إحراجات التَّفكير في الكوني
فئة : مقالات
إحراجات التَّفكير في الكوني
خمسي الدريدي
مقدّمة:
يُعدُّ التَّفكير في الكوني مطلباً فلسفيَّاً مُلحّاً تقتضيه ضرورات معالجة قضايا راهنة ومصيريَّة بالنسبة إلى وجودنا وترتبط به بشكل وثيق؛ فالتساؤل عن ماهيَّته يندرج في صميم التفلسف الذي نرنو إلى الاضطلاع به. إنَّه يقودنا إلى التَّفكير في قضايا العلم وإبستمولوجيَّته، وإلى نظام القيم التي من شأنها أن تضفي معنى على وجودنا، وإلى صياغة نظرتنا إلى الإنيَّة أو الهويَّة الثقافيَّة التي تشكّل «الأفق الذي بداخله يمكنني أن أتخذ موقفاً»[1]، وفق عبارة شارلز تايلور، ويؤول إلى طرح مسألة علاقة الإنسان بالعالم؛ أي عمَّا إذا كان الإنسان المأمول عضواً في جماعة هوويَّة تنشد التوافق الإيتيقي أم مواطناً في العالم ضمن منظور كوسموبولوتي مخصوص. وتبعاً لذلك، يشكّل الكوني أرضيَّة التقاء قضايا النَّظر بقضايا العمل والخيط النَّاظم لمسائل تبدو متباعدة فكريَّاً، ولكنَّها تصبُّ في إشكاليَّة موحّدة تهمُّ تجربة الإنسان في مختلف أبعادها النظريَّة والعمليَّة والأنطولوجيَّة... ولمَّا كان الكوني على هذه الأهميَّة والخطورة فلسفيَّاً، فإنَّنا نلاحظ أنَّ اضطلاع التفكير فيه منذ البدء، لا يخلو من إحراجات حقيقيَّة، فتارة نحاول تدبُّر أمره في علاقته بالجزئي، وطوراً ضمن علاقته بالخصوصي، وأحياناً أخرى في علاقته بالعالمي- الكوسموبولوتي أو ضمن علاقته بالعولمي... ولا يعني اندراجه ضمن هذه النقائض غير مواجهة إحراجات حقيقيَّة تزداد حدَّة بالنظر إلى قيمة الرّهانات المعقودة على تصوُّرنا له؛ سواء سلّمنا بالاندماج فيه أم زهدنا فيه باسم الخصوصيَّة، سواء شاركنا غيرنا في بنائه أم ارتبنا منه باسم رواسب «تمركز عرقي» عالقة به. يتجاوز هذا المفهوم الإطار الفلسفي إلى حقول أخرى تختلف عنه من جهة المضامين والرّهانات كالعلم والإثنولوجيا والخطاب الحقوقي والسياسي... ومن هنا يُنظر إليه بوصفه واحداً من المفاهيم المتحرّكة أو المهاجرة التي كلّما انتقلت إلى حقل جديد ازدادت ثراء وجدَّة، على نحو صارت فيه المنعطفات التاريخيَّة التي يمرُّ بها لا تشكّل انزياحاً جذريَّاً عن معنى أصلي ضارب في قدم التفلسف، بقدر ما هي تنويعات دلاليَّة وتبيئة لمنازل جديدة تدخل في إثراء مفهومه الذي به يتقوَّم ويتمايز عن غيره. فعلامَ يقوم التأصيل الفلسفي للكوني؟ بأيّ معنى يكون الإحراج طابعاً ملازماً للتفكير في الكوني؟ وأيَّة تحدّيات يواجهها الكوني اليوم؟
1. إحراجات تأسيس الكوني/ الكلّي: التوتّر بين الكلّي والجزئي
لا شكَّ في أنَّ الفلسفة منذ لحظة منبتها قد طرحت أسئلة حول الكوني، ما يحيل على النَّشاط الخلّاق للعقل البشري الذي يتجاوز أسر المحسوس والجزئي والمعطى الماثل أمامه في اتجاه إنشاء الفكرة التأليفيَّة العامَّة والمشتركة، ومن هنا الأسئلة السُّقراطيَّة ذات الطابع الماهوي من قبيل: ما الإنسان[2]؟ فالإنسان هنا معنى كلّي/ كوني يدلُّ على بشر كثيرين بمعنى واحد، في حين أنَّ زيداً أو عَمْراً هو معنى فردي، ولا يتعامل هنا سقراط مع الإنسان بوصفه فرداً مخصوصاً، وإنَّما باعتباره معنى كليَّاً؛ أي: النَّفس بوصفها المشترك بين البشر.
على أنَّ أولى المحاولات الجديَّة لتناول مسألة الكوني من جهة التأصيل النّظري، التي خلّفت من الإحراجات ما يصعب تجاوزه، هي التي تعود إلى أرسطو في سياق بحثه في التمييز الذي تركه أفلاطون عالقاً بين الرأي والعِلم. في الكتاب الأوَّل من «التحليلات الثواني» يرى أرسطو أنَّ ما يميّز العلم عن الرأي هو كون العلم معرفة بالكلّي، والكلّي هو الذي ينطبق على جميع الحالات، و«من المستحيل إدراكه حسيَّاً، باعتباره ليس شيئاً محدَّداً أو مرحلةً محدَّدة، وإلَّا فإنَّه لا يكون كليَّاً»[3]، ثمَّ يحدّد ما يمكن أن نطلق عليه الكوني/الكلّي:
- الموجود دائماً وفي كلّ مكان.
- البرهنات (les démonstrations) والمعاني الكليَّة.
وجميعها غير قابل للإدراك الحسّي، ومن ثمَّة ليس هناك علم بالإحساس، المعرفة الحسيَّة تحمل على الجزئي، في حين أنَّ العلم هو دائماً معرفة بالكلّي، كما أنَّنا لا نعرف الواقع في طابعه الجزئي، وإنَّما وفق بنى كليَّة هي المقولات كالجنس والزَّمان والمكان ...، لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الكلّي يقطع تماماً مع الجزئي، باعتبار أنَّه «من خلال تعدُّد الحالات الخصوصيَّة ينبثق الكلّي»[4]. وفي كتابه «ما بعد الطبيعة» يستبعد أرسطو الجوهر من دائرة الكلّي، «فالجوهر يقال على ما لم يكن محمولاً على موضوع، في حين أنَّ الكلّي هو دائماً محمول على موضوع ما. إنَّ الجوهر لا يمكن أن يكون كليَّاً إذا نظرنا إليه من جهة الماهيَّة»[5]. ينتقل هنا أرسطو من دراسة الكلّي ضمن نظريَّة العلم إلى المنطق، وضمن هذا السجلّ المنطقي يمكن إرجاع الكلّي الأرسطي إلى التعيينات التالية:
في مستوى أوَّل: يحمل الكلّي في المنطق الأرسطي دلالتين أساسيتين:
- الكلّي: هو الشَّامل لجميع الأفراد الدّاخلين في صنف معيَّن كالجنس والنوع، أو ما يُطلق عليه: الـ «ما صدق» (Extension).
- الكلّي: هو المفهوم الذي لا يمنع تصوُّره من أن يشترك فيه كثيرون، مثل العقل أو الوعي بالنسبة إلى البشر، الكلّي يحمل معنى المشترك لدى كثيرين ويقال بمعنى واحد، لذلك يقول ابن سينا: «اللّفظ المراد بالكلّي هو الذي يدلُّ على كثيرين بمعنى واحد متفق»، وهذا ما يطلق عليه المفهوم (concept).
وفي مستوى ثانٍ: يتحدَّث أرسطو عن «قضيَّة كليَّة»، كقولنا: «كلُّ إنسان فانٍ».
وفي المستوى ثالث: يشير أرسطو إلى الكليَّات الخمس المتمثلة في: الجنس، النَّوع، الفصل النَّوعي، الخاصَّة، العرض العام. ويعني الجنس الكلّي المقول على كثيرين بالأنواع حين نجيب عن السؤال ما هو؟ كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان.
وعلى ضوء ذلك، يتبين لنا أنَّ بعض الكليَّات ضروريَّة لتحديد الماهيَّة أو الإنيَّة: فإذا طرحنا سؤال ما الإنسان؟ فإنَّ الإجابة تتحدَّد على هذا النحو: الإنسان (نوع)، حيوان (جنس)، ناطق (فصل نوعي). لقد طرحت هنا مسألة الكلّي في البداية كمطلب معرفي-منطقي، وتحديداً كمقولة ضروريَّة في التعريف ثمَّ القياس والاستدلال. ولكنَّ المشكل يظلُّ قائماً بشأن علاقة هذا الكلّي بالجزئي، والإشارة العابرة لأرسطو بشأن هذه المسألة الإحراجيَّة ضمن مؤلفه «في التأويل» لم تحلّ المشكل، يقول في هذا الموضع: «ثمَّة أشياء كليَّة وأخرى جزئيَّة؛ (الكلّيّ): كلّ ما تحقَّقت طبيعته في موضوعات عديدة، و(الجزئي) كلّ ما لا تتمكَّن طبيعته من ذلك. على سبيل المثال: «الإنسان حدّ كلّي، وإلياس حدّ جزئي»[6].
وقد حاول بعض أتباع أرسطو تجاوز الإحراج الخاص بعلاقة الكلّي بالجزئي، فقالوا: لئن كانت هذه الفكرة عقليَّة، فإنَّها موجودة على نحو جزئي في الموادّ الحسيَّة، ووفق عبارة ابن رشد: «هي موجودة في الأعيان بالقوَّة لا بالفعل»، وهذا الرأي قد ظلَّ مؤثراً في تصوُّر الكلّي في القرون الوسطى، ولا سيَّما في إطار «الخصومة حول الكليَّات»[7]، حيث تحدَّد مدار الاهتمام في البحث عن المنزلة الأنطولوجيَّة للكلّي.
وبالأحرى الإجابة عن السُّؤال الميتافيزيقي التالي: أَللكليَّات وجود في حدّ ذاته (المذهب الواقعي)، أم هي مجرَّد مفاهيم أنتجها الذّهن ونعبّر عنها بواسطة المفاهيم (النَّزعة الاسميَّة)؟ وإذا سلّمنا بأنَّ لها وجوداً واقعيَّاً، فكيف تتحدَّد العلاقة بين وجود الكلّي بالجزئيَّات؟
وفق الاسميين (les nominalistes) (روسلان Roscelin....) الكليَّات ليست سوى كلمات أو أسماء أو هي تجريدات لا وجود لها إلّا في ذهن من ينشئها، ولا وجود فعليَّاً إلّا للأشياء الجزئيَّة أو الفرديَّة، فلفظ «إنسانيَّة» لا وجود فعليَّاً له ولا علاقة له بالأفراد في الواقع. أمَّا بالنسبة إلى النظريَّة الواقعيَّة (غيوم دي شامبو Guillaume de Champeaux)، فهي تعتبر الكليَّات أشياء موجودة حقَّاً، إنَّها وقائع موجودة خارج الذّهن البشري قبل وجود الأشياء الجزئيَّة نفسها، وهذه الأطروحة تلتقي مع الأفلاطونيَّة التي تؤكّد على واقعيَّة الماهيَّات، وعلى أنَّ للصور الكليَّة الجوهريَّة (المثل) واقعاً أنطولوجيَّاً هو أساس الموجودات الحسيَّة الجزئيَّة، فمثلاً ثمَّة شيء من الإنسانيَّة (معنى كلّي) موجود لدى كلّ إنسان (موجود جزئي وفردي). أمَّا التصوُّريون(les conceptualistes) وأبرزهم إيبلارد (Pierre Abélard)، فإنَّهم يَعدُّون الكليَّات تجريدات ذهنيَّة ولكنَّها متَّحدة بالوقائع، وبالتالي فإنَّ الكلّي يخصُّ الأفراد بوصفهم مشتركين في صفة الإنسانيَّة.
ويبدو أنَّ الإحراج الذي لازم التفكير في الكلّي لدى أرسطو وأتباعه من المشَّائين تخطَّى مشكل العلاقة الكلّي/الجزئي إلى إحراج من ضرب ثانٍ، وهو غياب الكلّي الأخلاقي، باعتبار أنَّ أرسطو حين يتحدَّث عن الفضيلة الأخلاقيَّة للإنسان، فإنَّه بالتأكيد لا يقصد الإنسان الكلّي المجرَّد؛ أي الإنسان بصرف النَّظر عن وطنه وموقعه الاجتماعي ولغته...، فكما أنَّه لا وجود لإنسان واحد كلّي، فكذلك لا وجود لفضيلة واحدة كليَّة يتَّصف بها جميع البشر، ففي كتابه «السياسة»، وفي معرض تأكيده على أنَّ العبوديَّة نظام طبيعي للمجتمع، يرى أنَّ اتحاد البشر بعضهم ببعض ضروري، كما هو الشأن بالنسبة إلى الرَّجل في علاقته بالمرأة، والسيّد في علاقته بالعبد[8]؛ أي بين من يقود ومن ينقاد. فثمَّة شخص يكون قادراً على التعقّل والتفكير وهو المؤهل طبيعيَّاً للقيادة؛ أي السيّد بالطبع، وثمَّة شخص يكون قادراً على إتيان أفعال جسميَّة، وهو الذي يكون خاضعاً لتوجيه الآخرين؛ أي العبد بالطبع، وتبعاً لذلك، تكمن في العبوديَّة، بحسب تقدير أرسطو، مصلحة مشتركة بين السيّد والعبد، فتكون فضيلة كلّ واحد منهما هي القدرة على أداء الفعل المرتبط بأخصّ ما يميّز طبيعته؛ أي القدرة على التعقّل بواسطة الفكر، وبالتالي التوجيه بالنسبة إلى السيّد، والطاعة والانقياد بالنسبة إلى العبد.
وخارج المدينة اليونانيَّة هناك بشر من نوع خاص هم «البرابرة» الذين لا ينطقون اللّسان اليوناني، ومن غير المؤكَّد بحسب أرسطو أنَّهم يشاركوننا هذا المعنى الكلّي المتعلق بالإنسانيَّة، ومن الأنسب لهؤلاء أن يحكمهم اليونانيون. ينفتح أفق الإنسانيَّة بما هي معنى كلّي على اليونانيين الأحرار والقاطنين بالمدينة والناطقين باللّسان اليوناني دون غيرهم من العبيد والغرباء البرابرة، لذلك يقول هيغل: «لم يكن هناك اعتراف من قبل أنَّ العبد شخص، وأنَّ مبدأ الشخصيَّة هو الكليَّة، فقد كان السيّد ينظر إلى العبد لا على أنَّه شخص، بل على أنَّه شيء لا روح فيه، بل لم يعد العبد ذاته يعتبر نفسه أنا، لأنَّ الأنا الخاصَّة به هي سيّده»[9]. وهكذا، فإنَّ الشكل الأوَّل للتوتُّر الذي عرفه الكلّي لحظة الـتأصيل هو الذي كان قائماً بينه وبين الجزئي، ثمَّ غياب الكلّي العملي-الأخلاقي من المقاربة الأرسطيَّة.
2. المنعطف الترنسندنتالي في مقاربة الكلّي/ الكوني:
أ - التجذير الكانطي للكوني في الممارسة:
يُعدُّ أرسطو أوَّل من أقام رابطاً بين العلم والكلّي، ويجد القول: إنَّ الفلسفة معرفة كليَّة تبريره في كليَّة المبادئ التي تعتمدها، ولاسيما المبادئ المنطقيَّة الموجّهة للتفكير السليم كمبدأ الهويَّة والثالث المرفوع، ولكنَّ الإحراج الذي واجهه يتمثّل في العلاقة بين الكلّي والجزئي من جهة، والزهد في الكوني الأخلاقي، ولعلَّ هذا ما حاول تجذيره كانط ضمن مقاربته الترنسندنتاليَّة المعرفة والعمل. وخلافاً لأرسطو الذي نأى بالكوني عن المجال العملي، فإنَّ المقاربة الكانطيَّة اشتغلت على مستويين: نظري وعملي.
أوَّلاً: نظريَّاً: حاول كانط أن يحقّق للفلسفة ما حقّقه نيوتن للفيزياء، وتحديداً أن يؤسّس قوانين كونيَّة/ كليَّة مماثلة للقوانين الكليَّة في الفيزياء، وقد عبَّر عن هذا التطلّع في إحدى صيغ الأمر القطعي: «افعل كما لو كان يجب على المبدأ الذاتي لفعلك أن يرتقي عن طريق إرادتك إلى مرتبة قانون كلّي للطبيعة».[10]
وفي كتابه «نقد العقل النظري» يرى أنَّ الكلّي لا يُعدُّ مجرَّد مقولة للحكم أو مجرَّد محمول ينسب إلى موضوع، كما ذهب إلى ذلك أرسطو، إنَّه أبعد من ذلك، فهو شرط ترنسندنتالي للمعرفة، والمقصود بالترنسندنتالي هنا كلّ ما يشكّل شرطاً لإمكان المعرفة، وبالتالي هو يعني شروط إمكان المعرفة القبليَّة (a priori) للموضوعات. وتتمثّل هذه الشروط على وجه التحديد في: صور الحساسيَّة والمقولات الذّهنيَّة للذات. يقول كانط: «أدعو ترنسندنتالي كلَّ معرفة لا تحمل عموماً البتَّة على الموضوعات، وإنَّما على طريقتنا لمعرفتها من جهة كون ذلك ممكناً بصورة قبليَّة»[11]، لأجل ذلك فإنَّ الكلّي، إلى جانب الضرورة، يمثّلان خاصيَّتين أساسيَّتين للقبلي الذي يسبق كلَّ تجربة، ونذكر هنا كمثال السببيَّة، فهي مبدأ ضروري وكلّي كامن في بنية الذهن، وبالتالي غير مستخلص من التجربة، وهذا المبدأ يتحكَّم في مجموع الظَّواهر المعطاة في التجربة والمندرجة في إطاري الزَّمان والمكان.
وخلافاً لأرسطو الذي أقرَّ بأنَّ المقولات الكليَّة بما هي أجناس عالية كالجوهر والإضافة موجودة على نحو جزئي في المحسوسات، فإنَّ كانط رأى أنَّ المقولات تصوُّرات كليَّة أساسيَّة يتضمَّنها العقل الخالص (raison pure)، وهي صور قبليَّة للمعرفة ومتعالية على المحسوس، وتمثّل بذلك الجوانب الأساسيَّة للتفكير النَّظري، وهي أربعة أجناس كبرى: الكم (الوحدة، الكثرة، الإجمال)، الكيف (الإيجاب، السَّلب، التَّحديد)، الإضافة (العلاقة بين الجوهر والعرض، العلاقة بين العلّة والمعلول، الاشتراك)، الجهة (الإمكان والامتناع، الوجود واللّاوجود، الضرورة والجواز). وتبعاً لذلك إنَّ الكلّي الكانطي هو عقلي، وهو شرط ترنسندنتالي للمعرفة القبليَّة بالموضوعات.
ثانياً: عمليَّاً: تكمن أهميَّة الإسهام الكانطي هنا في تجذير الكوني على مستوى عملي- خلقي، ولتجسيم هذا التوجُّه في التفكير يتبنَّى القول بالطابع الصّوري للكوني. الصُّورة (La forme) هي التي تمنح الكوني صلاحيَّته العمليَّة المطلقة؛ أي تجعله ينطبق على جميع الحالات وبصورة دائمة، ويلزم عن ذلك أنَّ القانون الأخلاقي الكوني لا يمكن أن يجد أساسه في العاطفة (باعتبارها ذاتيَّة)، أو المجتمع (لما يؤول إليه من خصوصيَّة ونسبيَّة)، أو المنفعة (لتعارضها مع المبدأ الثابت)، وإنَّما في العقل العملي بما هو ملكة الكلّي.
تتحدَّد عندئذٍ طرافة الطَّرح الكانطي في الانتقال بالكلّي/ الكوني من مقتضى معرفي إلى مطلب عملي، من مقتضى نظري إلى مبدأ موجّه للعقل العملي؛ أي تجذير ترنسندنتالي للكوني الأخلاقي الذي يجد في العقل العملي مصدراً قبليَّاً له. وإذا كان القانون الكلّي العلمي ينهض على التعبير عن علاقات بين الظواهر، فهو بالتالي كلّي من جهة الواقع (Universel de fait)، فإنَّ القانون الأخلاقي بدوره حكم تأليفي قبلي يحكم العلاقات بين البشر، ولكنَّه يعبّر عن كونيَّة من جهة الحق (Universel de droit)؛ أي كوني منشدّاً إلى ما ينبغي أن يكون، لا ما هو كائن بالفعل.
يتعيَّن القانون الأخلاقي أو الواجب في الأمر القطعي الذي لا يتضمَّن أيَّ شرط أو حدّ، وينطبق على جميع البشر، بصرف النَّظر عن التجارب الاجتماعيَّة وأزمنتها، وتتمثل صيغته الأصليَّة فيما يلي:
«افعل فقط للمبدأ الذَّاتي الذي يجعلك تقدر على أن تريد له في الآن ذاته أن يصير قانوناً كونيَّاً»، ومن صيغه الفرعيَّة الدَّعوة إلى معاملة الإنسانيَّة في شخصي وفي أيّ شخص آخر كغاية في حدّ ذاتها لا كوسيلة. وبمقتضى ذلك إنَّ الكوننة (universalisation) هي معيار حاسم في التعرُّف إلى صلاحيَّة القانون الأخلاقي؛ أي إنَّنا إذا قمنا بتعميم القاعدة الذَّاتيَّة (la maxime) للفرد على المجتمع دون الوقوع في تناقض، فإنَّنا نحصل على قانون أخلاقي كوني، وببساطة إذا أخذنا هذه القاعدة الذاتيَّة لأحد الأفراد: «كلّما ضاقت بي الحياة، فالحلُّ يكمن في الانتحار»، وأردنا تعميمها على جميع البشر -أي جعلناها كونيَّة- فإنَّنا نقع في النّهاية في تناقض؛ لأنَّ النتيجة ستكون هلاك البشريَّة جمعاء، وبالتالي لا يمكن لهذه القاعدة الذاتيَّة أو القناعة أن ترقى إلى مصافِّ قانون كوني.
الكوني الأخلاقي الكانطي صورة عقليَّة تتَّصف بالضرورة والإلزام، وتجعل هذه الخاصيَّات أوامره واحدة بالنسبة إلى جميع البشر. وبالرغم من أهميَّة الإسهام الكانطي في مقاربة الكوني الذي غدا متجذّراً في الممارسة، فقد تعرَّض هذا الكوني إلى إحراجات حقيقيَّة انكشفت لنا بصورة أساسيَّة مع النقد الهيغلي «للأخلاق الذاتيَّة» التي لم تقدر على التحوُّل إلى «أخلاق موضوعيَّة»[12]؛ لأنَّها تجد في «الذّهن الجزئي المجرَّد مصدراً لها».
ب. المآخذ الهيغليَّة على الكوني الكانطي
يرى هيغل أنَّ الاعتراف بـ «الاستقلاليَّة الذاتيَّة للإرادة» قد انتظر طويلاً حتى مجيء الكانطيَّة ليجد معها أساساً صلباً ونقطة لانطلاقه، بيد أنَّ هذه الأخلاق الكانطيَّة قد «انحدرت بهذا المكسب إلى نزعة صوريَّة جوفاء، وعلم الأخلاق إلى ريتوريقا حول الواجب من أجل الواجب».[13] ومن هنا تتفرَّع أهمّ المآخذ الهيغليَّة على الكوني الخلقي الكانطي:
- الطابع الصّوري للأمر القطعي الذي يستعبد مضامين محدّدة للمبادئ الذاتيَّة للفعل والواجب، ويلزم عن ذلك «أنَّ تطبيق هذا الأمر القطعي الأخلاقي يؤول إلى أحكام هي من تحصيل الحاصل (tautologie)».[14]
- الطابع المجرَّد للكوني الأخلاقي: يفصل الأمر القطعي بين الكوني والخصوصي، ومن ثمَّة يتجاهل الأحكام الخلقيَّة الطبيعيَّة الفرديَّة والسّياق الذي توجد فيه مشاكل هي في أمسّ الحاجة إلى حلّ، يغدو عندئذٍ هذا المعنى المجرَّد الكوني الأخلاقي الذي يفيد هنا الواجب أو القانون الخلقي غير محدّد بمضمون واقعي، ولا يساعد الشَّخص المنخرط في وضعيَّة واقعيَّة على الفعل حقَّاً في هذا العالم. يعظّم كانط دور الإرادة الحرَّة والمشرّعة، ولكنَّه لا يأخذ في الاعتبار المؤسَّسات القائمة في الحياة الإيتيقيَّة التي تبدو غير قابلة للتجاوز من طرفها.
- عجز الإرادة المحضة الكانطيَّة: إنَّ الأمر القطعي الذي يدّعي إلغاء كلّ مضمون لا يمكنه أن يفرض مطلقاً أيّ فعل واقعي. وضمن هذا التوجُّه، «لا يمكن للحرص الكانطي على عدم التناقض أن يمرَّ إلى تعيين واجباتنا الخصوصيَّة، وعندما يوضع مضمون خصوصي للسلوك في الاعتبار، فإنَّ هذا المبدأ المذكور أعلاه لا يوفّر معياراً لمعرفة ما إذا كان هذا الأمر واجباً أم لا؛ بل خلاف ذلك، إنَّ كلَّ سلوك ظالم أو غير أخلاقي يمكن أن يكون مبرّراً بهذه الطريقة».[15]
وبالاستناد إلى ذلك، يعتقد هيغل أنَّ الكوني الأخلاقي لدى كانط صادر عن «أخلاق ذاتيَّة» لا وجود لها إلّا في ذهن عاجز عن تجاوز الحدود، وبالتالي عن المصالحة أو التأليف بين المتناقضات ومن ثمَّة يفتقر إلى الحسّ الجدلي، وفي المقابل يؤسّس هيغل لمفهوم «الكوني الواقعي» (l’universel concert)، ففي كتابه «الموسوعة الفلسفيَّة الكونيَّة» يقرُّ بأنَّ المفهوم كوني؛ لأنَّه قابل لعدد من التطبيقات، وفي الآن ذاته يكون واقعيَّاً لأنَّه كلّيَّة وحيدة وغير قابلة للتجزئة وذات تجليات عينيَّة، وخير تجسيد لمقولة «الكوني الواقعي» الرُّوح أو الفكرة المطلقة التي لا تتَّصف بالمباشرة والتجريد، ولا شيء خارج عنها، وهي خاضعة للصيرورة التاريخيَّة. إنَّها حركة وفي الآن نفسه حضور عيني، وبناء على ذلك، ليس «الكوني الواقعي» معطى يظهر منذ البدء ولا هو واقعة لعقل مجرَّد منفصل عن الحياة الإيتيقيَّة للشَّعب، وإنَّما هو مفهوم أو فكرة لا تصبح حقيقة موضوعيَّة وعقليَّة إلّا في النهاية، فليس بوسعنا إدراكها في ذاتها بمعزل عن دائرة التاريخ، خلافاً للمثل الأفلاطونيَّة بما هي أشكال عقليَّة ثابتة منفصلة عن الصيرورة. يقول هيغل في «موسوعة العلوم الفلسفية»: «إنَّ الكلّي في معناه الحقيقي الشامل هو الفكر الذي وصل إلى الوعي البشري على ما نعلم بعد آلاف السنين...لأنَّ اليونانيين -رغم تقدُّمهم في جوانب أخرى- لم يدركوا الله ولا الإنسان في كليتهما الحقيقيَّة»[16]. وسواء تعلّق الأمر بالمثال الأفلاطوني أو «الشيء في ذاته» الكانطي، فإنَّ التناقض يظلُّ قائماً بين الأبديَّة والصيرورة، الوحدة والتعدُّد، المعقول والواقعي. أمَّا «الكلّي الواقعي»، وفق هيغل، فهو على عكس ذلك تماماً، يستوعب التناقضات في صلبه ويؤلف جدليَّاً بينها على إثر مسار تاريخي ابتداء من لحظة مباينة الفكر أو الرُّوح لذاته وتموضعه في أشكال متخارجة عنه. وإذا كان كانط أصَّل الكوني في عالم الممارسة والقيم، فإنَّ هيغل أدمج عامل التاريخ في مقاربة الكوني ونزَّله ضمن الصيرورة. إنَّنا في هذه الحالة إزاء «كوني واقعي» تاريخي لا معنى له إلّا من خلال تنزُّله ضمن الخصوصي الإيتيقي.
إنَّ الإحراج الذي وقع فيه الكوني الأخلاقي الكانطي مزدوج: فهو على غاية من الصوريَّة والتجريد الذّهني ما يجعله عاجزاً عن الفعل وغريباً عن «نسق الحياة الإيتيقيَّة والمؤسَّساتيَّة»، ومن جهة ثانية تنكّر هذا الكوني للصيرورة والتاريخ، ما جعله يقف على النقائض (antinomies) دون تجاوزها بالمعنى الهيغلي، فالذّهن الكانطي ظلَّ ماكثاً على مشارف الجدل دون اكتشافه.
3. المنعطف التداولي للكوني: هابرماس وآبل
أ. تجاوز الوعي في اتجاه برادايم اللغة[17]
بصرف النظر عن وجاهة هذا النَّقد الموجَّه للكوني الأخلاقي يحقُّ لنا أن نتساءل هنا: هل هذا الإسهام «للمثاليَّة الألمانيَّة» في مجملها يستوفي الدلالة الرَّاهنة للكوني؟ هل هذه المعاني المحمولة على الكوني قادرة على مواجهة مستجدَّات «حداثة مفكّكة» متصارعة مع ذاتها وآيلة إلى التحطيم الذّاتي تحت ضغط «العقل الأداتي»، وفق ما ذهب إليه روَّاد «النَّظريَّة النقديَّة»، وخاصَّة جيلها الثاني الذي يمثله يورغان هابرماس وكارل أوتو آبل(K.Otto Apel)؟ ألا يتجاهل الكوني، سواء في نسخته الكانطيَّة أم الهيغليَّة، بُعداً أساسيَّاً في تجربة الإنسان، والمتمثل في اللغة؟
تنهض أصالة الطَّرح الذي اضطلع به هابرماس وآبل على معالجة قضايا الفلسفة العمليَّة كافة (الأخلاق، الحق، الديمقراطيَّة) على مستوى اللّغة، فقد انخرطا في المنعرج اللّغوي التداولي الذي عرفه التفلسف المعاصر في مطلع السبعينيات، وأنشآ معاً تداوليَّة (une pragmatique[18]) أطلق عليها هابرماس «كونيَّة»، في حين أطلق عليها آبل «ترنسندنتاليَّة»، وتدرس «الافتراضات الضمنيَّة للتواصل» أو شروط إمكان التفاهم المتبادل اعتماداً على ممارسة حجاجيَّة. ولا نعني هنا بـ«تداوليَّة» عموماً دراسة اللّغة في بعدها الدّلالي (السيمونطيقي) أو التركيبي، وإنَّما اللّغة في مجال الممارسة؛ أي ضمن وضعيَّة ينتهي إليها شركاء في الحوار، فيتمّ الأخذ بعين الاعتبار مقاصدهم وأفعالهم الإنجازيَّة وادعاءاتهم إلى الصلاحيَّة كالحقيقة الموضوعيَّة (العلم)، والسداد أو الوجاهة المعياريَّة (الأخلاق، الحق)، والأصالة والنزاهة الذّاتيَّة (المجال التعبيري والفنّي)، ويطلق هابرماس على هذا الإطار من الحوار «وضعيَّة مثاليَّة للكلام» (une situation idéale de parole). وبالاستناد إلى ذلك، ينقل هابرماس وآبل التفلسف من الاهتمام بالنشاط التأليفي للوعي إلى دراسة الأفعال التواصليَّة في العالم المعيش، ومن النَّظر إلى لغة كأداة للتمثيل والتفكير إلى شرط إمكان للتوافق استناداً إلى نقاش حجاجي. إنَّهما يسعيان إلى تجاوز «العقل المتمركز حول الذَّات»، وفي المقابل العمل على «إعادة بناء العقل العملي» الكانطي، حتى يكون تواصليَّاً (هابرماس)، أو هو تحوُّل ترنسندنتالي للفلسفة الكانطيَّة (آبل).[19]
وعلى هذا النَّحو تُجاري «أخلاق التَّواصل» لهذين الفيلسوفين الأخلاق الكانطيَّة، فهي:
- صوريَّة وإجرائيَّة؛ لأنَّها لا تقدّم مضامين للقانون الأخلاقي.
- ديوانطولوجيَّة؛ لأنَّها تهتمُّ بصلاحيَّة الواجب الأخلاقي.
- معرفيَّة (Cognitive)؛ لأنَّها تقرُّ بأنَّ القضايا الخلقيَّة قابلة للاندماج في الحقيقة؛ أي خاضعة للحجاج العقلي.
- وكونيَّة؛ لأنَّ المعايير الخلقيَّة تتجاوز الحدود الضيّقة لأيّة ثقافة أو عصر.
ب. شروط إمكان بناء «كوني تداولي».
وانطلاقاً من هذه الخصائص، ينتقل مدار الاهتمام الأخلاقي «للنظريَّة النقديَّة التواصليَّة» من التساؤل عن معرفة كيفيَّة تحقيق حسن العيش (الأطروحة الأرسطيَّة التي يسعى إلى إعادة إحيائها روَّاد الاتجاه الجماعي (Communautarien) مثل تايلور، وماكنتيرو، ووالزار Walzer) إلى التساؤل عن شروط إمكان صلاحيَّة المعايير، ومن ثمَّة كيفيَّة بناء الكوني. يضع هابرماس وآبل مبدأين أساسيين «لإيتيقا النقاش (L`éthique de la discussion):
* مبدأ الكونيَّة: «ينبغي على كلّ معيار ذي صلاحيَّة أن يستجيب للشَّرط الذي بمقتضاه يمكن للنتائج والآثار الثانويَّة (...) أن تكون مقبولة من طرف الأشخاص المعينين كافةً»[20]. يُعدُّ هذا المبدأ قاعدة الحجاج ويتبوَّأ المنزلة نفسها التي أسندها كانط إلى الأمر القطعي القائم على فكرة الكونيَّة، ولكنَّه خلافاً لكانط يدرج هابرماس النتائج والمصالح ضمن دائرة المناقشات الأخلاقيَّة.
* مبدأ النقاش: «لا يمكن لأيّ معيار أن يدَّعي الصلاحيَّة إلّا إذا تمكَّن جميع الأشخاص المعنيين من الاتفاق حوله أو يمكنهم الوصول إليه بوصفهم مشاركين في نقاش عملي حول صلاحيَّة هذا المعيار»[21]. وفق هذا المبدأ، لا يمكن لأيّ معيار أن يدَّعي الصَّلاحيَّة الكونيَّة لنفسه إلّا إذا كان محلَّ إجماع من طرف المشاركين في النقاش، ويترتَّب على ذلك انعدام أيّ مبرر أخلاقي لقبول معيار صادر عن «عقل مونولوجي»[22]، أو صادر عن أصل متعالٍ أو موروث عن الماضي، ومن ثمَّة انتفاء الوجاهة المعياريَّة لأيَّة أخلاق تنأى بنفسها عن دائرة النقاش وتتحصَّن ضدَّ طائلة النقد.
وفق تقدير هابرماس، يغدو المعيار كونيَّاً إذا خضع لمناقشة حجاجيَّة تؤول إلى الاتفاق والإجماع العقلي، وتكون هذه المناقشة مشروطة بما يلي:
- المساواة وتكافؤ الفرص بين المتحاورين.
- اتخاذهم مواقف بمعزل عن أيّ ضغط أو سلطة ما عدا سلطة «الحجَّة الأفضل».
- لا محدوديَّة النقاش؛ أي عدم وضع حدود أو قيود على موضوعات النقاش.
يطلق هابرماس على هذا المعيار المجمع عليه مصطلح «الكوني التَّداولي» الذي لا يكمن في «القبلي» المستقلّ عن التجربة والسياق كما يزعم كانط، وإنَّما يتجذَّر في «الحدوسات اللّغويَّة الأخلاقيَّة» المنتشرة في العالم المعيش، والتي تكون في حاجة إلى العقلنة، فثمَّة طاقات كامنة من المعقوليَّة في هذا العالم في حاجة الى إعادة تفعيل.
وبناء على ما سبق، إنَّ الكوني من المنظور التداولي ليس معطى جاهزاً؛ أي هو لم يوضع مرَّة واحدة وإلى الأبد، وإنَّما يبنى ويُصاغ من طرف أعضاء الجماعة التواصليَّة، ويكون قابلاً للمراجعة كلّما حدثت مستجدَّات أعاقت أو شوَّهت التَّواصل في العالم المعيش. ولا يُّعد «الكوني التداولي» حقيقة مطلقة تفرض نفسها على الأفراد دون اعتبار «للاستقلال الذّاتي» (autonomie) للجماعة التواصليَّة التي تشرّع لنفسها وتقرّر «مصيرها الذّاتي».
يجاري هابرماس الأخلاق الكانطيَّة، ولا سيَّما الطابع الكوني والصّوري واللّاشخصي للمعيار أو الكوني الأخلاقي، إلّا أَّنه يرفض نزوع هذه الأخلاق إلى فرض أوامرها دون اعتبار لقبول الآخر وموقفه المعبّر عنه من خلال الحوار، لذلك يتنكَّر هابرماس للطابع الإلزامي للأمر القطعي، فوفق تقديره لا تلزم «إيتيقا النقاش» المشاركين في الحجاج الأخلاقي بتوجُّهات معيَّنة، وإنَّما تكتفي بتوفير الإطار الإجرائي للمناقشة الأخلاقيَّة.
لقد حاولت «إيتيقا النقاش» إعادة بناء «الكوني الأخلاقي» الكانطي على نحو يكون فيه تداوليَّاً، إلّا أنَّها وقعت في إحراجها نفسه، وأبرزها الإغراق في الصوريَّة وتهميش قضايا حيويَّة كالهويَّة والخصوصيَّة الثقافيَّة وخاصَّة الهيمنة الاجتماعيَّة (...). ولعلَّ هذا ما يفسّر تعرُّضها للنقد من طرق أبرز المقربين إلى هابرماس، ولاسيما أكسل هونيث (A.Honneth) (من الجيل الثالث «للنظريَّة النقديَّة» إلى جانب فالمار (Wellmer)، فقد رأى هوناث أنَّ إيمان هابرماس بمثل أعلى لإجماع عقلي كوني عبر تواصل لغوي قد صرف اهتمامه عن نقد الهيمنة والظلم الاجتماعي، والحال أنَّه خلف الدوافع المحرّكة للحركات الاجتماعيَّة تنكشف لنا أشكال متنوّعة من هذا الظلم، ويتعيَّن تفسيرها على أنَّها تجارب من أفكار متنوّعة من الظلم وإنكار الاعتراف والتعبير عن «ديناميكا الاحتقار الاجتماعي».[23]
ومن خارج «الإشكاليَّة التواصليَّة» شكَّك ريتشارد رورتي (Rorty.R) في الكوني باسم نزعة سياقيَّة (Contextualisme) مفعمة بالبراغماتيَّة، فاستعاض عن الموضوعيَّة والكونيَّة بفكرة التَّضامن من داخل الجماعة اللّسانيَّة المحليَّة، وعلى هذا الأساس إنَّ إجرائيَّات التبرير لديه ترتبط بلغة هذه الجماعة وتقاليدها ونمط عيشها لا بمعايير كونيَّة مسقطة عليها، وإذا وجد مبرّراً للكلام عن الكونيَّة، فهي التي تشملنا «نحن» ومن يشاركوننا آراءنا حتى نستطيع إقناعهم. إنَّه يدعو إلى تضامن دون كونيَّة أخلاقية[24]، أو كونيَّة على أساس من «التمركز العرقي».
4. المنعطف الثقافي والأنثروبولوجي: الكوني والخصوصي
يتمثل التساؤل المركزي المطروح ثقافيَّاً وأخلاقيَّاً على التفلسف المعاصر في التالي: أَثمَّة قيم كونيَّة تتجاوز الحدود الجغرافيَّة والسياقات الثقافيَّة، أم إنَّ القيم لا تكون إلّا نسبيَّة وخصوصيَّة لارتباطها بمعطى الهويَّة والجماعة الإيتيقيَّة؟ يضعنا هذا التساؤل أمام إحراجات لا مفرَّ من مواجهتها من طرف المدافعين عن الكوني وأيضاً من طرف المعترضين عليه باسم تعلّات متعدّدة ومتنوّعة.
أ. حجج الكوني الأخلاقي والحقوقي
اتخذت الدَّعوة إلى النَّزعة الكونيَّة (universalisme) قاعدتها النظريَّة من الأنوار التي دعت بكلّ جرأة إلى إعادة التفكير في الإنسان ككائن عاقل وكذات مفكّرة وكشخص له حقوق غير قابلة للتنازل وله حقّ الاختلاف عن غيره، ووجدت نقطة ارتكازها على وجه التدقيق في الشّعار الكانطي: «لتكن لديك الجرأة على استعمال عقلك الخاص». وهذا ما انعكس أيضاً في النّصوص الكبرى لحقوق الإنسان الدّاعية إلى معاملة الإنسان كشخص ذي كرامة. لقد اقترنت الأنوار بالكونيَّة الأخلاقيَّة؛ أي إشاعة قيم الحريَّة والعدالة والتّسامح التي تخصُّ الإنسان الكلّي المجرَّد والعاقل. وتكشف فكرة التقدُّم الأنواريَّة عن الحضور القوي للنّزعة الكونيَّة الأخلاقيَّة، وبمقتضاها إنَّ الإنسانيَّة تخضع في مسار تطوُّرها إلى تاريخ كوني يمرُّ عبر مراحل ضروريَّة ويسعى نحو غاية محدَّدة هي الحريَّة.
وأهمُّ الحجج التي يعتمدها دعاة الكونيَّة الأخلاقيَّة تتمثل في:
- وجود قيم كونيَّة مشتركة بين البشر مثل الحق والخير والعدل. هذا المشترك الأخلاقي الكوني هو الذي يضع حدَّاً لانسحاب كلّ جماعة داخل هويَّتها الثقافيَّة واتخاذها موقفاً عدائيَّاً تجاه الآخر الثقافي، ومن ثمَّة تنامي مشاعر التعصُّب.
- وحدة الإنسانيَّة: تعدُّد الأجناس والأعراق والثقافات لا يمثل سوى ذلك التنوُّع الذي يثري الوحدة.
- ما هو مشترك بين جميع النَّاس، وما يجعل منهم حقاً بشراً ويتشاركون فيه مع بعضهم بعضاً هو أكثر أهميَّة من الأشياء التي تفصل بينهم، ويتعيَّن استثمار هذا المشترك والبناء عليه، وإذا وجدت اختلافات، فينبغي ألّا تتحوَّل إلى مصدر للصّراع واللّامساواة.
- وحدة المصير الإنساني: تواجه اليوم الإنسانيَّة مصيراً مشتركاً بالنظر إلى المخاطر والتحدّيات الرَّاهنة كالحروب النوويَّة ومشاكل التلوث البيئي والإرهاب... التي لم تعد تهدّد إقليماً معيَّناً من الكرة الأرضيَّة، وإنَّما هي عابرة للقارَّات، فلا بدَّ من إنشاء معايير قيميَّة مشتركة للتعايش ولمواجهة هذه التحدّيات.
- تجد النَّزعة الكونيَّة دعماً خفيَّاً لها، من جهة، من الموقف العلموي (scientiste) الذي يرى أنَّ العلم وحده قادر على حلّ كلّ مشاكل الإنسان المعاصر، ومن جهة ثانية، من الموقف الإنسانوي (humaniste) الذي يقرُّ بأنَّ الإنسان ككائن في حدّ ذاته هو الغاية القصوى، وهو مصدر لكلّ القيم.
بيد أنَّه يتعيَّن التمييز، كما ذهب إلى ذلك آلان باديو، بين ضربين من الكوني:
* «كوني إنساني حقيقي» للمساواة: وهو الذي يلغي الاختلافات الجينيالوجيَّة والأنثروبولوجيَّة أو الاجتماعيَّة (يهودي/ يوناني، رجل/ مرأة، سيّد/ عبد...)، ويجد هذا النّموذج إرهاصاته الأولى بحسب رأيه في «المسيحيَّة الأولى»، الذي خضع لاحقاً للعلمنة من طرف «النّزعة الجمهوريَّة الحديثة».
* «كوني زائف»، لكنَّه قد يكون أكثر نجاعة من الكوني الحقيقي: وهو الذي يعود إلى النّزعة الكونيَّة للسوق العالميّ الليبراليّ الذي لا يقوم على المساواة وإنَّما على التكافؤ، ويدمج باستمرار إعادة إنتاج الهويَّات المتصارعة ضمن قالبه المتجانس والشكلاني، ويدفع هذا التوجُّه إلى ضرب من «الكونيَّة التوسعيَّة» التي تؤول إلى فرض واقع «اللّاإقليميَّة» (déterritorialisation) كما هي قائمة بالفعل. ما يستهوي باديو ضمن قراءته الخاصَّة لتأسيس الكونيَّة مع القدّيس بولس هو شروط إمكان انبعاث «الفرادة الكونيَّة» [25](singularité universelle) التي نعثر عليها في «الحدث»، «كلُّ كوني ينشأ في الحدث، والحدث غير متعدٍّ على خصوصيَّات الوضعيَّة»[26]. لا غرابة في أن يرى باديو أنَّ مهمَّة القدّيس بولس مؤسّس الكونيَّة هي نفسها مهمَّتنا نحن اليوم: أخذ الأحداث في الاعتبار، فهي لا معلومة، بيد أنَّ لها مقدرة على توليد الثورات والتحوُّلات الكونيَّة.
ب. أفول الكوني في أفق العولمي
إذا كان باديو يحرص على إقامة تعارض بين هذين الضربين من الكوني، فإنَّ جان بودريار يقيم تمييزاً -انتهى إلى الاضمحلال التدريجي- بين الكوني والعولمي؛ فالكوني بحسب رأيه هو المتعلق بالقيم وحقوق الإنسان والحريَّات والثقافة والديموقراطيَّة. أمَّا العولمي، فهو الذي يخصّ التقنيات والسوق والسياحة والإعلام... ويقدّر أنَّ «العولمة واقع لا رجعة فيه. أمَّا الكوني، فهو في طريقه إلى التلاشي»[27]. لا شكَّ في أنَّ الكوني بما هو نسق قيم يجد مصدره الأصلي في الغرب وفق بودريار، بيد أنَّ هذا الكوني لا يفكّر في نفسه بوصفه نسبيَّاً وخصوصيَّاً، وإنَّما، ويا للمفارقة، يسعى إلى تجاوز كلّ الثقافات واختلافاتها على نحو مثالي لتقديم نفسه بوصفه مرجعاً للجميع، وقد وعى اليابانيُّون هذا الأمر فرفضوا الانصهار في هذا الكوني المجرَّد، وقاموا بتنسيبه وأدمجوه ضمن خصوصيَّتهم.
كلُّ ثقافة تنصهر في الكوني تتلاشى، وهذا هو شأن الثقافات التي قضى عليها الغرب بإدماجها قسريَّاً في الكوني وشأن الثقافة الغربيَّة أيضاً في تطلعها اللّامحدود إلى الكونَّية. يكمن الاختلاف بحسب بودريار بين هاتين الثقافتين في كون الثقافات الأخرى تهلك من فرط الإغراق في الخصوصيَّة، وهذا «موت جيّد»، في حين أنَّ الثقافة الغربيَّة تموت نتيجة فقدان كلّ خصوصيَّة واستئصال كلّ القيم الخاصَّة بنا، وهذا هو «الموت التعيس» وفق منظوره.
نعيش لحظة أفول الكوني الأخلاقي؛ لأنَّه صار خاضعاً لمنطق العولمي العنيف، «العولمة تقتل الكوني»، وفق عبارته، فما تمَّت عولمته في البداية هو السُّوق وأشكال التبادل وتدفّق الأموال، ووفق المنطق نفسه يتمُّ تصدير الرُّموز والقيم كافة وحقوق الإنسان، «وضمن هذا المسار ليس هناك أيُّ فرق بين العالمي والكوني، الكوني نفسه تمَّت عولمته؛ فالديموقراطيَّة وحقوق الإنسان تتحرَّك تماماً مثل أيّ منتوج عالمي كالنفط ورؤوس الأموال».[28] يؤكد هنا بودريار أنَّه، مهما يكن من أمر فقد انكسرت اليوم مرآة الكوني المعولم، ولعلَّ الفرصة مواتية كي تنبثق الخصوصيَّات والفرادات الثقافيَّة، ما كان مهدّداً منها يظلُّ محافظاً على بقائه، وما تلاشى منها ينبعث من جديد، والمشكل أنَّ انبعاث الخصوصيَّات الثقافيَّة قد يتخذ طابعاً عنيفاً وشاذّاً وأحياناً لا معقولاً من وجهة نظر «فكرنا المستنير». لذلك يجد الكوني الأخلاقي نفسه في وضع التلاشي لانصهاره في عولمي يفرض التَّجانس والأحاديَّة على العالم من جهة، ووقوعه تحت ضغط خصوصيَّات ثقافيَّة تسعى إلى إثبات نفسها من جهة ثانية.
لا يدين بودريار الكوني، حتى وإن كان مجرَّداً، إلّا أنَّه ينتصر للقيم الكونيَّة التي تحترم الاختلاف والخصوصي، الخطر لا يكمن في «الكوني المنكسر» ذي الجوهر الأخلاقي، وإنَّما في العولمي ذي الطابع الاقتصادي العنيف.
ج. نحو «سياسات للاعتراف» بالخصوصي
على الرغم من التقليل من شأن خطر الكوني على الخصوصي، فإنَّ بعضهم لا يزالون يبدون تجاهه ارتياباً لارتباطه من جهة الأصل بنزعة تمركز عرقي؛ فالكوني يعود إلى انتصار قيم ثقافة انتصرت على ثقافات أخرى بفضل سيادة العلم والتقنية المرتبطين بها. ومن هذا المنطلق، لا بدَّ من إعادة التفكير في الهويَّة الثقافيَّة على نحو يؤول بنا إلى تقرير «سياسات اعتراف» وفق نظريَّة شارلز تايلور، هذه الهويَّة لا تُعدُّ مجرَّد معطى ثابت يتَّصف بالمماثلة في صلب التغيرات عبر التاريخ، وإنَّما هي حصيلة تفاعل ديناميكي بين الأنا والمحيط، وحوار بين الأنا والآخر...، ومن هذا المنطلق إنَّ المعادلة التي يحرص تايلور على تحقيقها تتمثل في تعزيز انتماء الفرد إلى جماعة إيتيقيَّة وضمان وحدتها دون أن يفقد الفرد اختلافه مع الآخرين. لا بدَّ في مجتمع ديمقراطي من إقرار المساواة بين جميع أفراده، وفي الآن ذاته الاعتراف باختلافاتهم وخصوصيَّاتهم الثقافيَّة. لقد أصبحت «التعدديَّة الثقافيَّة» سمة مميزة للمجتمعات الدّيمقراطيَّة، ولأجل ذلك يرى تايلور أنَّ الهويَّة تجد جزئيَّاً تكوينها في الاعتراف أو في غيابه وفي الإدراكات السيّئة التي يكوّنها الآخرون عنَّا. وهنا لا يُعدُّ البحث عن الاعتراف مجرَّد نزوة عابرة، وإنَّما هو يعبّر عن تطلّع أساسي للفرد والجماعات الثقافيَّة، «إنَّه لا يشكّل مجَّرد مجاملة نوجهها لبعض الناس، وإنَّما حاجة بشريَّة حيويَّة».
«يتمثل مقتضى التعدديَّة الثقافيَّة في الاعتراف بالقيمة المتساوية لكلّ الثقافات، ليس بتركها تبقى على قيد الحياة، بل أيضاً بالاعتراف بجدارتها»[29]. ويتحدَّد مبرّر دفاع الجماعويين (communautariens) عن الهويَّة والخصوصيَّة الثقافية في ذلك التوجُّس الحادّ من الكوني وما يحمله من مخاطر على التنوُّع الثقافي المميز للإنسانيَّة المعاصرة، ومن هنا ندرك مغزى نقدهم الجذري للفلاسفة الليبراليين مثل رولز ودوركين...، ويمثل هذا النّقد في العمق استعادة للنّقد الهيغلي للأخلاق الكانطيَّة، كما يذهب إلى ذلك يورغن هابرماس في كتابه: «في إيتيقا النقاش»، فهذه الأخلاق تتنكَّر «للحياة الإيتيقيَّة» المتجسّدة في العادات والقيم والمؤسَّسات القائمة في المجتمع وتنزع نحو «الكوني المجرَّد» الذي لا يتحقق إلّا في الذّهن وحده. لا غرابة في أن يقرَّ «الجماعويون» بأنَّ المبادئ المعياريَّة للعدالة، التي يصفها الفلاسفة الليبراليون بالكونيَّة، لا تكتسب أيَّة قيمة عمليَّة إلّا إذا تجسَّدت في تقاليد الجماعة ومؤسَّساتها.
وعلى ضوء ذلك، يكمن موطن الخلاف الأساسي بين «الجماعويين» من جهة والليبراليين من جهة ثانية في تصوُّر منزلة الكوني: فالموقف الجماعوي الذي يستلهم «الإيتيقا الأرسطيَّة» يقرُّ بأشكال متعدّدة من نمط العيش، ولا يمكن حلّ المشاكل المترتّبة عليه بمجرَّد تبنّي طرح سياسي يتمثل في الانخراط في مبدأ كوني للعدالة، وإنَّما في انبثاق حريَّة موجبة تقوم على المشاركة وتسمح بتحقيق «حسن العيش» في صلب الجماعة. أمَّا الطَّرح الليبرالي، فهو يقوم في الغالب على «إعادة تفعيل» الكانطيَّة، على نحو يسمح بتأكيد أنَّ «المبادئ الكونيَّة» قادرة على حلّ المشاكل المترتّبة على واقع تعدديَّة المشاريع الخاصَّة بأشكال العيش الجماعي، ولا تُعدُّ هذه المبادئ مسقطة أو مفروضة، وإنَّما يمكن الكشف عن نواتها الكونيَّة في «الحدوسات الأخلاقيَّة» داخل العالم المعيش، كما يذهب إلى ذلك هابرماس. يجد الإحراج تعيينه هنا في التوتّر بين الكوني والخصوصي أو السياقي وما يؤول إليه من تبعات قيميَّة وثقافيَّة وأنثروبولوجيَّة.
خاتمة:
لا يمكن الاضطلاع بالتفكير في الكوني دون الوقوع في إحراجات قد لا تكون قابلة للتجاوز على المدى القريب، وهي قائمة نظريَّاً، ولكنَّها ذات تبعات على مستوى عملي وقيمي وحضاري. فقد كان تدبُّر شأن الكوني/الكلّي منذ البدء مخترقاً بالتوتّر، فهو يطرح في شكل نقيضه؛ أي في مقابل الجزئي، وفي صدام مع الخصوصي، وفي تعارض مع العولمي ...، كما أنَّه كلّما تمَّت إعادة التفكير فيه ضمن هذا المنعطف أو ذلك من تاريخ الفلسفة، ازدادت المعضلات التي يولّدها، بل قد يكون موضع ارتياب إلى درجة صرنا فيها على مشارف اليأس والتظنن من إمكانيَّة أن يكون الأفق الأنسب للمصير الإنساني.
ومع ذلك لا يمكن فصل معنى الكوني عن مسار تكوُّنه والمنعطفات التاريخيَّة والإبستيميَّة التي مرَّ بها، وهو بذلك لا يُعدُّ قضيَّة نظريَّة أو مجرَّد مبحث للمنطق أو الميتافيزيقا، إنَّه قضيَّة عمليَّة يتوقف عليه أحياناً وجود البشر في مختلف أبعاده، باعتبار أنَّ سؤال: ما الكوني؟ لا ينفصل عن سؤال: من نحن؟
وفي الحقيقة، لا يبدو أنَّ للثقافات خيارات متعدّدة في تعاملها مع الكوني، فهي:
إمَّا تنصهر فيه، وهنا يطرح بعضهم مقدار التَّضحية الأليمة التي من الممكن أن تقدم عليها الهويَّة في صورة سلوكها منحى الاندماج اللَّامشروط فيه، فمن خلال هذا التوجُّه هي تخاطر بخصوصيَّتها وبتراثها الرُّوحي، ولعلّها تفقد فرادتها فتحكم على نفسها بالموت، كما أقرَّ بذلك بودريار.
وإمَّا الانغلاق على هويَّة مماثلة لذاتها ومتمركزة حول نفسها، فتحوّل نفسها في هذه الحالة إلى مستودع للخصوصيَّات الثابتة والمتعالية على الزَّمان على نحو غير مشروط، ولعلَّ هذا ما يفرز واقعاً يتميَّز بالصراع تغذّيه فكرة أفضليَّة هذه الثقافة على تلك والتمركز العرقي...، وقد يؤول الأمر إلى «صدام ثقافات»، أو انبثاق هووي عنيف يطلق عليه أمين معلوف: «الهويَّات القاتلة».[30]
الخيار الثالث مستساغ نظريَّاً ولكنه غير ميسور عمليَّاً، ويتمثل في الاضطلاع بمشروع ذي خطوتين متلازمتين: إعادة بناء الهويَّة على أسس جديدة وعلى نحو تسمح لنا فيه بمشاركة الآخر الحضاري في إعادة صياغة أو تشكيل الكوني الأخلاقي، فتصبح الإنسانيَّة كما لو كانت «مجتمع شعوب» متكافلاً ومتسامحاً على حدّ عبارة جون رولز. ومكمن الإحراج هنا مضاعف: فمن جهة، إنَّ إعادة التفكير في الخصوصي الثقافي يصطدم بصعوبات جمَّة؛ أهمُّها الردُّ العنيف للهووي المنبعث من غياهب الماضي البعيد والرفض لمنطق المحايثة والتاريخ، فضلاً عن كون المجتمعات التي نعايشها ينطبق عليها توصيف رولز: «مجتمعات مغلوب على أمرها، مثقلة بظروف غير مواتية»[31]، وعاجزة عن إقامة مؤسَّسات عادلة، وهذا الوضع يعطّل أيَّ فعل تنويري أو إصلاحي جذري، ومن جهة ثانية لا يخفي بعض المفكّرين المتأثرين بأطروحة «نهاية التاريخ» قناعتهم المتشائمة والقائمة على التَّصديق بأنَّه قد أنهى «مسار تكوُّنه»، وفق عبارة لهيغل، مع أنَّنا ما زلنا نعتقد أنَّ الكوني المنبعث من الفرادة (singularité) والخصوصيَّة هو مشروع مفتوح، وبالأحرى: «كلُّ فرادة كونيَّة هي غير مكتملة أو مفتوحة»، بلغة آلان باديو.[32]
Toute singularité universelle est inachevable, ou ouvert
ومن الوجاهة والتعقّل القول: إنَّ البشر لا يصدّقون الكوني إلَّا إذا انبثق من فراداتهم وخصوصيَّاتهم على نحو لا يبدو فيه مسقطاً على نحو قسري، وإنَّما يساهمون هم أنفسهم في بنائه، فالكوني ليس معطى ثابتاً، وإنَّما هو في الغالب صرح يُبنى ويُشيَّد باستمرار من طرف أعضاء الإنسانيَّة العاقلة ووفق عبارة لباديو: «الكونيَّة ليست شيئاً آخر غير البناء الوفي لمتعدّد عامٍّ ولا نهائي»[33]. لكنَّ هذه الصيغة تطرح معضلة يصعب تجاوزها على المدى القريب، باعتبار التفاوت التاريخي القائم بين المجتمعات أو الأعضاء المتعدّدين وما ولّده من هيمنة تسعى الثقافة المستفيدة إلى تأبيدها بتعلاّت متعدّدة، بما فيها الكونيَّة الأخلاقيَّة ذاتها.
[1]- Ch. Taylor, les sources de soi, La formation de l’identité moderne, Paris, Seuil, 1998, p. 46
[2] - يطرح سقراط سؤال: ما الإنسان؟ في محاورة السيبياد، ويجيب عنه بقوله: «بما أنَّه لا الجسم ولا مجموع النَّفس هو الإنسان، فإنَّني أعتقد أنَّه لا يبقى لنا إلّا القول: إنَّ الانسان إمَّا لا شيء أو خير، فإذا كان شيئاً ما، فينبغي الاعتراف بأنَّه لا يمكن أن يكون غير النفس». فالنفس إذاً هي معنى كلّي؛ أي هي ما يشترك فيه البشر.
Platon, Alcibiade, trad. C. Marboeuf et J.-F. Pradeau, Paris, GF, 2000. 130c
[3] - Aristote, Seconds Analytiques, Livre 1, 31, (87b - 88a), trad. Tricot, 2014.p.52
[4] - Ibid. p. 52
[5] - Aristote, La métaphysique, livre VII, Z, 13 (1038b-1039a), trad tricot, "Les Universaux ne sont pas des substances". p.166
[6] - Aristote, De l'interprétation, 7, trad. J. Tricot.
[7] - بالرغم من قول بعض الدارسين إنَّ «خصومة الكليَّات» في القرون الوسطى تبدو مسألة بائدة، استعاد بعض الفلاسفة، ولاسيما برتراند رسل، وأيضاً بعض العلماء والإبستمولوجيين، النَّظرَ فيها ضمن سياق نظري مغاير، وخاصَّة مع هنري بوانكري وكلود لوروا. إلى جانب بعض الخبريين الوضعيين...، ومدار اهتمامهم هو التالي: هل القوانين العلميَّة التي هي كليَّة وضروريَّة تعكس نظاماً معقولاً يكمن خلف الواقع الطبيعي أم هي مجَّرد إبداعات حرَّة للفكر البشري تحمل أسماء أطلقها عليها الذهن؟ وهنا يطفو على سطح المشهد الإبستمولوجي الصراع القديم/ الجديد بين المذهب الواقعي والاسمي. انظر على سبيل المثال:
David M. Armstrong, Les Universaux. Une introduction partisane (1989), traduit de l'anglais par S. Dunand, Br. Langlet et J.-M. Monnoyer, Ithaque, coll. "Science & Métaphysique", 2010.
[8] - يعرض أرسطو رؤيته للعبوديَّة كنظام طبيعي في المجتمع ضمن بداية الكتاب الأوَّل من السياسة. القول بهذا التمايز بالطبع بين السيّد والعبد يضرب في العمق فكرة المعنى الكلّي للإنسان. انظر: Aristote, La politique, livre I، وخاصَّة المقاطع التالية:
(1259b22-1260b7) (1253b15-1255b40) (1252a30-1252b9)
[9] - هيغل: موسوعة العلوم الفلسفيَّة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الطليعة، بيروت، ص 387
[10] - E. Kant, Œuvres philosophiques, sous la direction de F. Alquié, Paris, 1980, p .421
[11] - E. Kant: Critique de la raison pure, introduction, § VII, III, 43.
[12] - Hegel, Principes de la philosophie de droit, trad. A. Kaan, Paris, Gallimard, 1966, §135.
[13] - Hegel, Ibid, §135
[14]- J.Habermas, Les objections de Hegel à Kant valent-elles également pour l'éthique de la discussion, in De l'éthique de la discussion, Paris, les éd. Du Cerf1992, p.15.
[15] - Hegel, Ibid, §135
[16] - هيغل: موسوعة العلوم الفلسفيَّة، مرجع مذكور، ص 386
[17] - في كتابه: «الفكر ما بعد الميتافيزيقي» يرى هابرماس أنَّ الفكر الفلسفي اشتغل تاريخيّاً على ثلاثة برادايمات متتالية: الوجود (الفلسفة القديمة)، والوعي (الفلسفة الحديثة) واللغة (الفلسفة المعاصرة)، بيد أنَّه يؤكد على أهميَّة المنعرج اللغوي أو التداولي. «إنَّ تغيير البرادايم الذي يمثّله الانتقال من فلسفة للوعي إلى فلسفة للّغة يشكّل انفصالاً أكثر عمقاً من القطيعة مع الميتافيزيقا».
J. Habermas, La penséepost métaphysique, Essais philosophiques, Paris, Armand Colin, 1993, p.13
[18] ـ يتعيّن هنا التمييز بين تداوليّة (la pragmatique) وبراغماتيّة (le pragmatisme) (أو ذرائعيّة بحسب بعض الترجمات): فالمصطلح الأخير يفيد المذهب الذي يرى أنَّ القيمة الحقيقة للأشياء والأفعال تكمن في الممارسة والنجاعة، فيكون البراغماتي نقيضاً لكلّ ما هو تأملي ومجرَّد في الفلسفة (خاصَّة وليام جيمس وجون ديوي)، أمَّا المصطلح الأوَّل، فهو يعني أساساً دراسة العلامات اللّغويَّة في السياق أو التّواصل في العالم المعيش خلافاً للتناول الفونولوجي أو السيمونطيقي أو التركيبي للّغة. انظر:
Françoise Armengaud, La pragmatique,Paris. coll. Quesais-je, Puf, 5éd, 2007.
[19] - Habermas, Notes programmatiques pour fonder en raison une de la discussion, in Morale et communication,Paris, éd.Cerf, 1991, 63, et Habermas, que signifie «éthique de la discussion» in, De l'éthique de la discussion, op. cit, p.16.
[20] - J. Habermas, Morale et communication, op. Cit, pp. 86 - 87, De l’Ethique de la discussion, op. Cit, p. 123
[21] - J. Habermas, Notes programmatiques pour fonder en raison une éthique de la discussion, in Morale et communication, op. Cit, p. 114
[22] - يقصد هابرماس بـ«عقل مونولوجي» ذلك العقل الذي يحاجج داخل أطره الخاصَّة انطلاقاً من مقولاته الذاتيَّة، ويصدر أوامره دون اعتبار للّغة والتواصل مع الآخر والممارسة الاجتماعيَّة، أو ما يطلق عليه في بعض كتبه، وخاصَّة في الخطاب الفلسفي للحداثة «العقل المتمركز حول الذات»، كما اعتمدته فلسفات الذات ابتداء من ديكارت وهيغل.
[23] - Axel Honneth, La dynamique sociale du mépris, D'où parle une théorie critique de la société? In Habermas, la raison, la critique, Paris, Cerf, 1996, p.245
[24] - R. Rorty, Contingence, ironie et solidarité. Paris: A. Colin, 1993, p 259
[25] - Alain Badiou, Saint Paul. La fondation de l’universalisme, Presses universitaires de France, 1997, p.14
[26] - "Huit thèses sur l’Universel", in Jelica Sunnic (dit.), Universel, singulier, sujet, Paris, Kimé, 2000, 3°thèse.
[27] - J. Baudillard, art. Le mondial et l'universel, in La libération, 15 mars 1996
هذا المقال مترجم ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر- السلطة الجهنميَّة- العدد 134-135 ابتداء من الصفحة 42
[28] - Baudrillard, Ibid, p.12
[29] - Ch. Taylor, les sources de soi, La formation de l’identité moderne, op.cit. p.87
[30] - A. Maalouf, Les Identités meurtrières, Grasset, Paris, 1998
الترجمة العربية: أمين معلوف: الهويَّات القاتلة، ترجمة: د. نبيل المحسن، ط1، دمشق، ورد للطباعة والنشر والتَّوزيع، 1999
[31] - جون رولز، قانون الشُّعوب وعودة إلى فكرة العقل العام، ترجمة: محمَّد خليل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2007، ص 18
[32]-A. Badiou, huit thèses sur l'universel, op. cit.7°thèse
[33]- A. Badiou, huit thèses sur l'universel, op. cit.8°thèse