"إسلامية الدولة": فرضيات التّأسيس وجدوى التأصيل
فئة : قراءات في كتب
"إسلامية الدولة": فرضيات التّأسيس وجدوى التأصيل*
الكتاب: مفهوم الدولة الإسلامية، أزمة الأسس وحتمية الحداثة (مساهمة في تأصيل الحداثة السّياسية)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1 بيروت، أيلول سبتمبر 2014. (392 صفحة).
المؤلّف: امحمد جبرون.
يبحث الكتاب في فكرة "إسلاميّة الدّولة"، ويستعرض أركانها ومقوّماتها اعتمادا على مجموعة من الفرضيّات التأسيسيّة التي يعود الكاتب بموجبها إلى نقاش أهمّ خلاصات الفكر الإسلامي حول "دولة الخلافة الراشدة"، ويحلّل الانتقال السّياسي الكبير الذي شهدته في بروز الحاجة إلى السلطة القهريّة بعد أن عجزت السلطة الأخلاقيّة عن حكم الواقع، وتحوّل الشرعيّة من الأمّة إلى دولة العصبيّة، فلا يرى جدوى من استعادة دولة الخلافة باعتبارها أنموذجا لم يكتمل سياسيّا وتنظيميّا، فالدّولة الإسلاميّة ليست دولة العصبيّة (الدولة السلطانيّة المستبدّة) لأنّ الزمن قد تجاوزها، وليست دولة الشريعة وتطبيق الأحكام الشرعيّة، ويرى امحمّد جبرون في مقابل ذلك أنّ الدّولة الإسلاميّة الممكنة هي "دولة الوقت التي تعْمُرُ العالم" أو هي دولة - أمّة إسلاميّة تنزل على حكم ومقتضى القيم السّياسية العليا للإسلام المتحقّقة في البيعة والعدل والمعروف، وهي مبادئ وقيم "تحديثيّة" توجد في القرآن ودولة الرسول بشكل رئيسي، وينتهي المؤلّف إلى وجوب أن تُستخلص من هذين المصدرين وليس من غيرهما، في شكل استئناف لسياق بناء الدولة-الأمة الإسلامية الذي نهضت بأعبائه الحركة الإصلاحيّة العربيّة.
****
أصدر امحمّد جبرون عدّة مؤلفات منها: "الفكر السّياسي في المغرب والأندلس في القرن الخامس الهجري" (2008)؛ و"الإسلام والحداثة" (2009)؛ و"المقاصد في الفكر الإصلاحي الإسلامي (في أفق نظرية جديدة للعمل الإسلامي)" (2009)؛ و"إشكالية الوظيفة الدينية في الدولة المعاصرة" (2011)؛ و"فصول من تاريخ المغرب والأندلس؛ دراسات في الفكر والمنهج والمجتمع" (2013)؛ و"نشأة الفكر السّياسي الإسلامي وتطوّره" (2015)؛ و"إمكان النهوض الإسلامي- قراءة نقدية في المشروع الإصلاحي لعبد الله العروي" (2012)، إلى جانب مجموعة من الدّراسات والأبحاث المنشورة في إطار مراكز البحوث والدوريّات والمنتديات الإلكترونيّة.
تطرح مختلف هذه المؤلفات المذكورة للكاتب إشكاليات وأفكار متعدّدة، متعلّقة أساسا بالحقل الفكري السّياسي الإصلاحي، فتناقش في معظمها مسائل السّلطة السّياسية وأصولها وتقدّم محاولات للفهم والمقاربة، عن طريق النّظر في بعض إشكاليّات الفكر السّياسي الإسلامي؛ ومن بينها "إشكاليّة الجذور المدنيّة للفكر السّياسي الإسلامي"، و"إشكاليّة أصالة الفكر السّياسي الإسلامي وصفائه النّوعي"، و"إشكاليّة علاقة الوحي بالسّياسة"[1]، وإشكاليّة تأهيل الحقل الدّيني، ضمن محاولة تأصيل الدّولة من خلال إعادة هيكلتها، وإعطاء الوظيفة الدّينيّة ما تستحقّه سياسيًا ومؤسساتيًا وبشريًا، باعتبارها أحد الحلول لمعضلة الدّين والسّياسة في إطار الدّولة، ومتمّمًا استراتيجيًّا للمقاربات الأمنيّة في معالجة "الحركة الإسلامية السّياسية"[2]، وإشكاليّة أصل المقاصد في الفكر الإسلامي وتنظيم النّظر المقاصدي، والمقاصديّة الإسلاميّة بين النّظريّة والتّطبيق، وإشكاليّات المشروع الإسلامي في أفق العولمة، وما ينقصه في مواجهة الفكر الغربي...[3] إلى غير ذلك ممّا يطرحه امحمد جبرون في مؤلفاته وأبحاثه، ممّا لا يختلف عنه هذا الكتاب الذي نحن بصدد قراءته، إذ نجد فيه أصداء ما توصّل إليه من خلاصات ونتائج و"لواحق (Prolepses) أفكار" بخصوص الدّولة الإسلاميّة المأمولة في مؤلّفاته الأخيرة، كما نجد "أصول" منهجه الاستقرائي و"سوابق" (Analepse) أفكاره في مؤلفاته السّابقة.
ويهتم هذا الكتاب بالدّولة الإسلاميّة باعتبارها خلاصة لمجموعة مدلولات وإشكالات، يوردها بتسلسل زمني ومفهومي بدءا من إشكالية العلاقة بين الإسلام والسّياسة التي يطرحها من خلال مجموعة من الخطابات الحديثة التي تنظر إلى الدّولة الإسلاميّة وتحاول النّأي بها عن شكل الدّولة الحديثة العلمانيّة، وهو ما جعلها تتقوقع في نسق مغلق لا يفهم الواقع الحديث ويرفض التّعامل معه كما لا يربط المسائل السّياسية بأصولها في النّصوص والتّاريخ، ومن ثم يسائل في الفصل الأول، المعنون بـ: "الإسلام وأصول الحكم، النصّ القرآني" وينطلق منه في البحث عن فكرة السياسة ويضع لذلك مقاربة تفترض التوصّل إلى رؤية مختلفة عما يسمّيه "الأطروحات السالفة" عبر إطلالة على المناهج التي عنيت بفهم النصّ لدى المعاصرين وأنظمة تحليل الخطاب الديني ومناهج القراءة في "تماس مباشر مع القرآن" ويبيّن حدّة التناقضات التي طرحتها تلك المناهج بين إغراق النص كلّيا في التاريخ من جهة أو تحريره نهائيّا عنه من جهة أخرى. لينظر بعد ذلك في الفكرة السّياسية في تجربة الرسول التاريخيّة ويدرسها زمانا ومكانا ويبحث في الإرهاصات التنظيريّة الأولى لمصدريّة السنّة في التشريع من خلال البحث في منهج القدامى في فقه السنة ومن ثمّ البحث في نشأة العلاقة السّياسية بين الرسول وأتباعه التي كانت تختلف كثيرا عن علاقتهما الإيمانية، ويحلّل تلك العلاقة بمضامينها التي رأى الكاتب أنها تؤسس لمحتوى سياسي له مقوماته وظروفه وأول تلك المضامين "البيعة" التي كشفت عن وظيفة أخرى من وظائف الرسول وهي "وظيفة الإمامة السّياسية" ثمّ "العدل" الذي حمّله الكاتب أهميّة مفهوميّة سياسية بالأساس ونقله من سياق الإلهي المطلق في التجربة الإيمانية إلى سياق الممارسة الثقافية النسبيّة في الواقع. ثمّ "المعروف" بمفهومه المنفتح على المصلحة الدينيّة والدنيوية والذي رأى فيه الكاتب واجبا بالضرورة، وبه "تتحقّق المواطنة الإيجابيّة في الأمّة المسلمة بالنسبة إلى المسلم وغيره"[4]، وقد قدّم الكاتب ذلك في إطار متدرّج اعتمادا على التقريب بين الأحداث والأقوال والأسباب ليبني ما يسمّيه "استقصاء" على مبدإ عامّ يفيد بأنّ الدولة في المجال الإسلامي مقتضى تاريخي لا مقتضى دينيّ وأنّها هي من تحتاج إلى الدين وليس العكس، وهو ما سيتجسّد لاحقا في متن البحث من خلال الالتزام ببيان أسبقيّة الفعل السّياسي على الفعل الديني خاصة بعد انقضاء فترة النبوّة.
ويبحث الكاتب في الفصل الثاني، المعنون بـ: "دولة الرّاشدين وأرخنة الأصول"، المسألة بحثا عمليّا من خلال نموذج دولة الراشدين التي شهدت ما أسماه "تطبيقا واسعا لأصول الاجتماع السّياسي (البيعة والعدالة والمعروف)"، وما يدلّ عليه ذلك من تباين واختلاف فسّره باجتهاد الخلفاء الرّاشدين الحرّ وبمراعاتهم الشّديدة للأحوال المحيطة بهم، واستنتج من ذلك مدنيّة الممارسة السّياسية في الأطوار الأولى من التّاريخ الإسلامي، وينطلق الكاتب من دحض اعتبار أساسي يرى بأنّ فترة الخلافة الرّاشدة نموذجا سياسيّا تامّا اتّصف بجميع صفات الكمال السّياسي، فهو يبيّن مثلا أنّ أبا بكر كان يدرك جيّدا الفرق الكبير بين وضع النّبي ووضعه، وعلى هذا الإدراك تأسّست باكرا مدنيّة الدّولة الإسلاميّة على مستوى الوعي أوّلا، وبالتّالي انقطعت الشّرعية الدّينية (الرّسالة) للحاكم أو الإمام بانقطاع النبوّة، فانقطاع النبوّة كان بمثابة الفاصل التّاريخي الذي انتقلت ضمنه الدّولة الإسلاميّة من دولة الرّسالة إلى دولة السّياسة أو كما يطلق على ذلك الانتقال من "القرآن إلى السّلطان"، فقد واجه أبو بكر رجوع القبائل عن الإسلام ولاسيّما عن الرّكن المالي منه برفضهم دفع الزّكاة، وهي ردّة يصفها الكاتب بكونها ردّة عن المضمون السّياسي للإسلام لا ردّة عن الإسلام باعتباره دينا "فالمرتدون كانوا يطمحون إلى تفكيك الكيان السّياسي النّاشئ حديثا، والذي تتوحّد في ظلّه القبائل، ويمارس سلطة سياسيّة فوق القبيلة"[5]، غير أن هذه السّلطة القهريّة التي مارسها أبو بكر في بدايات دولة الخلفاء الرّاشدين وتمكّن بها من "إنقاذ مفهوم الدّولة من التّلاشي" لم تتواصل وسرعان ما ثوت لتترك المجال للسّلطة الأخلاقيّة التي لا تستند إلى شرعيّة الفعل السّياسي بقدر استنادها إلى المشترك الأخلاقي والقيمي. وحلّل الكاتب مثالا عن ذلك أطوار خلافة عثمان والظّروف التي حفّت بها وأدّت إلى إسقاطها وظهور الفتنة بين المسلمين، وهو ما طرح آنذاك اختلافاً حول أسس شرعيّة الخلفاء، ليبحث الكاتب في مفهوم البيعة ومحتواه وتوفّر شروطه ومفهوم العدل وكيفيّات تطبيقه استنادا إلى الشّريعة وكيف يفضي ذلك إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة والمرونة في تطبيق الحدود، وهي خاصّية ميّزت تعامل الخلفاء الرّاشدين مع النّص، بالإضافة إلى خاصّية أخرى تتعلّق باستمرار الاحتكام للأعراف ومعهود العرب في كثير من المجالات الحياتيّة، وهو ما مكّن الشّريعة الإسلاميّة من الاندماج في عصرها وتاريخها (أي الواقع).
وقد أدّى كل ذلك إلى تجاوز مرحلة الخلافة الرّاشدة شكلا ومفهوما والانتقال إلى دولة العصبيّة ويدرس الكاتب هذا التحوّل الاستراتيجي في التّاريخ السّياسي للإسلام من خلال الفصل الثّالث الذي يحمل عنوان: "دولة العصبيّة: الإسلام السّياسي التّاريخي"، فيبيّن تزامن هذا التحوّل في طبيعة الدّولة الإسلاميّة مع خلافة معاوية بن أبي سفيان وبأنّه كان مصيرًا محتومًا وقدرًا لا مفرّ منه، اكتفى إزاءه معاوية ومن جاؤوا بعده بتأمين الانتقال والتحوّل، بالنّظر إلى الظّروف الموضوعيّة التي يعرضها الكاتب والتي كانت تؤدّي شيئا فشيئا إلى فقدان دولة الخلافة الرّاشدة لمشروعيتها الأخلاقية والسّياسية (العرفيّة) كلّما تباعد بها الزّمن عن فترة النبوّة مما أثّر في المكانة الرّمزيّة والأخلاقيّة لمركز الخلافة الرّاشدة، وفقدت المدينة الكثير من امتيازاتها باعتبارها مستقرّ المرجعيّة السّياسية والدينيّة لعامّة المسلمين وانعكس ذلك التّدهور على بيعة علي بن أبي طالب، ولم يبق سوى شرعية "العصبيّة القويّة" (شرعية المتغلّب) لاستعادة الوحدة السّياسية وإنقاذ الدّولة الإسلاميّة، وبالتّالي يؤكّد الكاتب أن التّعصّب السّياسي هو الذي أعاد الدّولة إلى مسرح التّاريخ بعد انهيارها في الفتنة، وأنّه "لم يكن مشكلة - كما يتصوّر البعض - بل كان حلاّ تاريخيّا اضطراريّا لأزمة عويصة"[6] تمّ التّعامل من خلاله بشكل مختلف مع أصول الاجتماع السّياسي الإسلامي، وظهر ذلك في "استعصاب" البيعة أي جعلها عصبيّة وتلاشي أوصاف الحريّة والشورى والمشارطة، كما ظهر في أصل العدالة الذي فصّله الكاتب إلى مستوى جهاز العدالة، ومستوى الشّريعة، ومستوى العدالة الاجتماعيّة وانتهى إلى تطوّر إطارها السّياسي، ثم أصّل المعروف الذي بقي حضوره التّاريخي محدودًا وخاضعا للهواجس العسكريّة. وهكذا ففكرة الدّولة في منتصف القرن الأوّل كانت بين مسارين؛ إما التشبّث بشرعيّة الأمّة مع استحالتها التّاريخيّة وبالتّالي التحوّل إلى طوبى والانفصال على التّاريخ، وإما التكيّف مع الإكراه التّاريخي والقبول بالنّقص لذلك فـ "الدّولة الأمويّة والدّولة العبّاسية وغيرهما من الدّول التي جاءت بعدهما تعدّ تجسيدا لمبادئ الإسلام السّياسية في حدود المتاح تاريخيّا"[7].
وعلى الرغم من ذلك فإنّ دولة العصبيّة لم تكتسب مقوّمات بقائها أو دوامها وتقهقرت؛ ويدرس الكاتب ذلك في الفصل الرّابع الذي يحمل عنوان: الدّولة الإسلاميّة: أزمة الأسس وحتميّة الحداثة، حيث يقوّم آثار ذلك التّأزم والتّقهقر على مستوى أصول "الإسلاميّة" (البيعة والعدل والمعروف)، ويبيّن أن مساعي التّحديث التي حاولت إصلاح ذلك التّأزم "أحدثت تعارضا سيّئا بين مشروع الإصلاح ومبدإ الدّولة الرّئيس وهو الإسلام"[8]، ويتّخذ على ذلك مثالا الدّولة المغربيّة خلال العصر الحديث، باعتبارها تعكس "أعطاب دولة العصبية"، ويبيّن كيف انبثق الفكر الإصلاحي الإسلامي لمواجهة تلك الأعطاب لكنّه لم يُمنح الفرصة لذلك، إذ سرعان ما تدخّل الاستعمار ولم يترك للجماعة الإسلاميّة فرصة استكمال بناء نموذجها السّياسي المستقلّ. ويبيّن الكاتب بأن الاستعمار قد صادر جهد التّحديث الذي راكمه المسلمون، وألحقهم قسرا بنموذجه السّياسي، من دون مراعاة حقيقيّة وجدّية لخصوصيّة الاجتماع السّياسي الإسلامي. وجرت معارضة سيادة الأمّة بسيادة الله، الشّيء الذي نتج عنه خروج المعركة الإصلاحيّة عن مسارها الصّحيح والطّبيعي، ويطبّق الكاتب مدى امتثال الدّولة الإسلاميّة الحديثة لأصل البيعة من خلال الفكرة الدستوريّة المفضية إلى المشاركة في السّلطة. أمّا أصل العدل فيتحقّق من خلال تقنين الشّريعة أي نقلها من الشّريعة-الدّين إلى الشّريعة –القانون، وقد استعرض أهمّ تلك القوانين المستلهمة من الأحكام خاصّة فيما يهمّ مجال الأحوال الشّخصيّة، وأمّا أصل المعروف فلم يتح له التحقّق على نطاق واسع بالنّظر إلى عدم تمكّن الدّولة الإسلاميّة في ظلّ الاستعمار من المقومات الأساسيّة للسّيادة. وبالتّالي فإنّ المستوى التّأصيلي الذي بحث الكاتب عن تكريسه في مختلف مراحل البحث استنادا إلى ما يسمّيه "أصول الاجتماع السّياسي الإسلامي"، وطبّق عليه رؤية ترمي إلى تحقيق درجة من التّماسك انطلاقا من أصل البيعة فالعدالة، فالمعروف، لم يكن ثابتًا في بلوغ المستويات ذاتها في كل مرّة يختلف فيها الإطار السّياسي العام، سواء في مستوى التّنظير أو في مستوى الإجراء بدءا من دولة الخلافة إلى دولة العصبيّة إلى الدّولة الأمّة الإسلاميّة الحديثة.
يبدو أنّ التقسيم المنهجي الذي طبّقه الكاتب بصرامة على كامل البحث، وطرح من داخله فرضيّاته، قائم على "تطويع" الأطوار التّاريخيّة في قراءته؛ بدءا بفترة ما بعد النبوّة ووصولا إلى العصر الحديث، مرورا بأطوار الدّولة السّلطانية، فأخضعها كلّها لنفس المنهج الاستقرائيّ القائم على أوّلية الأصول الثّلاثة للاجتماع السّياسي الإسلامي، ورغم الصفة الشّمولية التي ميّزت هذا الاختيار المنهجي الثّلاثي إذ ضمّنه الكاتب أغلب الأفكار والأقوال والأحداث، فإنّ ذلك يثير تساؤلات عديدة عن الضّوابط التي اعتمدها في هذا الاختيار، وما هو السّند الموضوعي الذي انطلق منه أو برّر به أن فكرة "إسلاميّة الدّولة" لا يمكن أن تخرج عن هذه الأصول الثّلاثة؟، ألا يمكن مثلا أن توجد أصول أخرى من مثل القرشيّة أو العُرف أو المصلحة، أو الولاية أو الطّاعة... وكلّ من هذه الأصول الممكنة (المفترضة) يمكن أن يكون له تأثير آخر في مستوى النّتائج والبناء العام للبحث، يختلف اختلافا جذريّا أو إيديولوجيّا عمّا توصّل إليه الكاتب؟ ثمّ ألا يؤدّي حسم مسألة "إسلاميّة الدّولة" اعتمادا على البيعة والعدل والمعروف، فحسب، إلى تغييب مستوى مهمّ مرتبط أساسا بالجانب الفقهي للمسائل السّياسية، على اعتبار الدّور الذي اضطلع به الفقه في التّوسّط بين النّص والواقع عن طريق احتكار دور استنباط الأحكام، خاصّة مع إقرار الكاتب على امتداد بحثه بأن مبادئ النّموذج السّياسي الإسلامي وقيمه توجد أساسا في القرآن ودولة الرّسول بشكل رئيسي ويجب أن تستخلص من هذين المصدرين، وليس من غيرهما، بمعنى أنّنا إذا أردنا أن ننظّر لقيم سياسيّة عليا في الإسلام فالأصل أن نعود إلى القرآن في هذا السّياق وليس إلى الخلافة الرّاشدة باعتبارها تجربة غير مكتملة. فلماذا تغاضى حينئذ عن طرح المسائل السّياسية من خلال المدوّنات الفقهيّة السنّية على سبيل التّأصيل لـ"إسلاميّة السّياسة" وبالتّالي "إسلاميّة الدّولة"؟
إنّ الفصل بين دولة الخلفاء الرّاشدين وبين دولة العصبيّة (الدولة السّلطانيّة) لا يمكن أن يكون مسلّما به، إذ هو يحتمل النّقاش، فإذا ما تأمّلنا في بعض المفاهيم (الأصول الممكنة) التي استندت عليها دولة الخلافة الرّاشدة على غرار مفهوم / شرط القرشيّة على سبيل المثال، نلاحظ شدّة ارتباط التّجربة السّياسية الإسلاميّة الأولى لما بعد فترة النبوّة بمفهوم العصبيّة، فحتّى دولة الرّاشدين كانت دولة عصبيّة، وهذا ما من شأنه أن يؤثر في بعض مآلات الفرضيّة التي ينطلق منها الكاتب.
فبالنّظر إلى صفة القرشيّة ومراحل تطوّرها في سياق فترة الخلافة الرّاشدة نلاحظ أنّ المسألة حسمت عمليّا منذ تولّي أبي بكر الخلافة، ولا يعني ذلك أنّه لم يجر صراع سياسيّ وفكريّ حولها، فقد أثيرت المسألة من الأنصار في السّقيفة، وأثارها الخوارج بعد ذلك بشكل جدّي في خلافة علي ورفضوا استئثار قريش بالخلافة[9]، مما دفع الفقهاء إلى تأكيد صفة القرشيّة في الخليفة، وزاد التّأكيد كلّما زاد إصرار الخوارج على عدم ضرورتها. ولعلّ موقف الفقهاء لم يكن بدافع فكري مقرّر حينئذ، وقد تكون الأسباب العمليّة هي الأساس في تأكيدهم على القرشيّة، إضافة إلى أن الفقه السّياسي لم يقم على نظريّة بل قام أساسا على نمذجة التّجربة التّاريخية للخلفاء الأوائل. فقريش هي "أوسط العرب دارا في الجاهلية والإسلام"[10]، ثم إنّ الرّسول والمهاجرين كانوا منها، وأنّ العرب لا تدين إلاّ لسلطة قريش، وقوي مركز قريش في فترة الخلفاء الرّاشدين مما أدّى إلى اكتمال عصبيّتها، فالخلافة الرّاشدة كانت قائمة على توازن مراكز القوى السّياسية والاجتماعية في المجتمع. ومركز قريش قبل الإسلام والمآثر والإنجازات السّياسيّة والعسكرّية التي حقّقتها بعد مجيء الإسلام، كل ذلك جعلها إطارا تتوازن فيه العصبيّات الأخرى الموجودة في المجتمع. إلى درجة أنّ مجرد تصوّر غياب دور قريش كان يعني اختلال التّوازن بين هذه القوى المختلفة، وعودة حالة الاضطراب والفوضى؛ لأنّ العرب لا تطيع ولا ترضى إلا قريشًا[11]. ويمكن انطلاقا من تلك العصبيّة أن نفسّر الصّفة المرجعيّة التي اكتسبتها دولة الخلافة الرّاشدة على امتداد تاريخ طويل من الاستنباط الفقهي والكلامي في مسائل السّياسة والحكم وفي الشّروط الواجب توفّرها في الحاكم... ومن الممارسة والاستحواذ، فكانت فكرة الخلافة هي السّند الموضوعي للحكم الإسلامي الذي يلبّي الوازع القبلي الميّال إلى أحقية الطّرف الأقوى بالغلبة[12]، وصولا إلى "الافتتان" الحديث بنموذج الخلافة، والسّعي إلى استحضاره قولا وفعلا بمناهج عُنفيّة لا تعترف لا بالتاريخ ولا بالحداثة.
يبدو في أطروحة الكتاب سعي إلى تحفيز الكثير من الإسلاميّين، ومن يعتقدون بضرورة استعادة حكم الخلافة الرّاشدة بأي شكل من الأشكال، على الانخراط في الحداثة، وإظهار أنّ الأمر فيه سعة وليس بالشكل الذي يتصوّرونه، وإظهار أن طور الخلافة كان تجربة سياسيّة انتقاليّة، وعليه وجب تعديل التّوجّه القائل بأنّ مرحلة الخلافة الرّاشدة تمثل أوج الكمال السّياسي ما يجعلها سلطة مرجعيّة، واعتبار أن كل تاريخ الدّولة الإسلاميّة الذي جاء بعدها هو بمثابة انحراف متواصل عن القيم السّياسيّة الأصيلة التي جاء بها الإسلام ممثّلة في نموذج الخلافة. ولكن إلقاء نظرة بسيطة على متصوَّر الحداثة كما يقدّمه الكاتب يحيلنا على تناقضات عديدة؛ فهو لئن وصفها بـ"الحتميّة" فإنّ تعريفه لمنهجها ومحتواها وآليّاتها في التّعامل مع الواقع الحالي للمسلمين بقي غامضا، ومتوجّسا، ولا يكاد القارئ يقبض من هذه الحداثة غير اعتراضها على حداثة أخرى هي الحداثة الغربيّة بجميع منجزها الثّقافي والاقتصادي والسّياسي والأخلاقي، فلا نلاحظ تمييزا في كلام الكاتب عن الاستعمار الغربي أو المنهج السّياسي العَلماني أو الاختيار الاقتصادي اللّيبرالي... إلى غير ذلك؛ فكلّها تبدو لديه ذات منشأ واحد وتحكمها إيديولوجيا واحدة لا يمكن بمقتضاها أن تكون الحداثة الغربيّة إلا معادية للحداثة الإسلاميّة، وهو يقع حينئذ في ما يسمّيه هو نفسه في موضع آخر بـ"العطب الاصطلاحي" إذ كيف يمكن تأسيس حداثة منغلقة على منجز أصولي "إسلامي" لا يخرج نظريّا عن البيعة والعدالة والمعروف، واعتبار ذلك معطى تاريخيّا راسخا، لا يمكن تجاوزه، بل "يستحيل استكمال بناء الدولة-الأمّة العربيّة من دون تسوية مرضيّة معه"[13]، ولعلّ الكاتب يحاول التّخفيف من هذا الحرج بتقديم مثال يدعم فكرة الانطلاق من الخصوصيّة والتّعويل على المنجز الذاتي المتمثّل في الأصول المرجعيّة المضبوطة للحداثة السّياسية، بأن يذكّرنا بما قامت به اليابان وكوريا وعدد من دول شرق آسيا في علاقتها بخصوصيّتها في القرن الماضي.
تثير هذه الملاحظات قضيّة أساسيّة أخرى، هي قضيّة تأصيل الحداثة وقيمها في الموروث الإسلامي القديم بقطع النّظر عن الفترة المرجعيّة التي يرام التّأصيل فيها. ونستحضر هنا ما ذكره مثلا محمّد مهدي شبستري في أحد هوامش كتابه "تأمّلات في القراءة الإنسانيّة للدّين": "الأساتذة الّذين يحاولون العثور على المفاهيم السّياسية الجديدة في التّراث القديم يسلكون في الواقع طريقا مسدودا، فمن مفهوم الطّاعة أو البيعة المصنّف على التّراث القديم لا يمكن استخلاص مفهوم الانتخاب، إذ إنّ الانتخاب يقع في النّقطة المقابلة للطّاعة. ينبغي عدم الخلط بين المفاهيم، ومن الخطأ البحث عن المفاهيم السّياسية الحديثة في التّراث" ثمّ يشير شبستري إلى دراسة له لم نطّلع عليها ولكنّ عنوانها دالّ على المعنى نفسه وهو: "ظهور الحقوق الأساسيّة في القرون الحديثة وانعدامها في التّراث الإسلامي"[14].
ولئن كان النّقد موجّها في هذا القول إلى الباحثين عن قيم حداثة سياسيّة في موروث سياسي لم يخرج عن مجال الأحكام السلطانيّة والسّياسة الشرعيّة ومرايا الملوك، وهي كلّها أدبيّات وجد العديد من الدّارسين فيها بعد "تشريحها" أصولا للاستبداد[15]، فإنّ اللافت للنظر أنّ هذا التوجّه التأصيليّ يمتدّ إلى عدّة مجالات كالمجال الفكري والأخلاقي والاقتصادي، ونحسب أنّه توجّه يحمل خلفيّات مختلفة غير أنّها تلتقي في كثير من الأحيان في نفس النقطة، هي نقطة الإسقاط والتمجيد وإيجاد حلول للراهن في الماضي دون كبير انتباه إلى الخصوصيّات التاريخيّة وتطوّر المفاهيم.
إنّ الحداثة الغربيّة، وإن قامت في بعض مظاهرها على ضروب من التراكم المعرفيّ والقيميّ، فإنّها في جوانب أخرى قامت على مبدأ القطيعة الابستيمولوجيّة في مستوى التنظير والممارسة ممّا ولّد تغييرا جذريّا في مستوى البنية الفكريّة والذهنيّة وشكّل وعيا مختلفا كلّيّا بالراهن والمستقبل، وبالخصوص بالماضي الّذي لم يعد في المنطق الحداثي موضوع حنين أو تمجيد أو استهجان أو حتّى عبرة وموعظة، وإنّما موضوع نقد ومراجعة وتجاوز وبالتّالي لم يعد ذلك الماضي "التّاريخي" وسيلة تبرير لفكرة ما، أو مستند شرعيّة اجتماعيّة وسياسيّة، أو، بالخصوص، "نصّا تأصيليّا" لقيم الحداثة. ومن هنا لا مجال للبحث في موروث قديم عن قيم المساواة والحريّة وحريّة الاعتقاد والضّمير والعدالة وغيرها من المفاهيم الحداثيّة الّتي لا قِبَل للفكر القديم بها في مستوى التصوّرات والمرجعيّات.
ما نريد تأكيده أنّ وجود اللّفظ في اللّغة لا يعني أبدا دلالته الاصطلاحيّة، وإذا أخذنا مثلا مفهوم الحريّة، فإنّ المفهوم لم يكن يعني في فكر ما قبل الحداثة شيئا آخر غير أنّه نقيض للاستعباد والرقّ، ولا علاقة له بمفهوم الحريّة كما نعرفه اليوم. ولذلك فإنّ تأصيل معنى الحريّة الحديث والمعاصر في الكثير من الخطابات بالبحث له عن مستندات نصيّة نراه تأصيلا فاقدا للمعنى. ففي هذا المجال تحديدا يتمّ التّذكير باستمرار بذلك الأثر الشّهير: "متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا"، فهل معنى الحريّة في هذا الأثر هو ما يعنيه الفكر المعاصر بالحريّة؟ لا نرى ذلك البتّة.
والحقيقة أنّنا يمكن أن نقيس على هذا المثال أمثلة عديدة أخرى، من قبيل البحث عن مستندات تراثية في الخطابات الحداثية للعقلانية والعقل في الفكر الاعتزالي أو في الفلسفة الرشديّة وغيرها أو ضمن المنضوين قديما تحت راية أهل الرأي. فما نراه أنّ اعتماد العقل ضمن هذه التيارات والمذاهب والفلسفات لا يخرج في نهاية المطاف عن أطر العقل القديم السابق للحداثة إضافة أنّه اعتماد لا يخرج عن إطار كبير وعام يتلخّص في البنية الذهنية الدينية أساسا، ولا علاقة بين ذلك العقل القديم وما نشير إليه اليوم بالعقل الحديث.
المراجع المعتمدة في القراءة:
- جب (هاملتون)، نظرات في النظرية السنّية في الخلافة، الأبحاث، السنة 16، الجزء 3، أيلول 1963
- شبستري (محمّد مهدي)، تأمّلات في القراءة الإنسانيّة للدين، ترجمة حيدر نجف، مراجعة عبد الجبّار الرفاعي، تونس/لبنان/ مصر، دار التنوير، ط1، 2014
- الطبري (محمد بن جرير)، تاريخ الرسل والملوك، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1976، (11 مج).
* نشرت هذه المادة في مجلة "ألباب"، العدد 7، خريف 2015، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث
[1] انظر كتاب: "نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوّره"، منتدى العلاقات الدولية والعربية، ط1، قطر، 2015
[2] انظر كتاب: "إشكالية الوظيفة الدينية في الدولة المعاصرة (قراءة في تجربة تأهيل الحقل الديني بالمغرب)"، مكتبة الإسكندرية، وحدة الدراسات المستقبلية، الإسكندرية، مصر، 2011
[3] انظر كتاب: "المقاصد في الفكر الإصلاحي الإسلامي"، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 2010
[4] جبرون (امحمد)، مفهوم الدولة الإسلامية... ص 115
[5] جبرون (امحمد)، مفهوم الدولة الإسلامية... ص 128
[6] جبرون (امحمد)، مفهوم الدولة الإسلامية... ص 197
[7] نفسه ص 265
[9] الطبري، تاريخ 5/ 64
[10] الطبري، تاريخ 3/ 205-206
[11] "إنّ العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا" الطبري، تاريخ 6/ 287-288
[12] انظر: جب (هاملتون)، نظرات في النظرية السنّية في الخلافة، الأبحاث، السنة 16، الجزء 3، أيلول 1963، ص 301
[13] جبرون (امحمد)، مفهوم الدولة الإسلامية... ص 29
[14] محمّد مهدي شبستري، تأمّلات في القراءة الإنسانيّة للدين، ترجمة حيدر نجف، مراجعة عبد الجيّار الرفاعي، تونس/لبنان/ مصر، دار التنوير، ط1، 2014، ص 32، (الهامش1).
[15] نشير هنا إلى كتاب كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد، قراءة في نظام الآداب السلطانيّة، بيروت، دار الطليعة، 1999