أنوار المحمدية: إيمان بلا حدود!
فئة : مقالات
دشنت مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" انطلاقتها الصاعدة في مدينة المحمدية بين 25-26 مايو الحالي. وقد ألقى رئيس المؤسسة الأستاذ محمد العاني كلمة الافتتاح فأوضح ملامح الصورة وأهداف المشروع الجديد.وفهمنا أن المؤسسة تريد الاسهام في خلق فضاء معرفي حر ومبدع من خلال التجديد ونشر الاصلاح الديني في المجتمعات العربية والاسلامية. كما وتسعى المؤسسة الوليدة الى اعلاء قيم التنوع الثقافي والحضاري والمراهنة على خيريّة الانسان ورشده العقلي ومقدرته على تحسين ظروفه نحو الأفضل والأمثل. انها لا تريد تكرار المكرر الامتثالي الذي أصبح مملا مضجرا ويقف كعرقلة في طريق التحلحل والتطور. وبالتالي فالمؤسسة التنويرية جاءت في وقتها لأن المفاهيم القديمة أصبحت عالة علينا ولم تعد تتماشى مع روح العصور الحديثة.
بعدئذ ابتدأت الجلسات تتوالى صباحا ومساء على مدار يومين متتاليين. وقد تحدث فيها حشد كبير من المثقفين العرب من متدخلين ومناقشين. وأعتذر مسبقا عن اهمال الكثير من المداخلات القيمة نظرا لضيق المكان.هناك دائما ظلم واجحاف في مثل هذه العروض.
بداية لقد أعطانا السيد ولد أباه جرعة تفاؤل عندما قال بأن الفلسفة تشهد انتعاشا ملحوظا في البلدان العربية حاليا.والدليل على ذلك أنه كان في السعودية مؤخرا وقد ألقى عدة محاضرات حول الموضوع. ورأى بأم عينيه مدى اهتمام المثقفين السعوديين بالفكر الفلسفي ومدى اسهامهم أيضا في تعميق النظريات الفكرية والنقاش حولها واصدار المؤلفات التي قد لا نعرفها بالضرورة.نفس الشيء يحصل في المغرب على نطاق واسع حيث تدرس الفلسفة حتى في الثانوي وليس فقط في الجامعة. وبالتالي فالعصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية أصبح يتراءى على الأفق، وقد يعود مرة أخرى. من يعلم؟ على أي حال فان مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" مصممة على أن تفعل كل شيء لتحقيق هذا الهدف النبيل واخراج العرب من عصر الانحطاط: عصر التكرار والاجترار.
أما الدكتور محمد سبيلا فقد قدم لنا مداخلة عميقة ومعقدة عن نظريات أشهر مفكر ايراني معاصر: داريوش شايغان.وهو صاحب كتاب ما معنى الثورة الدينية؟، والنور يأتي من الغرب،الخ.ومعلوم أنه وقف ضد ثورة الخميني واعتبرها رجعية متخلفة وهاجر الى باريس بسبب ذلك.ونظريته تتلخص في أننا نعيش مرحلة متذبذبة "فلا أمس يمضي ولا الغد يأتي" كما قال سبيلا مستشهدا بمحمود درويش.فهناك فجوة عميقة تفصل بين الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة ونحن في العالم الاسلامي كله نتأرجح بين هذين القطبين الكبيرين دون أن نستطيع حسم الأمور حتى الآن.من هنا عذابنا وقلقنا وتمزقنا.كل ما نرجوه هو أن نتحاشى تطرفات هذه أو تلك وأن يتمخض الصراع في نهاية المطاف عن حداثة عربية اسلامية تجمع بين العلم والايمان، أو بين قيم التراث الأخلاقية والروحانية العظيمة وقيم الحداثة الاوروبية الاكثر رسوخا.ولتحقيق ذلك فنحن بحاجة الى الانفتاح والانغلاق في ذات الوقت: الانفتاح لكيلا نتكلس ونتحجر ويتم تهميشنا واخراجنا من التاريخ،والانغلاق لكيلا نذوب كليا في الآخر ونفقد شخصيتنا تماما.نعم ينبغي الانفتاح على أفضل ما أعطته الحضارة الاوروبية وبالأخص دولة القانون، والتناوب السلمي على السلطة، وتأمين حرية الضمير والمعتقد، وعدم التفريق بين المواطنين على أساس الدين أو العرق واللون.و لكن ينبغي الانغلاق على التطرفات الاباحية والالحادية المطلقة لهذه الحضارة بالذات. لسنا بحاجة الى زواج الشواذ أو عبادة العجل الذهبي واحتقار كل القيم ما عدا المادية الاستهلاكية منها. كل ما لا يتماشى مع جوهر شخصيتنا التاريخية والنزعة الانسانية ينبغي أن ينبذ غير مأسوف عليه. نريد حضارة بوجه أخلاقي تضامني بالدرجة الأولى.وهذا ما ينقص حضارة الغرب حاليا.نريد حضارة بوجه انساني.
أما الدكتور عبد المجيد الشرفي فقد أعطانا درسا بليغا في كيفية الانفتاح على التراثات الدينية والثقافية الأخرى. وصرخ بنا محتدا قائلا: ان التراثات الهندية والصينية واليابانية تؤمن بها نصف الكرة الارضية. فهل يعقل أن نظل متجاهلين لها أو جاهلين بها؟ هل يمكن ذلك في عصر العولمة الكونية؟ اضافة الى ذلك فقد صحح لنا الدكتور الشرفي الكثير من أوهامنا الخاطئة عن التراث وأعادنا الى جادة الصواب.وهذه هي سمة المفكرين الراسخين في العلم.وفهمنا منه أن الأجداد كانوا أكثر انفتاحا واستنارة من الأحفاد! وبالتالي فالتزمت الحالي ليس له أي شرعية دينية له على عكس ما نتوهم. فالإسلام في جوهره دين العقل والعلم والحضارة لا دين التخلف والتعصب والانغلاق.هكذا كان في العصر الذهبي وهكذا سيعود مرة أخرى.
وأما المفكر العراقي خزعل الماجدي فقد استعرض لنا تاريخ الأديان منذ آلاف السنين وحتى اليوم بكل اقتدار وألمعية.وأعطانا درسا في الانفتاح المعرفي وتوسيع النظرة والآفاق.ولكنه ارتكب هفوة بسيطة عندما أضاف الى الأديان التي ظهرت مؤخرا كالسيخية والبهائية "الدين الطبيعي" لروسو وفولتير.والواقع أن فلاسفة الأنوار لم يخترعوا دينا خصوصيا بالمعنى الضيق للكلمة، وانما "دينا كونيا" متوافقا مع العقل ومفرغا من كل الأحكام الطائفية والمذهبية المسبقة التي تقسم البشر وتمزقهم.وبالتالي فهو يتجاوز المسيحية وكل الأديان الخصوصية وينطبق على جميع البشر دون استثناء.أو قل بأنهم لم يخترعوا دينا بالمعنى الحرفي للكلمة وانما فلسفة تنويرية كونية أصبحت بحجم العالم. انها الفلسفة الليبرالية الديمقراطية التي تسعى الى تحقيقها جميع أمم الأرض: فلسفة حقوق الانسان والمواطن. وقد فعلوا ذلك للتخلص من الأصولية المسيحية ومحاكم التفتيش والحروب المذهبية التي دمرت أوروبا سابقا.لقد بلوروا ايمانا بلا حدود، ايمانا يخترق الحواجز والسدود..
أما الدكتور فهمي جدعان فقد أتحفنا "بإشارات الهية" أو شذرات فلسفية أو "طلاسم فكرية" واضحة أحيانا، غامضة أحيانا أخرى. من هنا جاذبيتها. وقد ختمها بهذه العبارة البليغة: حيثما يوجد العدل فثمّ شرع الله! من يستطيع أن يقول أفضل من ذلك في عصر انفجار الشعوب العربية الجائعة الى الخبز والحرية؟ من يستطيع أن يقول ذلك غير هذا المؤمن الحقيقي ذو النزعة الانسانية العميقة فهمي جدعان؟
وأما الأستاذ صلاح الدين الجورشي فقد ألقى مداخلة عصماء عن الوضع الراهن في تونس بكل وعده ووعيده. وربما كان أهم شيء فيها هو أن الأصولية ستشفينا من الأصولية! سنتداوى منها بها حتى ولو كلفنا ذلك غاليا. لا يوجد حل آخر. شكرا اذن لحكم الاخوان المتخلف عن العصر أو المعاكس للعصر في تونس ومصر وليبيا وكل مكان. نقول ذلك على الرغم من أن تجربة تونس قد تؤدي الى شيء ايجابي في نهاية المطاف. قلت بأنه متخلف لأنه لا يستلهم اسلام العصر الذهبي الذي أشع على العالم يوما ما وانما اسلام عصر الانحطاط.وشتان ما بينهما! أكرر مرة أخرى: العلة ليست في الاسلام والا لما سمح بتشكيل حضارة رائعة سابقا، وانما في الفهم الخاطيء لجوهر الاسلام.
وأما كاتب هذه السطور فقد تحدث عن مصطلح واحد لدى محمد أركون هو:"الانغلاقات التراثية"، أو "السياجات الدوغمائية المغلقة على ذاتها والمسورة بالأسلاك الشائكة". وهو كلام يندرج في سياق ما سبق. والمقصود منه أن كل واحد منا يولد بالضرورة في دين ما أو مذهب ما داخل هذا الدين. ولأنه ولد في داخله وتربى عليه منذ نعومة أظفاره وتشرب أفكاره مع حليب الطفولة فانه يعتقد بأنه مطلق الصلاحية وكل ما عداه باطل. ولا يعود أحد قادرا على الخروج من هذا السياج المغلق لكي يتنفس الهواء الطلق في الخارج. لا يعود أحد يستطيع منه فكاكا. من هنا ينتج التعصب وعدم التسامح مع أتباع الأديان والمذاهب الأخرى.ولهذا السبب فإننا ندينهم أو نكفرهم ولا نفهم كيف يمكن أن يوجد دين آخر غير ديننا أو مذهب آخر غير مذهبنا.ولكننا لو ولدنا في الدين المضاد أو المذهب المضاد لفعلنا نفس الشيء! اننا حتى الآن لم نفهم عبارة مونتسكيو الرائعة: "أنا حتما انسان، هذا شيء مؤكد، ولكني لست فرنسيا الا بالصدفة المحضة!". بمعنى: كان يمكن أن أولد في انكلترا فأصبح انكليزيا، أو في الجزيرة العربية فأصبح عربيا، الخ. كل فكر أركون ما هو بمعنى من المعاني الا تفكيك لهذه الانغلاقات الدينية، لهذه الجدران والأسوار التي تفصل بيننا والتي قد تؤدي الى الحروب الأهلية والمجازر الطائفية.