أهاليج هرمينوتيقية المختصر في الهرمينوتيقا على الطريقة الهندسية
فئة : ترجمات
أهاليج هرمينوتيقية
المختصر في الهرمينوتيقا على الطريقة الهندسية*
جان غرايش
ترجمة: فتحي إنقزّو
مراجعة: محمد أبو هاشم محجوب
ظهر المصطلح الفني هرمينوتيقا (hermeneutica) عام 1613 في (المعجم الفلسفي) (Lexicon philosophicum) لصاحبه رودلفوس غوكلنيوس (Rodolphus Goclenius)، الذي ندين له أيضاً بلفظتين مستحدثتين: أنتولوجيا (ontologie) وهورستيقا (heuristique). أما التعريف الأوسع للـفظة (Hermeneia (interpretatio) in genere est explicatio, explanatio, expositio, sive sit vocis phraseosve, sive sententiae legisve, somniorum voluntatis) [الهرمينيا (التأويل) بوجه عام هي البيان والتفسير والبسط إما لما هو قول منطوق، أو لقاعدة قانونية، أو لرؤيا بمحض الإرادة]، فإنه يفتح السبيل لمصنفات في الهرمينوتيقا العامة دشنها كتاب (فكرة المؤول الجيد وألد مناوئيه) (Idea boni interpretis et malitiosi calumniatoris (1630) لأستاذ الجدل واللاهوتي الستراسبورغي يوهان كونراد دانهاور J.-C. Dannhauer (1603-1666). إن المختصر في الهرمينوتيقا العامة، المستوحى من (كتاب العبارة) (Peri hermeneias) لأرسطو، وهو المشروع الذي سيستأنفه في وقت لاحق يوهان كلاوبرغ Johann Clauberg وكريستيان فولف Christian Wolff، لم يحل بين دانهاور وبين نشره عام 1654 لمصنف في الهرمينوتيقا الكتابية عنوانه: (الهرمينوتيقا القدسية أو منهج عرض الصحف المقدسة) (Hermeneutica sacra sive methodus exponendarum sacrarum litterarum).
في دراسة حديثة العهد، نبّه دانيال بوليغر على تعدد معاني «المنهج» («méthode») في نص دانهاور[1]؛ وذلك أن الذي يتجلى للوهلة الأولى بوصفه مفهوما منهجيا مقتبسا من جدليات أرسطو، ينتهي به الأمر إلى أن يتحول إلى «هودوصوفيا» («hodosophie»)؛ أي إلى حكمة للسير يأخذنا إليها مراس الإيمان المسيحي.
وقد يجوز لنا بهذا الشأن أن نقارن مسار «دانهاور» بنظيره الذي اتبعه معاصره «رينيه ديكارت» (1596-1660). ففي ثالث الرؤى الشهيرة التي شهدها في ليلة شديدة الاضطراب بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1619، والتي ستحول الجندي «رينيه البواتفي René le Poitevin»، وقد بلغ من العمر ثلاثاً وعشرين سنة، إلى فيلسوف، نجده يتجادل مع كتب من مصادر شتى (قاموس، ديوان أشعار) مغلقة تارة ومفتوحة تارة أخرى. إن بيتا لأوزون Ausone من (الديوان الشعري) (Corpus Poetarum) يشد انتباه الحالم بنحو خاص: «Quod vitae sectabor iter ?» («أيّاً من سبل الحياة يجب أن أتبع؟»). ولقد بين كتاب (حديث الطريقة)، الذي ظهر عام 1636 و(التأملات الميتافيزيقية) عام 1641، أن الشحنة الوجدانية لمسألة سبيل الحياة الذي يتعين اتباعه، ليست مغمورة قط بإكراهات المطلب المنهجي المأثور عن العلم الحديث.
أما الفرق الحقيقي بين «ديكارت» وبين الفيلسوف واللاهوتي الستراسبورغي، فإنه يرجع إلى أن «ديكارت» قد عمد انطلاقاً من كتاب (القواعد لتوجيه الذهن) إلى قطع الصلة بمسلمات الإبستمولوجيا والأنتولوجيا «الرمادية» لأرسطو، في حين أن «دانهاور» لم يتخلّ عن الجدل الأرسطي إطلاقاً، حتى وإن دل عمله اللاهوتي على أن مسألة سبيل الحياة الذي يتعين اتباعه، له دلالة حاسمة للمبشر بالإيمان المسيحي وللسنة اللوثرية، الحريصة على النأي بنفسها بنحو جدالي عن سبل مضلة للسالكين هي من شأن الهودوموريا (hodomoria) المارقة للكاثوليك وللإصلاحيين.
ولئن كان الأمر كذلك، حيث إنه لا ديكارت، ولا دانهاور بإمكانهما أن يفرضا علينا الخيار بين الممشى الوجودي (hodos, via) وبين المنهج، أو نظام الحجج العقلي، فإنه يلزم أن نحذر من الوقوع في فخ القراءة السطحية للتعارض بين الحقيقة والمنهج في عنوان الكتاب العمدة (الحقيقة والمنهج) لهانز غيورغ غادامر الذي نشر عام 1960.
فإن شئنا أن نختم هذا التذكير الموجز بالمشهد الفكري الذي عرفته بدايات العصر الحديث، لم يكن من غير المفيد، حتى وإن لم يكن الأمر يتعلق بمصنف في الهرمينوتيقا، أن نشير إلى العنوان اللاتيني لكتاب (الأخلاق) لسبينوزا: Ethica Ordine Geometrico Demonstrata أو Ethica More Geometrico Demonstrata. إن هذا الكتاب، الذي تم تحريره بين 1661 و1675، لم ينشر إلا عام 1677 بعد وفاة الفيلسوف، ليقع حظره بعد عام.
فهل يمكن لنا أن نتخيل مصنفا في الهرمينوتيقا يكون عنوانه: Hermeneutica more geometrico demonstrata الهرمينوتيقا على الطريقة الهندسية؟ ذلك أمر عسير، من أجل أن فن التأويل الهرمينوتيقي يقتضي «حكمة للايقين» لا تتلاءم مع مثال الرياضة الكلية (mathesis universalis) الذي لو تم تطبيقه على الهرمينوتيقا لتحول إلى قماط يشلّ لحركتها*.
وفي المقابل، فإنه لا شيء يحول بيننا وبين استخدام الأشكال الهندسية (الدائرة، الإهليج، المثلث، إلخ.)، لأجل أن نفهم أحسن الفهم المشكلات التي يجد فن التأويل نفسه في مواجهة معها، وهو الذي تحول، عند بداية القرن 19، إلى فن للـفهم (Kunstlehre des Verstehens) – تحول في المنوال سيفضي بعد قرن من الزمان إلى ولادة الهرمينوتيقا الفلسفية.
ومثلما يشير إلى ذلك عنوان هذه الدراسة المهداة إلى الأستاذ محمد محجوب، فإن الشكل الهندسي الذي أميل إلى تفضيله ليس الدائرة، وإنما الإهليج (ellipse) الذي له المزية الاستكشافية [الأوريستيقية] لتنبيهنا على بضعة توترات استقطابية من شأنها، من البدء إلى المنتهى، أن تعلم تاريخ الهرمينوتيقا. وإنها لمن الوفرة، حيث إنه لو وقفنا على ما يرجع منها إلى شلايرماخر وحده لوجدنا صعوبة في الإحاطة بها.
تعريف: الهرمينوتيقا الفلسفية هي نظرية عمليات الفهم المفترضة في تأويل المبادلات اللغوية، والآثار (من نصوص وصور وموسيقى) والأفعال.
وإني أضيف إلى هذا التعريف، دون أن أدعي استيفاء للأمر، ستة أقطاب تفضى إلى مقدار موافق لها من القضايا المحوصلة.
1. مصلحو الأقفال ومرمّمو الطرقات: بين المفتاح والمنهج
ثمة ثنائي مفهومي أول يميز العصر الممهد لمولد الهرمينوتيقا الحديثة، يشد الانتباه على الفور هو ثنائي: المفاتح (clavis) والمناهج التي من شأن التأويل[2].
أما السداة العميقة التي يقوم عليها هذا التمييز، فلا تخرج عن الأزمة الشاملة للسلطة الدينية والسياسية والمعرفية في بداية الحداثة التي يظهر من أمرها أنها عجزت عن التحكم في مفاعيل النشاط التأويلي. فلو فرضنا أن كل شيء قد صار شأناً من شؤون التأويل، ألا ينتهي العالم إلى أن يصبح غير مقروء، وتنتهي جمهرة الشروحات بأن تقوم مقام المتن نفسه، مثلما خشي ذلك جورج شتاينر George Steiner؟
ومثلما لاحظ ذلك ديني توار Denis Thouard، فإنه في عصر الإحياء، الذي سماه بعضهم «عصر الشرح»، والبعض الآخر «عصر التأويل» أو «عصر التشابهات»، ظهرت حاجة ملحة بنحو خاص هي الحاجة النقدية لإيجاد معيار يسمح بالحسم بين مختلف التأويلات الممكنة للنصوص، بناء على ما لها من ادعاء للصدق؛ وذلك أنه لم يعد يكفي أن نعارض تأويلا بتأويل؛ وإنما يتعين تعليل ما لها من الصدق.
وأما من وجهة نظر دينية، فقد كان من التبعات الأولى لأزمة الإصلاح أن صار الكتاب المقدس عينه ساحة قتال عقائدي؛ فحيثما يلوّح السلفيون من اللوثريين بدعوى: [أن الكتاب يتأول نفسه بنفسه] (scriptura interpres sui) كأنها سيف بُراق، واضعين بذلك حداً لكل خلاف بين التأويلات، يمسك آخرون بالكتاب تحت رقابة لصيقة، ورأيهم أن تأويله لا ترجى منه عاقبة خير إلا إن جرى تحت السلطة المعدلة للتقليد الضاربة بجذورها في القرون الأولى. إن الاقتناع بأن الكتاب المقدس مزود ببصيرة (perspicuitas) تجعلنا نقرؤه وكأننا «نمسك بمفتاحه»، هو المسلمة الأساسية التي يستند إليها كتاب Clavis Scripturae Sacrae seu de Sermone Sacrarum literarum [مفتاح الكتاب المقدس أو أحاديث الصحف المقدسة (1567)] لصاحبه ماتياس فلاكيوس إليريكوس Mathias Flacius Illyricus (1520-1575).
بين المفتاح والمنهج، ثمة على الأرجح عين الفرق الذي بين صانع الأقفال (serrurier)، وبين مرمم الطرقات (cantonnier).
وباستثناء أن يكون لنا «مفتاح كلي»، فإنه كلما كان القفل معقد الصنع، كنا أحوج إلى مفتاح مخصوص لفتح باب من الأبواب، ولاسيما إن كان الأمر يتعلق بمجال يعسر النفاذ عليه أو مجال مظلم، مثل الذي يخص الرؤى أو النصوص المشحونة بدلالة باطنية. إن الهرمينوتيقا من حيث هي فنّ فتح الأبواب تتحول بسهولة إلى النزعة الباطنية.
على أن مقتضى المنهج يصطدم بمصاعب أخرى، ولاسيما تلك التي تتعلق بالتخلص من الأحكام الشائعة. إن منطقا للتأويل، يعلن انتسابه إلى طريقة أرسطو في (كتاب العبارة) (De interpretatione)، ويسعى إلى استخلاص العلاقة بين ratio وoratio لا يجوز أن يسمح لنفسه بترف الضياع في أغوار الخصومات العقائدية والتفسيرية، بل لعلها أن توفر في أقصى الأحوال لوحة للاستهداء بها لأجل التأويليات الجزئية، ولاسيما القانونية واللاهوتية منها.
القضية I: إن فن التأويل الهرمينوتيقي ينخرط في صلب إهليج (ellipse) إحدى بؤره مشكّلة بواسطة مجاز المفتاح، ومركزة على خصوصية حقل من حقول التجربة أو على فرادة نص من النصوص، وثانيهما يؤكد عمومية منهج يسمح بالتحكيم في نزاعات التأويل.
2. بين الألفة والغربة: المقام الهرمينوتيقي الأساسي
وإنا لننسى غالب الأمر، حتى وإن ذكرنا بذلك غادامر وأعاد تذكيرنا، أن الهرمينوتيقا من قبل أن تكون نظرية أو ممارسة، هي تجربة إنسانية أساسية؛ وذلك أن الناس متى حدّث بعضهم بعضاً وسعوا في فهم بعضهم بعضاً، جعلونا، شئنا أم أبينا، في ميدان الهرمينوتيقا، حتى وإن كان المصطلح الفني المناسب لم ينحت إلا في مبتدأ الحداثة.
ولقد حفظ الفعل الإغريقي hermeneuein آثارا للتعقيد الذي يكتنف تجربة الصدام بين الثقافات التي ليست وليدة اليوم. ففي هذا الضرب من الملاقاة، يكون التفاهم أمراً غير مسلم به؛ فالخلافات هي القاعدة وليست الاستثناء، زيادة على أننا نستفيد من تجربة الترجمة درسا مفاده أنها لا تكون أبداً على ما ينبغي لها من الكمال.
يفترض كل التقاء بثقافة أجنبية التعرض لغيرية من شأنها أن تحدث لنا حرجاً وحيرة، ولكنها قد تأتينا بما لا نملك من قبلُ، وأن تفتح لنا آفاقاً جديدة. وقد اختار الإغريق أن يضعوا هذه اللقاءات المشوقة تحت إمرة هرمس، إله الرعاة والمسافرين، الذي تؤهله وظائفه المتعددة لأن يكون وسيطاً، والذي أعطى اسمه للرسوم (hermax) التي أنيط بعهدتها أن تدل على علامات الطرقات.
أما الصفة hadios، فتجعل منه فاتحاً للطرق التي لم تسلك بعد؛ وذلك أنه يتحرك في الفتحات التي بين فضاءين غير متجانسين، فضاء المألوف (heimlich) وفضاء الغريب (unheimlich)، فضاء الغرابة المحيرة التي يسمح بمواجهتها، دون أن يلغيها مع ذلك. هرمس، حامي المسافرين الذين يجوبون الأقاصي، يُتوسل أيضاً من جانب قطاع الطرق واللصوص. هرمس المنشد في الأعراس (Hermès epithalamithês) هو كالمصلح الذي يتوسط ليدفع الجنسين إلى التقارب، الأمر الذي يشكل ضرباً أنثروبولوجياً على درجة عالية من الأهمية من الالتقاء بين الخاص والغريب.
ولما كان يتحكم بفن الإقناع والإغواء بالصوت؛ أي بعبارة أخرى فن نسج العلاقات بواسطة قول «إنشائي»، كان له دور النذير والملاك (angelos) الذي ترسله الآلهة، مثلما تدل على ذلك العصا (heryx)، أمارة على وظيفته رسولاً بعثته الآلهة وحبته بتفضيلها. إن هرمس قائد الأنفس (Hermès psychopompos)، بما هو الوسيط الواصل بين عوالم منفصلة، هو الذي يرافق الموتى إلى الجحيم.
ولقد نبه جان بيار فرنان، في دراسة خصصها للتعبير الديني عن المكان والحركة عند الإغريق، على التكامل بين آلهتين كل شيء يدعو إلى المقابلة بينهما: هرمس (Hermès)، إله المسافرين، وهستيا (Hestia)، حامية المنزل، «البيت» (chez soi) الثابت والحامي للهوية وللإرث العائليين[3]. وأما القيم الرمزية المتصلة بهذا الفضاء المحمي، فهي أشبه شيء بانقلاب الفضاء الذي يتحرك في نطاقه هرمس، ذلك «المسافر الذي يأتي من بعيد ولا ينفك يستعد للرحيل»، والذي «يمثل داخل الفضاء والعالم البشري، الحركة، والعبور، وتبدل الحال، والانتقالات، والاتصالات بين عناصر غريبة بعضها عن بعض»[4].
وحيث توشك هستيا أن تحول المنزل إلى فضاء مغلق على الخارج، يتولى هرمس أغوراريوس (Hermès agorarius) ترسيم المجال العام للمدينة والآغورا (agora) بوصفها فضاء الالتقاء بامتياز. ولا يقف دوره عند التبادلات داخل المجال العام للآغورا؛ ذلك أن ميدانه أوسع كثيراً: فهو في الوقت نفسه حارس الحدود التي تفصل بين أمكنة غير متجانسة أياً كانت طبيعتها (حدود بين دول، بين ثقافات، بين عالم بشري وعالم إلهي، بما في ذلك الحدود المرعبة بين عالم الأحياء والأموات). إن هرمس في كل هذه الوضعيات القصوى يجتبي لنفسه وظائف الرسول، والمبعوث، والسفير، والوسيط، والترجمان، وييسر الاتصال والتبادل، حيثما لا يكون الأمر متاحا، وهو يجسم السمة الشاقة وغير المتوقعة لكلّ لقاء، البخت أو سوء الطالع، وضربة السعد (to hermaion).
وعلى الرغم من التكامل في الوظائف التي تختص بها الآلهتان، فإنهما تقعان على الصعيد نفسه. «تستأثر هستيا بالداخل، والمغلق، والثابت، وانطواء الجمع على ذاته؛ ويستأثر هرمس بالخارج، والانفتاح، والتحرك، والاتصال بغير الذات»[5]. فمن يتحدث عن «المقام» (demeure)، يتحدث بالضرورة عن «الثبات» (ousia)؛ ومن يتحدث عن «التحرك» (mobilité) يتحدث عن «الغيرية» و«التغير».
أما في صلب الفضاء المنزلي، فإن البيت (thalamos) يمثل أحسن تمثيل الوظيفة التأصيلية والقيم الأساسية المادية والرمزية. والتكديس الذي يفضي إلى تكوين كنز منزلي، يقابله قطيع الماشية، الذي يضمن هرمس «الراعي» (agrotêr) خصوبته.
تنتهي دراسة فرنان بالإشارة إلى طقس تكهني يُتعاطى في مدينة باتراس من مقاطعة أخايا[6]. وقد كان هذا الطقس يُفرض على المستشير أن ينتقل جيئة وذهاباً بين مجسم لهستيا، حيث يتعين عليه قبل كل شيء أن يدفع تكاليف الاستشارة، وتمثال لهرمس، موضوع في الطرف الآخر للآغورا. يقوم المستشير بالهمس في أذن الإله بالسؤال الذي يود طرحه، ثم يعمد بعد ذلك، وقد غادر حرم الآغورا، إلى صم أذنيه. أما الصوت الأول الذي يصل إليه «في الخارج»، فإنه يفترض أن يحمل جواب الإله عن طلبه.
إن هذه «اللعبة» المذهلة للسؤال والجواب، من حيث لا تنفك عن عدد من الانزياحات، تمدنا بفكرة أولى عما أسميه «وضعاً هرمينوتيقياً أساسياً»، تحكمه ثنائية الانتماء والإغراب، التملك والتماسف؛ ذلك أن التأمل فيما يتيحه التفكير في الزوج العتيق هستيا-هرمس يفصح عن فائدتين اثنتين؛ فهو يقطع الطريق على انتقادات الهرمينوتيقا التي تصر على اختزالها في فكر الألفة، والتملك (appropriation)، والحضور الدائم إلخ، غير آخذة في اعتبارها تجربة الغيرية الجذرية، وهو يدعونا في الوقت نفسه إلى التساؤل، إن كان كل منظري الهرمينوتيقا ينصفون هذين البعدين، فإن بعضهم يفضلون من جهة واحدة القيم الرمزية المرتبطة بصورة هستيا (الانتماء إلى تقليد سابق في الوجود، والالتزام بتملك معناه لأجل نقله لأجيال أخرى). أما الباقون، بعكس ذلك، فإنهم يؤكدون التجديد الخلاق والتباعد اللذين تفرضهما علينا الأوضاع التاريخية المستجدة.
ولقد وضع شلايرماخر Schleiermacher، في أول خطاباته الأكاديمية في الهرمينوتيقا، العملية التأويلية بين قطبين أقصيين لجدلية الخاص والغريب. فأما الأول، فشأنه الألفة المطلقة، والإجماع المتين الذي لا يمكن لأي سوء فهم ولا لأيّ نزاع أن ينجم عنه. وأما الثاني، فمن شأن الغربة المطلقة التي ترفض كل جهد للـفهم. في الفرضية الأولى، يصير هرمس بطلاً لتواصل شفاف بإطلاق. أما في الثانية، فيصير حارساً لباطنية (hermétisme) مستعصية.
يرى شلايرماخر إنه «حيثما يوجد، في التعبير عن الأفكار بواسطة القول، شيء ما غريب يجده الذي يصله ذلك القول»[7]، فإننا نكون بإزاء مهمة تحويل «الشيء الغريب» إلى «شيء خاص»[8].
وإن كثيراً من الأشياء مرهونة بما نرى فيه «شيئاً غريباً» و«شيئاً هو لنا».
فإن كانت الغرابة مختلطة بالمسافة الزمانية، فإن «الهوة اللعينة» التي من شأن الزمان تجعل من فن الفهم قضية خاسرة من قبلُ. أما إن كان الأمر على غير ذلك، كما يرى غادامر، حيث تكون للمسافة الزمانية خصوبة تأويلية فريدة في نوعها (sui generis)، فإنها تتحول إلى حظ سعيد؛ أي إلى إمكان للـفهم فهما أحسن وعلى أكثر من وجه.
ولعله للسبب ذاته يتعين اجتناب الوقوع في فخ التعارض بين الكلام والمكتوب (phonè et grammè)؛ وذلك باتهام الكتابة بكونها «زيادة خطيرة» تحدث الكثير من الخلافات التي لا يشكو منها القول الشفوي. وفي واقع الأمر، وكما ينبه على ذلك شلايرماخر بإشارته إلى التجربة الأكثر اعتياداً وما تشهد عليه لفظة «الخلاف» (malentendu) نفسها، فإن «سوء الفهم» (mécompréhension) «ليس مرتبطاً بأي وجه بحالة القول الذي تثبته الكتابة للعين، ولكنه يحدث في كل مرة يتعلق فيها الأمر بإدراك، تتوسطه الألفاظ، لأفكار أو لمتواليات من الأفكار». فكذلك يوصي شلايرماخر مؤولي الآثار المكتوبة «بأن يزاولوا الارتياض على تأويل المحادثة ذات الدلالة»[9]!
القضية 2: إن التجربة الهرمينوتيقية الأساسية مسنودة بالاستقطاب بين الانتماء والغرابة، التملك والتباعد. والهرمينوتيقا المتوازنة كأحسن ما يكون التوازن يتعين عليها تسوية ما عليها من الغرم إلى هستيا قبل أن تكون على استعداد لإلقاء السمع إلى رسائل هرمس.
3. اللوغوس والهرمينيا
إن فعل hermeneuein مشترك معنوي، وهو إذ يدل تباعاً على «تبليغ» رسالة، وعلى «تأويلها»، وترجمتها وتفسيرها؛ وذلك بمقتضى ما يكون من امتياز وظيفة المبشر-الرسول، المؤول-الترجمان أو قارئ الرموز، يجعلنا نبصر بتعدد أبعاد المشكل الهرمينوتيقي عينه؛ ذلك أنه بدلاً من تفضيل واحد من هذه الأنشطة على ما سواه، فإن المسألة الفلسفية المحورية، إنما هي تلك التي تخص طبيعة الرابطة التي تمكن من وصل هذه الأنشطة بعضها ببعض.
وعلى قدر ما يبتدئ فعل hermeneuein بالانتشار، نراه يغتني بمختلف اللطائف.
فقد كان بنداروس Pindare يرى نفسه مبعوثاً إلهياً على غرار هرمس. استلهم قصائده من إحدى ربات الفنون (Muse)، حتى كان يقارن بينها وبين نبوءات دلفي. و«الرسائل» التي ليست من عنده، تصفه بأنه «مبعوث» (herméneute). أما التراجيديون، ومنهم أخيليوس وأوريبيدس بوجه خاص، فيستخدمون التمثيل نفسه، ولكنهم يضيفون إليه مسحة من تظنن؛ ذلك أن المؤول-الناقل لرسالة غامضة في إمكانه أيضاً أن يحرف معناها وأن يوقعنا في الضلال.
ومهما كان الأمر من الاختلافات في النبر، فإنه لا مفر من التساؤل عن الظاهرة الكبرى التي يشكلها الكلام المرسَل، الموجه إلى أحد ما، المجعول لأن يُستقبَل ويُفهم، أيا كان ما يحمله من المضامين أو من الأخبار؛ ذلك أن الإنسان، إن جاز لنا القول، ومن قبل أن يكون حيواناً قادراً على النطق (zoon logon echôn) بمقتضى التعريف الأرسطي، هو «حيوان تأويلي»، «حيوان متأول لنفسه» (Self-interpreting animal) على حد قول شارلز تايلور Charles Taylor، حتى ولو اقتضى الأمر أن ننتظر سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، لنرى «تأويليات الذات» وقد تشكلت كأحسن ما يكون.
وذلك أن الأمر قبل كل شيء، إنما يرجع إلى أن الإنسان منذ الأزل هو المخاطب بكلمات سابقة عليه، والمدعو إلى أن يصير هو ذاته «حامل الكلمة» (porte-parole) من قبل كل عملية فنية للتأويل أو للترجمة، وأن الهرمينيا (hermeneia) مقومة للوجود- في-العالم الذي للدازاين (Dasein).
أما أن يصار إلى إثارة مسألة شرعية الاستعمالات «الهرمينوتيقية» للكلام، ولاسيما شرعية الفائدة التي يمكن أن يمثلها فن التأويل للـفيلسوف، الإنسان الباحث عن الحكمة، فأمر لا داعي للاندهاش منه.
فكذلك يحذرنا أفلاطون، وهو أول فيلسوف استخدم لفظة هرمينيا (hermeneia): أن «الهرمينوتيقا» في نظر الفيلسوف الباحث عن الحكمة، لها عين المنفعة التي للصيد، والفلاحة، والعمارة والكهانة (إبينوميس 975ج4-8)؛ أي لا منفعة منها أصلاً. إن ما يشد انتباهنا هاهنا، هو التقاء الهرمينوتيقا بالكهانة (mantikè) الذي يتضمن من بين ما يتضمن تعبير الرؤيا التي سيسميها فرويد «فن التفسير» (Deutungskunst). أما صناعة المبعوث-الرسول، فأكثر شبها بصناعة العراف الذي يتعاطى تأويل علامات الطوالع التي تأتينا من العالم الإلهي. وحتى إن طالب المبعوثون (herméneutes) بأن يكونوا من الناقلين (interprètes) «عند الناس لما يأتي من الأرباب» (السياسي 290 ج5)، فإن علو مقام الفيلسوف- صاحب الجدل بالنظر إلى هذه الممارسات «التي لا تعرف إلا ما يقال، ولكنها لم تعلم إن كان حقاً»، علو ماحق.
ذلك ما لم يحل بين أفلاطون وبين تخصيص محاورة بأكملها لتحليل المواهب التي ظهرت على بعض الناقلين (interprètes): محاورة (إيون) التي يجوز أن تقرأ بوصفها أول (باري إرمنياس) (Peri hermeneias) فلسفي. فهذه المحاورة القصيرة، التي وضعها جان لوك نانسي بموازاة (المحادثة مع الياباني) لهايدغر[10]، تمدنا ببضعة إشارات مهمة من جهة الطريقة التي تقاطع بها المشكل «الهرمينوتيقي» مع سبيل التساؤل الفلسفي؛ ذلك هو مشكل «توزيع الأصوات» بين الاستخدام الذي يصطنعه المؤولون للصوت البشري والاستخدام «الجدلي» الذي يميز اللوغوس الفلسفي ويعطيه فرادته.
ترسم المحاورة الأفلاطونية مشهد المناظرة بين شخصيتين دالتين على نمطين مثاليين: الراوي (rhapsode) إيون، الفخور بما ظفر به من تتويج في مسابقة الإلقاء، والفيلسوف سقراط الذي لم يظفر بأيّ فوز. لقد كان الرواة من المغنين الجوالين، الذين يحترفون إنشاد قصائد ليسوا من ناظميها. ولعلها أن تكون من الأعمال التي تدرّ أرباحاً وفيرة، الأمر الذي لم يتستر عليه إيون الفخور بجائزته الفنية الأولى التي حصل عليها.
إن المساءلة الشديدة التي أخضعه لها سقراط، إنما تتعلق بالطبيعة الحقيقية لما يتعاطاه من النشاط. أما الذي يدفع إلى السؤال، فهو أن كفاءة الراوي لا تقف عند مجرد سجل الأداء ولا عند الجودة الصناعية للإنشاد؛ ذلك أن إيون ليس مجرد بارع في الإنشاد؛ وإنما هو يزعم في الوقت نفسه أنه الشارح والمؤول المفوض لقصائد هوميروس التي يبدع في إنشادها أيما إبداع.
وإن هذا الادعاء، الذي مفاده أحقية «المعرفة العميقة بفكر (dianoia) المؤلف لا بأبياته فحسب» (إيون 530ب)، بعبارة أخرى القدرة المهنية على تفسير ما أراد- قوله الشاعر، بأن يكون مُبلّغ (hermeneus) فكره لسامعيه، هو الذي يضفي الشرعية على الهرمينيا (hermeneia) الإنشادية: «فإن الإيفاء بها غير ممكن، إن لم نكن على علم بما يريد الشاعر قوله» (إيون 530ج)، وأنها هي أيضاً ما يستفز ريبة الفيلسوف.
فاذا كانت هرمينيا الرواة لا شأن لها بمضايقة اللوغوس الفلسفي، فلم يشتد سقراط بهذا القدر على المسكين إيون؟ قد يكون ذلك راجعا ابتداء إلى أن الهرمينيا تمثل على الرغم من كل شيء تهديداً لما للـفلسفة من فهم ذاتي لنفسها، كما لو كانت تتعاطى حكمة منافسة لا تجرؤ على التصريح باسمها. إن هذا الادعاء المضمر هو الذي يتعين فرض بالصمت عليه؛ وذلك بحبس الراوي بين خيارين: هل في الأمر علم (epistêmè)، أم فيه «فن» (technè) على الأقل؟ أما الجواب عن ذلك عند سقراط-أفلاطون، فلا يطاله الشك: إن الأمر يتعلق بمجرد براعة لا سبيل إلى تدبيرها ولا إلى التحكم بها، وهي منقطعة عن كل شرعية معرفية، وعن كل أهمية فلسفية بالضرورة.
يبقى اللغز الذي ينطوي عليه ضرب من «القرابة الاصطفائية» الذي يصل المؤول بمنطوق شعري فريد، شأنه أن يمتنع، كما أقر بذلك إيون دون مواربة، عن كل تعميم (إيون 532ب). فالظاهر أن ما ينقص المؤول، بين شاعر وآخر، هو «الإلهام». عاجلاً أو آجلاً، يصار بالتفكير في التأويل إلى رده إلى «حقل جاذبية» أصلي للكلام الشعري عينه الذي يقارنه أفلاطون بآثار حجر المغناطيس؛ فمثلما أن حجر المغناطيس يمكن له أن يُبلّغ قوته الجاذبة إلى موصلات معدنية مناسبة، كذلك القوة التي تسكن الكلام الشعري يمكن أن تُبَلَّغَ إلى المؤول الذي يتولى إلقاءها وإلى السامعين الذي يقعون تحت سحرها.
فأما المؤول (الراوي) فليس إلا مؤولاً من درجة ثانية، مقارنة بالشاعر الذي هو مؤول لما تلهمه إياه ربة الفنون (إيون 533د-535أ). وأما الشاعر-المبدع، فليس من صناع الكلمة؛ إنما هو مشغول، ومسكون، ومدفوع بقوى تفوق الطاقة البشرية، هي قوى إلهية لا سلطان له عليها. لا سبيل إلى الشعر دون القدرة على «فقدان العقل». «فالشاعر كائن لطيف ومجنح ومقدس، ولا يتيسر له أن ينشئ إلا بعد أن يأتيه الإلهام من إله خارج عنه، ولا يبقى على عقله؛ دون بلوغ هذه الحالة، فإن كل كائن بشري لا قدرة له على نظم الشعر ولا على النطق بنبوءاته» (إيون 543ب).
فإذا كانت المهارة التأويلية، كيفما أخذتها، «هبة ربانية» (theia Moira)، فإن التنافس الأصلي بين الهرمينوتيقا، وبين الفلسفة يعلل بكون الفلاسفة، هم أيضاً، يحتجون بأن لهم ضرباً من الحماسة ومن الجنون يرفعهم فوق أنفسهم.
القضية 3: إن التعارض الأصلي بين الفلاسفة الذين هم في سعي لطلب العلم الحق، وبين المؤولين الذي يجعلون الآثار المفردة «تنطق»، يضطرنا حتما إلى التمييز بين الكفاءات التي من شأن كل طائفة، ولكنه لا يمكن لا محالة أن يُختزل في التعارض، الأصلي أيضاً، بين السفسطة والفلسفة. أن ما يشترك فيه الفلاسفة والمؤولون، إنما هو إلهام ليسوا بأصحاب سيادة عليه.
4. إرادة المعرفة والشوق إلى الفهم
إن الفلسفة في رأي أفلاطون (ثياتيتوس، 155د) وأرسطو (ما بعد الطبيعة، أ 982-983) بنت الاندهاش. فإن الذي هو عاجز عن الاندهاش، لن يجد قط سبيل الحكمة، هذا السبيل الذي لا يشبه الطريق السيارة، مادام الفلاسفة مضطرين إلى مجابهة الشكوك (apories) التي لا تحصى ولا تعد؛ ذلك أن اندهاشاً لا يعبر عن نفسه من خلال سؤالات «هائلة» من نوع: «لم ثمة شيء ما بدلا من لا شيء؟» ليس اندهاشا أصلا. وإن هول الأسئلة يكون، حيث ينطق القلق أكثر من مرة بصوت أعلى من صوت الاندهاش.
يفتتح كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو افتتاحاً استعراضياً بتصريح كان موضوعاً لشروحات كثيرة: «إن الناس جميعاً يشتاقون بالطبع إلى المعرفة»؛ ودليل ذلك ما يحتج به أرسطو من حب الأحاسيس التي هي، بغض النظر عن منفعتها، محبوبة لذاتها، وهو إذ يضيف إلى ذلك أنه من بين الأحاسيس جميعاً «ييسر البصر لنا أن نعلم بأعلى قدر، ويبين عن طائفة من التفاريق»، فإنما يثبت الرباط الذي يقيمه الجذر الهندي-الجرماني wit من العبارة Wissen بين البصر والعلم.
أما الفضل الذي تتمتع به الأحاسيس البصرية في تشكيل علم جدير باسمه، فلا يعني مع ذلك أن كل تجربة تختزل فيها، ولا أن اللِّمَ) الذي يعني العلم بالأسباب وبالمبادئ الأولى سواء بسواء، هي حرف السؤال الوحيد الذي يستحق أن يُلتفت إليه.
والإنسان، على حد قول غادامر، هو «كائن يريد أن يفهم وينبغي له أن يفهم نفسه»[11]. فأن يشتاق المرء إلى الفهم، وأن يريد الفهم وأن يجب عليه الفهم ليست من المترادفات. وقد يجوز لنا أن نتساءل تساؤلاً شرعياً، إن كانت إرادة المعرفة والشوق إلى الفهم من المترادفات؛ ذلك أن هذا التمييز ليس غريباً عن فكر أرسطو، مثلما تبين ذلك المقالة التي تضمنها كتاب (الدعوة إلى الفلسفة)، والتي مفادها أن ما يسعى الناس بحثاً عنه أكثر من أي شيء آخر، إنما هو الفهم (phronein) (Protreptique 76 D)*. فإن النفس لما كانت «تحب أن تفهم»[12]، صار التعرف إلى الفيلسوف، لا بما يملك من معرفة موسوعية، وإنما لكونه «متأملاً إلى أقصى حد»[13]، وتبعاً لذلك أنه يضطلع بشكل من البصيرة واليقظة، يمثل التعقل (phronésis) عبارته الأساسية.
فأما الخشية من الموت، فتثبت بطريق العكس أن «الانفعال الرئيس للإنسان هو ذلك الذي يدفعه نحو ما هو بين ومعروف حق المعرفة»[14]. يؤيد أرسطو ما ذهبنا إليه عن الجدلية الأصلانية للألفة والغربة: «ولهذا السبب نفسه نسعد بالموضوعات التي اعتدنا عليها وبالناس الذين ألفناهم ونصف هؤلاء الناس الذين نعرفهم بأنهم أصدقاء. كل هذا يبين بجلاء أن المعروف والمرئي والواضح موضوع محبة (agapéton). وأنه لو كان الأمر نفسه فيما يخص المعروف والظاهر للعيان، من الواضح أنه سيكون بالضرورة كذلك للمعرفة وللتفكير (phronein)». (الدعوة، 102 د)*.
من دون الحد الأدنى من الحب، تكون «القدرة على أخذ الأشياء على ما هي عليه» غير ممكنة؛ وذلك أنه يجب أن تكون «الحقيقة» مما يمكن التعلق به، حتى يمكن للعاقل (phronimos) أن يتعلق بها. ويتعين على العمل السياسي بوجه خاص أن يجد التوازن الحسن بين العلم، وبين الإلف (synètheia) الذي [تقتضيه مزاولة] الشؤون البشرية، وهو توازن لا يقدر عليه إلا المجربون من الناس.
أما التكافؤ الذي يقيمه أرسطو بين فن العيش والشوق إلى الفهم، والذي نصفه بأنه هرمينوتيقي، حتى وإن لم يستخدم أرسطو هذه الصفة، فيختلف عن مجرد التعطش للمعرفة ولحفظ النفس الذي وقف عنده الشراح اتباعاً للإسكندر الأفروديسي. فالنفس ليست حية فعلاً إلا حيث ترتاض على التأمل العقلي وعلى الفكر: «فإن الذي يفكر تفكيراً صحيحاً يحيا بقدر (أشد كثافة) من غيره، وأن الذي يبذل أقصى جهده من أجل الحقيقة هو الذي يتفرد من دون الناس بأفضل حياة ممكنة». (الدعوة إلى الفلسفة، ب85، ص 64 بتصرف).
إن عبارة «لذة التفكير» ليست لفظة زائدة عن اللزوم؛ لأنه في رأي أرسطو «تكون الحياة بهيجة ويكون إلا الحقيقي أمرا يختص به الفلاسفة وحدهم، أو يتعلق بهم أقصى ما يتعلق» (الدعوة، ب91، ص 66 بتصرف). ومهما يكن من أمر «اجتهاد المفهوم» (Anstrengung des Begriffs) الشديدة التي تحدث عنها هيغل Hegel، فإن الشوق إلى الفهم ليس من الأشغال الشاقة أبداً. الأمر الذي لا يعني أن الحياة النشيطة هي دوماً حفل للالتذاذ، من أجل أن المشاق التي تجعلنا نواجهها، تتصل أيضاً بضعفنا وبسلبيتنا.
إن اللسان الإغريقي يسمح لنا بالمرور مروراً خفياً من فعل phronein ومن مصدر phronesis، إلى فعل syienai («فهم») وإلى مصدر synesis («الفهم»)[15]. وأما الاستخدام العامي، فيعمل منها خصالا قريبة الشبه كثيرا بالفرونيسيس، الأمر الذي لم يمنع أفلاطون أن يتخذها فضائل عقلية قائمة بذاتها (الفيلابس 19د).
أما أرسطو، فقد اعتمد بهذا الخصوص استراتيجية أكثر مرونة وأقرب إلى تقدير المعنى الأصلي للألفاظ. فالذكاء (intelligence)، وهو قدرة يتمتع بها الإنسان الذكي (synetos)، الذي يثبت، في أي ظرف كان، أنه يتحلى بملكة الفهم (syniénai)، لا يجوز أن يكون من جنس علم جزئي (الأخلاق، 6: 11، 1143أ 2-4)*، وهو الأمر الذي تثبته الفضائل الثلاث المتصلة بالفرونيسيس، والتي هي الزونيسيس (synesis) التي شأنها أن تؤهل «صاحب الحكم الصائب»، لكي يميز «الحق في الشؤون الإنسانية»، حتى وإن كان هذا الحق لا يطابق المستدل عليه[16]، والإنصاف أو الإحسان (syggnomè) و«لين الجانب» (praotès)[17]، والتي تتعلق بالأشياء التي يمكن أن تكون «مدعاة للحرج أو موضوعاً للروية» (الأخلاق، 6: 11، 1143 أ4-6) سواء أكان ذلك في المجال السياسي أو في سائر مجالات الحياة العملية.
إن الفهم، وهو شكل خصوصي من أشكال الذكاء أصله في محاورة النفس لنفسها (الفيلابس 38 ج-هـ)، ينطوي على رهانات أخلاقية كتلك التي لاتزال تشهد عليها في أيامنا عبارات من قبيل «إظهار التفهم» أو الإنسانية. وكذا الأمر بخصوص الزونيسيس (synesis) والأوبوليا (euboulia): حتى وإن كانتا «فضيلتين شقيقتين»[18]، لا يجوز الخلط بينهما. إن الروية الجيدة هي فضيلة الرجل الذي يحسن الأخذ بالنصيحة «الذي يبادر إلى الفعل وإلى القول»، في حين أن الفهم هو «الطريقة المثلى للإصغاء»، الأمر الذي لا يعد من المسلمات أصلاً، والذي يضطلع مع ذلك بدور رئيس في التجربة الهرمينوتيقية[19].
أما الشوق إلى الفهم، فهو من عمل عقل أقرب إلى أن يكون «متعقلاً» (raisonnable) من أن يكون «عقلياً» (rationnelle)، عقل قادر على النفاذ إلى المحسوس وإلى الجزئي، قادر على التعلم وعلى فهم الأسباب التي يفعل بمقتضاها شخص آخر. وإن كان الفهم يعني بادئ الأمر إلقاء السمع والصمت، واستراق السمع أو «السمع بأذن أخرى»، إلى حد القراءة بين السطور، فإن الأمر يتعلق بكفاءات تدعونا إلى إعادة التأمل في الزونيسيس (synesis) الأرسطية ضمن أفق فلسفة تأويلية.
وحتى إن لم يكن أرسطو ولا كانط من الذين استخدموا وصف «هرمينوتيقي»، فإن الفهم الذي تعتني به الهرمينوتيقا هو في قلب المشروع الفلسفي؛ وذلك أن الاشتراك المعنوي لعبارة «الفهم» لم يغب عن بال كانط، مثلما يدل على ذلك التمييز الذي يجريه بين المعرفة بالعقل (begreifen)؛ أي القدرة على جمع المفاهيم بواسطة الأفكار، والمعرفة بالذهن (verstehen)، بوصفها قدرة على جمع الإدراكات.
إن النظرية الكانطية في دعاوى الحس المشترك؛ أي «القواعد العامة التي يتعين مراعاتها للـفهم ولفهم النفس»[20]، تبين مقالة (نقد ملكة الحكم) التي مفادها أن «الإنسان إنما يختبر 'إنسانيته' في عمل الفهم»[21]. وأما الحس المدني (Geselligkeit) والقدرة على التواصل، فهما عنصران تتقوم بهما «إنسانية» (Menschlichkeit) لا خلاص للـفهم خارجها.
ومثلما بين ذلك كريستيان برنر Ch. Berner، فإن كل واحدة من هذه القواعد الكانطية تفترض فكرة عن الفهم[22].
فأما القاعدة الأولى («التفكير بالنفس»)، فتضعنا في مواجهة مشكل فهم النفس (auto-compréhension) الذي تناوله جان نابير (Jean Nabert) في مقالته: «هل يمكن للوعي أن يفهم نفسه؟»[23]، الذي كان قد دعا فيه الفلاسفة ليقبلوا «بأن أعلى حقائق الفلسفة قد كانت متحدة اتحاداً صميماً بحركة فهم النفس التي هي الفلسفة بعينها»[24]. ولقد تحدث نابير بهذا الخصوص عن «حيرة فهم النفس»[25]، فهم للنفس «هو حركة من حيث أخذته»[26]، لا يقبل أن يتجمد في معرفة موضوعية. أما حينما يتعلق الأمر «بعمل سائل هو وراء كل سؤال»[27]، فإن فهم النفس (se comprendre) «لا يحتمل أن يصار إلى اجتناب مأساة الحياة»، بالانسياق وراء «عذوبة الوجود»[28]. فحينئذ يمكن لنا أن نفهم بنحو أحسن أن «عمل الجرد» المستمر هذا يمكن له أن يشكل فضيلة قائمة بذاتها، من أجل أن «التوكيد اللامشروط لفهم النفس» يظهر على نحو من المفارقة «في الآن نفسه تسكينا للحيرة والعين التي لا تنفك تنبع منها»[29].
والذي لم تمسّه قط مثل هذه الحيرة، سيكون من العسير عليه أن يقبل بأن أقصر الطرق من النفس إلى النفس، إنما تمر عبر الغير، الأمر الذي تنبه عليه القاعدة الثانية، بالربط بين «التفكير بالنفس» (Selbstdenken)، وبين الشوق الذي هو أيضاً واجب يُلزم «بالاحتكاك فعلا بعقل الغير»؛ وذلك بالتفكير «في مكان كل آخر»، «لأجل أن تقع مواجهة حكم المرء بالعقل البشري برمته»[30]، وهو ما يمثل عند كانط «واجباً أخلاقياً أسمى».
أما الدعوى الثالثة: «أن نفكر في توافق مع أنفسنا»، فليست من الحشو كما يخيل إلينا؛ ذلك أنها تتحول إلى رسالة أخلاقية، متى تبين لنا أن حياتنا وأفكارنا نادراً ما تكون متسقة ومتماسكة، مثلما ينبغي لها أن تكون.
القضية 4: إن إرادة المعرفة والشوق إلى الفهم هي أبعاد متآصلة ومتكاملة من حياة الروح. فإن كانت المعرفة العلمية لا تفتأ تزيد من معرفتنا بالكون وبالإنسان، فإن فن الفهم الهرمينوتيقي هو في خدمة الشوق إلى الفهم المنشغل بإيضاح لغز الوجود البشري وفك رموز التعالي.
5. الفهم وسوء الفهم أو: من يخشى الخلافات؟
إن تغيير المنوال الذي يستعيض عن فن الفهم (ars interpretandi) القديم، بتحليل ترانسندنتالي لعمل الفهم، مأخوذاً في درجاته كلها ومتصوراً بأشكاله كلها، يحرر الطاقة الفلسفية للهرمينوتيقا، في الوقت الذي يضعنا في مواجهة لغز جديد: ذاك الذي يخص الصلة الجدلية بين سوء الفهم (Missverstehen) والفهم.
وفي رأي شلايرماخر، يجب أن يبتدئ المفهوم المحكم للهرمينوتيقا من المسلمة التي مفادها أنه «في حياتنا، كما في فكرنا، ليس لنا أن نفهم دوماً ولا أن نفهم كل شيء»[31]. ولعلنا أن نضيف فوق ذلك: أنه بمعنى ما، تكون الخلافات أو إساءات الفهم أكثر أصلانية من الفهم الذي يقتضي دوماً ضرباً من جهد أو من مداورة (détour) يصفها برنر بأنها «مداورة المعنى»؛ ذلك أنه لما كان «الفهم الخاطئ يظهر بنفسه تلقائياً وأن الفهم يتعين أن يكون مقصوداً ومطلوباً نقطة نقطة»[32]، كان الأمر يتعلق بمهمة كلية وبالأخص بعمل حقيقي. إن الحاجة إلى الفهم لا يشعر بها المرء فقط حينما يصطدم بمقطع صعب، «غير مفهوم»، أو بنص غير مقروء في جزء منه؛ وإنما هي من جنس كل تبادل بشري؛ ذلك أن سوء الفهم ليس عارض حين، وإنما هو خطر دائم يحيق بالتواصل؛ فهو يترصدنا باستمرار، لا حين نقرأ النصوص فحسب، ولكن ما إن نجرب أن نفهم ما يقول مخاطبونا، أو نسعى إلى أن نُفهم من جانبهم. والمتأوّل يأتي متأخراً جداً إن شاء أن يكتفي بإصلاح الخسائر؛ أعني بترميم مدارات التواصل حين يطرأ عليها انقطاع مؤقت. أما شلايرماخر، فيرى، عكس ذلك، أن «عملية الهرمينوتيقا ليس لها أن تبدأ حيث يصير الفهم أمراً غير يقيني فحسب، وإنما من البدايات الأولى للمحاولة التي تتمثل في إرادة فهم خطاب ما»[33].
«ليس ثمة من سعادة أعظم من أن يفهم المرء كل شيء، من أن يكون في بيته حيثما شاء -أن تكون له دراية بكل شيء- أن يجد مخرجاً حيث شاء». إن التعليق العميق الذي خصصه برنر لهذه المقابسة من نوفاليس Novalis[34] تحمل معنى دقيقاً لكل واحدة من العبارات التي تتألف منها:
- «أن يكون المرء في بيته أينما كان» (Être partout chez soi)، هو تحد ينبغي أن تطاوله كل فلسفة شأنها أن تقر العبارة الأرسطية: anima est quodammodo omnia [إن النفس من وجه هي الموجودات نفسها]*. فالعالم الذي نحن جزء منه هو في الآن نفسه عالم يتعين علينا فيه أن نتعلم كيف نهتدي [إلى سبيلنا]، وأن نقبل عليه من خلال تعدد المنظورات التي تناسب، عند دلتاي، «رؤى للعالم» (Weltanschauungen) متباينة.
- « أن تكون له دراية بكل شيء» (über alles Bescheid wissen)، أو أن يأتيه خبر كل شيء، لا يعني امتلاك علم جامع وموسوعي، وإنما أن نقبل أن يكون كل شيء من خاصة شأننا بنحو من الأنحاء.
- « أن يجد مخرجاً حيث شاء» (überall sich helfen können) وهو ما يتطلب دراية عملية لا تختزل في مجرد التحكم الصناعي.
إن «السمة الديناميكية للـفهم»[35] لا تظهر فحسب في تأويل الآثار الأدبية والفلسفية، وإنما هي تخص أيضاً الوجود- في-العالم الذي للدازاين (Dasein) الذي يستند إلى الرافعة الثلاثية للوجودانيات المتآصلة للوجدان (Befindlichkeit)، للـفهم (Verstehen)، وللحديث (Rede).
حينئذ تتحول الهرمينوتيقا إلى إله بوجهين (Janus bifrons)، إلى ضرب جديد من الفلسفة الثانية تضطرنا في الآن نفسه إلى إعادة التفكير في منزلة الفلسفة الأولى.
أما عند غادامر، فإن التحليل الأرسطي لفضائل [الاعتماد على] إخلاص النصيحة، والفهم الذي يلقي السمع للغير، وللتقدير التي يعترف بما للغير من مقام خاص مستحق للترفق، يوفر لنا منوالاً عاماً للمشكلات الهرمينوتيقية[36] التي يتعين على الفلسفة العملية، التي تحتل اليوم رتبة «الفلسفة الثانية» التي آثر بها أرسطو الطبيعيات، أن تضطلع بها. ونحن مضطرون، في واقع الأمر، إلى التساؤل إن كانت هذه النقلة الهرمينوتيقية للـفلسفة الثانية غير ذات تبعات على فكرة الفلسفة الأولى عينها؟
القضية 5: إن التجربة الهرمينوتيقية هي واحدة من المتجهات الرئيسة للشوق الميتافيزيقي الذي وصفه ليفيناس بأنه الشوق «إلى موطن لم نولد فيه». فالفهم يعني أيضاً التعالي، ولا تعارض بين الهرمينوتيقا والميتافيزيقا، على خلاف ما يسلم به أولئك الذين غاية همهم أن يجعلوا الهرمينوتيقا حصان طروادة لأفكار ما بعد ميتافيزيقية.
6. محنة الغريب ومضيف البعيد: الترجمة، التأويل، الفهم
فأما المؤول، على حد قول كانط، فيجب عليه «أن يمد إلى المؤلف، أو بالأحرى إلى الخير العام، يد العون»؛ ذلك أن من ضروب «سياسة اليد الممدودة» هذه الترجمة التي تستلزم، شأنها شأن التأويل، محنة الغريب. فبدلاً من أن نرى في فنون بعينها إجراءات فنية فحسب، كالأمر في فن الترجمة وفن الفهم والتأويل، فإنه من الأولى أن نرى فيها تجارب يتعين على التأويل الفلسفي أن يوضح طبيعتها[37]. فالتأويل، مثله مثل الترجمة هو «إبداع يجعل الأثر يبلغ تمامه»[38]. وأما الترجمة الحسنة، التي تقدّر الحرف، دون أن تنحط مع ذلك إلى نزعة حرفية، فهي «قربان يُتقدم به إلى النص الأصلي»[39]؛ مثلما أن التأويل الحسن، الذي لا يليق به أن يختزل في «شرح للنص» مدرسي، يسهم، هو أيضاً، في «تقوية»[40] (potentialisation) الآثار، بتثمين كمالها.
إن الترجمات الكبرى التي ظهرت في عهد المثالية الألمانية «لا تنفصل عن فكرة فلسفية خاصة بعمل الترجمة». «ما من ترجمة كبرى إلا وكانت هي أيضاً فكراً، إلا وكانت محمولة بالفكر؛ فالترجمة يمكن لها أن تستغني عن النظرية، لا عن الفكر»[41]. الأمر الذي يصدق على فن التأويل.
من وقت وجدت البشرية، أو على الأقل منذ التشتت البدئي للألسنة الذي تصوره أسطورة بابل، انتقلت الخطابات من لسان إلى آخر. يقول ريكور في حديث إذاعي مع كورنيليوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis)، إنه «لن يكون هنالك بشرية، وإنما أجناس بشرية مثل الكلاب والقطط. إن الذي يجعل وجود البشرية ممكناً، هو هذه المنقولية (traductibilité) المبدئية التي تعيد إنشاء اتصال المعنى ضمن انفصال الإنتاجات والتشكيلات».
في خطاب بعنوان في مختلف مناهج الترجمة[42]، يرفض شلايرماخر أن يختزل «النزوع إلى الترجمة» (Neigung zum Übersetzen) في المشكل الوحيد المتعلق بالمرور من لغة أجنبية إلى أخرى. أما روزنسفايغ (Rosenzweig)، الذي يعلن صراحة انتسابه إلى شلايرماخر، فيذهب إلى أن كل لغة حقيقية، تتجه إلى الآخر وتنصت إليه، هي من قبل «ترجمة بالفعل»[43]، وهي، إن جاز لنا أن نضيف، «إطلاق للشوق إلى الفهم. وقد يحدث لنا أحياناً أن نضطر إلى معاودة ترجمة أقاويلنا الخاصة بعد حين من الزمان إن شئنا أن نستردها بأنسب الطرق»[44]!
إن هذه المقالة في التكامل بين الدافع إلى الترجمة، وبين الشوق إلى الفهم تدفع إلى التمييز بعناية بين ممارستين غالباً من يصار إلى الخلط بينهما: «الترجمة الفورية» (Dolmetschen) و«النقل» (Übersetzen)؛ ذلك أن الترجمان (Dolmetscher) الحِرَفي، إنما يستظهر كفاءاته في «ميدان الأعمال»، وهو ينال عن خدماته أجرا يستحقه، في حين أن الناقل يسهم في الإنماء الثقافي في ميدان العلوم والفنون[45]. ولهذا السبب بالذات، يتعين عليه أن يتأمل فيما يفعل، الأمر الذي يمكن للترجمان الذي هو مجرد صاحب صناعة أن يستغني عنه.
ولقد آل الأمر بفن النقل وبفن الفهم إلى أن يندرجا تحت الرّاية نفسها، وأن يواجها المصاعب نفسها؛ فلا التلخيص ولا المحاكاة بموفيين بما هو مطلوب من مهمة أصلاً. والعملية، من حيث أخذتها، لا يمكن استيفاؤها دون قدر أدنى من التواضع؛ أي من القدرة على الامتثال إلى غربة لسان ما، وإلى رفعة أثر ما.
إن «النزوع إلى الترجمة» لا يمكن أن يرضى بأن ينفخ شعوراً غامضا بالغرابة في روح القارئ. فإنه يقتضي من الناقل تواضعا (Erniedrigung) وتنازلاً خاصاً (Entsagung)، على الضد من كل اتجاه إلحاقي، يقتضي بعبارة أخرى «فضيلة» خاصة، شبيهة بالضيافة. إن كل النَّقَلة ليس في مقدورهم أن يصدحوا بالعنصر الغريب في ألسنتهم الأصلية.
أما أن تكون هنالك ترجمات كثيرة لأثر بعينه (كما توجد تأويلات كثيرة له!)، فليس ذلك دليلا على امتناع ترجمة بالغة حد الكمال من حيث أخذتها، وإنما الأمر تعبير عن مهمة لا يمكن استكمالها بالطبع.
ولا يوجد ناقل بمنأى عن القوى المحرفة لإرثه الثقافي والأدبي الخاص، وهي التي «تحدد بنحو قبلي شوقه إلى الترجمة»[46]. فما يصدق على الشوق إلى الترجمة يصدق أيضاً على الشوق إلى الفهم، الذي يزين له دوماً أن يرد الغريب إلى المألوف. ولذلك كان شلايرماخر يلوم الفلاسفة لكونهم نادراً ما يتكلفون مشقة أن يفهموا، من أجل أنهم يفترضون أن الجميع يفهمهم بالضرورة.
ولما كان الظل الملازم لما لا يترجَم (intraduisible) لا ينفك يصاحب تجليات «النزوع إلى الترجمة»، كان «النزوع الهرمينوتيقي»، أعني الشوق الصميم إلى الفهم، آيلاً إلى الاصطدام باللامفهوم (incompréhensible) لامحالة. وليس ذلك بالسبب الداعي إلى التنكر لهذا الشوق الذي لا يختلط أبداً تمام الاختلاط بإرادة المعرفة، ولا بالحاجة إلى التفسير. إن التساؤل عن الضرورة الداخلية وعن الرغبات الواعية أيها يدفع بنا الى الترجمة والتأويل، ليس مسألة زائدة عن اللزوم؛ وذلك هو الحال إن نحن جمعنا النزوع إلى الترجمة إلى «مطلوب ميتافيزيقي» يصفه برمان، تصادياً مع ما وصفه به فالتر بنيامين، على أنه تطلع إلى تحويل نقمة بابل إلى نعمة: «أن نبحث، وراء تكاثر الألسنة التجريبية، عن 'اللغة الخالصة' التي يحملها كل لسان في ذاته كأنها صدى انتظاري»[47].
ولما كانت ماهية الترجمة عينها «انفتاحاً، وحواراً، وتهجيناً، وخروجاً عن المركز» وكانت نحواً من ربط العلاقة، انطوت بالضرورة على «مقصد أخلاقي»[48]، يرجع الأمر فيه إلى الاعتراف بغيرية الغير. يقتضي هذا «المقصد الأخلاقي أن يتخلى المترجم عن مجرد البحث عن تكافؤ يغطي "الغرابة" التي ينطوي عليها كل لسان. أما الحرص على الأمانة الذي يحركه، فهو، في هذه الحالة، ملازم "للشوق إلى فتح الغريب من حيث هو غريب على الفضاء الخاص للسانه»[49]. مثل هذا الشوق ليس من المسلمات أبداً؛ ذلك أنه يقتضي «تربية على الغرابة» ليست فحسب من شأن للمربين، وإنما هي في عهدة السياسيين أيضاً.
ينبه ريكور، متحدثا عن تجربة الترجمة، على «وجود شيء غريب في كل آخر»[50]. إن هذا الاقتناع مزعج للاستيهامات الهُووية، لا فحسب فيما يخص العلاقة بالغير، وإنما فيما يخص العلاقة بالنفس ذاتها حتى وإن بدا في الأمر من المفارقة ما فيه. فإنه عند الذي يسلم «بالفرق القاطع بين المألوف والغريب»[51]، لا يوجد قط ربح بغير خسارة، من أجل أن «حداد الترجمة المطلقة هو الذي يصنع فرحة الترجمة»، حينما تكون «لذة الإقامة في لسان الغير، حيث تعوضها لذة أن يستقبل المرء عنده، في ما له من بيت ضيافة خاص، كلام الغريب»[52].
إن هذه التأملات التي تخص آداب الترجمة والتأويل لها أيضاً أثر على الفكرة التي اصطنعناها عن أوروبا من حيث هي إقليم جغرافي، وفضاء ثقافي ومشروع مؤسسي، تصور الإدارة الكارثية لأزمة الهجرة نواقصها. فهل هي قلعة ينبغي لها أن تحمي نفسها وراء أسوار يعسر اجتيازها، أم إن رسالتها أن تكون شبيهة بما سماه برمان تسمية رائقة، صدى التروبادور الأوكسيتاني جوفر رودال (Jaufre Rudel)، «مضيف البعيد»؟ إن «مضيف البعيد» الذي عمل المترجم على بنائه بجهد وعناء، بأن جعل فيه قدراً أعلى من روح الضيافة والاستقبال، ليست على نحو المضيف الإسباني الذي لا يوفر للمسافرين غير ملجإ مؤقت أو للحجاج الذين يقدمون لاستهلاك الغذاء الوحيد الذي يصلح عندهم، أعني لسانهم هم!
إن هذه الأطروحة تفضي إلى اختيار «سياسي» (على معنى «السياسة الثقافية») يعبر عن نفسه برفض مزدوج: رفض الإنجليزية الرسمية من حيث هي «لغة دولية ثانوية» (أ. إيكو)، «لغة لا أحد» (no man’s langue) التي هي الإنجليزية النمطية لورقات البحث المقدمة في نطاق المؤتمرات الدولية، أو المستخدمة في المبادلات التجارية، تماماً كاستبعاد «نزعة قومية أنتولوجية» (ج.ب. لوفافر J.P. Lefebvre) استبعادا قاطعاً إذ تقدس بعض الألسنة، بأن تسبغ عليها عمقاً أنتولوجياً لا تتمتع به ألسنة أخرى.
القضية 6: بغض النظر عن الفوارق كلها، فإن الهرمينوتيقا وعلم الترجمة يفترضان عين التجربة الأساسية: «محنة الغريب» التي تثير الشوق الهرمينوتيقي للـفهم الأحسن، و«النزوع الى الترجمة» سواء بسواء. أما الضيافة اللغوية التي هي أساس عمل الترجمة، فهي المنوال الأخصب لكل مبادلة بين الثقافات تتجاوز وعود الألفاظ. هاهنا نحو هرمينوتيقي وأخلاقي للعمل بوصية من الوصايا أتت بها آية من الرسالة إلى العبرانيين: «وَلَا تَنْسَوْا الضِّيَافَةَ، فَبٍهَا أَضَافَ بَعْضُهُمْ المَلَائِكَةَ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ». (العبرانيين 13: 2).
* Jean Greisch, « Ellipses herméneutiques: esquisse d’une herméneutique more geometrico demonstrata»
[1]- Daniel Bolliger, Methodus als Lebensweg bei Johann Conrad Dannhauer. Existentialisierung der Dialektik in der lutherischen Orthodoxie (Historia Hermeneutica. Serie Studia hermeneutica), Berlin, de Gruyter, 2020
* camisole de force: نوع من لباس يقيد حركة اليدين (المترجم).
[2]- Denis Thouard, « Modi interpretandi. Clés et méthodes dans l’herméneutique de la première modernité: Mathias Flacius Illyricus, Joseph Mede et Isaac Newton », in: Mitteilungen des SFB 573 Pluralisierung und Autorität in der Frühen Neuzeit, 2006, p. 15-23
[3]- Jean-Pierre Vernant, « Hestia-Hermès. Sur l’expression de l’espace et du mouvement chez les Grecs », in Mythe et pensée chez les Grecs. Etude de psychologie historique, Paris, Maspero, 1965, p. 97-143
[4]- Ibid., p. 99
[5]- Ibid., p. 101
[6]- Ibid., p. 138
[7]- Friedrich D. E. Schleiermacher, Herméneutique, trad. Ch. Berner, Paris, Cerf, 1987, p. 161
[8]- Ibid., p. 162
[9]- Ibid., p. 163
[10]- Jean-Luc Nancy, Le partage des voix, Paris, Ed. Galilée, 1982, p. 51-90
[11]- H. G. Gadamer, G.W.10, p. 366
* أرسطو، دعوة إلى الفلسفة، قدمه للعربية مع تعليقات وشرح د. عبد الغفار مكاوي، بيروت، دار التنوير [د.ت.].
[12]- Rémi Brague, Aristote et la question du monde, p. 102
[13]- Ibid., p. 73
[14]- Ibid., p. 90
* أرسطو، دعوة إلى الفلسفة، ص ص 69-70 (بتصرف طفيف).
[15]- بخصوص ما بين هذه الفضائل المتشابهة من الروابط، انظر:
M. Narcy, « Être de bon conseil et savoir écouter (Ethique à Nicomaque, VI, 10-11) » in: Jean-Yves Château (éd.), La vérité pratique. Ethique à Nicomaque, Livre VI, Paris, Vrin, pp. 117-135
* أرسطوطاليس، الأخلاق، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمان بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، 1979، ص 224
[16]- Pierre Aubenque, La prudence chez Aristote, p. 151
[17]- Jacqueline de Romilly, La douceur dans la pensée grecque, Paris, Les Belles Lettres, 2011.
[18]- M. Narcy, Art. cit., p. 132
[19]- Ibid., p. 118
[20]- Ibid., p. 127
[21]- Ibid., p. 128
[22]- Christian Berner, Le détour du sens, p. 123-190
[23]- Texte repris dans: Jean Nabert, Le désir de Dieu, Paris, Ed. du Cerf, 1996, p. 381-446
[24]- Ibid., p. 417
[25]- Ibid., p. 413
[26]- Ibid., p. 415
[27]- Ibid., p. 423
[28]- Ibid., p. 422
[29]- Ibid., p. 441
[30]- Critique de la faculté de juger, V, 293
كانط، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005، ص 215 (بتصرف).
[31]- Christian Berner, Au détour du sens, p. 20
[32]- Ibid., p. 123
[33]- Friedrich Schleiermacher, Herméneutique, p. 74
[34]- Ibid., pp. 13-15
* كتاب النفس لأرسطوطاليس، 431 ب31 (ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2015، ص 119).
[35]- P. Szondi, Introduction à l’herméneutique littéraire, Paris, Cerf, 1989, p. 105
[36]- Hans-Georg Gadamer, G.W. 1, 329 ; tras. fr. p. 346
[37]- Ibid., p. 17
[38]- Ibid., p. 293-294
[39]- A. Berman, 1995, 91-92
[40]- Ibid., p. 283
[41]- Ibid., p. 17
[42]- F.D.E. Schleiermacher, Über die verschiedenen Methoden des Übersetzens / Des différentes méthodes du traduire, trad. A. Berman, édition bilingue, éditée par Christian Berner, Paris, Ed. du Seuil, 1999, p. 30-93
[43]- Franz Rosenzweig, « L’écriture et Luther » in: L’écriture, le verbe et autre essais, trad. J.-L. Evrard, Paris, PUF, 1988, p. 55
[44]- Des différentes méthodes du traduire, p. 33
[45]- Ibid., p. 35
[46]- Ibid., p. 49
[47]- L’épreuve de l’étranger, p. 21
[48]- Ibid., p. 21
[49]- La traduction et la lettre, p. 75
[50]- Paul Ricoeur, Sur la traduction, p. 32
[51]- Paul Ricoeur, Sur la traduction, p. 10
[52]- Ibid., p. 11