"إسلام ضد إسلام" في المجال التداولي الفرنسي
فئة : قراءات في كتب
اضطر الباحث الفرنسي جيل كيبل إلى تقديم تاريخ صدور كتابه الأخير المُخصّص للظاهرة "الجهادية" في فرنسا[1]، بسبب اعتداءات باريس الأخيرة (المؤرخة في 13 نونبر 2015).
أما المفكر الفرنسي مشيل أنفريه، فقد اضطر إلى تأجيل صدور كتابه المُخّصص للإسلام[2]، وذلك بسبب القراءات البحثية الإعلامية التي أساءت إلى مواقفه بخصوص التوقف عند أسباب الظاهرة "الجهادية" في المجال التداولي الفرنسي، ومعلوم أننا إزاء ظاهرة مركبة، وبالتالي تتطلب قراءات مركبة ومتشابكة[3]، ولكن توقف أنفريه عند بعض الأسباب المرتبطة بالسياق الغربي، في شقه السياسي على الخصوص، تسبب له في إثارة تلك الانتقادات.
من جهته، لم يتردد المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل طود كثيراً وأصدر كتاباً أسال الكثير من المِداد مباشرة بعد اعتداءات "شارلي إيبدو"، وعنوانه: "ما هي [أزمة] شارلي؟ أزمة سوسيولوجية دينية"[4]، وسَلّط الكتاب الضوء على مواقف النخبة السياسية والفكرية من الدين على الخصوص، وخاصة المسيحية والإسلام، هناك في المجال التداولي الفرنسي[5].
أما ضيف هذا العرض، الباحث المغربي محمد لويزي، فلم يضطر إلى تأجيل أو تقديم إصدار يتطرق لتجربته مع إحدى حركات "الإسلام السياسي" في نسختها المغربية والفرنسية[6]، رغم أن مضمون الكتاب يتقاطع بشكل مباشر مع مضامين كتاب جيل كيبل وميشيل أنفريه، بل ويشتبك معها، إلا أنه للمفارقة، كل كتاب من الكتب الأربعة سالفة الذكر، يُكمل الباقي، وكل من مرجعية ومنهجية مغايرة للباقي، وهنا مكمن نوعية هذه الأعمال.
الكتاب وعنوانه: "لماذا انفصلت عن "الإخوان المسلمين؟""[7]، شهادة من الداخل، وشهادة موثقة، بالمعطيات والوقائع والشهادات، ويقدم خدمة للباحثين وللعامة والخاصة على السواء، وبالتحديد للذين يرغبون في قراءة الظاهرة الإسلامية الحركية، كما أنه يُغذي بشكل عَمَلي بعض الانتقادات التي غالباً ما توجه للمشروع الإسلامي الحركي (الإخواني، السلفي، "الجهادي".. إلخ)، ونتحدث عن الانتقادات الوجيهة والموضوعية، وليس الانتقادات المؤدلجة.
ومعلوم أنه من فرْط التماهي الذي يقيمه الفاعل الإسلامي الحركي بين الدين والتديّن، غالباً ما تتم قراءة هذه الانتقادات على أساس أنها مُوَجّهة للدين، مع أن الأمر خلاف ذلك، ولكن هذا واقع لا يرتفع، وسيبقى الأمر كذلك طالما بقي هذا التماهي قائماً بين الدين والتديّن[8] عند مُجمل المشاريع الإسلامية الحركية. ومن هنا أهمية بعض الأعمال البحثية التي تشتغل على إحداث هذا التمييز النظري بين الدين والتديّن، دفاعاً عن الدين، وليس دفاعاً عن تيار أو جماعة أو حزب.
النقد بين القراءات الإيديولوجية والقراءات المعرفية
من مُميزات هذا الكتاب، أنه يُعتبر جسراً بين القراءات الإيديولوجية والقراءات المعرفية [الإبستمولوجية] للظاهرة الإسلامية الحركية، وبيانُ ذلك من ثلاثة أوجه على الأقل:
1 ـ أولهما أن السائد بحثياً، بله إعلامياً، في التعامل مع هذه الظاهرة، موزع بشكل عام على خياري التقديس والشيطنة، من منطلق أن المرجعية هنا مرجعية إيديولوجية أساساً، وليس مرجعية معرفية، حتى لو زعمت خلاف ذلك، بمعنى حتى لو زعم هذا الباحث أو الكاتب الانتصار للمرجعية العلمية عوض المرجعية الإيديولوجية في تناول الظاهرة، فإنه غالباً ما تكون الخلاصات تصب في صالح توجهه الإيديولوجي، ويكفي مثلاً، قراءة مقالات ودراسات الكتاب والباحثين الإسلاميين في تعاملهم مع الظاهرة، بحيث يصل الأفق الإيديولوجي إلى مقام نقد باقي الإيديولوجيات الإسلامية المنافسة على النطق باسم هذا الفصيل الإسلامي الحركي (دعوياً، كان أو سياسياً أو جهادياً[9]).
2 - وثانيهما أن الكتاب يعج بالمفاتيح التي تساعد الباحثين الراغبين في الانتصار لمقتضى المسؤولية العلمية في التعامل النقدي مع الظاهرة، وليس الانتصار لمقتضى الانتماء الإيديولوجي، وفي هذا السياق، سنتوقف في هذا العرض عند بعض[10] هذه المفاتيح.
3 - نأتي للوجه الثالث، والذي يخول لقارئ/ ناقد الكتاب تصنيف العمل في خانة المؤلفات التي تقترب أكثر من القراءات العلمية النقدية للظاهرة منه إلى القراءات الإيديولوجية، حيث عاينا أن ما حصل مع أب المؤلف، بخصوص النهل من ثقافة عامة ساعدته على عدم السقوط في تقديم البيعة لهذا المشروع الديني الطائفي أو غيره، هو عين ما حصل مع مؤلف الكتاب لاحقاً، من خلال اطلاعه وانفتاحه على أسماء بحثية، تفكر من خارج النسق الفكر الإسلامي، أي من خارج "نظام الفكر" الإسلامي الحركي، إذا استعرنا دلالات مفهوم "أنظمة الفكر" كما سطرته أعمال ميشيل فوكو، وخاصة ما حرره في كتابه الشهير "الكلمات والأشياء".
وتتضح معالم انفتاح الأفق المعرفي للمؤلف من خلال تأمل لائحة مراجع الكتاب، ونذكر من بين الأسماء: الباحث سمير أمغار (المتخصص في الظاهرة السلفية الوهابية)، الروائي البرازيلي باولو كويلهو، الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس، الباحث المغربي عبدو فيلالي أنصاري، المفكر الفرنسي الراحل رينيه جيرار، والذي اشتهر في مجالنا التداولي من خلال ترجمة كتابه عن "العنف والمقدس"، الروائي الفرنسي من أصل لبناني أمين معلوف، الراحل عبد الوهاب المؤدب الذي أصبح ينهل من المرجعية الصوفية في آخر أعماله ومواقفه، الإمام والباحث الفرنسي طارق أوبرو، وهو إمام بمدينة بوردو الفرنسية، المفكر التونسي محمد الطالبي، الداعية والباحث جودت سعيد، أحد رموز تيار "اللاعنف" في مجالنا التداولي الإسلامي، السياسي والباحث السوداني حسن الترابي، ولائحة عريضة من الأسماء. [بل إن الصفحة رقم 139 من الكتاب تتضمن الأسماء التالية مجتمعة: ابن رشد ومحمد عابد وطه عبد الرحمن وبابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر].
واضح أن النهل من مُجمل اجتهادات هذه المراجع، يُخوّل للمؤلف الاقتراب من امتلاك نماذج تفسيرية مُركبة، عوض المناهج التفسيرية الاختزالية السائدة في القراءات الإيديولوجية.
مفاتيح مفاهيمية
نحسبُ أن هناك مجموعة من المؤلفات التي حري بالنقاد الاطلاع عليها، من أجل الاستفادة النظرية الأمثل من مضامين كتاب محمد لويزي، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، أعمال ميشيل فوكو، (من خلال استحضار مفاهيم "أنظمة الفكر"، و"الإبتسمي" Epistémè)؛ محمد أركون (من خلال استحضار مفهوم "السياج الدغمائي المطلق"، والترجمة هنا لهاشم صالح)؛ وطه عبد الرحمن (وخاصة في كتابه "العمل الديني وتجديد العقل" حيث يتحدث عن تعرض العمل الإسلامي الحركي للتسلف والتسييس)؛ عبد الجواد ياسين (والإحالة بالتحديد على كتابه "الدين والتديّن")، وغيرها من الأعمال.
نأتي لبعض مفاتيح الكتاب، ونبدأ بالمفتاح الذي يكاد يكون قاسماً مشتركاً في المشاريع الدينية الحركية، أي مفتاح "التمكين"، وهذا المفهوم كما هو معلوم، يُعتبر من المفاهيم المحورية في مشروع الحركات الإسلامية، في شقها السياسي على الخصوص، لأن الأمر مختلف كثيراً مع "الجهاديين"، والذين يطبقون ما يؤمنون في كل حيز جغرافي استولوا عليه.
هذا المفهوم كان حاضراً كثيراً في الكتاب[11]، حيث تمت الإحالة عليه في العديد من فصوله، كما تم التفصيل فيه، بالإحالة أساساً على ما سَطرته أدبيات حسن البنا، مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين"، وجاء ذلك بتدقيق وشرح[12] في الفصل الحادي عشر من الكتاب، وعنوانه: "في أصول [مشروع] التمكين"، متوقفاً عند المحطات الأربع لهذا المشروع/ الأطروحة، وهي: "التعريف"، "الاصطفاء"، "المغالبة والتقويم"؛ وأخيراً، "التمكين". (ص 154)
هذا عن مفهوم/ مشروع التمكين في المجال التداولي الإسلامي ــ العربي، ولأنه يصعب الترويج لنفس المفهوم/ الشعار في باقي المجالات التداولية، ومنها المجال التداولي الغربي (الفرنسي نموذجاً)، فقد توقف المؤلف في الفصل الموالي (الفصل 12) من الكتاب عند المفهوم الذي سيُعوض "التمكين"، استحضاراً لمقتضى السياق الغربي، ويتعلق الأمر بمفهوم "التوطين"، وتحديداً، "توطين المواطنة"، ويتم تفعيل مقتضى هذا المشروع البديل من خلال الرهان على النخبة، وهذه أمور توقف عندها المؤلف بالتفصيل والأمثلة والوقائع في فصل "في قلب أوروبا الحلم السر"[13].
يؤاخذ المؤلف على الدولة الفرنسية، اعتقادها الخاطئ بأنها تمنح مكانة مشرفة للإسلام ولكنها في الواقع تفسح المجال للظاهرة الإسلامية الحركية (ص 11)، التي "تعادي الأنوار"، وهذا الكتاب مساهمة في تنوير كل من يهمهم الأمر، والكتاب حسب مؤلفه موجهة على الخصوص للشباب الفرنسي المسلم الذي أصبح فريسة سهلة في أعين المشاريع الإسلامية الحركية، نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أن المؤلف قضى 15 سنة في التنظيم الإخواني، في فرعه المغربي أولاً ثم في الفرع الفرنسي، مع "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" [UOIF].
نبي مسلمي فرنسا لا يحمل اسم سيد قطب
إن الجمهورية ــ يضيف المؤلف في خاتمة الكتاب ــ ستفقه جيداً أن الإسلام ليس حركة إسلامية، وأن نبي مسلمي فرنسا (أو "إسلامات فرنسا")، لا يحمل اسم محمد بن عبد الوهاب أو حسن البنا أو سيد قطب. (ص 240)، وما أكثر الوقائع والتجارب الميدانية التي يتوقف عندها المؤلف بالإشارة أو التذكير، وهي وقائع تعتبر مادة خام عند الباحثين، بخصوص قراءة الظاهرة، وفيما يتعلق بمقتضى هذا الإشارة التي تصب في إحداث فصل بين معتقدات مسلمي فرنسا (ومسلمي الغرب عموماً)، مع مشاريع المشاريع الإسلامية الحركية، ومنها هذا الفصل بين إسلام فرنسا وإسلام حسن البنا[14]، فقد كان دالاً توقف الكاتب عند موضوع أول خطبة جمعة مؤرخة في 11 فبراير 2011، هناك في أحد مساجد مدينة ليل (شمال (فرنسا)؛ أي الخطبة الأولى التي تلت تنحي الرئيس المصري السابق حسني مبارك، حيث اتضح أنها كانت مُخصّصة لحسن البنا دون سواه. (ص 190)، مطالباً ومذكراً في خاتمة العمل بأن "المساجد أماكن للعبادة وليس مقرات للأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية الحركية (ص 247)، وهذا ما نعاينه منذ عقود في المجال التداولي الأوروبي من فرط هذه الممارسات.
نذكر من بين هذه الممارسات، الهواجس المالية المرتبطة بجمع التبرعات المالية كلما تعلق الأمر بتشييد مسجد، حيث يورد الكاتب شهادات في هذا الصدد، عاينها عملياً في الساحة الفرنسية، موجهاً الدعوة إلى الاستفادة من التجربة المغربية في ضبط التبرعات الخاصة ببناء المساجد، والتي أصبحت مُقننة اليوم، بخلاف السائد في الساحة الفرنسية. (ص253 وص 255).
في الفصول الأولى من الكتاب يتوقف المؤلف عند اعتناق الأب لتديّن إسلامي مشرقي لا علاقة له بـ"الإسلام المغربي" (أو تدين المسلمين في المغرب)، بخلاف إسلام الجد، الذي كان أقرب إلى تديّن البادية. (ص 23).
بالرغم من ذلك، سوف تتضافر أربعة عوامل على الأقل التي حالت دون أن يُصبح أب المؤلف، عضواً فاعلاً أو قيادياً في إحدى المشاريع الإسلامية الحركية المغربية، إخوانية أو سلفية أو "جهادية"، وجاءت هذه العوامل كالتالي: وعي الأب بتوظيف الدين من طرف [السلفية] الوهابية لأغراض عسكرية وسياسية وجيواستراتيجية وخاصة في أحداث حرب الخليج الثانية التي تلت غزو العراق للكويت؛ هناك أيضاً تبعات ودلالات الحرب الدموية بين مختلف الفصائل الإسلامية "الجهادية" في أفغانستان، بين 1992 و1996، بعد خروج الجنود السوفيات؛ ثم إصرار الأب على عدم تقديم البيعة[15] لأي تنظيم إسلامي حركي، بما خوّل له أخذ مسافة من هذه المشاريع والجماعات؛ وأخيراً، الدور الكبير الذي قامت به الأدبيات والمؤلفات والمنشورات التي كان يطلع عليها الأب، ومن شتى الحقول المعرفية، بما خوّل له النهل من ثقافة عامة منفتحة، ساهمت بشكل أو بآخر، في إنقاذه، برأي المؤلف. (ص 28).
كما توقف الكاتب عند البدايات الأولى للمشروع الإسلامي في شقيه الإخواني و[السلفي] الوهابي، مستحضراً سياقات سياسية ودينية في المغرب والمنطقة والعالم، مع سقوط جدار برلين، وقبله حرب أفغانستان، وبالطبع، تراجع المد اليساري والقومي والاشتراكي، مع تعويضه بالمد الإسلامي الحركي، وكان أب المؤلف، أحد ضحايا هذا المد الإسلامي الحركي، حيث بقي حوالي 15 سنة، ضحية تديّن مشرقي عنيف ورجعي وحافل بممارسات بدوية صحراوية جسدت [ولا تزال تجسد] قطيعة مضادة مع قيم الإسلام المغربي المتسامح، والذي تعود أصوله إلى قرون مضت. (ص 27).
الظاهرة الإسلامية الحركية وسؤال الفن
أشرنا في عمل سابق، إلى أن سؤال الفن، يبقى من الأسئلة التي تؤرق بال العقل الجمعي للمسلمين اليوم، ونتحدث عن عقل العامة والخاصة على حد سواء، وأن يكون هذا السؤال الفني يؤرق بال العقل الجمعي للمسلمين، فأن يؤرق بال الإسلاميين أولى، على الأقل، أغلب المسلمين منخرطون ومتفاعلون مع الظاهرة الفنية، في انتظار الحسم مع التحديات المستجدة التي تفرضها الظاهرة، وهي تحديات قامة مثلاً من باقي المجالات التداولية، بينما سؤال الفن عند أتباع المشروع الإسلامي الحركي، لا زال من الأسئلة التي يتم اختزالها في دائرة الممنوعات والتحريم والاختزال (وهذا يجرنا إلى أسئلة الموسيقى، الصورة، الجمال.. إلخ).
في هذا السياق إذاً، مُهمٌ تأمل وصف الكاتب لأول خروج علني في الفضاءات العمومية بفرنسا، ويتعلق الأمر بحضور حفل فني في مسرح، معتبراً أن الأمر كان مغايراً لنا تعود عليه من قبل في تلك المساجد، والتي، نظرياً فقط تبقى مساجد، ولكن عملياً، كانت أماكن عبادة تضم فاعلين إسلاميين يعيشون فيما يُشبه قطيعة مع المحيط المجتمعي. (ص 91)، وفي مقام آخر من الكتاب، يتوقف المؤلف بشكل أدق عند دور الفن في تهذيب النفوس (ص 128)، وواضح أن هذا الدور لا زال مُغيباً في العقل الجمعي للمشروع الإسلامي الحركي، وإن طرقه، يتم ذلك تحت عنوان "الأسلمة"، من قبيل "أسلمة السياسة"، و"أسلمة المعرفة"، و"أسلمة العمل النقابي" و"أسلمة العمل الطلابي" وغيره.
انفصال الكاتب عن مشروع التنظيم لم يكن هيناً، خاصة أن الانتماء، كان يُقوض من حرية العضو في التنظيم (ص 50)، مُلخصاً بشكل دقيق تبعات التنازل الطوعي عن هذه الحرية الإنسانية/ الدينية كالتالي: "عام 1996، كان نهاية الإسلام [عندي]، وبداية الظاهرة الإسلامية الحركية مع إعلان البيعة[16]" (ص 55).
نقرأ من تداعيات انفصال المؤلف عن التديّن الإسلامي الحركي، أنه تسبّب له في صدور اتهامات وحملات إدانة، بل وصل الأمر، في واقعة طريفة، إلى حديثه عن تعرضه لما اصطلح عليه بـ"الاغتيال المعلوماتي" (ص 124) الذي يُصبح مقدمة "للاغتيال النفسي والمجتمعي"، ويروم هذا الأخير التأسيس للحصار وإقامة ما يُشبه "محاكم التفتيش"، فقط لأنه أخذ مسافة نظرية وعملية من التنظيم، وأعلن الطلاق البائن بلا رجعة. (ص 125).
وتطرق الكاتب لهذه الوقائع في فصل قائم، عنوانه: "عندما يفصل اتحاد المنظمات الإسلامي رأسي عن جسدي ويحاول محو ذاكرتي"، مُرفقاً في ملاحق الكتاب صورة[17] توضح حقيقة هذا "الفصل الرقمي" للرأس عن الجسد، وهي صورة دالة تختبر بشكل عملي/ ميداني خطاب المشروع الإسلامي الحركي حول الموقف من الغير القريب، قبل التوقف عند الموقف من الغير البعيد، وتحيلنا على مأزق التماهي بين الدين والتديّن، كما سلف الذكر، عندما يُصبح الخروج عن هذا التديّن، مرادفاً للخروج عن الدين في الإبتسم الإسلامي الحركي، ونسقط فيما يُشبه "إسلام ضد الإسلام"[18].
إسلام و"إسلامات"
أشرنا في مطلع هذا العرض إلى أنه مُفيد للنقاد النهل أو الاطلاع على بعض أعمال عقول إبداعية وازنة في مجالنا التداولي أو باقي المجالات التداولية من باب قراءة الظاهرة الإسلامية الحركية، ونتوقف هنا عند نموذج تطبيقي لهذه الإشارة، ويتعلق الأمر بعروج المؤلف في أكثر من مقام على مفردة "الإسلام المغربي" أو الإسلام في المغرب، [نسبة إلى المسلمين المغاربة] وكانت هذه العبارة حاضرة كثيراً في مقدمة وخاتمة الكتاب (في ص 266 وأيضاً في ص 269).
لكي يفقه الناقد أكثر مضامين مثل هذه التوصيفات، يمكن مثلاً، الاستشهاد بما حرّره الراحل محمد أركون، والذي يخلُص إلى أن "هناك عدة أنواع من الإسلام (= من "الإسلامات") بقدر عدد الفئات العرقية ــ الثقافية. وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار منطقة متناغمة ومنسجمة عرقياً ولغوياً كالمغرب الكبير [بخلفيته البربرية المشتركة التي اعتنقت صيغة محددة من العقل الإسلامي المالكي]، فإننا سنجد فيها أنواعاً عددية من الإسلام مطابقة لتعددية الممارسات والطقوس المحلية واختلافاتها. إن هذه الاختلافات ليست ناتجة فقط عن دوام واستمرارية هوية كل فئة أو جماعة، وإنما ناتجة أيضاً عن تاريخ الروابط بين كل فئة على حدة مع الدولة الإسلامية المركزية"[19].
مسك الختام نخصصه لإحدى أهم القواسم المشتركة بين كتاب محمد لويزي ورواية "كنت إسلامياً"[20] للكاتب والإعلامي المغربي عمر العمري، ولا نتحدث عن القاسم المشترك البَدَهي الذي قد يتبادر لأذهان الناقد المتتبع للظاهرة الإسلامية الحركية في نسختها المغربية، أي قاسم المرور على تجربة إخوانية مُجسّدة في حركة إسلامية وحزب إسلامي يقود الحكومة المغربية الحالية، هذا تفصيل يندرج في خانة "الروايات الصغرى" بتعبير أدب "ما بعد الحداثة"، وإنما ثمة قواسم أهم، وفي مقدمتها ذلك الإقرار الذي نعاينه مِراراً في الكتابين، من أن الانفصال النهائي عن المشروع، أشبه باعتناق جديد للإسلام، من منطلق أن الانتماء السابق للظاهرة، كان يُقيد الانتماء الحقيقي للإسلام، وهذه خلاصة نعاينها خصوصاً في خاتمة العَمَلين، ومع هذا الكتاب، نتوقف عند مضامين ودلالات اعترافات صادرة عن المؤلف، تلخص العديد من القراءات للظاهرة بشكل عام، في زمن اختلطت فيه أوراق الدين والعقيدة والشريعة والإيمان وغيرها من المفاهيم.
في نبرة مُكاشفة مع الذات، لَخّصَ محمد لويزي المشهد كالتالي: "عمى السلطة أنساني إنسانيتي؛ وزيف المظاهر أنساني بصيرتي؛ والرضوخ للشيخ أنساني خالقي". (ص 261)
[1] Gilles Kepel, Terreur dans l’Hexagone: Genèse du djihad français, Gallimard, Paris 14 décembre 2015.
مع الإشارة إلى أن كتابه هذا جاء تفاعلاً مع اعتداءات "شارلي إيبدو" المؤرخة في 11 يناير 2015
[2] Michel Onfray, Penser l'islam, Grasset, Paris, 2016.
[3] سوف نتوقف لاحقاً عند أهم مضامين كتاب ميشيل أونفريه، لأهمية بعض مضامينه.
[4] في معرض قراءته الاستطلاعية للكتاب، اعتبر السيد ولد أباه، أن الكتاب يُسلط الضوء على "المعطيات الجيوسياسية المتولدة عن أزمات الإسلام الداخلية التي تبرز في أنماط ثلاثة هي: الصراع الطائفي المتفاقم والتطرف الديني المسلح ودخول تيارات الإسلام السياسي المتعصبة في عمق مصاعب الانتقال السياسي التي تشهدها العديد من البلدان. الأزمات الثلاث المذكورة نقلت الإسلام -ديناً وأمة- إلى قلب الرهانات الجيوسياسية العالمية، حيث يلتبس المكون العقدي الديني بأنماط توظيف الرأسمال الديني في رهانات مجتمعية لا يمكن استكناهها بأدوات ومفاهيم التحليل الديني".
انظر:
السيد ولد أباه، "مشكل الإسلام": مأزق التأويل والتدبير، صحيفة الاتحاد، 18 مايو 2015
[5] Emmanuel Todd, Qui est Charlie?: Sociologie d'une crise religieuse, Seuil, Paris, mai 2015, 252 pages.
[6] Mohamed Louizi, Pourquoi j'ai quitté les Frères musulmans? Editeur: Michalon, Paris, janvier 2016
جاء الكتاب في 330 صفحة، من الحجم المتوسط، وتضمن مقدمة وستة عشر فصلاً، وخمسة ملاحق.
[7] ارتأينا ترجمة الكتاب بهذا العنوان عِوَضَ العنوان الذي يتباذر للأذهان لأول وهلة، أي "لماذا تركت الإخوان المسلمين؟".
[8] نقول هذا، ونحن نستحضر بعض الأعمال النوعية في هذا المقام، نذكر منها كتاب عبد الجواد ياسين، "الدين والتديّن".
انظر الرابط التالي الذي يستعرض بعض مضامينه:
عادل الطاهري، "الدين والتدين" أو الإلهي والاجتماعي في الظاهرة الدينية: قراءة في كتاب عبد الجواد ياسين "الدين والتدين".
www.mominoun.com/articles/الدين-والتدين-أو-الإلهي-والاجتماعي-في-الظاهرة-الدينية--قراءة-في-كتاب-عبد-الجواد-277
[9] ليس صدفة، والحالة هذه، أن تصل الخلافات بين بعض الفصائل الإسلامية "الجهادية" في حقبة ما بعد اندلاع أحداث "الربيع العربي"، إلى مقام الدماء.
[10] نتحدث عن بِضع مفاتيح ولا نتحدث عن كل المفاتيح، لأن الكتاب حافل بها، ومن الصعب الإلمام بها كاملة، بل نذهب إلى أن الكاتب نفسه، ربما لم ينتبه إلى أهمية بعض هذه المفاتيح المفاهيمية المهمة الواردة في الكتاب، وتحيلنا على مؤلفات وأعلام فكرية من المجالين التداولي، الإسلامي والغربي على حد سواء، سبقت أن اشتغلت عليها بشكل نظري، ونعاين في الكتاب تطبيقات عملية لهذا الاشتغال النظري الصرف.
[11] "ضد التمكين: الجمهورية والعلمانية، هو الفصل الخامس عشر من الكتاب.
[12] في هذا السياق، تضمن الكتاب ترجمة لوثيقة "رسالة الجهاد" لحسن البنا، من ص 215 إلى ص 231
[13] التفاعل النقدي للمؤلف مع هذا المفهوم ["التمكين"] يُزكي ما أشرنا سلفاً من أن الكتاب يُقدم مفاتيح نظرية وعَمَلية لقراءة الظاهرة الإسلامية الحركية، وهي مفاتيح تفيد العامة والخاصة.
[14] يُفرق أركون بين "الإسلام في محطاته الأولى كرسالة روحية كبرى متعالية، وبين الاتجاهات الإيديولوجية التي تشكلت فيما بعد وحاولت احتكار الرسالة لمصلحتها من أجل ترسيخ هيمنتها وسلطتها"، ويُضيف أنه "من السهل تبيان الرهانات المادية والسلطوية للصراع الذي جرى سابقاً (ولا يزال يجري حتى هذه اللحظة) بين الاتجاهات السنية والشيعية والخارجية [نسبة إلى للخوارج] وتفرعاتها العديدة".
انظر: محمد أركون، تاريخية الفكري العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1998، ص 145
[15] هذه إشارة مهمة حول مأزق الولاءات الموزعة على الجماعة أو الوطن عند المشاريع الإسلامية الحركية.
[16] مفهوم "البيعة" كان حاضراً أيضاً في أكثر من محطة من فصول الكتاب، والبيعة هنا تتم عبر 10 أركان (ص 108)، وكان مثيراً حسب الكاتب، أن نكون إزاء نفس البيعة السائدة في حقبة أربعينيات القرن الماضي في عهد حسن البنا، مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين".
[17] جاءت الصورتان في الصفحة 328، حيث نعاين في الصورة الأولى حضور مؤلف الكتاب مع مجموعة من الناشطين المنتمين إلى الفصيل الإسلامي الإخواني، في ملصق دعائي مؤرخ في 2005، مقابل غياب صورة المؤلف في نفس ملصق دعائي آخر صدر بتاريخ 2008
[18] واضح أن الحديث عن "إسلام ضد الإسلام"، يُحيلنا على عنوان شهير لأحد أعمال الكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم، وصدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، وجاء في 379 صفحة. (الطبعة الثالثة، 2000).
[19] محمد أركون، تاريخية الفكري العربي الإسلامي، مرجع سابق، ص 104
[20] سبق أن استعرضنا أهم معالم هذا العمل الروائي النقدي، انظر:
منتصر حمادة، نقد ذاتي للمشروع الإسلامي الحركي: كنت إسلامياً أنموذجاً، بتاريخ 13 نوفمبر 2015، على الرابط الإلكتروني التالي:
www.mominoun.com/articles/نقد-ذاتي-للمشروع-الإسلامي-الحركي--رواية-كنت-إسلاميا-أنموذجا-3296