أوهام حول أبو حامد الغزالي (ت 505هـ)
فئة : مقالات
أوهام حول أبو حامد الغزالي (ت 505هـ)
تمهيد
"حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام، جامع أشتات العلوم والمبرز في المنقول منها والمفهوم ... أخمد من نيران البدائع كل ما لا تستطيع أيدي المجالدين مسها ... جاء والناس إلى رد فرية والفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء وأفقر من الجدباء إلى قطرات الماء. فلم يزل يناضل عن الدين الحنيفي بحلاوة مقاله ويحمي حوزة الدين، ولا يلطخ بدم المعتدين حد نصاله حتى أصبح الدين وثيق العرى وانكشفت غياهب الشبهات".[1]
هكذا قدم لنا تاج الدين السبكي، المؤرخ الشافعي، صورة أبي حامد الغزالي، صورة يرتبط فيها النضال عن الدين بإظهار زيف الفلاسفة الذي هو مرادف لنيران البدائع.
تمتاز الغزالية، من بين ما تمتاز به، اضطرابات وتناقضات ومفارقات، وإشكاليات، ويمثل أبو حامد نفسه إشكالية ضخمة من تلك الإشكاليات، من حيث كل حياته. تظهر تلك الجموع كأنها سلبيات مع أن منها تتكون عملاقية الغزالي. إنها مميزات دائمة الحضور في جميع ما يتعلق بالغزالية كنسق وكسلوك وكتجربة، من حيث التأثر والتأثير، في ميدان الفلسفة، وفي التصوف، وفي كل الميادين.
إن الغزالي وبتعبير المستشرق البارون كارا دي فو Baron Carra de Vaux[2]، استطاع أن يبلغ هذه القمة من قمم الشوامخ في تاريخ الإنسانية؛ لأنه كان عقلا كبيرا من جهة، وكان طالبَ علم من الطراز الأول من جهة أخرى، فقد حاول ـ صادقا ومجاهدا وباذلا أقصى جهده ـ أن يعلم كل شيء، فدرس ما عند الفيلسوف، والملحد والزنديق والمبتدع، والسني والشيعي والباطني، والفقيه والمتكلم والصوفي[3] ...
إنه يُمثل العقل المتفتح، الباحث عن كماله، المتقدم إلى كل باب. يطرق الأبواب جميعا أينما خُيل له أن هناك سراجا يستصبح به. فهو رحمه الله نازل الفلاسفة ومعه سلاح الأصولي، وبين تهافتهم وهي جريمة لا يغفرها له فلاسفة هذا الزمان، فيرونه نموذجا للظلامية في الفكر الإسلامي.
ولما كان الرجل بهذه المكانة، اختلفت وتضاربت الآراء حوله قديما وحديثا خاصة في المجال التداولي الفلسفي، بين من يرى فيه فيلسوفا أصيلا، ومن يذهب إلى أنه أحدث في الفلسفة جرحا غائرا وألحق بالفلاسفة في الإسلام أذى كثيرا.
فإلى أي حد تصح هذه الروايات؟ وهل حقا وجه أبو حامد ضربة قاضية للفلسفة لم تقو على القيام بعده؟
1- عصر الغزالي
إن من اليقين الثابت أن الإنسان ابن وقته وبيئته، وتأثره بها من المسلمات التي يسلم بها علماء الاجتماع البشري، ولذلك لكي نفهم شخصية أي عَلم ومواقفه وآراءه، بل أي إنسان، فإن ذلك الفهم لن يحصل لنا ولن يكتمل لنا إلا بمطالعة عصره، فإذا أردنا مثلا أن نعلم ونفسر شيئا من مواقفه السياسية، فلا بد من مطالعة عصره السياسي، ونعلم كيف كانت الأوضاع فيها؟ هل هي مستقرة؟ أم بها اختلالات؟، ونفس الشيء أيضا عن العصر الاقتصادي والثقافي والعلمي، والذين يكون ازدهارهم وتدهورهم في الغالب رهينا بالعصر السياسي.
لذلك من الطبيعي، أن نعنى بالتعرف إلى عصر الإمام الغزالي في إيجاز؛ لأن أحداث الزمن وأحواله وتقلباته، تلقى وبدون شك أضواء على الجوانب الفكرية التي تعنينا قبل غيرها من الجوانب.
تميز عصر الغزالي باضطرابات سياسية ودينية وفكرية حادة، وكثير من مواقفه وكتبه ارتبطت بضرورات عصره: كالصراعات بين أفراد الأسرة السلجوقية الحاكمة، وثورات الحركات الباطنية الدموية، والصراعات المذهبية السنية فيما بينها، والفتن بين السنة والشيعة، والغزو الصليبي. كل هذا اجتمع في عصر هذا الإمام رحمه الله. ففي سنة مولده، تم خلع الخليفة العباسي القائم بأمر الله والخطبة للمستنصر بالله العبيدي؛ وذلك بعد ما ثار البساسيري[4]، وأصبحت بغداد في قبضته بأمر من المستنصر[5]. وقد ناجزهم القائم بأمر الله، غير أنه لم يستطع التغلب عليهم.
وهذا أمر مقلق في تلك الفترة، فالخلافة العباسية في ذلك الوقت بالنسبة إلى أهل السنة هي القلب النابض، وقد ساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد ونصروا مذهبها السنّي بعد أن أوشكت على الانهيار بين النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق، والنفوذ العبيدي (الفاطمي) في مصر والشام، لكنها هي الأخرى -الدولة السلجوقية- شهدت الكثير من الاضطرابات نتيجة الصراعات الداخلية، فقتل في البداية الملك طغرل بك[6]، فخلفه ابنه ألب أرسلان، فتوالت الفتن الداخلية بينه وبين ابن عمه قطلمش بن إسرائيل، وكان ألب أرسلان سلطانا عادلا كانت له حسنات ظاهرة، فتح الله على يديه بلدانا عدة، وكانت مواقعه مع البزنطيين مشهودة وخاصة معركة كرد[7].
وكان للسلطان وزير يؤازره واسمه نظام الملك، ولم يكن وزيرا فحسب، وإنما كان عالما صاحب رأي سديد وهو من أنشأ المدرسة النظامية[8]، ولما مات إمام الحرمين عام (ت478هـ)، خرج الغزالي إلى المعسكر قاصدا الوزير نظام الملك، وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من سنّه، وقد ظهر فضله وذاع صيته، وكان مجلس الوزير مجمع أهل العلم، وملاذهم، وكانت المجالس حتى المآتم لا تخلو من المناظرات الفقهية، والمطارحات الكلامية، فناظر الغزالي الأئمة العلماء في مجلس نظام الملك، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقّاه الصاحب بالتعظيم والتبجيل، وولّاه تدريس مدرسته النظامية ببغداد، وكان ذلك غاية ما يطمح إليه العلماء، ويتنافسون فيه، فقدم بغداد وفي سنة أربع وثمانين وأربعمئة، ولم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وقلّما تقلّد هذا المنصب الرفيع عالم وهو في هذا السن، درس الغزالي بالنظامية، وأعجب الخلق حسن كلامه، وكمال فضله، وفصاحة لسانه، ونُكتة الدقيقة، وإشاراته اللطيفة وأحبوه.
يقول ابن كثير: "وفي جمادى الأولى قدِمَ الشيخ أبو حامد الغزَّالي الطوسي من أصبهان إلى بغداد على تدريس النِّظامية بها، ولقَّبه نظامُ الملك زينَ الدين شرف الأئمة، قال ابن الجوزي: وكان كلامه معسولا وذكاؤه شديدا"[9].
وبعد وفاة ألب أرسلان تولى الحكم بعده ملشكاه، والذي اتصف بالحنكة وحسن التدبير والتدين الظاهر والباطن وكانت له صولات وجولات في ميدان الجهاد.
رافق هذه الأحداث السياسية ظهور خطر الإسماعيلية الباطنية الذين قتلوا كثيرا من العلماء والأمراء، ولم يسلم من بطشهم حتى الوزير نظام الملك، فقتلوه، ثم قتلوا ابنه فخر الملك.
وكانت هذه الطائفة الباطنية دموية، تغدر علماء أهل السنة بشكل خاص، وكل من تصدى لهم، وقد قام نظام الملك بكل ما وجب لإيقاف مسعاهم؛ وذلك بنشر العلماء وبناء المدارس...
ولكن هذه الحركة الإسماعيلية كسبت شيعا وأنصارا، وأصبحت مؤسسة في غاية السرية يرهب جانبها وتخشى غائلتها، حتى أصبحت قوة تحسب لها الإمارات الإسلامية حسابا كبيرا، لكن التحول الخطير كان عام 482هـ حين أسس الحسن بن الصباح الدولة الإسماعلية النزارية بعد استيلائه على قلعة ألموت، وهي حصن جبلي موجود في وسط جبال البرز أو جبال الديلم جنوب بحر قزوين.
وقد كان للإمام الغزالي الدور الكبير في الرد على هؤلاء وإظهار عوار معتقداتهم، فألف كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" بأمر من الخليفة المستظهر بالله[10].
ثم كانت الفتن المذهبية والعقدية بين أتباع المذاهب، فكانت الصراعات بين السنة والشيعة، وفي ذلك يقول أبو الفرج بن الجوزي حاكيا عن واقع أهل السنة والشيعة وما دار بينهم من قتال سنة 478هـ: "وفي هذا الشهر: ثارت الفتنة بين السنة والشيعة، وقتل جماعة منهم أبو الحسن بن المهتدي الخطيب، وكانت الوقعة بين جامع المنصور والقنطرة العتيقة"[11].
وفي نفس هذه الأحداث، بدأ الغزو الصليبي على ديار الإسلام، فنجحوا في السيطرة على طليطلة، ثم سيطروا على بيت المقدس عام 492هـ، يقول في ذلك ابن الأثير: "وقتل الفِرِنج، بالمسجد الأقصى، ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعبّادهم، وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف ... وورد المُستنفرون من الشام، في رمضان، إلى بغداد صحبةُ القاضي أبي سعد الهروي، فأوردوا في الديوان كلاما أبكى العيون، وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا وأبكوا، وذُكر ما دَهَم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا"[12].
وبالجملة يمكن القول إن الرجل نشأ في بيئة الفتنة المتعددة الوجوه والألوان، فدولة وراثية اتخذت القرابة النبوية واجهة للاستبداد أدركها الغزالي، وهي في طور الانهيار، وفكر جاهلي طاغ متأله، وانشقاق في الأمة مزمن يندس في شطريه الرئيسيين دعاة الباطل المتلبسون بالحق من باطنية ومتصوفة متسولة طفيلة.
وفي معرض هذا التطاحن الفكري والسياسي، لم يكن الغزالي فيلسوفا مجردا يفكر خارج الزمان والمكان، بل كان منغمرا، قبل كل شيء في مشاكل عصر، ملتزما بتسخير مواهبه ومجهوده في سبيل معالجتها. وهذا ما جعل أسلوبه يلتهب بتلك اللهجة الحادة، لهجة الجدل والمناقشة والإقناع، وهذا ما جعل بعض المؤرخين السطحيين المتسرعين في الحكم يرون فيه رجلا متعصبا، عدو للفكر وداعي للجمود كما سنوضح ذلك، وهي اتهامات ما وُجهت إلا لكونه مفكرا استطاع أن يحدث تأثيرا فعليا وعميقا في تاريخ الأمة.
2- أوهام حول الغزالي
بادئ ذي بدء ينبغي لنا أن نسلم لفكرة مفادها أن: قراءتنا للغزالي لابد أن نميز فيها بين موقفين، موقفه من الفلاسفة، وموقفه من الفلسفة حتى لا نقع في التخبط؛ فالأول -أي موقفه من الفلاسفة- واضح وبيّن لا يمكن إنكاره، فالغزالي فعلا هاجم الفلاسفة، وهجمته تلك لا يمكن تفسيرها إلا كونها كانت خالصة وصادقة ليس من وراءها إلا الرغبة في بيان الحقيقة والدود عن الدين. أما الثاني -أي موقفه من الفلسفة- فقول إن الرجل تنكر للفلسفة ووجه لها ضربات متتاليات أمر غير مقبول ويحتاج لأدلة قوية؛ لأن شهادة نصوص الرجل المتأخرة منها وشهادة اللاحقين عليه تدحض قولهم.
فمن الخطأ القول إن الفلسفة بعد الغزالي اضطرت إلى الارتحال إلى غرب العالم الإسلامي، أو بتعبير آخر: الغزالي ساهم في تدهور الفلسفة، بعد أن ألف كتابه "تهافت الفلاسفة"، كما أنه من الخطأ القول إن الفلسفة لم تستطع أن تقوم على رجليها بعد الضربات التي وجهها الغزالي، "بل إنها بقيت تستطيع أن تقوم بالشرق ولم يصبها أي مصاب بدليل أن تلامذة ابن سينا تعاقبوا بالمشرق إلى يومنا هذا، وما أخرجه أصبهان من تآليف كبيرة تدل على أن هذا الاستمرار لم يكن مشوبا بنوع من التنازل ولا مقتصرا على أعمال من قبيل المختصرات"[13].
ولست أدري سبب رمي الغزالي بأنه هو المسؤول عن مصاب العالم الإسلامي في عهد الانحطاط من تدهور فكري، فإن لذلك أسبابه وعوامله المختلفة التي يبرزها التحليل التاريخي بوضوح، فإنه من الغباء حقيقة أن يُعتقد أن فردا واحدا قادرا على التسبب في تخلف أو تطور عميق دام لقرون طويلة، فالعقم الفكري الذي أصيب العالم الإسلامي حقبة الغزالي هو تعبير عن أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، لابد من الوقوف عليها وتحليلها لإدراك تأثيراتها المختلفة، وليس إطلاق دعاوى فارغة من تحليل تاريخي عميق. فلا يجوز وضع الفلسفة كفلسفة وضعا مساويا لأفكار معينة أتيح لها الانتشار والقبول على الصعيدين التاريخي والاجتماعي.
وإذا رجعنا الآن إلى بعض الباحثين الأوروبيين من جيلنا المعاصر، واستمعنا إلى ما يقولونه عن الغزالي، نفاجأ ونشعر بنوع من التقدير والإعجاب لم نكن ننتظرهما.
يقول دي بورde Boer: "كثيرا ما يقال إن الغزالي قضى على الفلسفة في الشرق قضاء مبرما، لم تقم بعده قائمة، ولكن هذا زعم خاطئ لا يدل على علم التاريخ، ولا على فهم لحقائق الأمور"[14].
ومثل هذا القول أشار إليه أيضا المستشرق هنري كوربان لما كتب "ليبدو من المبتذل القول إن هذا النقد، كما قيل في القرن الماضي قد وجه للفلسفة ضربة لم تقم لها بعدها في الشرق قائمة"[15].
إضافة إلى هذا الوهم الذي لا يستند إلى دليل شاف وكاف، نجد اتهاما آخر للرجل شائعا في تاريخ الفلسفة، بل ولا يزال له أنصار إلى يوم الناس هذا. يرى أن الغزالي لا يعد فيلسوفا؛ وذلك لأنه قد هاجم الفلاسفة أصحاب الاتجاه الإغريقي- وخاصة في كتابه "تهافت الفلاسفة"- هجوما عنيفا قاسيا، كان من عواقبه أن ما يسمى بالفلسفة في الإسلام لم يعد يسمع لها صوت منذ ذلك الحين.
وإذا كانت البحوث الحديثة قد جاءت لتكشف عن خطأ هذا الرأي، نجد رغم ذلك أن هذا الرأي الخطأ يظهر مرة ثانية في صورة أخرى؛ وذلك بادعاء أن الغزالي، وإن كان لم يعلن الفلسفة إلا أنه مع ذلك لا يمكن الحديث عن أنه فيلسوف؛ لأنه فقط أجاز الفلسفة (كما أجاز التصوف أيضا)، لكي ينتزعهما من معسكر المبتدعة ويضمهما للإسلام السني.
ومن عجيب ما وقفت عليه في هذا الباب قول الأستاذ زكي مبارك في كتابه "الأخلاق عند الغزالي" بأن أبا حامد "درس الفلسفة، ولكنه درسها بنية سيئة، درسها ليسبر غورها، ثم ينشر مساوئها في العالمين".[16]
ويتابع الأستاذ زكي مبارك هجمته ووهمه حول الرجل، فيقول: "وإنه لا حرج علينا أن نقرر أن الغزالي أصلى الفلسفة نار العقوق، فقد كانت سبب حصافته، وذيوع صيته، ثم اطمع فيها العامة، ومكن الجهال من تصغير الحكماء، وليس تكفيره لابن سينا والفارابي بالأمر الهيّن، وإن فعلته تلك لتحسب بذرة هذه التقاليد الممقوتة التي يعانيها المفكرون الأحرار في جميع الأقطار الإسلامية منذ حين".[17]
إلى أن خلص بقوله في الرجل إنه "كان فتنة من فتن العصور القديمة، وقد نسي العلماء في الدفاع عنه أن هناك عقلا يجب أن يحكم وأنه لن يخلو العالم من أصحاب العقول ولو كره الجامدون"[18].
ومثل هذه الادعاءات جاء به يوحنا قمير Yūḥannā Qumayr في كتابه "الغزالي: دراسات مختارات" لما اعتبر "الغزالي قد حمل على الفلاسفة فكفرهم وضللهم، وحاول إظهار عجز العقل عن إدراك كل حقائق الوحي، والحق ان العقل محدود القوى، وأن الله قد يوحي للناس ما لا يناله عقل أو يفهمه. والحق أيضا أن الفلاسفة قد توغلوا في التأويل، فشرحوا بعض عقائد الإسلام على غير وجهها ...لقد تأثر الغزالي بنزعة فقهاء عصره ومتصوفيه، فهاجم الفلسفة جملة، وما درى أنه يهاجم العقل جملة، فيوقف كل استنباط فكري، وكل تقدم ورقي"[19].
إننا في الحقيقة نخشى أن يكون تهافت هؤلاء وسواهم، أكثر من تهافت الفلاسفة الذين سبقوا الغزالي وعاصروه. فهذه الادعاءات لا تعدو سوى خلط وخبط، من دون وجود دليل ورؤية ثاقبة في الأوهام التي يحملوها على الرجل، ثم إن لنا قول في كل نقطة أو بالأحرى في كل اتهام ووهم وجه لصاحب الإحياء.
أولا: نعم، نعترف أن الغزالي رحمه الله لم يعتبر نفسه فيلسوفا، ولكن باقي الاعتراضات الأخرى الموجهة له بالجزم أنه لا يمكن اعتباره كذلك ينبئ عن فهم خاطئ للفلسفة كفلسفة. فمن الممكن أن يكون هناك مفكر لا يدعي لنفسه صفة الفلسفة، وهو في الواقع يستطيع أن يعتبر نفسه فيلسوفا، في حين أن هناك كثيرين يزعمون أنهم فلاسفة، وهم أبعد كل البعد عن هذه التسمية.
ثانيا: إن الزعم القائل إن الرجل حاول إظهار عجز العقل بما ألف وأنه فتنة من فتن العصور، فيُجاب على ذلك بأن الغزالي نفسه لما ألف كتابه "التهافت" قد أراد أن يُفهم أن الأفكار التي حوت الكتاب هي نقد وهدم للتعاليم المتناقضة للفلاسفة العرب الأرسطيين، ولم يرد به التعبير عن إنكار الفلسفة والعقل السليم.
ودليلنا هو عنوان الكتاب نفسه "تهافت الفلاسفة"؛ فكلمة «تهافت» أشار معظم الباحثون الأوروبيون إلى أن معناها هو: التساقط المتتابع، أو التناقض وضعف الانسجام.
واقرأ إن شئت ما جاء في القاموس المحيط للفيروزآبادي (ت817هـ)[20]، وفي لسان العرب لابن منظور (ت711هـ)[21]، وفي أساس البلاغة للزمخشري (ت538هـ)[22]، وفي تاج العروس للمرتضى (ت 1205هـ)[23]: هفت الشيء هفتا تطاير لخفته، وتهافت الفراش في النار: تساقط، وتهافت الثوب: تساقط وبلى، وتهافت الناس في الشيء تساقطوا، وهفت هفتا، تكلم كثيرا بغير رواية، والهفت الكلام الكثير الذي لا روية فيه.
والغزالي يستعمل لفظ «التهافت» مضافا إلى الفلاسفة أحيانا، ومضافا إلى كلامهم أحيانا أخرى، أو مسالكهم أو اعتقاداتهم، وهو يقرن كلمة تهافت بكلمة تناقض وعجز، وهو ما لح عليه في كتابه "تهافت الفلاسفة"، حيث كان غرضه بيان تناقض كلامهم.
ومن أهم البحوث المفيدة في هذا الباب ما كتبه المستشرق الإسباني بلاثيوس Miguel asin placios حيث استنتج أن معنى كلمة «تهافت» بالنسبة إلى الإنسان والحيوان ليس معناها التساقط، بل التسرع في عمل شيء يلحق بصاحبه ضررا.
ويخلص بلاثيوس إلى رؤية مفادها: أن الغزالي حين سمى كتابه "تهافت الفلاسفة" كان يريد أن يمثل لنا أن العقل الإنساني يبحث عن الحقيقة، ويريد الوصول إليها، كما يبحث البعوض عن ضوء النهار، فإذا أبصر شعاعا يشبه نور الحقيقة، انخدع به، فرمى بنفسه عليه وتهافت فيه، ولكنه يخطئ مخدوعا بأقيسة منطقية خاطئة، فيهلك كما يهلك البعوض (أي العقل). فكأن الغزالي يريد أن يقول إن الفلاسفة خدعوا بأشياء أسرعوا إليها بلا إعمال ولا روية، فتهافتوا وهلكوا الهلاك الأبدي[24].
ثم كيف يمكن له إنكار الفلسفة وهو في إحيائه ذكر أقوال الفلاسفة وما وافق الحق منها ورد ما خالفه، وكان هذا سببا رئيسا في انتقادات وجهت إلى الكتاب[25]، بل إنه رحمه الله يعترف للفلاسفة بيقين الرياضة والمنطق، ولكنه يرى علومهم الإلهية ليست من هذا النوع، فهم إنما يحكمون فيها بظن وتخمين، يقول: "ولو كانت علومهم الإلهية متفقة لما اختلفوا فيها في الحسابية"[26]، وهو ما يبين دافع الرجل في تأليف التهافت أو غيره، وأن ذلك لم يكن بنية الهدم كما ادّعوا، أو ضرب تعاليم الفلسفة؛ لأنها تشكل خطرا على العقيدة، بل هناك ما هو أكبر. فقد رأى ان الفلاسفة لم يحافظوا على وحدة العقل، حيث إنهم - بعد أن وضعوا في المنطق شروط التفكير الصحيح- لم يستوفوا تلك الشروط الضرورية في علومهم الإلهية. يقول صمويل زويمر Samuel Zwemer في كتابه "الغواص واللآلئ": "إن إخلاص الغزالي ونشاطه العقلي البديهي كما ظهر في مؤلفاته... يؤكد ويبين الأسباب التي جعلت للغزالي تأثيرا عميقا يفوق جدا تأثيرات الفلاسفة الذين يبحثون في الأمور العقلية الخالصة. فبينما نحن لا نرى أثرا لتعضيد الغزالي للفلسفة التعليمية نراه يشجع الفلسفة العقلية"[27].
وقد كان هناك في عصر الغزالي بعض العلماء الذين ذموا الفلسفة اليونانية بخيرها وشرها، واعتبروها كفرا وزندقة، وفي الوقت نفسه رفضوا المنطق أيضا بوصفه من علوم هذه الفلسفة. وتصدى الغزالي لهذا الأمر، فعرض وبشكل مفصل حقيقة المنطق وأن علماء الكلام استخدموه[28]. فأين هو هذا الوهم وهذا الزعم من تغييب الرجل للملكة العقلية أو من ضربه لكل التعاليم الفلسفية التي كانت في عصره؟
وعموما، فهذا الموقف "السلبي" الذي وقفه الغزالي من الفلاسفة يبلغ حدا من الاحتدام يعجب له كل من عرف الغزالي ونفسه العالية كما يعبر بذلك المستشرق دي بور[29].
ثالثا: اقتحام الغزالي لهذه المداخل التي تقدمت لم يكن عن جهل أو عبث، ودليلنا أنه لم يكتب "تهافت الفلاسفة" إلا بعد أن كتب نصا وصفيا لبنية الفكر الفلسفي تحت عنوان "مقاصد الفلاسفة"، وهو درس من الغزالي ينبغي التنبه له، حيث لا يجوز لمنتقد مذهب أو فلسفة أن يكون جاهلا بها، بل لابد له من أن يدرك ابتداء مقصدها ودلالتها دراية دقيقة، بل ذهب الغزالي إلى حد القول إن ناقد الفلسفة، لابد من أن تكون معرفته بها أكبر من معرفة الفيلسوف نفسه، لا مساويا له فحسب. "...وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فسادها حقا "، كما يؤكد "أن رد المذهب قبل فهمه، والاطلاع على كنهه، رمي في عماية"[30].
هذا الفهم الغني والنقد البناء الذي استخدمه الغزالي في كتبه، ملفت للانتباه. لذلك لا ضير أن نجد المستشرق الفرنسي برناند bernandيعجب بطريقة الغزالي في نقده وتحليله، بل تجاوزت الإعجاب إلى حد الإبهار Romarquable كما عبر[31].
استنتاج
_إن أبا حامد، وبشهادة هنري كوربان Henry Corbin كان من ألمع الشخصيات، ومن أنبغ المفكرين الذين ظهروا في الإسلام، يشهد بذلك اسمه الفخري: حجة الإسلام.
_إن أبا حامد الغزالي منع تدفق تأثير الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري وما بعده.
_لم يكن دافع الغزالي رحمه الله من النقد ضرب تعاليم الفلسفة لأنها تشكل خطرا على العقيدة، بل هناك ما هو أكبر. فقد رأى أن الفلاسفة لم يحافظوا على وحدة العقل، حيث إنهم- بعد أن وضعوا في المنطق شروط التفكير الصحيح- لم يستوفوا تلك الشروط الضرورية في علومهم الإلهية.
_إذا كان أبو حامد قد وصف الفلاسفة بالتهافت فإنه لم يصف الفلسفة نفسها بالتهافت، لتبقى دراسة جوانب ومساحات كثيرة من اشتباكه مع الفلسفة وردود مخالفيه عليه مع مرور الزمن ضمن مجال تاريخ العلوم والأفكار والفلسفات، دون توظيف تلك المواقف في العلاقة مع الفلسفة عموما.
_إن تجربة الغزالي الفكرية بحاجة إلى قراءة معرفية وتاريخية تتفارق عن القراءة السائدة في ساحة الكتب والباحثين المعاصرين خاصة العرب منهم.
[1] طبقات الشافعية، تاج الدين السبكي، تحقيق محمود محمد الطناحي، عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1413هـ، 16/191 وما بعدها.
[2] البارون كارا دي فو: brenard carra de vaux مستشرق فرنسي، درس العربية ودرسها في المعهد الكاثوليكي بباريس، وعنى بالرياضيات الفلسفة والتاريخ، من كتبه: الإسلام والعبقرية السامية والعبقرية الآرية، كان له اهتمام بآثار أبو حامد الغزالي وابن سينا والسهروردي. أنظر: المستشرقون لنجيب العقيقي، دار المعارف- مصر، ط3، 1964م، ج1، ص ص263-264
[3] الغزالي، البارون كارادوڤو، ترجمة زعيتر، راجعه محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية، 1995م، ص74
[4] مملوك تركي وأحد قادة الخلافة العباسية، ثار على الخليفة العباسي واستولى على بغداد، وأقام الخطبة بها للمستنصر لمدة عام.
[5] الكامل في التاريخ، ابن الأثير، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1997، 153/8
[6] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، حققه محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1992م، 16/84
[7] أنظر: البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة، ط1، 1997م، 16/26
[8] المنتظم في تاريخ الملوك، ابن الجوزي، مصدر سابق، 16/91
[9] البداية والنهاية، ابن كثير، 161/118
[10] فضائح الباطنية، أبو حامد الغزالي، تحقيق عبد الرحمان بدوي، دار الكتب الثقافية، الكويت، ص4
[11] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي، 16/256
[12] الكامل في التاريخ، ابن الأثير، 8/425
[13] تاريخ الفلسفة في الإسلامية، هنري كوربان، ترجمة نصير مروة، وحسن قبيسي، عويدات للنشر والطباعة، ط2، 1998م، ص253 وما بعدها.
[14] تاريخ الفلسفة في الإسلام، دي بور، نقله إلى العربية وعلق عليه الدكتور محمد عبد الهادي أبو زيدة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر- بيروت، ط5، 1981م، ص317 وما بعدها.
[15] تاريخ الفلسفة الإسلامية، هنري كوربان، ترجمة نصير مروة، وحسن قبيسي، ص272
[16] الأخلاق عند الغزالي، زكي مبارك، كلمات عربية للترجمة والنشر- القاهرة، 2012م، ص74
[17] المرجع السابق، ص74
[18] المرجع السابق، ص110
[19] الغزالي: دراسات مختارات، يوحنا قمير، المطبعة الكاثوليكية- بيروت، 1947م، ج2، ص34
[20] القاموس المحيط، الفيروز آبادي، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف محمد نعيم العرقشوسي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، ط8، 2005م، ص163
[21] لسان العرب، ابن منظور، الحواشي لليازجي وجماعة من اللغويين، دار صادر- بيروت، ط3، 1414هـ، ج2، ص104
[22] أساس البلاغة، جار الله الزمخشري، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 1998م، ج2، ص376
[23] تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الزبيدي، تحقيق جماعة من المختصين، وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت، 2001م، ج5، ص142
[24] انظر: دراسات نفسية عن معنى كلمة التهافت في مصنفات الغزالي وابن رشد، المجلة الأفريقية، 1906م، جامعة القديس يوسف بيروت، العدد7، عام 1914م.
[25] *قد انتقدت مسائل في «إحياء علوم الدين» في حياة المؤلف رحمه الله وصَلته فأجاب عنها في كتابه «الإملاء على مشكل الإحياء» وظهرت بعده انتقادات نجملها في: ذكره لآراء الفلاسفة، وذكره لآراء الصوفية الإشراقيين...
اما فيما يخص ذكره لآراء الفلاسفة، فهذا ليس عيبا أو ثلبا في الكتاب أو الكاتب، بل هو من تمام التبحر في العلوم، وإنصاف الخصوم والعلوم، فكم من رأي فيلسوف فيه حق.
أما ما يخص ذكر أقوال الصوفية الإشراقيين كالحلاج وغيره، وفي ذلك بحسب زعمهم تزكية لهم ولآرائهم، وهؤلاء المنتقدون لم يفهموا إشارات ورموز الإشراقيين فكان نكيرهم على ما فهموه من عبارات الإشراقيين لا على إشاراتهم ورموزهم وبينهما فرق كما لا يخفى، لأن من لم يكن على علم بالمقصود بالإشارات والرموز الإشراقية فلا يحق له النكير، إذ الإنكار من فرع العلم.
[26] أنظر: التفكير الفلسفي في الإسلام، عبد الحليم محمود، دار المعارف، ط2، (د.ت)، ص ص430-431
[27] الغواص واللألئ أو ترجمة حياة حجة الإسلام الغزالي، زومير، ترجمة عبد الفادي القاهراني، مطبعة النيل المسيحية- مصر، ط1، 1923م، ص ص110-111
[28] أنظر تفصيل هذا الأمر في: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، محمود حمدي زقزوق، مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة، ط1، 1973م، ص61
[29] تاريخ الفلسفة في الإسلام، دي بور، نقله إلى العربية وعلق عليه الدكتور محمد عبد الهادي أبو زيدة، ص275
* مع أن دي بور عبر في نفس السياق ان السبب في ذلك هو العذاب الداخلي الذي كان يعانيه، والذي يتخذ طابع الجدل الكلامي في مؤلفات
والحقيقة أن ما سماه دي بور بـ "العذاب الداخلي" لا وجود له، فالغزالي لم تعتريه لا أزمة نفسية ولا روحية ذاتية شخصية، وإنما بحثه وتنقيبه على الحق، انطلاقا من تجربة تركت وراءها كل حكم مسبق وكل عَصبية، كان في إطار محاولته لإحياء الدين في قلوب العامة، وتبديد الأوهام التي سكنت عقول بعض العلماء.
[30] المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، بقلم عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة- مصر، (د.ت)، ص138
[31] Gazali par le baron carra de vaux, bernand, (paris, félix alcan, éditeur 1902), 59