجديدة والفتوحات المعرفيَّة المنذرة بالعصف بكلّ المسلّمات التقليديَّة.
والواضح أنَّ القراءة التقليديَّة، التي تتغذَّى من وهـم مطابقـة ما نقله رواة الحديث لما يفترض أن يكون الرسول قد قاله أو فعله، قد فقدت الكثير من صدقيتها، تماماً مثل توهّم مطابقة التفاسير القرآنيَّة للكلام الإلهي مطابقة كلّيَّة. إنَّ هذا الوهم هو ركيزة أساسيَّة في التأويليَّة التقليديَّة، ذلك أنَّها تؤسّس عبره تواصلها غير المنقطع مع السنَّة التأويليَّة للسلف الصالح، هؤلاء الذين كانوا أقدر الناس بعد الرسول على فهم الكتاب ومعانقة المعنى الإلهي ونقل الكلام النبوي.
وهنا لا بدَّ من طرح إشكاليَّة تلقّي النص الديني في الفكر الإسلامي في ضوء ما تطرحه المنهجيَّة الحديثة من مقاربات جديدة تتصل بدور المتقبّل في إنتاج النصّ وفي تكييفه وتحوير فهمه وتأويله، وهي إشكاليَّة ظلّت مهملة في الفكر الإسلامي التقليدي بفعل تصوُّرات تشكّلت عن النص الديني عموماً في شأن ماهيته وموثوقيته ودور القارئ في تبليغه، أدَّت جميعها إلى سيادة مفهوم قطعي للنص، مفهوماً ودلالة واستنباطاً، على نحو ألغى كلَّ حضور ممكن لمتقبّل النص.
تجرُّنا النقطة السابقة إلى نقطة متَّصلة؛ وهي زحزحة الحديث من مجال نصٍّ له تاريخ موثوق به إلى مجال خطاب أنشأته ذوات متعدّدة أسهمت بشكل كبير أو محدود في تشكيل هذا الخطاب، بما يحيلنا إلى مسألة تعدّد الأصوات في النصّ الحديثي، فالحديث، حتى على فرضيَّة أنَّ النبي قد قاله، قد نقلته ذوات، وأضافت إليه من عندها إن بشكل ضئيل أو كبير.
الحديث النبويّ إذن «عالم خطابي» يتنامى كلّما انخرطنا في التاريخ. وكلّما ابتعدنا عن زمن القائل الأصلي المفترض، وهو النبي، وجدنا هذا العالم يتسع ويتكاثر، لأنَّ كلَّ راوٍ يروي الحديث يضيف معطيات سياقيَّة جديدة، وأيضاً عمليَّة تنظيم فضاء تواصلي جديد يسنّه راوي الحديث مع من يتقبّل حديثه (جموع السامعين)، وهنا سنجد، في كلّ عمليَّة رواية جديدة للحديث، صوراً جديدة وتمثّلات (représentations)[13] يبنيها المتلفّظون فيما بينهم.
إنَّ مسألة تقبُّل الحديث وعلاقته بالذاكرة تستدعي النظر في أشكال تحوير المعنى وتدخّل ذوات المتلفّظين في تشكيله. يقودنا هذا الأمر إلى اعتبار تمثّلات الحديث من قبل الرواة والموجّهة للمعنى بالضرورة مفضية إلى التحوُّل من دائرة الحقيقة الكامنة في النص إلى دائرة الذوات المنتجة للمعنى.بهذا الفهم، نحن على أنقاض التأويليَّة التقليديَّة التي أقامت صلة وثيقة بين الحقيقة والمعنى، والتي رأت أنَّ الحقيقة ثابتة في النصوص وما على المؤوِّل إلا استقاءها، فكان أن استغرق العمل التأويلي لرفع التناقض عن نصوص الحديث المتعارضة فيما بينها والمناقض بعضها لنصوص القرآن ولما تراه العقول بديهيَّاً جانباً غير يسير من جهد نقّاد الحديث حتى لا تتهاوى صحَّته في نظر متقبّليه.
ومن استتباعات هذه القراءة المنفتحة، التي تروم التحوُّل من النصّ إلى الخطاب، عدم الانخراط في اعتبار الحديث الصحيح نصَّاً جديراً بالمكانة والقراءة والاعتراف أكثر من الأحاديث التي هي دونه منزلة، فالتسوية بين الأحاديث المنقولة عن النبي ضروريَّة في مستوى القراءة؛ لأنَّ هذه النصوص في منزلة واحدة إن نحن استثنينا مسألة مدى صحة نسبتها إلى النبيّ من عدمها وقرأناها خارج النسق الاعتقادي.
إنَّ دراسة نصوص الحديث النبويّ، وفق هذه المقتضيات، تتيح تجاوز حدود حقل النصوص الرسميَّة، وتفسح المجال لدراسة موازية لنصوص اعتبرت من منظور الثقافة الرسميَّة هامشيَّة، عبر تبنّي منهجيَّة نقديَّة ترى في النصوص الدينيَّة جميعها مشاريع للحفر والتفكيك والفهم، فمن زاوية تحليل الخطاب ليست الأولويَّة لمسألة الصحَّة أو البطلان، وإنَّما للدلالات التي يتوافر عليها الحديث وللوظائف التي ينهض بها.[14]
نخلص إلى القول: إنَّ القراءة التاريخيَّة لنصوص الحديث النبويّ ضروريَّة ومهمَّة، وهي مرحلة أساسيَّة في نقد النصّ الديني، كما أنَّها سبيل أساسيَّة لتبيُّن تاريخيَّة النصوص الدينيَّة، بيد أنَّه يتعيَّن تجاوز القراءة التاريخيَّة إلى ما يمكن تسميته بـ"القراءة التفهميَّة" للحديث النبويّ، وهي قراءة بإمكانها أن تنفتح على الدرس اللّساني بفروعه المختلفة، وعلى نظريات تحليل الخطاب، ولاسيما التداوليَّة التي تتيح فهم مستويات القول في أحاديث النبي، والنظر في تعدُّد الأصوات داخل الحديث الواحد، ووجوه تدخّل ذوات المتلفّظين في إنشائه، وصور التحوير التي تطرأ عليه وتنشأ عند كلّ عمليَّة رواية أو احتجاج بحديث.
وتقديرنا أنَّ هذه حقول جديدة تحتاج إلى اهتمام الدارسين بمختلف اختصاصاتهم وتنوُّع مقارباتهم، وسوف تستحثّنا دون ريب للتحوُّل في التعامل مع الحديث النبويّ من النصّ إلى الخطاب؛ من نصٍّ يقول الحقيقة إلى خطاب يبني حقائقه المنفتحة على ضروب إنتاج المعنى، خطاب منفتح على كلّ ممكنات التأويل وعلى آفاق الفهم الإنساني. وتلك ألفة جديدة نبنيها مع نصوص الحديث أيَّاً كان جموحها وإغرابها وتحليقها في عوالم المتخيَّل. إنَّها ألفة مع نصوص نغادر قصداً نسقها الاعتقادي، الذي حوَّل الكثير من المرويَّات المنسوبة إلى النبيّ إلى مدوَّنة متعارضة مع مقتضيات اجتماع الحديث ومجافية لمكتسبات الإنسان في العصر الحديث، لننفذ إلى عوالمها الرمزيَّة والتخييليَّة المشوّقة. إنَّها بعض ملاحظات متَّصلة بآفاق تحويل الحديث النبويّ إلى «خطاب مفتوح»، بعبارة أمبرتو إيكو.[15]
[1] ـ انظر كتابنا: الحديث النبويّ ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ط2، 2015
[2] ـ العسقلاني ابن حجر: فتح الباري في شرح صحيح البخاري، بيروت، 1379هــ.
[3] ـ ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، بيروت، 1984
[4] ـ الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، بيروت، 1979
[5] ـ الشهرزوري ابن الصلاح: علوم الحديث، تحقيق نور الدين عتر، دمشق، 1986
[6] - O Ducrot, Dire et ne pas dire, Paris, 1972, p. 133-134
[7] ـ انظر على سبيل المثال، فيما يخصُّ علوم القرآن: الزرقاني، عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، بيروت، 1988. وأيضاً، فيما يتصل بالحديث النبوي: الصالح، صبحي، علوم الحديث ومصطلحه، بيروت، 1986. مباحث في علوم القرآن، بيروت، 1985
[8] ـ شارودو (باتريك) ومنغنو (دومينيك)، معجم تحليل الخطاب، تعريب عبد القادر المهيري وحمادي صمود، تونس، 2008
[9] ـ انظر نماذج من هذه الاعتراضات على أبي هريرة في: ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص 8 وما بعدها.
[10] - Françoise Armengaud, La Pragmatique, Paris, 1985, p. 45
[11] ـ علماً بأنَّ راوي هذا الحديث هو أبو بكرة، وهو راوٍ مغمور، مطعون في عدالته، خصوصاً بعد أن حدّه الخليفة الثاني عمر في حادثة قذف المغيرة بن شعبة الشهيرة، ولم يتذكر هذا الراوي الحديث الآنف الذكر إلا بعد وفاة الرسول بنحو ثلاثة قرون. انظر:
Mernissi Fatima, Le harem politique: le Prophèteet les femmes, Albin Michel, 1987
[12] ـ رواه البخاري.
[13] - E Morin, La Connaissance, Paris, 2001, p. 59
[14] ـ انظر دراستنا الصادرة حديثاً: الموضوعات بين أدبيَّة النص والمواضعات الاجتماعَّية، مترجمة إلى الفرنسية تحت عنوان:
Les traditions apocryphes: questions littéraires, questions de société
وصدرت ضمن كتاب: La littérature aux marges du ‘Adab, Diacritiqueséditions, Paris, 2017
[15] - EcoEmberto: L’œuvre ouverte, Paris, 1987