إضاءات سيكولوجية وجودية

فئة :  مقالات

إضاءات سيكولوجية وجودية

إضاءات سيكولوجية وجودية

«الحب هو الخاتم الذي يبصم نفسه على القلب، وهو في قوته كالموت»

د. فيكتور فرانكل، «الإنسان يبحث عن معنى»، ص64

العلاج الوجودي بالمعنى متى تصبح حياتنا جديرة بالمعاناة؟

تجري الحياة بطريقة خارجة عن طبيعة العقل وقوانينه، لذا فإن سؤالنا عن معنى مجرد للحياة، سؤال يناقض هدف الإنسان وكينونته المنفتحة على العالم.

كما أن بعض المحاكمات العقلية والتصنيفات الذهنية لا تعدو كونها آراء وتجارب شخصية تلصق صفات وخصائص معينة للعالم من حولنا.

يشير الدكتور فيكتور فرانكل*، وهو طبيب أعصاب نمساوي ومعالج نفسي، وأحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازية، إلى أنّ ما هو متوقع من الحياة ليس في واقع الأمر موضع أهمية، لكن الذي يعنينا هو ما الذي تتوقعه الحياة منا؟[1].

هناك بعض المواقف التي تشكل مصير الإنسان وتجعله متفرداً ومختلفاً، ولا يمكن مقارنته بمصير إنسان آخر. فالمواقف تختلف في استجاباتها التي تسعى إلى تشكيل مصير الإنسان بأفعاله وأعماله.

تعد المدرسة النفسية التي ينطلق منها الدكتور فرانكل من أهم مدارس التحليل بعد مدرسة فرويد ومدرسة آدلر، لكنه لا يرفض نظريات فرويد في مبدأ اللذة واللاشعور، ولا يرفض السعي إلى السيطرة وإرادة القوة كما يعرضها أدلر، بل يجمع كل هذه النظريات ضمن القالب الوجودي للإنسان.

وتتخذ المدرسة النفسية عند فرانكل من علم النفس الوجودي عماداً لها؛ إذ تنطلق من الفكرة الوجودية التي تقول إنّه لكي يعيش الإنسان عليه أن يقبل دخوله في المعاناة، وأن يجد معنى في هذه المعاناة؛ فالتفرد الذي يميز كل إنسان عن غيره هو الذي يعطي معنى لوجوده، فالمعنى ليس شيئاً ينبثق من الوجود ذاته، وإنما شيء يواجه هذا الوجود، شيء ما يعيش من أجله الإنسان[2].

يعتمد علم النفس الوجودي على الفرد بوصفه كياناً مستقلاً بذاته، يدخل في صراع مع العالم الخارجي بإرادته وعواطفه الروحية، وليس مجرد إحالة تفرضها الضرورات والقوانين الحتمية للطبيعة، ويكون هذا الفرد معرضاً للقلق والعزلة والألم والذنب، وغيرها من المشاعر التي تعمل على إحباط إرادة المعنى لديه، وعلى انتفاء كل قيمة في الحياة، ومن هنا يستمد العلاج النفسي عدداً من مفاهيم الفلسفة الوجودية، كالاختيار، والإرادة الحرة، والمسؤولية، فيصبح الإنسان قيمة عليا، والعالم الداخلي عالم جدير بالحياة وبخلق المعاني.

الوجود العاري في معسكرات الاعتقال

يسرد الدكتور فرانكل تجربته الأليمة والمؤثرة في معسكر الاعتقال، ويعاين بعض الأنماط السيكولوجية التي يعانيها المساجين.

تبدو الحياة في معسكرات الاعتقال الرهيبة وكأنها لا تنتمي لعالمنا، حيث يتجلى التحدي الواضح لإرادة الإنسان وصراعه من أجل البقاء؛ فالموت هناك على تماس مباشر مع الحياة، وهو واقع حتمي على السجين أن يألفه ويتعايش معه. وجد فرانكل نفسه فجأة سجيناً في المعسكر، في ذلك الجحيم الذي يطل على عالمنا من نوافذ السجن، ومن الهذيانات والأحلام البعيدة، حيث تصبح مشاهد الجثث والتعذيب اليومي شيئاً يعتاده الذهن البشري.

لقد فقد فرانكل كل صلة تربطه بالإنسانية، وكان عارياً من وجوده وكيانه، فجميع أفراد عائلته لقوا حتفهم في عمليات الإبادة الجماعية، عندما تم إرسالهم إلى محارق الجثث وأفران الإعدام بالغاز، وهو أيضاً قد عانى من الجوع والبرد والمرض، وتوقع الموت في كل يوم، بل وفي كل لحظة من لحظات حياته. لكنه كيف استطاع الصمود، وكيف وجد من عمق العذاب حياة جديرة بالبقاء؟

تعلن الرغبات الأولية عن ظهورها بقوة داخل حياة السجن، ويرتسم أمام أبصارنا نمط بدائي من الوجود الإنساني، فيضطر الإنسان إلى أن يتخلى عن عاداته وسلوكياته السابقة، وتتوضح لنا قدرته على التحمل والتحرر من أوهام العقل، عندما يكون واقعاً في قلب المأساة، وفي الخطر الذي يهدد حياته ووجوده العاري.

كان يتم التعامل مع السجناء كأشياء لا تنتمي إلى العالم الإنساني والأخلاقي، فالسجين العادي يشعر بنفسه ومن دون تفكير واعٍ بأنه منحط ولا قيمة له، فهو يرى الحياة من خارج الجدران بأنها نائية ومنعزلة وغير حقيقية، حيث ينعدم الزمان ويضيف المكان شعوراً بالعدم.

لكن ما الذي يكمن وراء الحافز الحقيقي للمعنى في حياة تنسجها المأساة ويتهددها الموت؟

يرى فرانكل أن الحياة الداخلية للسجين كلما صارت أكثر عمقاً، أصبح السجين أكثر نزوعاً إلى اختبار جمال الفن والطبيعة بطريقة لم يعهدها من قبل؛ فهذا الوعي بالقيمة الداخلية للفرد جعله يعلو في أشياء أسمى وأكثر روحية، ولا يمكن أن تهزها حياة المعسكر القاسية.

إن الوجود الإنساني قبل كل شيء هو اختيار ومسؤولية، حتى في أحلك الظروف التي يمر بها الإنسان، فما يختبره الإنسان وما يختاره لا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تسلبه منه.

ومن هنا تأتي فكرة الحرية والاختيار، فالإنسان ليس مجرد نتاج لعوامل بيئية وظروف ذات طبيعة بيولوجية ونفسية، فهو في أشد المواقف بؤساً وانهياراً لا يتخلى عن اختياره، فكل شيء ممكن أن يسلب من الإنسان إلا شيئاً واحداً يمثل حريته، وهو أن يختار المرء اتجاهه في ظروف معينة.

إن النمط الذي يتشكل عليه السجين في المعتقل ليس نتيجة لمؤثرات المعسكر وحدها، وإنما نتيجة قرار داخلي أيضاً.

حياة جديرة بالمعاناة

إن المعاناة جزء أصيل ومتجذر في الوجود الإنساني، لكن المعاناة تتوقف عن كونها معاناة في اللحظة التي تكسب فيها معنى من المعاني، ويعتمد هذا على طريقة تشكلها، وعلى الطريقة التي يتقبل بها الإنسان قدره. فهناك بعض القيم التي تنكشف من عمق الألم الإنساني، وتجعل الإنسان قادراً على الاحتفاظ بحريته الداخلية، مما يوفر له قوة باطنية تعلو فوق قدره، يقول دوستويفسكي: ..«يوجد شيء واحد فقط يروعني، وهو ألا أكون جديراً بآلامي»[3].

ربما يكون الإنسان فريداً ومختلفاً في معاناته، وبالتالي يستحق أن يكون جديراً بهذه المعاناة؛ فالمعاناة تضيء عالماً باطنياً واستثنائياً عند الإنسان، وتجعله يشعر بالمعنى، وبالفرادة التي يعلو بها فوق البشر.

إن الشجاع هو ذلك الذي لا يخشى من دموعه المنهارة فوق خديه، ويختبر إلى أقصى حد ذلك الألم الناجم من الوحدة والكآبة، فيشعر بتلك العزلة المرعبة التي تجعله مهجوراً ومختلفاً.

الشجاع وحده من يختبر تلك العظمة الروحية في أعماقه، فلا يهرب من معاناته، بل يحبها بكل ما فيها من مجهول، ويتعايش معها إلى أقصى حد ممكن.

كيفية العلاج بالمعنى

يركز العلاج بالمعنى أكثر على المستقبل عندما يواجه المريض فعلاً بوجود معنى في حياته، انطلاقاً من وجوده الفردي، وتحفيز إمكاناته المتاحة.

فالبحث عن معنى هو قوة أولية في حياة الإنسان، وليس تبريراً لدوافعه الغريزية ويتحقق هذا بواسطة الفرد وحده، عندما يسعى لإشباع إرادة المعنى عن طريق مواجهة كل ما هو حقيقي وأصيل في حياته.

يتم توجيه الشخص عادة إلى الدخول في البعد الروحي والمعنوي لديه، ولكن ليس الروح بمعناها الديني، وإنما الروح التي تسهم في تحقيق المعنى والقيم، فقلق الإنسان ويأسه وإحباطه في الحياة لا يخرج عن كونه ضيقاً معنوياً وروحياً، وهنا تتركز عملية العلاج في جعل المريض واعياً بما يتوق إليه في أعماق كيانه.

يتركز العلاج الوجودي على الإنسان الذي يشعر بالعدمية والفراغ، أو الذي تتعرض عنده إرادة المعنى إلى إحباط عن طريق التوصل إلى معنى ملموس في الوجود الشخصي من خلال جعل المريض واعياً كل الوعي بالتزامه بمسؤوليته، وبالمجال الكلي للمعنى وما ينطوي عليه من قيم، ويتم هذا بواسطة العلاقة بين كينونة الإنسان ومعنى الوجود، ومن خلال ما يملكه الفرد من قدرات وإمكانات ذاتية تحقق له هذا المعنى.

إن التوتر كامن في الوجود الإنساني، وإن الاعتلال النفسي يستند إلى درجة من التوتر بين ما أنجزه الفرد بالفعل، وما لا يزال عليه أن ينجزه، وتزداد درجة التوتر كلما ازدادت تلك الفجوة بين واقع الفرد وما ينبغي أن يصير عليه، ومن هنا تأتي أهمية العلاج بالمعنى في إبقاء التوتر قائماً بوضع الإنسان داخل تحديات جديدة تحفز عنده معان كامنة عليه أن يحققها، فما يحتاجه المريض ليس استعادة التوازن، وإنما الديناميات المعنوية في مجال التوتر ويكون أحد قطبيها المعنى المراد تحقيقه، والثاني إمكانيات الإنسان التي ينبغي عليه أن يقوم بها لتحقيق ذلك المعنى[4].

لكن المعنى عند الإنسان لا ينبغي أن يقتصر على تحقيق الذات، أو السعي الدائم نحو اللذة والتوازن؛ لأن الوجود الإنساني قد يكون تسامياً بالذات وتجاوزاً لها، أكثر من أن يكون تحقيقاً للذات. إن تحقيق الذات ليس هدفاً ممكناً إذا جعله الإنسان غاية في حياته، فبقدر ما يسعى الإنسان إلى تحقيق الذات، يخفق في الوصول إليه، والعالم الخارجي ليس أداة أو وسيلة لتحقيق غايات الفرد، وسعادة الإنسان غير مشروطة باهتمامه باللذة والسعادة، أو بسعيه الحثيث إليهما، فقد يتحققان بطريقة تلقائية ومفاجئة عن طريق بلوغ الهدف[5].

الفراغ الوجودي والعصاب

يعاني أغلب المرضى النفسيين من الشعور المطلق باللامعنى لحياتهم نتيجة تعرضهم للظلم أو للحرمان من أشياء أساسية، فيعوزهم معنى حقيقيّ يجعلهم يستمرون في الحياة من أجله، يسمى هذا الموقف بالفراغ الوجودي، ويكون منشأ العديد من العصابات والأمراض النفسية. عادة ما يكشف الفراغ الوجودي عن نفسه بالملل، وعادة ما يقود إلى الجريمة أو الانتحار، وفي أحيان كثيرة يجد نفسه في التعويض الجنسي، فالطاقة الجنسية تسيطر على الإنسان عندما يكون في حالة الفراغ الوجودي.

إن الفراغ الوجودي هو العصاب الجماعي لعصرنا، والذي يتخذ من العدمية شكلاً يجرد الحياة من كل معنى وقيمة، ولا يرى في الإنسان سوى كائن آلي يخضع لمؤثرات الوراثة وظروف البيئة الاجتماعية والنفسية، وبالتالي فإن الإنسان وفقاً لتلك النظرية ليس حراً، وغير قادر على إنتاج أي شيء ذي قيمة.

البحث عن المعنى في عالم متغير

يتغير معنى الحياة بتغيير العالم، وعلاقته بالزمن والصيرورة. يتغير المعنى ولكنه لا يتوقف، بل يخلق نفسه من أعماق الوجود، وعلينا أن نكشف عن المعاني إما بواسطة العمل، أو اختبار قيمة من القيم كالحب أو الفن أو الدين. ويركز فرانكل على ما يسميه التفاصيل الدقيقة في حياتنا اليومية أو الأشياء البسيطة، وهي أشياء مع مرور الزمن تتحول في الذاكرة إلى عالم مستقل بذاته يضفي على الحياة معنى شاملاً.

يذهب فرانكل إلى أن كينونة الإنسان هي توجهه نحو شيء آخر يوجد خارجه، إلى العالم الغني بالكائنات التي عليه أن يواجهها، وأن يملأها بالمعاني[6].

إن الإنسان حر بالقدر الذي تشكله مواقفه وخياراته في الحياة، وبالقدر الذي يصمم فيه ماهيته، ليكون المبدع الأكبر للمعنى، وهذه المعاني يجب أن تتوجه إلى الحياة أكثر من كونها تحقيقاً للذات.

ويرى فرانكل أنّ السعي الدائم نحو المعنى يطيل أمد الحياة، بل إنه عامل أساسي من عوامل المحافظة على الحياة[7].

فالمعنى الأصيل الذي يولده التسامي بالذات، هو اكتشاف الشخص لحياة كاملة، يكون فيها مدفوعاً بقيم روحية تعلو فوق وجودنا المادي والمحسوس.

تأملات في الحرية ومصير الإنسان

لا تمر لحظة من حياة الإنسان إلا ويكون فيها معرضاً للكوارث الطبيعية والكونية، كالزلازل والفيضانات والحرائق، كذلك ما تواجهه المجتمعات البشرية من اندلاع حروب غير متوقعة، ومن تفشٍ للأمراض والأوبئة، بحيث تنعدم قوة التفكير في إيجاد الحلول، ويفقد المنطق الإنساني قدرته على مجابهة تلك القوى غير العاقلة. وعلى الصعيد الذاتي، فالإنسان أيضاً غير محصن من الأزمات ومن الأقدار التي تضعه في مواجهة عنيفة مع الموت.

إن الناجي من الخطر، والذي جرب الدخول في قسوة الصراع من أجل البقاء، يدرك ما قامت عليه حياته السابقة من زيف وهشاشة، فأصبح متيقظاً إلى المناطق الراكدة في أعماقه؛ تلك المناطق التي جعلته أسيراً للراحة والكسل وحجبت عنه ما هو حقيقي. إن الوجود العاري وحده من يحفز قوى الحياة، ويعمل على تحرير الإنسان من الأوهام والانفعالات المدمرة أو كما يسميها سبينوزا بغرائز الانحطاط.

إن الخوف من الكارثة أكثر ضرراً على الإنسان من الكارثة نفسها، والفرد الذي يكون واقعاً في قلب المأساة يتفاجأ بأن دوافع أولية قد تحفزت من أعماقه جعلته مزوداً بميكانيزمات غير متوقعة. بهذا يتحدد مصير الإنسان عند شعوره الذاتي إزاء قوة تتحداه، وتجعل وجوده في خطر، لكن على هذه القوة أن تنفذ إلى باطن الذات وجوهرها، حينها تنبثق الطاقات الكامنة من أجل تأكيد الوجود، وينسحب هذا على الحضارة التي تعاني من الترف والتحلل، والتي تحتاج إلى إرادة يحفزها الخطر.

تخلق المأساة قدرات استثنائية عند الإنسان، قد تمنحه بعد ذلك نمطاً من الوجود الحر، وهذه الحرية تنبثق من إرادة الحياة، وتعلو على أشكال الوجود الزائفة.

من هنا يمكننا اعتبار الفلسفة تجربة شخصية تقود الكينونة نحو شكلها الأسمى في التعالي، والصدمة قد تكون بداية التفلسف؛ لأنها تحرر الإنسان من سجن العدمية وتقوده إلى مغزى عميق خلف الحياة الظاهرة والقائمة على التفكك واللاجدوى.

يتضح لنا أن التفلسف وتاريخ الفلسفة برمته هو تاريخ صراع بين الكينونة والعالم، بكل ما يحويه هذا العالم من أسرار ومجاهيل مرعبة؛ فالإنسان هو الوحيد الذي يعي وجوده في عالم الموضوعات، وهو معرض لأن تسحقه آلامه، أو تفتك به تقلبات الطبيعة خارج حساباته العقلية والمنطقية. بالتالي، فإن سؤال الكينونة هو سؤال جدير بالمعرفة والبحث الذاتي عن الحقيقة.

يقف الفرد منعزلاً ومهجوراً في ظلام العالم، يصيبه الرعب والقلق، وتمزقه عذابات الوجود، لكن الإرادة تبقى متوقدة دائماً في قلب التوتر، وتدفع الإنسان بأن يحفر في أعماق ذاته ليعي أين يكمن المعنى في السقوط والانهيار، أو لينغمس في الكائنات الأخرى بقيم وجدانية أصيلة تخلقها الحرية وتجربة المصير المشترك بين البشر.

عاصفة الأزمات ويقظة الحرية

إن الوعي الإنساني ليس ذلك الشعور أو الفكر الذي يعبر عن سلوكنا وعاداتنا الموروثة أو المكتسبة، ولا معرفتنا البديهية بالأشياء والموجودات من حولنا، وإنما هو عبارة عن تلك الانعطافات الصغيرة أو الكبيرة وما يرافقها من صدمات تعيد خلقنا من جديد. بعبارة أخرى يمكننا القول، إن كينونة الإنسان ليست كينونة متصلة، وإنما هي مجموعة من الكينونات المنفصلة تموت فيها الذات وتتلاشى مع كل انتقالة زمنية يفرضها الوعي، لتولد على أنقاضها ذات جديدة لا تكون متحررة من الذات القديمة بالضرورة، لكنها أكثر نضجاً وعمقاً. الإنسان محاصر بالموت ومحكوم به، موت البراءة، وموت الدهشة، وموت الحلم، وموت المعنى، وموت الروح أو العاطفة. لكن رغم ذلك، فالإنسان قادر على أن يخلق نفسه في كل مرة وأن يخلق معه الحياة برمتها. يرى الفيلسوف وطبيب النفس الألماني كارل ياسبرس * أن الفلسفة تجربة معيشة، ويمكن لأي شخص أن يتفلسف انطلاقاً من ماهيته الوجودية ومن حريته؛ إذ يرى ياسبرس أن كل إنسان معرض لليأس والمرض والذنب وغيرها من أنواع المعاناة، وهذا ما يطلق عليه بالمواقف الحدية أو النهائية للوجود، وهذه المواقف قد تقود الإنسان إلى مرحلة التحطيم، ولا يقصد ياسبرس التحطيم بمعنى الانهيار أو الموت، وإنما تلك الهزة التي تصيب الفكر، والتي تؤدي إلى خلق الوجود الفردي الجديد على أنقاض الآلام والأوجاع، ثم بعدها تأتي مرحلة العلو أو التجاوز، وهي المرحلة التي تختار فيها الذات الجديدة العيش بحرية تامة متعالية عن كل عذابات وآلام الماضي، وعن كل قيد كان يكبل حريتها، فكل تغيير عادة ما يبدأ بصدمة في الوعي. إن الطمأنينة والسعادة وراحة البال ربما تجعل الإنسان يرسف في أغلال العبودية، أما عاصفة الأزمات التي تعصف بالإنسان إذا توفرت لها الفرص المتاحة من دهشة ووعي وصدمة، فإنها ستوقظ فيه وجوده الحقيقي، وهذا الوجود هو وجود باطن يحيا في أعماق النفس وأسرارها الدفينة، ولا يخضع أبداً للتفسيرات العلمية والتجريبية.

وهنا تبلغ الكينونة صيرورتها المطلقة وتتلاشى مع الحرية في أطوار العلو، يقول ياسبرس: «أما علامة الوجود الحق فهي عدم الاستسلام للدورة الموضوعية للزمان اللانهائي، وإحالتها إلى شكل زمني، عندئذ يصبح الزمان كياناً باطناً، ويغوص الوجود الحميم في الماضي كأنه يغوص في الأبدية»[8].

إن العاصفة التي توجه لنا أسلحتها المرعبة وتجعلنا نسقط في أعماق الهاوية، تكشف لنا عن ضعفنا أمام إرادة الموت الساحقة، لكنها في نفس الوقت توقظنا من سبات طويل، إنها يقظة الحرية، وروحها التي تعلو على الزمان.

الحرية والمصير المشترك

إن الذات التي بلغت بها المعاناة مبلغاً عظيماً ترى نفسها متفردة وحرة بعد أن تهاوت في داخلها عوالم قديمة وقامت على أنقاضها عوالم جديدة، لذلك عادة ما تكون العزلة ملاذاً يبعث السكينة في النفس عن طريق التأمل والرؤى الواهبة لمعنى الحياة، فتتيح للإنسان أن يبدع وأن يفهم ذاته أكثر، لكن على الرغم مما توفره العزلة من أصالة وتميز عن الآخرين، إلا أن هذه الذات تتوق للخروج من عزلتها، وأن تشارك أسرارها وتأملاتها مع ذوات أخرى، فمعرفة الذات معرفة ناقصة دون وجود الآخر.

يقول الفيلسوف الوجودي المؤمن غابريل مارسيل * عندما أقول أنا موجود «فأنا أقصد بلا شك شيئاً إضافياً، فأنا لست موجوداً فقط لنفسي، بل إنني أظهر لنفسي وأتعرف عليها من قبل الغير»[9].

إن الحرية هنا شرط أساسي للتواصل مع الآخر؛ فالإنسان يتجه إلى العالم وإلى الآخرين كرغبة حقيقية في الوجود، وليس كرغبة في التملك؛ فهناك العديد من العوائق التي تمنع الاتصال مع الآخر، ومن أهمها الشعور بالاغتراب الذي يعتري الذات وسط الحشد أو الجماعة، وما يرافق هذا الشعور من مشكلات نفسية واجتماعية. يرى مارسيل أن المشكلات مهما كانت صعبة وعسيرة، فإنه يمكن حلها عن طريق تجزئتها وتحليلها أو بواسطة التجربة والفكر الموضوعي، وبالتالي تنفصل المشكلات عن فردانية الشخص ويصبح الموقف منها جماعياً، لكن ما يحيط بالإنسان ويضغط على وجوده هو السر أو اللغز، وهو موقف فردي وربما يكون باطنياً، لكنه لا ينفصل عن الحياة وتفاصيلها اليومية.

فالخير والشر والحقيقة والعدالة والظلم والموت، أسرار ذات وحدة متكاملة لها رؤى فردية للعالم ومصير الإنسان، وغالباً ما ترتبط بمشاعر ميتافيزيقية تعمل على توحيد البشر، وتعزيز مبدأ الأخوة الإنسانية في العالم، وقد نرى تلك المشاعر متجسدة في الأزمات الجماعية، ويمكن التماسها على النطاق الفردي في بعض الحالات. إن الفرد لا يزال حاملاً لبعض الطاقات الكونية أو الروحية، وهو نفسه يشعر بغموض مفارقتها، لذلك فالوجود لا يمكننا أن نكشف عنه بالوعي أو الفهم كما يذهب مارسيل، بل بتجربة فريدة يضيئها السر الذي يدعو للمشاركة.

يضغط السر على وجود الإنسان، ويجعله أسيراً لعزلته، لذلك توصل مارسيل إلى أن الرابط الذي يتم بيني وبين الآخر يكون عن طريق تجربة معينة تنشأ من مشاركتنا في نفس المعاناة؛ فالشخص الذي أنفتح عليه ربما كانت له طفولة تشبه طفولتي، وله اهتمامات فريدة مثلي، وإنه مثلي معرض للألم والذنب والموت. وعادة ما ترتبط تلك المشاركة بالضعف، لكن هذا الضعف يبدل طبيعته عندما يعقل كمصير، وكحرية تؤكد نفسها.

إن السر في أعماق الفرد هو ما يدفع الحرية لصهر الحاجز بين الأنا والآخر، عن طريق إرادة المشاركة التي تنقذ الإنسان من الغموض الخالص، كما أن التقبل ليس أن نملأ فراغاً بحضور غريب، بل أن نجعل الآخر يشارك في نوع من الامتلاء أو في واقع معين يصل من الذات إلى الآخر. وهنا تعلن الأنا عن نفسها بوصفها حرية وقدرة خلّاقة. ويذهب مارسيل أن الحرية لا يمكن تفهم إلا في نطاق التآلف بين الذوات، فمن يرتبط بالآخر لا يقيده، بل يحرره أيضاً من نفسه.

عندما يصبح الأنا هو الآخر

ولعل أكثر من جسد مفهوم العلاقة بين الأنا والآخر هو إيمانويل ليفيناس*، وهو فيلسوف فرنسي وجودي لم تسلط عليه الأضواء كثيراً. كان ليفيناس يرى أن الأنا لا تشمل الذات وحدها، وإنما تشمل الغيرية أيضاً، فنحن عندما نفكر لا نفكر في أنفسنا فقط، وإنما نفكر في الآخر ضمن مجال تفكيرنا، وتفكيرنا في أغلب الأحيان يكون منصباً نحو الآخر ومتركزاً فيه بكثافة. وعليه، فإن العلاقة مع الآخر عند ليفيناس تنطلق أولاً من مجال التفكير، وتحاول أن تجد لها واقعاً فعلياً في الحوار الذي يتغلغل إلى فكر الآخر ويعطيه قيمة مشتركة، فيصبح الأنا هو الآخر بتعدديته وانفتاحه وعوالمه الداخلية الصامتة.

وتقوم العلاقة مع الآخر عن طريق الوجه، لكن الوجه الذي يقصده ليفيناس ليس الوجه المادي والتجسيمي الذي يملكه الإنسان، وإنما البصمة الفردية المختلفة والهوية الداخلية لأعماق الإنسان وما تحويه من رموز وإيحاءات ونبرة في الصوت ولغة في الجسد، حيث يصبح الوجه في كل مرة انكشافاً على التناهي وتجلياً للخالق في المخلوق.

يعتقد ليفيناس أن فعل الوجود هو الذي يسبق الوجود والموجودات جميعها؛ ففعل الوجود هو الدلالة أو الأثر الذي يتركه غياب الفعل في الأشياء، فلو أن كل الأشياء والمجودات في هذا العالم استحالت إلى عدم محض ولو غطى الظلام نور العالم، يبقى هناك دائماً شيء وحيد ودال هو فعل الوجود.

إن الإنسان يولد في عالم ممتلئ بالوجود، ويكون محاطاً بالأشياء والكائنات وغيره من البشر، لذلك فالإنسان يولد مقذوفاً إلى فعل الوجود الذي يسبق وجوده، وهذا ما يحتم عليه أن يدخل في فعل الوجود، وفعل الوجود يحتم عليه أن يصطدم مع الآخر في علاقة اندماجية ذات طابع ميتافيزيقي روحي يتخللها فعل الوجود ليعلو على الزمن واللغة، ومن هنا يصبح فعل الوجود هو الحرية. إن الذات الوجودية عند هايدغر -حسب ليفيناس-، والتي يجب أن تحقق وجودها في الزمن، ذات ساكنة وغير قاعلة؛ لأنها تفتقد إلى الآخر، ولم تتجاوز البناء الأنطولوجي والتعريفي للغة السائدة. وعلى هذا الأساس، توصل ليفيناس إلى أنّ مفهوم الكينونة أو الوجود الإنساني الذي يشير إليه هايدغر لا يمكن أن يكون أصيلاً ومتفرداً بالفردانية المحضة وحدها أو بالذاتية المتطرفة، وإنما هناك موجودات يتجه إليها الوعي ويقصدها، والموجودات الأساسية هي ذوات أخرى تستدعي الأنا للخروج من وجودها المجرد إلى علاقة فريدة مع الآخر من دون أن تفقد الأنا ذاتيتها. وعلى اعتبار أن الآخر أيضاً هو موجود متعين، ولا يمكن أن يرد إلى أي شيء مجرد في الوجود.

ويرى ليفيناس أننا مشغولون بالذات وحدها كونها وجوداً، لكن وحدة الذات تستند إلى علاقتنا مع فعل الوجود، والتوجه نحو فعل الوجود يعني الابتعاد عن الانشغال بالذات أو من الإطار المادي للذات، لتتوجه نحو الآخر وتحررنا من كل علاقة مع المستقبل والماضي[10].

يحاول ليفيناس أن يصل إلى مفهوم يشبه مفهوم غابرييل مارسيل عن السر أو اللغز الذي يتم فيه التواصل بين الأنا والآخر، إلا أن ليفيناس يسمي تلك الأسرار بنزعة في الوجود، وهي أكثر عمقاً وشمولية من ميتافيزيقية مارسيل؛ فتجربة الموت وغموضه، وما يمر به الإنسان من ألم ومعاناة هي نزعات وجودية لا تتوحد فيها الأنا مع الآخر فقط، وإنما الذات مع ذوات متعددة أيضاً بعطاء غير محدود وبقيم روحية تعلو على الوجود نفسه.

أخيرا ًنلاحظ أن منبع الحرية عند الفلاسفة ياسبرس ومارسيل وليفيناس هو تجربة باطنية، تتمثل عند ياسبرس في الإرادة المنبثقة من المواقف الحدية، وعند مارسيل في الإرادة التي ينفتح فيها السر على الآخرين، أما عند ليفيناس، فإن الحرية هي فعل الوجود الذي ترتكز عليه العلاقة بين الأنا والآخر بوصفها تجلياً وانكشافاً على المطلق واللامتناهي، وتذكير للإنسان بما وراء الوجود من إرادات وذوات واعية، غير أن كارل ياسبرس وجد أن الحرية تحقق نفسها في العلو وفي ارتقاء الوعي الإنساني إلى مستويات بعيدة وغامضة، دون أن يهيئ لها واقعاً فعلياً أو أرضية اجتماعية، بخلاف مارسيل وليفيناس اللذين وجدا في الحرية المقذوفة من قلب السر الإنساني تجليات إلهية توحد البشر ومصائرهم على كوكب الأرض.

[1] - فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى، ترجمة الدكتور طلعت منصور، دار القلم- الكويت، ط1 1982، ص108

[2] - فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى، مصدر سابق، ص133

[3] - المصدر السابق نفسه، ص 95

[4] - المصدر نفسه (بتصرف) الصفحات: 130-131-135-138-140-141-147

[5] - المصدر نفسه (بتصرف)، ص 183-184-185

[6] - المصدر نفسه، ص 181-191

[7] - المصدر نفسه، ص 195 ھ

[8] - ينظر: كارل ياسبرس، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2007، ص59 (المعطيات نفسها). ھ   

[9] - غابريل مارسيل، الخطوط الأولى لفلسفة ملموسة، ترجمة قزحيا خوري، منشورات عويدات، بيروت-باريس، ط1، 1988، ص 28

قرأ ليفيناس «الأبحاث المنطقية» لأدموند هوسرل و«الكينونة والزمان» لمارتن هايدغر وقد تأثر بهما قبل أن تتوضح معالمه الفلسفية المتفردة. يسمى ليفيناس أيضاً بفيلسوف الغيرية؛ لأنه أعطى مساحة كبيرة للآخر في فلسفته ذات النزعة الإنسانية والروحية. إن المسألة الجوهرية في فلسفة ليفيناس هي المسألة الأخلاقية. الأخلاق بوصفها ميتافيزيقيا تؤسس للكينونة الإنسانية وتعطيها معناها. فالأخلاق في رأي ليفيناس سابقة لكل وجود ولكل أنطولوجيا، لكن الأخلاق هنا ليست تلك التي نعرفها في مجال الوعظ والأوامر الناهية أو تلك التي تفصل بين الخير والشر، وإنما ذلك المجال الميتافيزيقي الذي يمتاز بالعلو ويوحد بين الأنا والآخر فكراً ولغة، حيث تفصح الكينونة داخل الزمان عن رغبتها في الحقيقة واللاتناهي، ويصبح الوجه تجلياً دائماً للمطلق.

[10] - ينظر: إيمانويل ليفيناس، الزمن والآخر، ترجمة منذر عياشي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2015، ص 39